أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

الشيخ جعفر السبحاني

أضواء على عقائد الشيعة الإماميّة وتأريخهم

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: نشر مشعر
الطبعة: ١
ISBN: 964-6293-80-8
الصفحات: ٧٧٤

١ ـ قال عنه معاصره ابن النديم (ت ٣٨٨ ه‍) في الفهرست :

ابن المعلم أبو عبد الله ، في عصرنا انتهت رئاسة متكلّمي الشيعة إليه ، مقدّم في صناعة الكلام على مذهب أصحابه ، دقيق الفطنة ، ماضي الخاطرة ، شاهدته فرأيته بارعاً ... (١).

٢ ـ وقال عبد الرحمن بن الجوزي (ت ٥٩٧ ه‍) :

شيخ الإمامية وعالمها ، صنّف على مذهبه ، ومن أصحابه المرتضى ، كان لابن المعلم مجلس نظر بداره ـ بدرب رياح ـ يحضره كافّة العلماء ، له منزلة عند أُمراء الأطراف ، لميلهم إلى مذهبه (٢).

٣ ـ وقال أبو السعادات عبد الله بن أسعد اليافعي (ت ٧٦٨ ه‍) :

وفي سنة ثلاث عشرة وأربعمائة توفّي عالم الشيعة وإمام الرافضة ، صاحب التصانيف الكثيرة ، شيخهم المعروف بالمفيد ، وابن المعلّم أيضاً ، البارع في الكلام والجدل والفقه ، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية. قال ابن أبي طي : وكان كثير الصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، خشن اللباس ، وقال غيره : كان عضد الدولة ربّما زار الشيخ المفيد ، وكان شيخاً ربعة نحيفاً أسمر ، عاش ستّاً وسبعين سنة ، وله أكثر من مائتي مصنّف ، وكانت جنازته مشهورة وشيّعه ثمانون ألفاً من الرافضة والشيعة (٣).

٤ ـ ووصفه أبو الفداء الحافظ ابن كثير الدمشقي (ت ٧٧٤ ه‍) بقوله :

شيخ الإمامية الروافض ، والمصنّف لهم ، والمحامي عن حوزتهم ، وكان يحضر مجلسه خلق كثير من العلماء وسائر الطوائف (٤).

__________________

(١) ابن النديم ، الفهرست ٢٦٦ في فصل أخبار متكلّمي الشيعة.

(٢) ابن الجوزي ، المنتظم ١٥ : ١٥٧.

(٣) اليافعي ، مرآة الجنان ٣ : ٢٨ ط الهند.

(٤) ابن كثير ، البداية والنهاية ١١ : ١٥.

٣٠١

٥ ـ وقال الذهبي (ت ٧٤٨ ه‍) :

عالم الشيعة وإمام الرافضة وصاحب التصانيف الكثيرة ، قال ابن أبي طي في تاريخه ـ تاريخ الإمامية : ـ هو شيخ مشايخ الطائفة ولسان الإمامية ورئيس الكلام والفقه والجدل ، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة العظيمة في الدولة البويهية (١).

٦ ـ قال ابن حجر (ت ٨٥٢ ه‍) بعد نقل ما ذكره الذهبي :

وكان كثير التعقيب والتخشّع والإكباب على العلم ، تخرّج به جماعة ، وبرع في المقالة الإمامية حتّى يقال : له على كلّ إمامي منّة ، وكان أبوه معلماً بواسط ، وما كان المفيد ينام من الليل إلّا هجعة ثمّ يقوم يصلي أو يطالع أو يدرس أو يتلو القرآن (٢).

٧ ـ وقال عنه ابن العماد الحنبلي (ت ١٠٨٩ ه‍) :

ابن المعلم ، عالم الشيعة ، إمام الرافضة ، وصاحب التصانيف الكثيرة ، قال ابن أبي طي في تاريخ الإمامية : هو شيخ مشايخ الطائفة ولسان الإمامية ورئيس الكلام ، والفقه ، والجدل ، وكان يناظر أهل كلّ عقيدة مع الجلالة والعظمة في الدولة البويهية (٣).

هذا جانب ممّا ترجم له أهل السنّة ، وأمّا الشيعة فنقتصر على كلام تلميذيه الطوسي والنجاشي توخّياً للاختصار :

١ ـ يقول الشيخ الطوسي (٣٨٥ ـ ٤٦٠ ه‍) في الفهرست :

المفيد يكنّى أبا عبد الله ، المعروف بابن المعلم ، من جملة متكلّمي الإمامية ،

__________________

(١) الذهبي ، العِبَر ٢ : ٢٢٥.

(٢) ابن حجر ، لسان الميزان ٥ : ٣٦٨ / ١١٩٦.

(٣) ابن العماد الحنبلي ، شذرات الذهب ٣ : ١٩٩ وفيه مكان الطائفة «الصوفية» وهو لحن.

٣٠٢

انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته ، وكان مقدّماً في العلم ، وصناعة الكلام ، وكان فقيهاً متقدّماً فيه ، حسن الخاطر ، دقيق الفطنة ، حاضر الجواب ، وله قريب من مائتي مصنّف كبار وصغار ، وفهرست كتبه معروف ، ولد سنة (٣٣٨ ه‍) ، وتوفّي لليلتين خلتا من شهر رمضان سنة (٤١٣ ه‍) ، وكان يوم وفاته يوماً لم ير أعظم منه من كثرة الناس للصلاة عليه وكثرة البكاء من المخالف والموافق (١).

٢ ـ ويقول تلميذه الآخر ، النجاشي (٣٧٢ ـ ٤٥٠ ه‍) :

شيخنا وأُستاذنا ـ رضي الله عنه ـ فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والوثاقة والعلم. ثمّ ذكر تصانيفه (٢).

وهكذا وبعد أن أوردنا بعضاً من رجالات الطائفة الذين برعوا في علم الكلام حتّى نهاية القرن الرابع ، أودّ أن أُشير إلى بعض أساتذة الفلسفة الذين لمعت أسماؤهم في سماء العالم الإسلامي بعد القرن الرابع الهجري.

مشاهير أئمّة الفلسفة بعد القرن الرابع :

١ ـ الشيخ أبو علي بن سينا : إذا كان الشيخ المفيد أكبر متكلّم للشيعة ظهر في العراق ، فإنّ الشيخ الرئيس ابن سينا (٣٧٠ ـ ٤٢٨ ه‍) أكبر فيلسوف إسلامي شيعي ظهر في المشرق ، وهو من الذين دفعوا عجلة الفكر والعلم إلى الامام خطوات كثيرة ، وقد ذاع صيته شرقاً وغرباً ، وكتبت عنه دراسات ضافية من المسلمين والمستشرقين ، ونحن في غنى عن إفاضة القول في ترجمة حياته ، وآثاره التي خلّفها ، والتلاميذ الذين تربّوا في مدرسته ، ولكن نشير إلى كتابين من كتبه لما لهما من الشهرة والمكانة :

__________________

(١) الشيخ الطوسي ، الفهرست / ٧١٠.

(٢) النجاشي ، الرجال ٢ : ٣٢٧ / ١٠٦٨.

٣٠٣

ألف ـ الشفاء : وهو يشتمل على المنطق والطبيعيات والإلهيات والرياضيات وقد طبع أخيراً في مصر في أجزاء ، وبالإمعان فيما ذكره في مبحث النبوّة يعلم منه مذهبه ، قال : والاستخلاف بالنص أصوب ، فإنّ ذلك لا يؤدّي إلى التشعّب والتشاغب والاختلاف (١).

باء ـ الإشارات : وهو يشتمل على المنطق والطبيعيات والإلهيات ، وهو من أحسن مؤلّفاته ، وفيه آراؤه النهائية ، وقد وقع موقع العناية لمن بعده ، فشرحه الإمام الرازي (٥٤٣ ـ ٦٠٦ ه‍) والمحقّق الطوسي (٥٩٧ ـ ٦٧٢ ه‍) والشرح الثاني كان محور الدراسة في الحوزات العلمية.

٢ ـ نصير الدين الطوسي : سلطان المحقّقين وأُستاذ الحكماء والمتكلّمين (٥٩٧ ـ ٦٧٢ ه‍) وهو أشهر من أن يذكر ، شارك في جميع العلوم النظرية فأصبح أُستاذاً محقّقاً مؤسّساً ، أثنى عليه الموافق والمخالف.

٣ ـ الشيخ كمال الدين ، ميثم بن عليّ بن ميثم البحراني (٦٣٦ ـ ٦٩٩ ه‍) الفيلسوف المحقّق ، والحكيم المدقّق ، قدوة المتكلّمين ، تظهر جلالة شأنه وسطوع برهانه من الإمعان في شرحه لنهج البلاغة في أربعة أجزاء ، وله «قواعد المرام في الكلام» وكلاهما مطبوعان.

٤ ـ العلّامة الحلّي : شيخ الشيعة جمال الدين المعروف بالعلّامة الحلّي (٦٤٨ ـ ٧٢٦ ه‍) له الجوهر النضيد في شرح منطق التجريد ، وكشف المراد في الكلام ، وكتبه في المنطق والكلام والفلسفة تنوف على العشرين.

٥ ـ قطب الدين الرازي (ت ٧٦٦ ه‍) تلميذ العلّامة الحلّي وأُستاذ الشهيد الأوّل ، له شرح المطالع في المنطق ، والمحاكمات بين العلمين : الرازي ونصير الدين الطوسي.

__________________

(١) الشفاء ، قسم الإلهيات ٢ : ٥٦٤ ط إيران.

٣٠٤

إلى غير ذلك من العقول الكبيرة التي ظهرت في الحوزات الشيعية ، كالفاضل المقداد (ت ٨٠٨ ه‍) مؤلّف نهج المسترشدين في الكلام ، والشيخ بهاء الدين العاملي (٩٥٣ ـ ١٠٣٠ ه‍) ، والسيد محمّد باقر المعروف بالداماد (ت ١٠٤٠ ه‍) ، وتلميذه المعروف بصدر المتألّهين مؤلّف الأسفار الأربعة (٩٧١ ـ ١٠٥٠ ه‍) ، وغيرهم ممّن يتعسّر علينا إحصاء أسمائهم فضلاً عن تحرير تراجمهم.

هذه لمحة عابرة عن مشاركة الشيعة في بناء الحضارة الإسلامية في مجال العلوم العقلية ، والتي اقتصرنا فيها على ذكر ما يتّسع به المجال من بعض المشاهير منهم إلى أواسط القرن الحادي عشر ، حيث إنّ هناك العديد من الأسماء الكبيرة واللامعة.

هذا وقد قام المتتبّع المتضلّع الشيخ عبد الله نعمة بتأليف كتاب حول فلاسفة الشيعة ومتكلّميهم أسماه «فلاسفة الشيعة» فسدّ بذلك بعض الفراغ جزاه الله خيراً.

ومن الجانب الآخر يجد المرء أنّ هذا العطاء المقدّس في علوم التفكير والبرهنة لم يزل متواصلاً لدى الشيعة وحتّى عصرنا الحاضر هذا ، حيث ظهرت العديد من الشخصيات الفذّة والبارزة ، رفدت المكتبة الإسلامية بمؤلّفات غنيّة في الكلام والفلسفة والمنطق ، في الوقت الذي عاش فيه كثير من هؤلاء العلماء والمفكّرين في ظروف قاهرة ومصاعب جمّة ، لعبت فيها السلطات الجائرة دوراً كبيراً في مطاردة وتصفية الكثير منهم ، حتّى صار ذلك سبباً في اختفاء آثارهم وضياعها ، بل وتراكم الأساطير حولها.

وبذلك تقف على ضعف وركاكة ما ذكره المستشرق آدم متز في حقّ كلام الشيعة :

«أمّا من حيث العقيدة والمذهب ، فإنّ الشيعة هم ورثة المعتزلة ، ولا بدّ أن يكون قلّة اعتداد المعتزلة بالأخبار المأثورة ممّا لاءم أغراض الشيعة ، ولم يكن

٣٠٥

للشيعة في القرن الرابع مذهب كلامي خاصّ بهم» (١).

إنّ الشيعة عن بكرة أبيهم كانوا مقتفين أثر أئمّتهم ، ولم يكونوا ورثة للمعتزلة ولا لغيرهم ، وإنّما أخذت المعتزلة أُصول مذهبهم عن أئمّة أهل البيت ، كما هو واضح للجميع ، بل والمعروف كثرة المناظرات بين الشيعة والمعتزلة منذ عصر الإمام الصادق عليه‌السلام وإلى عصر المفيد وما بعده.

نعم ، ما أضعف ما ذهب إليه هذا المستشرق ، وفي ذلك دلالة واضحة على سطحيّة الآراء التي يذهب إليها الغرباء في الحكم على عقائد المسلمين ، ولسنا نلومه بقدر ما نلوم به إخواننا المسلمين ومفكّريهم الذين يستندون في كثير من مذاهبهم على أقوال هؤلاء وتخرّصاتهم ، حتّى أنّ الشيخ المفيد وضع كتباً في نقد المعتزلة ، كما وضع قبله بعض أئمّة المتكلّمين من الشيعة ردوداً على المعتزلة ، فكيف يكون الشيعة ورثة للمعتزلة؟ نعم إنّ القائل خلط مسألة الاتّفاق في بعض المسائل بالتبعية والاقتفاء ، فالشيعة والمعتزلة تتّفقان في بعض الأُصول ، لا أنّ أحدهما عيال على الآخر.

١٤ ـ قدماء الشيعة والعلوم الكونية

لم يكن اتّجاه الشيعة مختصّاً بالعلوم العقلية كالكلام والفلسفة والمنطق فحسب ، بل امتدّ نشاطهم وحركتهم الفكرية إلى العلوم الرياضية ، والكونية ، فتجد هذا النشاط بارزاً في مؤلّفاتهم طيلة القرون الماضية ، ونحن نأتي هنا بذكر موجز عن مشاهير علمائهم ومؤلّفاتهم في القرون الأُولى تاركين غيرهم للمعاجم :

١ ـ هشام بن الحكم (ت ١٩٩ ه‍) ، له آراء في الأعراض كاللون والطعم

__________________

(١) الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ، تعريب محمّد عبد الهادي أبو ريدة ١ : ١٠٦ ، ط الثالثة.

٣٠٦

والرائحة ، وقد أخذ منه إبراهيم بن سيّار النظّام ، وحاصل هذا الرأي أنّ الرائحة جزئيات متبخّرة من الأجسام تتأثّر بها الغدد الأنفية ، وأنّ الأطعمة جزئيات صغيرة تتأثّر بها الحليمات اللسانية (١).

٢ ـ إنّ بيت آل نوبخت بيت شيعي عريق ، فقد قاموا بترجمة الكثير من كتب العلوم والمعرفة من اللغة الفارسية إلى العربية ، كما برع منهم من له باع طويل في كثير من العلوم ، ومنها العلوم الكونية.

قال ابن النديم : آل نوبخت معروفون بولاية علي وولده.

وقال الأفندي في رياض العلماء : بنو نوبخت طائفة معروفة من متكلّمي الإمامية منهم :

أ ـ أبو الفضل بن نوبخت ، قال ابن النديم : كان في خزانة الحكمة لهارون الرشيد ، وقال ابن القفطي في تاريخ الحكماء : إنّه مذكور مشهور من أئمّة المتكلّمين وذُكر في كتب المتكلّمين. وكان في زمن هارون الرشيد وولّاه القيام بخزانة كتب الحكمة ، وهو من متكلّمي أواخر القرن الثاني.

ب ـ ولده إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت ، من متكلّمي القرن الثالث.

ج ـ يعقوب بن إسحاق بن أبي سهل بن نوبخت ، متقدّم في الحكمة والكلام والنجوم (٢).

٣ ـ أبو عليّ أحمد بن محمّد بن يعقوب بن مسكويه ، من أعيان الشيعة وأعلام فلاسفتهم ، صنّف في علوم الأوائل ، وله تعليقات في المنطق ، ومقالات جليلة في أقسام الحكمة والرياضة (٣).

__________________

(١) عبد الله نعمة ، فلاسفة الشيعة : ٥٦.

(٢) العاملي ، أعيان الشيعة ١ : ١٣٥.

(٣) محمّد باقر الخوانساري ، روضات الجنات ١ : ٢٥٤.

٣٠٧

٤ ـ جابر بن حيّان ، ويعدّ من أشهر علماء الشيعة وأقدمهم الذين برزوا في علم الكيمياء ، وهو أوّل من أشار إلى طبقات العين قبل «يوحنا بن ماسويه» (ت ٢٤٣ ه‍) وقبل حنين بن إسحاق (ت ٢٦٤ ه‍) وأوّل من أثبت إمكان تحويل المعدن الخسيس إلى الذهب والفضة ، فلم تقف عبقريته في الكيمياء عند هذا الحدّ ، بل دفعته إلى ابتكار شيء جديد في الكيمياء فأدخل فيها ما سمّاه بعلم الميزان ، والمقصود منه معادلة ما في الأجسام والطبائع ، وجعل لكلّ جسم من الأجسام ، موازين خاصّة (١) وقد أُلّفت حول جابر وعبقريته كتب كثيرة ، فمن أراد فليرجع إليها ، وقد اتّفق الكلّ على أنّه تلميذ الإمام الصادق عليه‌السلام.

٥ ـ الشريف أبو القاسم عليّ بن القاسم القصري ، وهو من علماء القرن الرابع ، ذكره ابن طاوس في فرج المهموم في عداد منجّمي الشيعة (٢).

وهذه نماذج من علماء الشيعة في الطبيعيات والفلكيات ، وأمّا المتأخّرون ، فحدّث عنهم ولا حرج ، وقد أتى بقسم كبير منهم الشيخ عبد الله نعمة في كتابه «فلاسفة الشيعة» فمن أراد فليرجع إليه ، غير أنّا نذكر هنا المحقّق الطوسي الذي له حقّ على الأُمّة جمعاء ، والذي تقول في حقّه المستشرقة الألمانية :

«وحصل نصير الدين الطوسي على مرصده ، فكان معهداً للأبحاث لا مثيل له ، وزوّده بالآلات الفلكية التي زادت في شهرة المعهد ، ورفعت مكانته ... ويحكى أنّ زائراً قصد ابن الفلكي نصير الدين في مرصده في مراغة ، فلمّا رأى الآلات الفلكية المتنوّعة ذُهل ، وقد ازداد دهشة حين رأى «المحلقة» ذات الخمس حلقات والدوائر من النحاس : أولاها : تمثل خطّ الطول الذي كان مركّزاً في الأسفل ، وثانيتها : خطّ الاستواء ، وثالثتها : الخطّ الاهليلجي ، ورابعتها : دائرة خطّ الأرض ،

__________________

(١) فلاسفة الشيعة ١ : ٥٧.

(٢) فرج المهموم في تاريخ علماء النجوم : ١٢٨ ، ط النجف ١٣٦٨ ه‍.

٣٠٨

وخامستها : دائرة الانقلاب الصيفي والشتوي ، وشاهد أيضاً دائرة السمت التي يمكن للمرء بواسطتها أن يحدّد سمت النجوم ، أي الزاوية الناتجة على خطّ أُفقي ثابت وخطّ أُفقي آخر صادر عن كوكب في السماء.

وتقول أيضاً : إنّ نصير الدين أحضر إلى مكتبة المعهد أربعمائة ألف مجلّد كانت قد سرقت من مكتبات بغداد وسورية وبلاد بابل ، وقد استدعى علماء ذوي شهرة طائرة من إسبانيا ودمشق وتفليس والموصل إلى مدينة مراغة لكي يعملوا على وضع الازياج بأسرع وقت ممكن» (١).

ويناسب في المقام ذكر إجمالي عمّا قدّموا من الخدمة في مجال الجغرافية وعلم البلدان فنقول :

الجغرافية وتقويم البلدان

نذكر في المقام رحّالتين طافا البلاد الإسلامية وكتبا ما يرجع إلى جغرافية البلدان ، وقد صار كتاباهما أساساً للآخرين :

١ ـ أحمد بن أبي يعقوب بن واضح ، المعروف باليعقوبي ، المتوفّى في أواخر القرن الثالث ، فهو أوّل جغرافي بين العرب ، وصف الممالك معتمداً على ملاحظاته الخاصّة ، ومتوخّياً قصد ما أراد من وصف البلد وخصائصها ، وهو يقول عن نفسه : إنّه عنى في عنفوان شبابه وحدّة ذهنه بعلم أخبار البلدان ومسافة ما بين كل بلد وبلد ، لأنّه سافر حديث السنّ ، واتّصلت أسفاره ، ودام تغرّبه ، وقد طاف في بلاد المملكة الإسلامية كلّها ، فنزل إرمينية ، وورد خراسان ، وأقام بمصر والمغرب ، بل سافر إلى الهند وكان متى لقى رجلاً سأله عن وطنه ومصره ، وعن

__________________

(١) السيدة زيغريد هونكه ، شمس العرب تسطع على الغرب : ١٣٣ والصحيح أن يسمّى : شمس الإسلام.

٣٠٩

زرعه ما هو؟ وساكنيه من هم؟ عرب أو عجم؟ وعن شرب أهله ولباسهم ودياناتهم ومقالاتهم ، من غير أن يلحقه من ذلك ملال ولا فتور ، وقد وصف المملكة الإسلامية مبتدئاً ببغداد وصفاً منظّماً مع إصابة جديرة بالثقة والإعجاب (١).

٢ ـ أبو الحسن عليّ بن الحسين المسعودي (ت ٣٤٦ ه‍) فقد ألّف في ذلك المضمار كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر» وكتابه الآخر «التاريخ في أخبار الأُمم من العرب والعجم» وكتابه الثالث «التنبيه والأشراف» فقد اشتمل وراء التاريخ على الجغرافية وتقويم البلدان ، وقد جرّه حُبّه للاستطلاع إلى السفر إلى بلاد بعيدة ، فكتب ما رآه وشاهده.

__________________

(١) آدم متز ، الحضارة الإسلامية ٢ : ٣٤ وكتاب اليعقوبي في الجغرافية هو كتاب «البلدان» المنتشر.

٣١٠

بلدان الشيعة وأماكن تواجدهم

يمثّل الشيعة شريحة كبيرة من المجتمع الإسلامي الكبير المتوزّع في بقاع العالم المختلفة ، حيث ساهموا كما أسلفنا مع إخوانهم المسلمين في بناء الحضارة الإسلامية ، وإقامة صرح الدين الحنيف ، ونشره في أصقاع المعمورة ، وسنحاول في بحثنا هذا استعراض وجود الشيعة في بلدان العالم مع ذكر مختصر عن جوامعهم ومعاهدهم ودورهم وأعدادهم ، لكي يكون القارئ الكريم على تصوّر واضح عنهم.

بلدان الشيعة :

ينتشر الشيعة في جميع أنحاء العالم بنسب مختلفة ، وربّما تعد بعض البلدان معقل الشيعة ومزدحمها حيث يكون المذهب السائد فيها هو مذهب التشيع ، في حين تتفاوت هذه النسبة في بلدان أُخرى. وإليك أسماء بعضها ، وهي إيران ، والعراق ، وسورية ، والسعودية ، وتركيا ، وأفغانستان ، والباكستان ، والهند ، واليمن ، ومصر ، والأمارات العربية المتّحدة ، والبحرين ، والكويت ، ومسقط ، وعمان ، والتبت ، والصين ، وآذربيجان ، وطاجيكستان ، وباقي الجمهوريات المتحرّرة بانحلال الاتحاد السوفيتي ، وماليزيا ، وأندونيسيا ، وسيلان ، وتايلند ، وسنغافورة ، وشمال إفريقيا ، والصومال ، والأرجنتين ، وبريطانيا ، وألمانيا ، وفرنسا ، وألبانيا ، والولايات المتّحدة ، وكندا وغيرها من الدول المختلفة التي يضيق المجال بحصرها.

ولا بأس بالإيعاز إلى خصوصيّات بعض البلدان ؛ إذ فيه تسليط لبعض الضوء للتعرّف على ماضي التشيّع وما لاقاه أتباعه من العدوان والويلات والمصائب.

٣١١

التشيّع حجازي المحتد والمولد :

التشيّع حجازي المحتد والمولد ؛ إذ فيه نشأ ، وفي تربته غرست شجرته ، ثمّ نمت وكبرت ، فصارت شجرة طيّبة ذات أغصان متّسقة وثمار يانعة. وفيه حثّ النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله على ولاء الإمام عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وسمّى أولياءه شيعة ، وحدّث بحديث الثقلين ، وجعل أئمة أهل البيت قرناء الكتاب في العصمة ولزوم الاقتفاء والطاعة ، وفيه رَقى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله المنبر الذي صنعوه من رحال الإبل وأخذ بيد وصيّه ووليّ عهده عليّ المرتضى وحمد الله وأثنى عليه وقال : «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟» فقالوا : اللهمّ بلى ، ولما أخذ من الجمع المحتشد الإقرار بأولويّته على النفس والنفيس عرَّف عليّاً خليفة بعده وقال : «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه» ونزل من المنبر ثمّ نزلت آيات من الذكر الحكيم تشير إلى هذه البيعة وتؤكّدها ، ومن ثمّ تبودلت التهاني والتحيّات بين الإمام والصحابة (١).

وقد أشار إلى بعض ما ذكر مؤلّف خطط الشام وقال : «إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الذي حثّ على ولاء عليّ وأهل بيته عليهم‌السلام وهو أوّل من سمّى أولياءه بالشيعة ، وفي عهده ظهر التشيّع وسمّي جماعة بالشيعة (٢).

ولما ارتحل النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى دار البقاء تناسى أُولو القوّة والمنعة من الصحابة عهد النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فحالوا بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وأُمنيته كما حالوا بين أُمّته وإمامها ، فتداولوا كُرة الخلافة بينهم ، وأخذوا بمقاليد الحكم واحداً بعد آخر ، والإمام منعزل عن الحكم ، لا عمل له إلّا هداية الأُمّة وإرشادها بلسانه وبيانه وقلمه وبنانه.

__________________

(١) لقد أفرد علماء الإمامية كتباً كثيرة أشاروا فيها إلى بيعة الغدير التي حدثت بعد عودة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمسلمين من حجّة الوداع ، وقد بسطوا القول فيها وعضدوها بالأدلّة القوية والثابتة ، كما أنّ كتب أهل السنّة حافلة بهذا الخبر تصريحاً أو إشارة إليه ، فمن شاء فليراجع.

(٢) محمد كرد علي ، خطط الشام ٥ : ٢٥١.

٣١٢

ولقد كان الذي دعا عليّاً إلى السكوت والانحياز ، هو مشاهدة ظاهرة الردّة الطارئة على المجتمع الإسلامي عن طريق مسيلمة الكذاب ، وطليحة بن خويلد الأفّاك ، وسجاح بنت الحرث الدجّالة ، وأتباعهم الرعاع الذين كانوا على الدين الفتيّ خطراً جدّياً كان من الممكن أن يؤدّي إلى محق الإسلام وسحق المسلمين. ويحدّث عن هذه الحقيقة الإمام في رسالته التي أرسلها مع مالك الأشتر إلى أهل مصر ، حيث يقول فيها : «فأمسكت يدي حتّى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم» (١).

رأي الإمام أنّ صيانة الإسلام وردّ عادية الأعداء تتوقّفان على المسالمة والموادعة ، فألقى حبل الخلافة على غاربها ، تقديماً للأهمّ على المهمّ ، وتبعته شيعته صابرين على مضض الحياة ومرّها.

بقي الإمام منعزلاً عن الحكم قرابة ربع قرن إلى أن قتل عثمان في عقر داره ، وانثال الناس إلى دار عليّ من كلّ جانب مجتمعين حوله كربيضة الغنم ، يطلبون منه القيام بالأمر وأخذ مقاليد الحكم ، وفيهم شيعته المخلصون الأوفياء ، فلم ير بدّاً من قبول دعوتهم لقيام الحجّة بوجود الناصر (٢).

ولمّا نكث الناكثون البيعة ، وقادوا حبيسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «عائشة» معهم إلى البصرة ، ارتحل الإمام بأنصاره وشيعته إلى العراق إلّا قليلاً بقوا في الحجاز لقلع مادّة الفساد قبل أن تستفحل ، ولمّا قلع عين الفتنة ، استوطن الإمام الكوفة ، واستوطنها معه شيعته ، وصارت الكوفة عاصمة التشيّع ، ومعقله ، وفيها نما وأينع

__________________

(١) الشريف الرضي ، نهج البلاغة ، الكتاب ٦٢.

(٢) إشارة إلى قوله عليه‌السلام : «أما والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة ، لو لا حضور الحاضر وقيام الحجّة بوجود الناصر ... لألقيت حبلها على غاربها» نهج البلاغة ، الخطبة ٣.

٣١٣

وأثمر ومنها انحدر إلى سائر البلدان ، بعد ما كان الحجاز مهبط التشيّع ومغرسه ومحتده. فكان حجازي المحتد والمغرس ، عراقي النشوء والنمو ، ولم يكن يوم ذاك يتظّلل في ظلال التشيّع إلّا عربي صميم ، من عدنانيّ وقحطانيّ ، ولم يكن بينهم فارسيّ ولا بربريّ الأصل ولا شعوبيّ العقيدة يمقت العرب.

وهكذا فإنّا يمكننا القول بأنّ مهد التشيّع الأوّل كان في أرض الحجاز الطيّبة ومنها درج واشتد حتّى تسامق وتطاول وأصبح له وجود في كلّ بقاع المعمورة.

ولا زال الشيعة يعيشون مع إخوانهم المسلمين في مكّة المكرّمة ، والمدينة المنوّرة ، وحضرموت ، ونجران ، وغيرها ، كما توجد في أنحاء من أرض الحجاز الكثير من القبائل العربية الشيعية أمثال بني جهم ، وبنو عليّ ، وغيرهم.

وأمّا المنطقة الشرقية كالأحساء والقطيف والدمّام ، فأكثر سكّانها من الشيعة.

التشيّع عراقي النشوء والنمو :

قد عرفت أنّه لمّا غادر الإمام المدينة المنوّرة متوجّهاً إلى العراق واستوطن الكوفة هاجر كثير من شيعته معه واستوطنوا العراق ، فصار ذلك أقوى سبب لنشوء التشيّع ونموّه في العراق ، ولا سيما في الكوفة ، فصارت معقل الشيعة ، ولمّا قضى الإمام نحبه حاولت السلطة الأُموية وعمّالها استئصال التشيّع منها بأبشع صورة مستخدمة في ذلك شتّى الأساليب الإجرامية الرهيبة من دون أيّ وازع من ضمير.

وبالرغم من أنّ العراق وأخصّ منه الكوفة كان علوي النزعة هاشمي الولاء ، إلّا أنّ الحسين ابن الإمام عليّ عليهما‌السلام قتل بسيف الكوفيين ، وسقط عطشان وحوله أجساد أبنائه وأبناء أخيه وأصحابه ، إلّا أنّ ذلك لا يدلّ على انسلاخهم عن التشيّع ؛ لأنّ الشيعة يوم ذاك كانوا بين مسجون في زنزانات الأُمويين ، أو مرعوب

٣١٤

متخاذل فاقد للتصميم والحمية ، أو منتظر لما تؤول إليه الأُمور ، أو ناصر التحق بالحسين في أحلك الظروف. هؤلاء هم الشيعة.

وأمّا الذين شاركوا في قتل الحسين فلم يكونوا من الشيعة أبداً ، بل كانوا أتباع الأُمويين والمنضوين تحت راياتهم. فلما قتل الحسين أثار قتله شجون الشيعة ، وبقوا يتحيّنون الفرص للانقضاض على الحكم الأُموي الفاسد وأتباعه ، حتّى تهيّأت الفرصة عند خروج المختار من سجنه ، فالتفوا حوله في ثورة كبيرة اقتلعت جذور الامويين واقتصّت من أعوانهم قتلة الحسين وأهل بيته وأصحابه.

وقد حاول الأُمويون جعل العراق أُموياً ، وبذلوا جهوداً حثيثة في سبيل هذا الأمر ، إلّا أنّ جهودهم ذهبت أدراج الرياح ، وبقي العراق هاشمياً وعلوياً ، حتّى أنّ دعوة العباسيين نجحت في بداية الأمر في العراق في ظلّ طلب ثأر الحسين وأهل بيته ، وكانت الدعوة للرضا من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله.

لقد تبلور التشيّع بعد حادثة الطفّ بقليل واتّسع نطاقه وصار العراق مركزه ، وكانت القوافل من أنحاء العراق وغيره من بلاد المسلمين تؤمّ قبر الحسين وأصحابه ، فصارت مشاهد أهل البيت فيها معمورة بالزائرين والمجاورين ، وكانت المآتم تقام في حواضرها تخليداً لذكرى استشهاد الإمام الحسين المفجع ، واتّخذت الشيعة قرب مشاهد أئمّتهم ، حوزات علمية ومعاهد فكرية ، فازدهر العراق بعمالقة الفكر ، وأساتذة الفقه ، وأساطين الكلام ، وأعان على نشر التشيّع ونموّه في العراق نشوء دول وأمارات للشيعة في القرن الرابع وما بعده.

يقول الشيخ المظفّر (١) : وساعد على نمو التشيّع وانتشاره في العراق ، أن تكوّنت من الشيعة فيه سلطنات دول وأمارات كسلطنة آل بويه ، وإمارة بني مزيد في الحلّة

__________________

(١) انظر : محمد حسين المظفر ، تاريخ الشيعة : ٦٩ ـ ٧١ و ١١٠ ـ ١١١.

٣١٥

والنيل ، وبني شاهين في البطائح ، وبني حمدان وآل المسيّب في الموصل ، ونصيبين ، وكدولة بعض المغول أمثال محمّد خدابنده وابنه أبي سعيد ، وأمّا محمود غازان فقد قيل بتشيّعه وهناك أمارات عليه إلّا أنّه لم يصارح به ، وكدولة الجلائرية التي أسّسها الشيخ حسن الجلائري أحد قوّاد المغول وابن أُخت محمود غازان ومحمّد خدابنده ، وكانت بغداد عاصمة ملكه ، وكالدولة الصفوية التي ناصرت التشيّع ونشرته في البلاد بشتّى الطرق ، فكأنّما هي دولة دينية تأسّست لنشر مذهب أهل البيت.

وأيّد مذهب التشيّع أيضاً أن انعقدت عدّة وزارات من رجاله ، فقد استوزر السفاح أوّل ملوك بني العباس أبا سلمة الخلّال الكوفي الهمداني داعية أهل البيت ، وقتله على التشيّع.

واستوزر المنصور : محمّد بن الأشعث الخزاعي.

واستوزر المهدي : أبا عبد الله يعقوب بن داود ، وحبسه لتشيّعه ، واستوزر الرشيد : عليّ بن يقطين ، وجعفر بن الأشعث الخزاعي.

واستوزر المأمون : الفضل بن سهل ذا الرئاستين لجمعه بين القلم والسيف ، وقتله عند ما أحسّ بميله إلى الرضا عليه‌السلام ، واستوزر من بعده أخاه الحسن بن سهل.

واستوزر المعتزّ والمهتدي : أبا الفضل جعفر بن محمود الإسكافي.

واستوزر المقتدي : أبا شجاع ظهير الدين محمّد بن الحسين الهمداني ، وعزله لتشيّعه.

واستوزر المستظهر : أبا المعالي هبة الدين بن محمّد بن المطلّب ، وعزله لتشيّعه ، ثمّ أعاده على أن لا يخرج من مذهب أهل السنّة ، ثمّ تغيّر عليه وعزله.

واستوزر الناصر والظاهر والمستنصر : مؤيّد الدين محمّد بن عبد الكريم القمّي من ذريّة المقداد ـ رضوان الله عليه ـ.

٣١٦

واستوزر المستعصم آخر ملوك بني العباس : أبا طالب محمّد بن أحمد العلقمي الأسدي ، وأقرّه هولاكو على الوزارة ، ولمّا مات ـ رحمه‌الله ـ استوزر : ولده أبا الفضل عزّ الدين. إلى ما سوى هؤلاء.

وأمّا الإمارات ، والقيادات ، والكتابة ، والخزانة ، فما أكثرها ، أمثال : إمارة آل قشتمر ، وآل أبي فراس الشيباني ، وآل دبيس كما أشرنا إليهم.

وقيادة طاهر بن الحسين الخزاعي ، وقيادة أولاده كابنه عبد الله ، ومحمّد بن عبد الله وغيرهما ، وتولّيهم إمارة هراة.

وكان عبد الله بن سنان خازناً للمنصور والمهدي والهادي والرشيد ، وكان من ثقات الرواة لأبي عبد الله الصادق عليه‌السلام. إلى ما يعسر استقصاؤه.

وكفاك برهاناً على أنّ التشيّع كان ضارباً أطنابه على بسيطة العراق ، ما كان من نقابة الطالبيين في بغداد ، فما أكثر ما كان يتولّاها الشيعة ، أمثال الشريف الرضي وأبيه وابنه وأخيه المرتضى ، وقد تولّوا المظالم أيضاً ، وتولّى الشريف الرضي وأبوه أيضاً إمارة الحاج ، كما تولّاها ثلاث عشرة حجّة حسام الدين أبو فراس جعفر بن أبي فراس الشيباني.

وتولّى آل طاوس نقابة الطالبيين في العراق عامة ، تولّاها منهم السيّدان العلمان رضي الدين وغياث الدين عبد الكريم (١).

كما تولّى الأوقاف في العراق وغيرها ممّا كان تحت حكم المغول الخواجة نصير الدين الطوسي ـ طاب ثراه ـ وعند ما قبض عليها ، أقام ببغداد ، وتصفّح الأوقاف ، وأدار أخبار الفقهاء والمدرّسين ، وقرّر القواعد في الوقف ، وأصلحها بعد

__________________

(١) انظر : الحوادث الجامعة ، في حوادث عام (٦٦١ ه‍) وما ذكره فيها من تولّي السيد رضي الدين بن طاوس نقابة الطالبيين بالعراق ، وذكر أنّ وفاته عام (٦٦٤ ه‍) ، وفي حوادث عام (٦٩٣ ه‍) قال : وفيها توفّي النقيب غياث الدين عبد الكريم بن طاوس.

٣١٧

اختلالها (١) ، ومن بعده تولّاها ابنه أحمد فخر الدين ، ولمّا وليها حذف الحصّة الديوانية في الوقوف ، ووفّرت على أربابها (٢).

وهكذا فإنّ الاستقراء الموضوعي لسكان العراق يكشف بوضوح التفوّق الكبير في عدد الشيعة على ما عداهم ، فجنوب العراق يغلب على سكّانه الشيعة بشكل واضح جدّاً ، وأما وسطه فتتركّز شيعته في أغلب محافظاته أمثال محافظة النجف وكربلاء وبابل وواسط والسماوة والديوانية وغيرها ، وأما شمال العراق فتقلّ نسبة الشيعة فيه بشكل ملحوظ ، إلّا أنّ هناك أعداداً لا بأس بها في محافظتي الموصل وكركوك.

الشيعة في اليمن :

دخل التشيّع في اليمن بعد أن أسلموا على يد عليّ عليه‌السلام ، حيث يحدّثنا التاريخ : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعث خالد بن الوليد إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام ، فأقام هناك ستّة أشهر فلم يجيبوه إلى شيء. فبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأمره أن يُرجع خالد بن الوليد ومن معه.

قال البراء : فلمّا انتهينا إلى أوائل اليمن بلغ القوم الخبر فجمعوا له فصلّى بنا عليّ الفجر ، فلمّا فرغ صفّنا صفّاً واحداً ثمّ تقدّم بين أيدينا فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قرأ عليهم كتاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فأسلمت همدان كلّها في يوم واحد ، وكتب بذلك إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلمّا قرأ كتابه خرّ ساجداً ثمّ جلس فقال : «السلام على همدان ، السلام على همدان» ثمّ تتابع أهل اليمن على الإسلام (٣).

فكان تمسّكهم بعرى الإسلام على يد عليّ عليه‌السلام ، وصار هذا أكبر العوامل

__________________

(١) انظر : تاريخ مختصر الدول ، للعبري : ٥٠٠ ؛ والحوادث الجامعة ، في حوادث عام (٦٧٢ ه‍).

(٢) انظر : الحوادث الجامعة ، في حوادث عام (٦٨٣ ه‍).

(٣) ابن الأثير ، الكامل ٢ : ٣٠٠ في حوادث السنة العاشرة ، ط دار صادر.

٣١٨

لصيرورتهم علويين مذهباً ونزعة. وفي ظلّ هذه النزعة ضحّوا بأنفسهم ونفيسهم بين يدي عليّ عليه‌السلام في حروبه.

أضف إليه أنّهم سمعوا من المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله فضائل إمامهم ومناقبه غير مرّة ، وهذا ممّا زادهم شوقاً وملأ قلوبهم حبّاً وولاءً له ، فقد روى المحدثون : أنّ اليمانيين طلبوا من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يبعث إليهم رجلاً يفقّههم في الدين ويعلّمهم السنن ويحكم بينهم بكتاب الله ، فبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله علياً وضرب على صدره وقال : «اللهمّ اهد قلبه ، وثبّت لسانه». قال الإمام عليّ عليه‌السلام : «فما شككت في قضاء بين اثنين حتّى الساعة» (١).

بقي الإمام عليّ عليه‌السلام بينهم مدّة يفقّههم في الدين ، ويقضي بكتاب الله ، ويحلّ المشاكل القضائية ، بما تنبهر به العقول.

ومن هنا تتوضّح الصورة عن حقد الأُمويين على أهل اليمن وقسوتهم في تعاملهم معهم ، كما فعل ذلك بسر بن أرطاة عند حملته على اليمن ، حيث لم يترك محرّماً إلّا استحلّه ، ولا جريمة إلّا فعلها فلحقته اللعنة في الدارين.

نعم إنّ شيعة أهل اليمن كانوا من خلّص شيعة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فلا غرو ولا غرابة أن يذكرهم في شعره بقوله :

فلو كنت بوّاباً على باب جنّة

لقلت لهمدان ادخلي بسلام

وممّا يدل على فرط حبّهم وولائهم لعليّ عليه‌السلام ما قاله سيّدهم سعيد بن قيس الهمداني ـ رضوان الله عليه ـ في وقعة الجمل :

قل للوصيّ أقبلت قَحطانُها

فادع بها تكفيكها هَمدَانُها

همُ بنوها وهُم أخوانها (٢)

__________________

(١) كنز العمال ٦ : ١٥٨ و ٣٩٢ باب فضائل عليّ.

(٢) ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة ١ : ١٤٤ ـ ١٤٥.

٣١٩

نعم رحل يحيى بن الحسين الرسّي العلوي من العراق إلى اليمن في القرن الثالث ودعا إلى المذهب الزيدي في ظلّ ولاء أهل البيت وأخذ بمجامع القلوب وانتشرت دعوته فانتموا إلى زيد ، فالشيعة إلى اليوم في اليمن زيديّو المذهب يهتفون في الأذان ب «حيّ على خير العمل».

ويوجد هناك شيعة إماميّة قليلون.

كانت الحكومة منذ دعوة الرسّي العلوي بيد الزيدية ، وكان آخر حاكم مقتدر زيدي يحكم البلاد هو حميد الدين يحيى المتوكّل على الله ، ولما اغتيل هو وولداه الحسن والمحسن ، وحفيده الحسين بن الحسن بيد بعض وزرائه عام (١٣٦٧ ه‍) في ظلّ مؤامرة أجنبية ، قام مكانه ولده الإمام بدر الدين ، ولم يكن له نصيب من الحكم إلّا مدّة قليلة حتّى أُزيل عن الحكم عن طريق انقلاب عسكري ، وبذلك انتهى الحكم الزيدي في اليمن ، ولكنّ اليمنيّين بقوا على انتمائهم إلى التشيّع.

الشيعة في سورية ولبنان :

ظلّ التشيّع سائداً في الشام وحلب وبعلبك وجبل عامل منذ القرن الأوّل إلى يومنا هذا ، ومن المعروف أنّ أبا ذر الصحابي الجليل هو الذي بذر بذرته ، أو غرس شجرته ، وذلك عند ما نفاه عثمان من المدينة إلى الشام ، وكان يجول في الشام وضواحيه وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، من دون أن يخاف قوّة أو سطوة ، أو إهانة أو قسوة ، وطبع الحال يقتضي أن يبوح بما انطوت عليه جوانحه من الولاء لعليّ وأهل بيته ، يدعو له على القدر المستطاع ، فنمت بذرة التشيّع في ظلّ التستّر والتقيّة ، وأمّا اليوم فالشيعة مجاهرون ولهم شأن عند الدولة ، ولهم مظاهر في الشام وضواحيه ، ترى اسم عليّ والحسين مكتوبين تحت قبّة المسجد الأُموي ، وفي الجانب الشرقي مسجد خاصّ باسم رأس الحسين ، وفي نفس البلد قباب مشيّدة

٣٢٠