أصول الفقه - ج ٢

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي

أصول الفقه - ج ٢

المؤلف:

آية الله الشيخ محمد علي الأراكي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسه در راه حق
الطبعة: ٠
الصفحات: ٧٥٢
الجزء ١ الجزء ٢

الواجب الواقعى كما في متابعة قول العادل ؛ فإنّها فيما إذا كان قول العادل النهي عن شرب التتن منطبقة على ترك الشرب المطلوب الواقعي ، ولا إشكال في أنّ تحصيل العلم لا يكون منطبقا على امتثال الواجبات والمحرّمات ، بل مع إتيانه يكون امتثالها باقيا على المكلّف بعد، فلا يمكن أن يكون وجوب التحصيل من قبيل الوجوب الطريقي المصطلح.

ومن جملة أقسام الوجوب ، الوجوب النفسي ، وقد عرفت أنّه لا يمكن الالتزام به في تحصيل العلم في الفرعيّات وإن كان ثابتا في تحصيل العلم في العقائد.

والذي يختلج بالبال تفصّيا عن الإشكال أن يقال : إنّ الشارع أوجب على كلّ مكلّف ومكلّفة طلب العلم بالأحكام العمليّة نفسا ، وكان الحكمة في ايجابه لنفسه ملاحظة حال تلك الأعمال التى وقعت موردا للأحكام الواقعيّة ، فإنّ هذا العلم يكون في بعض الموارد مقدّمة لنفس إتيان تلك الأعمال ، وفي بعضها مقدّمة للعلم بإتيانها ، وفي بعض الموارد الذي لا يكون مقدّمة أصلا يكون سببا لقوّة الداعي في نفس المكلّف إلى تلك الأعمال ، وذلك لأنّ العمل ما دام وجوبه مشكوكا عند المكلّف يكون الداعي إليه في نفس المكلّف ضعيفا ، ولكن إذا علم بوجوبه يشتدّ خوفه من عقوبة أمره ويحصل في نفسه الداعى القوي إلى العمل.

بقى الكلام في الشرطين الآخرين الذين ذكرهما بعضهم لأصل البراءة ، أحدهما أن لا يكون إجراء هذا الأصل مثبتا لتكليف آخر ، والثاني أن لا يكون موجبا للضرر ، فنقول : أمّا الشرط الأوّل فلا يمكن القول بحقيقة الاشتراط فيه ، وذلك لأنّ المكلّف في الشبهة البدويّة متى تفحّص عن الدليل ولم يظفر به فهو غير منفكّ أبدا عن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وليس لنا مورد تحقّق هذا الموضوع وانتفى عنه هذا الحكم العقلي كما كان منتفيا قبل الفحص ، فالاشتراط بمعنى دوران حكم العقل بقبح العقاب مدار الشرط وجودا وعدما ممنوع جزما.

نعم يمكن توجيه كلام هذا القائل بأن يقال : إنّ التعبير بالاشتراط من باب المسامحة ، ومراده أنّ عدم ثبوت التكليف في شيء إذا كان مثبتا لتكليف آخر

٢٤١

فأصالة البراءة عن التكليف الأوّل لا يثبت التكليف الثاني ، لأنّها بالنسبة إلى الثانى من الأصل المثبت.

وحينئذ فنقول : الكلام من هذا الحيث تارة في الأصل العقلي ، واخرى في الشرعي ، أمّا الأوّل أعني : حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان فلا إشكال في أنّه مثبت للأثر المترتّب على نفس عدم العقاب وعدم تنجّز الخطاب وفعليّته ، كما في باب المزاحمات حيث إنّ عصيان التكليف الغصبي موجب لبطلان الصلاة في الدار الغصبيّة وعصيان التكليف بإنقاذ الغريق الأهمّ موجب لعدم فعليّة التكليف بإنقاذ الغريق المهمّ.

وأمّا لو انتفى العصيان والتنجيز والفعليّة عند الشكّ في غصبيّة الدار ، أو في وجود الغريق الأهمّ بواسطة أصالة البراءة وقبح العقاب بلا بيان كانت الصلاة صحيحة وإنقاذ الغريق المعلوم المهمّ مأمورا به فعلا ، نعم هذا الاصل لا يثبت الأثر المترتّب على نفي التكليف وثبوت الإباحة الواقعيّة ؛ لوضوح أنّ العقل الحاكم بقبح العقاب بلا بيان لا يعيّن نفي التكليف في الواقع وثبوت الإباحة كذلك.

وأمّا الأصل الشرعي فإن قلنا بأنّه مسوق لبيان رفع العقوبة عن التكليف المشكوك كما هو مفاد الأصل العقلي ، فقوله : «رفع ما لا يعلمون» ناظر إلى عين ما استقلّ به العقل من قبح العقاب بلا بيان ، وكذلك قوله : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» وقوله : «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام» فمفاد الكلّ أنّ المؤاخذة والعقوبة مرفوعة ما دام التكليف مشكوكا ، فالكلام فيه هو الكلام في الأصل العقلي بعينه من التفصيل بين الآثار المترتّبة على نفس عدم العقاب ، وبين الآثار المترتّبة على الإباحة الواقعيّة ، بترتّب الاولى دون الثانية.

وأمّا إن قلنا بأنّ مفاد البراءة الشرعيّة جعل الإباحة والحليّة في مرحلة الظاهر في مورد الشكّ لا مجرّد عدم العقاب على التكليف المشكوك ، فمقتضى القاعدة هو التفصيل بين ما إذا كان ثبوت أحد الحكمين عند عدم ثبوت الآخر من باب الملازمة ، وبين ما إذا كان من باب ترتّب الحكم على الموضوع ، ففي الأوّل يكون

٢٤٢

إثبات الحكم الأوّل بأصل البراءة النافي للحكم الثاني من باب إثبات أحد المتلازمين بالأصل المثبت لوجود الآخر ، ولا شكّ أنّه من الأصل المثبت الممنوع.

وأمّا في الثاني اعني : ما إذا كان عدم التكليف موضوعا لثبوت حكم آخر ، كما في جواز الصلاة في جلد ووبر ما يحلّ أكل لحمه ، حيث إنّ حليّة الأكل موضوع لجواز الصلاة في الجلد والوبر ، فالتحقيق أنّ أصالة البراءة الشرعيّة على هذا المبنى كما أنّها تفيد لحليّة نفس العمل ، فلا مانع من إثباتها لما يرتّب على حليّة العمل أيضا.

خلافا لبعض الأساتيد قدس‌سره حيث ذهب إلى أنّه لا يترتّب على الحليّة [الثابتة] بأصل البراءة ما كان مترتّبا على الحليّة الواقعيّة وإن كان يترتّب عليها ما كان مترتّبا على الأعمّ من الحليّة الظاهريّة والواقعيّة ، والحقّ ما ذكرنا ، ووجهه أنّه لا فرق في ذلك بين هذا الأصل وبين استصحاب الخمريّة ، أو إثباتها بالبيّنة ، فإنّه كما يثبت بهما الحرمة والنجاسة ، كذلك الأثر المترتّب على النجاسة وهو المانعيّة في الصلاة ، مع أنّ دليل المانعيّة مختصّ بالنجاسة الواقعيّة ، فحال أصالة البراءة في ما نحن فيه بالنسبة إلى الأثر المفروض حال الاستصحاب والبيّنة في الخمر.

فإن كان دليل ترتّب الأثر على حليّة العمل أعمّ من الحليّة الواقعيّة والظاهريّة فنعم المطلوب ؛ فانّه يتحقّق نفس الموضوع حينئذ بالأصل ، وإن كان مختصّا بالحليّة الواقعيّة كما هو الواقع ، فأصالة البراءة تفيد توسعة دائرة الموضوع ، فلا وجه لعدم توسعة حكمه.

وتوضيح هذا الإجمال أنّ عدم نقض الحالة السابقة في الاستصحاب يكون بمعنى عدم نقض المكلّف حاله السابق في العمل الذي كان يعمله من العمل اللزومي الفعلي ، أو اللزومى التركي ، أو العمل الدائر مدار ميله وإرادته ، وهو الجامع بين الشبهة في الموضوع والشبهة في الحكم ، ففي الأوّل يكون للموضوع حكم وللحكم عمل ، وفي الثانى يكون العمل للحكم المعلّق على موضوع.

٢٤٣

وكيف كان فمقتضى عدم نقض العمل السابق عدم التفكيك بين الأعمال السابقة ، فلو كان للمكلّف في السابق عملان ، أحدهما أكل اللحم والآخر الصلاة في الجلد والوبر فمقتضى عدم نقض العمل السابق بقاء كلا العملين في اللاحق.

فنقول مثل ذلك الحال في قوله : «كلّ شيء حلال حتى تعلم أنّه حرام» ، بيانه أنّ جعل الحليّة في الشيء بالعنوان الثانوي تارة يكون في عرض الواقع كما في الحليّة لأجل الضرورة ، والحليّة بالاصول والأمارات بناء على ما ذهب إليه شيخ الطائفة من الموضوعيّة والسببيّة ، والحليّة في هذه الصورة لا ربط لها بالحليّة الواقعيّة ، ولا يترتّب عليها الأثر المترتّب على الحليّة الواقعيّة كما هو واضح.

واخرى يكون جعل الحليّة بلحاظ الواقع وعلى وجه جعل القانون فيه ، كما هو الحال على المذهب المختار في الاصول والأمارات من الطريقيّة والحليّة في هذه الصورة وإن كانت مغايرة للحليّة الواقعيّة باعتبار أنّ الحليّة الواقعيّة مجعولة بالعنوان الأوّلى ، وهذه بالعنوان الثانوي الذي هو الشكّ ، إلّا أنّ جعل الحليّة بهذا النحو راجع إلى تنزيل الحليّة منزلة الحليّة الواقعيّة.

فأصالة البراءة الشرعيّة على هذا يفيد أنّ الحليّة في موردها بدل عن الحليّة الواقعيّة وتكون عند المكلّف بمنزلة الحليّة الواقعيّة ، فيجب عليه أن يعامل مع هذه الحليّة كلّ معاملة يعاملها مع الحليّة الواقعيّة ، ومن جملة المعاملات مع الحليّة الواقعيّة جواز الصلاة في الجلد والوبر من مأكول اللحم ، فلا بدّ أن يعامل ذلك مع الحليّة التي يفيدها هذا الأصل.

فإن قلت : القدر المتيقّن من هذا التنزيل هو الأثر الأوّل أعنى : جواز نفس العمل ، وأمّا الأثر المترتّب على الحليّة الواقعيّة فلا.

قلت : فلم تقولون بترتيب جميع آثار الطاهر على الشيء الذي ثبت طهارته بالأصل، فيحكم بجواز الصلاة معه وعدم نجاسة ملاقيه ولا يقتصر على الحكم التكليفي ، والحال أنّ دليل التنزيل فيه وهو قوله : «كلّ شيء طاهر» يكون مثل دليل التنزيل في المقام وهو قوله: «كلّ شيء حلال».

٢٤٤

فإن قلت : فلم لا تقول بترتّب الآثار المترتّبة بتوسّط الآثار العقليّة.

قلت : وجهه أنّ التنزيل يقف عند الأثر العقلي ولا يشمله ، لأنّه ليس من شأن الشارع ، فلهذا لا نحكم بترتّب الأثر المترتّب على هذا الأثر العقلي ، فإنّه يقتصر في التنزيل على الأثر المترتّب على نفس الموضوع بلا واسطة ، فالأثر المترتّب على الأمر العقلي يحتاج إلى تنزيل مستقلّ ، وهذا التنزيل لا يفيد بحاله.

نعم هذا التنزيل مفيد في الآثار المترتّبة التي تكون بتمامها شرعيّة ، فإنّ التنزيل في الموضوع الأوّل يكون تنزيلا في الأثر المترتّب عليه بلا واسطة ، والتنزيل في هذا الأثر الذي هو موضوع للأثر الثانى يكون تنزيلا في أثره ، والتنزيل في الأثر الثانى الذي هو موضوع للثالث يفيد التنزيل فى الثالث ، والتنزيل في الثالث يفيد التنزيل في أثره الذى هو الرابع ، وهكذا ، ثمّ إنّ ما ذكرنا غير جار في حديث الرفع ؛ فإنّ مفاده رفع تنجّز التكليف في الظاهر وهو أعم من الحليّة الظاهريّة هذا هو الكلام في الشرط الأوّل.

وأمّا الشرط الثاني أعني : عدم حصول الإضرار بجريان أصل البراءة فهو في الحقيقة ليس بشرط لارتفاع موضوع الأصل مع وجود القاعدة ، كيف وهذه القاعدة حاكمة على الأدلّة الاجتهاديّة أعني : العمومات والإطلاقات في الأدلّة اللفظيّة ، فكيف بهذا الأصل الذي هو دليل فقاهتي وموضوعه الشكّ ويكون متأخرا في الرتبة عن الدليل الاجتهادي.

٢٤٥

قاعدة «لا ضرر» (١)

ولا بأس بصرف عنان الكلام في التكلّم في قاعدة الضرر.

فنقول : الأخبار في هذا الباب تكون في الكثرة إلى حدّ لا يحتاج إلى النظر في سندها ، فإنّها على ما قيل وإن لم يكن متواترة بحسب المضمون لاختلاف المضمون فيها ، الّا أنّ التواتر الإجمالى ثابت ، ويكون القدر المتيقّن من الجميع أنّ الضرر منفيّ في الشريعة المطهّرة ، وإذن فاعتبار السند في هذه الأخبار ممّا لا كلام فيه ، مضافا إلى استدلال العلماء بها في غير مقام.

وإنّما الكلام في دلالتها وهو في طي مقامات :

والثاني في بيان الثمرة بين الاحتمالين

والثالث في بيان النسبة بين هذه القاعدة والقواعد والأدلّة الأخر ، وأنّها الحكومة أو غيرها.

أمّا المقام الأوّل فنقول : أمّا الاحتمال الأوّل في القاعدة فيبني بيانه على مقدّمة وهي أنّ النفي إذا تعلّق بموضوع خارجي وكان هذا الموضوع بحسب الواقع موجودا في الخارج يجعل نفيه راجعا إلى نفي آثاره لا على نحو التقدير ، بل بمعنى أنّ الحكم بنفيه يكون بلحاظ نفي آثاره.

وإن شئت قلت : انّ المصحّح لنفيه نفي آثاره ، كما أنّ هذا هو الحال في العكس وهو الحكم بثبوت موضوع لموضوع آخر مع عدم كون الموضوع الثاني من مصاديق الموضوع الأوّل بحسب الواقع كما في قولنا : زيد أسد ؛ فإنّ المصحّح لهذا

__________________

(١) راجع ص ٤٨٠ من هذا المجلد.

٢٤٦

الحكم الإثباتي هو ثبوت آثار الموضوع الذي حكم بثبوته ، ومثال ذلك في طرف النفي قول الشارع «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» فإنّ الصلاة فعل خارجي متحقّق في الخارج ، فيكون الحكم بنفيه بلحاظ نفي آثاره.

وحينئذ فنقول : معنى قول الشارع : «لا ضرر» أنّ الفعل الضرري معدوم ، ولا يمكن حمل ذلك على نفي الحقيقة ، فإنّ الفعل الضرري كثير الوجود في ما بين العباد ، فلا بدّ أن يكون هذا النفي بلحاظ نفي الآثار المترتّبة على الفعل الضرري ، ولمّا لم يكن الفعل الضرري منفىّ الأثر رأسا ؛ لأنّ الحرمة والضمان ثابتان فلا بدّ من التفكيك بين الآثار التى يكون ترتّبها مخالفا للمنّة وبين ما يكون ترتّبها موافقا للمنّة والحكم بأنّ القاعدة نافية للاولى دون الثانية ؛ لأنّها واردة في مقام المنّة.

وأمّا الاحتمال الثاني فهو أن يكون المعنى أنّ إحداث الضرر ليس من شأن الشارع ، بمعنى أنّ القواعد التي قرّرها الشارع ليس فيها قاعدة كان فيها ضرر على المكلّفين ، فكلّما كان عموم أو إطلاق موهما لثبوت حكم موجب للضرر فهذه القاعدة ناطقة بأنّ هذا الحكم ليس من دين الإسلام ، وذلك لأنّ الإسلام الذي جعل ظرفا لهذا النفي عبارة عن القواعد الإسلاميّة ، ومعنى عدم الضرر في هذه القواعد عدم مجيئي الضرر من ناحيتها على المكلّفين.

وبعبارة اخرى : قول الشارع : «لا ضرر في الاسلام» مساوق لقوله : «لا حرج في الدين» ، فكما أنّ معنى الثانى أنّ الشارع لم يجعل على المكلفين حكما حرجيّا ، فكذلك معنى الأوّل أنّه لم يجعل عليهم حكما ضرريا.

وأمّا الفرق بين هذين وبين قول الشارع : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» فهو أنّ الصلاة فعل صادر عن المكلّف وليس له صحّة الإضافة إلى الشارع ، فلا محالة يكون نفيه في كلام الشارع محمولا على نفي هذا الموضوع الخارجي الصادر من المكلّف.

وأمّا الضرر والحرج فلهما صحّة الإضافة إلى العباد والى الشارع ، أمّا إضافتهما إلى العباد بأن يوقع بعضهم بعضا في الضرر والحرج فواضحة ، وأمّا

٢٤٧

إضافتهما إلى الشارع فلأنّ الشارع إذا أوجب على المكلّف عملا فيه ضرر وحرج عليه مثل إيجاب الوضوء مع الرمد في العين أو الجراحة في اليد أو الرجل يصدق أنّ الشارع أوقع المكلّف في الضرر والحرج ، فإنّ الضرر والحرج وإن كانا حادثين بفعل المكلّف ويكون لهما صحّة الإضافة إلى نفسه ، إلّا أنّ لهما صحّة الإضافة إلى الشارع أيضا بلحاظ أنّه الآمر بهذا الفعل الضرري الحرجي.

والحاصل أنّا نستظهر من خصوص قضيّتى لا ضرر ولا حرج أنّ المراد نفيهما بمعنى عدم صدورهما من الشارع ، يعنى أنّ الشارع لم يجعل على العباد قانونا ضرريّا أو حرجيّا ، ووجه ذلك أنّه لو جعل القانون الضرري والحرجي على العباد يصحّ أن يقال : إنّ الشارع أحدث الضرر أو الحرج على العباد ، وليس المعنى نفي الموضوع الخارجى الراجع إلى نفي الآثار ، ولكن نستظهر في سائر القضايا مثل : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد» و «لا شكّ لكثير الشكّ» نفي الموضوع الخارجى الراجع إلى نفي الآثار ، ووجهه أنّ سائر الموضوعات حالها بالنسبة إلى الشارع حال الحجر بالنسبة إليه في عدم ربطها بالشارع أصلا ، فالمرتبط بالشارع رفع حكمها ليس إلّا.

والشاهد على هذين الظهورين ركاكة التقييد في سائر القضايا بقولنا : «في الاسلام» أو «في الدين» ألا ترى ركاكة قولنا : «لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد في الإسلام» أو «لا شكّ لكثير الشكّ في الدين»؟ فإنّ الشكّ ليس من شأن الشارع ، وكذا الصلاة ، هذا مع كمال لياقة هذا التقييد ومناسبته في قضيّتي لا ضرر ولا حرج.

ثمّ إنّ الاحتمال الثاني هو مختار شيخنا المرتضى وهو الحق ، كما أنّ الاحتمال الأوّل مختار بعض من عاصرناه من الأساتيد مع مبالغته وإصراره على أنّه معنى واضح عرفي.

وأمّا المقام الثاني فنقول : ذهب بعض الأساتيد المتقدّم إليه الإشارة إلى ظهور الثمرة بين الاحتمالين في العقد الضرري كالعقد المشتمل على غبن أحد الطرفين ، كما لو باع عمرو متاعا من زيد بأعلى من قيمته فصار الزيد مغبونا له في

٢٤٨

هذه المعاملة ، فبناء على الاحتمال الذى اختاره هذا البعض يقال : بأنّ هذا العقد موضوع ضرري وقد نفاه الشرع ، ومعنى نفيه أنّ الشارع رفع عنه حكم اللزوم الثابت له بالأدلّة الأوّليّة ، فإذا رفع عنه حكم اللزوم يثبت له حكم الجواز ، فيجوز للزيد المشتري في المثال فسخ العقد حينئذ.

وأمّا بناء على الاحتمال الذى اختاره شيخنا المرتضى فلا بدّ من الحكم بعدم حدوث الضرر على الزيد المشتري من طرف الشرع ، وذلك كما يمكن برفع الشارع اللزوم عن هذا العقد بالمرّة ، يمكن أيضا برفعه اللزوم في خصوص صورة امتناع الغابن عن بذل الأرش مع بقاء اللزوم في صورة إقدامه بالبذل ، وحينئذ فيقتصر في تخصيص الأدلّة المثبتة للزوم بهذه القاعدة على صورة الامتناع من البذل ، فيختص ثبوت الخيار للمشتري المغبون بهذه الصورة، والحال أنّ الفقهاء رضوان الله عليهم حكموا بثبوت خيار الغبن من غير فرق بين الصورتين ، ومن المعلوم انحصار مدركهم في هذه القاعدة ، فإنّه لا مدرك لأصل خيار الغبن سوى هذه القاعدة.

وهذا الكلام غير جار على الاحتمال الأول ، فإنّ خروج المبلغ الكثير من كيس المشتري إلى كيس البائع بإزاء المتاع القليل ضرر بنفسه ، وجواز العقد أو دفع البائع الغابن للأرش لا يوجب خروج ذاك العنوان عن حقيقة الضرريّة ، بل هو معهما أيضا ضرر ، غاية الأمر حصول تداركه بسببهما.

وحينئذ فنقول : إنّ موضوع حكم الشارع بالنفي هو الضرر ، فمتى تحقّق هذا الموضوع تحقّق هذا الحكم ، فتدارك البائع الغابن ببذل الأرش يكون تداركا للضرر الذي حكم بنفيه الشرع ، فللمغبون أن لا يرضى بقبوله ويختار الفسخ. هذا ما ذكره قدس سرّه.

ولكنّ الحق أنّ الكلام الذى ذكره بناء على احتمال الشيخ جار في احتمال نفسه ، وذلك لأنّ نفي الموضوع بناء على احتماله قدس‌سره يكون بمعنى نفى أثره ، كما عرفت ، وعرفت أيضا أنّ نفي الأثر لا يعمّ جميع الآثار ، بل يختصّ

٢٤٩

بالآثار التى يكون وجودها مخالفا للمنّة ، ولا يجرى في الآثار التى يكون وجودها موافقا للمنّة أو غير مخالف ولا موافق لها ، فإنّ القاعدة تكون في مقام المنّة ، ولا منّة في رفع ما سوى الطائفة الاولى من الآثار.

وحينئذ فنقول : الحكم الثابت للعقد الضررى بأدلّة لزوم الوفاء بالعقود هو اللزوم المطلق الشامل لصورتي بذل ما به التفاوت وعدم البذل ، فيستفاد من هذه الأدلّة شيئان : أصل اللزوم وإطلاقه ، ولا إشكال في أنّ ثبوت أصل اللزوم في العقد الضررى ليس فيه خلاف منّة بأن يكون لازما في خصوص صورة البذل.

نعم ثبوت اللزوم فيه على وجه الإطلاق سواء بذل أم لم يبذل يكون على خلاف المنّة، فبناء على الاحتمال المذكور تختصّ القاعدة بنفى هذا الأثر أعنى الإطلاق دون أصل اللزوم ، فتكون دلالة الأدلّة بالنسبة إلى أصل اللزوم سليمة عن حكومة القاعدة ، فبناء على هذا الاحتمال أيضا لا تفيد القاعدة ثبوت الخيار المطلق للمغبون كما ذكره العلماء ، فالاحتمال المذكور مضافا إلى بعده في نفسه كما عرفت في المقام الأول لا يظهر بينه وبين الاحتمال الآخر ثمرة.

فإن قلت : يلزم على ما ذكرت من المعنى تخصيص الأكثر ، فإنّ الواجبات والمحرّمات في الدين لا ينفكّ في الغالب عن الحرج والكلفة ، مثلا فعل الوضوء والغسل والصلاة والصوم والحج والزكاة والخمس شاقّ في الجملة ، نعم لا يلزم ذلك في قاعدة الضرر ، فإنّ المشتمل على الضرر النفسي أو المالي من الأحكام كالحج والزكاة والخمس والجهاد قليل.

قلت : قد يقال في دفع ذلك بأنّ العمل الصعب إذا كان ذا منفعة لا يعدّ في العرف صعبا ، بل يكون سهلا بلحاظ غايته ، مثلا المتصدّي للأعمال السوقيّة إذا رجع في آخر النهار وقد اكتسب عشرة توامين يكون فيه من الفرح ما لا يوصف وإن كان أعماله في غاية الصعوبة ، وكذلك المتصدّي للجهاد يكون عليه إعمال آلات الحرب في المعركة بملاحظة النعيم الاخروي الموعود به من القصور ووصل الحور في غاية السهولة والراحة.

٢٥٠

لكن يرد عليه ـ مضافا إلى أنّ العرف لا يلاحظون حصول النعيم في الآخرة ، بل يصدق عندهم عنوان الضرر والحرج على الضرر النفسي والعرضي والمالي وإن كان بإزائه مثوبة اخرويّة ـ أنّ القاعدتين على هذا لا حكومة لهما على سائر القواعد في موارد ثبوت الضرر والحرج كما يأتي إثباتها في المقام الثالث ، بل يكون لتلك القواعد ورود عليهما ، وذلك لانتفاء موضوع القاعدتين بعد كشف إطلاق تلك القواعد عن ثبوت المنفعة الاخروية في تلك الموارد.

فالأولى أن يقال في دفع أصل الإشكال أنّ معنى نفي الضرر والحرج في الدين نفي الضرر والحرج الحاصلين بعد حفظ أصل الدين ، فلا تتعرّض القاعدة للضرر والحرج الحاصلين بنفس المجعول ، بل تتعرّض للحاصل منهما بواسطة الخصوصيات الخارجة عن المجعول ، مثلا ما يقتضيه طبع الوضوء من الحرج مقدار معيّن ، فإذا زاد على هذا المقدار ما يسمّى حرجا عرفا فلا يستند هذه الزيادة إلى الوضوء ، بل إلى أمر آخر كعلّة مزاج الفاعل أو شدّة برودة الهواء خارجا عن المتعارف أو غير ذلك ، فحينئذ يصدق أنّ في الوضوء قسمين ، قسما حرجيّا يعنى ما يكون الحرج فيه زيادة على حرج أصل الوضوء ، وقسما غير حرجيّ يعنى ما لا يكون الحرج فيه زيادة عليه ، فيصحّ أن يقال : إنّ الحرج في الوضوء منفي ، لا أنّه لا حرج في أصل الوضوء.

وكذلك ما يقتضيه طبع الزكاة من الضرر مقدار معيّن ، فإذا زاد عليه ما يسمّى ضررا عرفا فلا يستند هذه الزيادة الى أصل الزكاة ، بل إلى أمر آخر من ظلم ظالم وغيره ، فيصحّ أن يقال : إنّ في الزكاة قسمين ، قسما ضرريا وقسما غير ضرري ، فالمنفيّ فيها هو القسم الضرري ، لا أنّه لا ضرر في أصل الزكاة.

والحاصل أنّ مفاد القاعدة نفي الضرر والحرج الحاصلين في أقسام المجعولات لا في أنفسها ، وهذا المعنى له ثمرتان ، الاولى : عدم لزوم تخصيص الأكثر كما هو واضح ، والثانية : عدم إمكان التمسّك بالقاعدة لنفي الحكم الحرجي المشكوك الابتدائي ، لما فرض من عدم تعرّضها للحرج الحاصل بأصل الجعل ، و

٢٥١

لذا بخلاف ما إذا كان المعنى نفي الحرج في أصل الأحكام المجعولة للشرع ؛ إذ حينئذ يصير عموم القاعدة موهومة بأكثريّة الخارج عنها من الداخل ، فتصير نظير قاعدة أنّ «القرعة لكلّ أمر مشكل» ويحتاج في التمسك بها إلى التأيّد بعمل العلماء.

المقام الثالث : في بيان النسبة بين هذه القاعدة وسائر الأدلّة.

فاعلم أوّلا أنّ النسبة بينها وبين كلّ واحد واحد من سائر الأدلّة عموم من وجه ، فإنّ دليل الوضوء مثلا شامل للوضوء الشينى وغيره ، والقاعدة تختصّ بالاوّل ، كما أنّ القاعدة شاملة للوضوء الشيني وغيره من سائر أفراد الضرر ، ودليل الوضوء يختصّ بالأول ، وكذا الحال بينها وبين دليل لزوم الوفاء بالعقود ؛ فإنّه شامل للعقد الغبنى وغيره من سائر أفراد العقود ، والقاعدة تختصّ بالأوّل ، كما أنّ القاعدة شاملة للعقد الغبني وغيره من سائر أفراد الضرر ، وذاك الدليل يختصّ بالأوّل.

وحينئذ فنقول : تارة يقال بتقديم هذه القاعدة وقاعدة لا حرج على سائر القواعد بطريق آخر مخصوص بهما ولا يجري في غيرهما ، وهو أنّ هاتين القاعدتين إذا لو خط النسبة بينهما وبين مجموع سائر القواعد من حيث المجموع كانتا أخصّ مطلقا من تلك القواعد ، فإنّ الدين عبارة عن مجموع تلك القواعد ، وقد خرج عنه الضرر والحرج ، ولا ينافي ذلك جزئيّتهما للدين ، فإنّ المراد بالدين في ما إذا صار موضوعا لهاتين القاعدتين ليس إلّا ما سواهما ، فهو نظير الموضوع في أدلّة الاصول لو جعلناه الشكّ في التكليف الفعلي ، فإنّه يقال : إنّ حكم الشكّ أيضا تكليف فعلي ، فحال المكلّف بنفس الشكّ ينقلب إلى العلم بالتكليف الفعلي فيخرج عن الموضوع ، فيقال : إنّ التكليف الفعلي المأخوذ في موضوع حكم الشكّ يراد به غير حكم الشكّ.

فإن قلت : إنّ سائر القواعد لو لوحظت مقيّدة بالضرر والحرج فلا معنى لاستثنائهما عنها ، وإن لوحظت مطلقة بالنسبة إليهما كانت أجنبيّة عن الدين.

قلت : هي ملحوظة بالوجه الثاني ، واجنبيّتها عن الدين إنّما هي بعد جعل رفع

٢٥٢

الضرر والحرج ، وأمّا قبله فهي كانت دينا على وجه الحقيقة ؛ لأنّ المقتضيات للأحكام تامّة في مورد الضرر والحرج أيضا ، غاية الأمر أنّها كانت دينا ضرريّا حرجيّا ، فتفضّل الشارع على العباد برفع اليد عن تلك المقتضيات في موارد الضرر والحرج ، فهي كانت دينا قبل هذا التفضل وليست بدين بعده.

ولكنّ الحقّ فساد هذا الطريق ؛ لأنّ القاعدة تعارض مع كلّ واحد من الأدلّة المثبتة للأحكام ، وما ذكر من أنّ تلك القواعد بجميعها دين وقاعدة لا ضرر أخصّ مطلق منه كلام بلا محصّل ؛ فإنّ مفاد القاعدة أنّ الحكم الضرري ليس مجعولا في الدين ، وإيجاب الوضوء الشيني مثلا حكم ضرريّ ، فتنفيه القاعدة بعمومها ، ودليل إيجاب الوضوء يفيد بعمومه أنّ هذا الحكم الضرري مجعول في الدين ، فيكون بينهما تعارض العموم من وجه ، وكذلك الحال في سائر الأدلّة.

واخرى يقال بتقديم القاعدتين على سائر الأدلّة من طريق الحكومة ، ولتقرير ضابط الحكومة وجهان ، أحدهما غير تام في المقام ، والآخر تامّ فيه.

فالأوّل وهو مختار شيخنا المرتضى قدس‌سره أن يكون أحد الدليلين ناظرا إلى مدلول الدليل الآخر ، لا من حيث نفس المدلول ووجوده في عالم الثبوت ، بل من حيث كونه مدلول الدليل ووجوده في عالم الإثبات.

وبعبارة اخرى : يكون أحد الدليلين بمنزلة كلمة «أي» و «أعني» بالنسبة إلى الدليل الآخر ، ولازم ذلك أنّه لو لم تكن القاعدة الظاهريّة الموجودة في عالم الإثبات التي هي المحكوم كان الدليل الحاكم لغوا ؛ لأنّه مفسّر بلا مفسّر وشارح بلا مشروح ، نعم يكفي وجود المحكوم لاحقا بأن يكون النظر في الحاكم إلى القانون الذي يضرب بعد ذلك.

وهذا الوجه في كلّ مورد تحقّق لا إشكال في كونه موجبا لتقديم الحاكم ، لأنّ المفروض أنّ المتكلّم قد تصدّى لشرح مراده من الدليل المحكوم ، إلّا أنّه لا يتمّ في بعض الموارد التي نقول فيها بحكومة دليل على دليل آخر ، إذ لا ينطبق هذا الضابط على أدلّة الأمارات التي نقول بحكومتها على أدلة الاصول ، لوضوح أنّ

٢٥٣

دليل اعتبار الأمارة مثل «صدّق العادل» لا يتّصف باللغويّة لو لم تكن أدلّة الاصول موجودة ، وكذلك الحال في المقام ؛ فإنّ قاعدة لا ضرر لا تصير لغوا لو لم تكن الأدلّة المثبتة للأحكام موجودة ؛ فإنّ معناها أنّ الحكم الضرري غير مجعول في الأحكام الواقعيّة للشارع ، وهذا أعمّ من أن يكون على تلك الأحكام أدلّة في مقام الإثبات أم لم يكن.

وعلى هذا فكما أنّ مفاد دليل وجوب الوضوء مثلا بحسب الإطلاق أنّ وجوب الوضوء الشيني يكون من الأحكام الواقعيّة ، كذلك مفاد قاعدة لا ضرر بحسب الإطلاق أيضا أنّ نفي وجوب هذا الوضوء يكون من الأحكام الواقعيّة ، وإنّما يتمّ هذا الوجه في ما إذا كان الدليل الحاكم نافيا لموضوع من الموضوعات الخارجيّة كما في قوله : «لا شكّ لكثير الشكّ.»

ووجه تماميّته في هذه الصورة أنّه لا يمكن أن يكون نفي الموضوع الخارجي باعتبار نفسه ، بل لا بدّ أن يكون باعتبار أثره ، والنفي باعتبار الأثر أيضا فرع شمول الأثر لهذا الموضوع ، كما هو واضح.

وحينئذ فإن كان شمول الأثر بحسب عالم الثبوت بأن يكون الموضوع واجدا للأثر واقعا فصار منفيّا عنه بنفس النفي يلزم حينئذ أن يكون النفي نسخا وهو خلاف المراد في تلك العبارات قطعا ، فتعيّن أن يكون الشمول باعتبار عالم الإثبات بأن يكون هناك قاعدة ظاهريّة وكان حكمها منسحبا في هذا الموضوع بالعموم أو الإطلاق ، فقولك : لا رجال ، يكون باعتبار القاعدة الظاهريّة الموجودة في أفراد الرجال في عالم الإثبات ، وقوله : «لا شكّ لكثير الشكّ» يكون باعتبار القاعدة الظاهريّة الموجودة في الشكوك في مقام الاثبات ، مثل كون حكم الشكّ بين الأربع والاثنين كذا ، وبين الثلاث والأربع كذا ، وغيرهما.

ومن هنا يعرف تماميّة هذا الوجه في قاعدة لا ضرر بناء على الاحتمال الذي اختاره بعض الأساتيد قدس‌سره ؛ فإنّ نفي الموضوع الضرري أيضا إنّما يكون باعتبار القاعدة الظاهريّة الموجودة في أفراد يكون فيها الموضوع الضرري في

٢٥٤

مقام الإثبات ، مثلا نفي الوضوء الشيني يكون باعتبار حكم الإيجاب الموجود في أفراد الوضوء في عالم الإثبات ، وهكذا الكلام في سائر الأدلّة.

الثاني من الوجهين لتقرير ضابط الحكومة أن يقال : إنّ للحكومة موردين ، أحدهما : ما ذكره شيخنا المرتضى قدس‌سره ، والآخر : ما إذا ورد دليلان من المتكلّم وكان أحدهما متكفّلا للقضيّة الواقعيّة ، والآخر لعدم صدور الإرادة من المتكلّم ، فإنّ العقلاء يحكمون في الدليل الأوّل بحسب أصالة العموم والإطلاق المقرّرة عندهم في كلام العاقل الحكيم بأنّ المتكلّم أراد معنى القضيّة في المورد الفلاني ، فيكون نسبة الإرادة إلى المتكلّم من فعل العقلاء ، ويكون خارجا عن مدلول القضيّة.

مثلا لو قال المتكلّم : أكرم العلماء ، فالعقلاء يحكمون بأنّه أراد وجوب الإكرام في العالم الفاسق أيضا ، وحكم العقلاء ذلك وإن كان جاريا في قول المتكلّم : إنى لست بطالب لإكرام الفسّاق ولم يصدر منّي إرادة ذلك قطّ ، فيحتاج إلى حكم العقلاء بأنّ المتكلّم أراد عدم الطلب وعدم صدور الإرادة في مورد الفاسق العالم أيضا ، إلّا أنّه في مورد تعارض القضيّتين أعنى العالم الفاسق إذا أغمضنا عن حكم العقلاء ونظرنا إلى مجرّد مدلول القضيّتين أعني مفهوم وجوب إكرام العلماء ومفهوم عدم إرادة الفسّاق ، فحينئذ إذا أردنا إجراء حكم العقلاء في المفهوم الأوّل ـ بأن نقول : أراد المتكلّم وجوب الإكرام في هذا المورد ـ يمانع عن ذلك المفهوم الثاني ، ونقول : ما أراد المتكلّم ذلك ولا عكس ، فلو أردنا إجراء حكم العقلاء في المفهوم الثاني ـ بأن نقول : أراد المتكلّم عدم الإرادة في هذا المورد ـ لا يمانع عن ذلك المفهوم الأوّل ، كما هو واضح.

فإذا قال الشارع : يجب الوضوء فإجراء أصالة الإطلاق فيه بالنسبة إلى الوضوء الشيني يعارضه نفس المدلول في دليل نفي الضرر الذي هو بمعنى نفي إرادة الحكم الضرري ، وأمّا إجرائها في الثاني فلا ينافيه مدلول الأوّل ، فأصالة الإطلاق جارية في الثاني دون الأوّل.

٢٥٥

ومن هنا يعرف الفرق بين هذا الوجه وبين ما اختاره بعض الأساتيد في وجه تقديم قاعدتي لا ضرر ولا حرج على سائر الأدلّة ، وحاصل ما اختاره قدس‌سره أنّ سائر الأدلّة متعرّض لحكم الأفعال بعناوينها الأوّليّة ، والقاعدتين لحكمها بعنوانها الثانوي ، يعني أنّ سائر الأدلّة أحكام اقتضائيّة حيثيتيّة ، ومفادها أنّ ذوات الأفعال من حيث هي مع قطع النظر عن طروّ حالتي الضرر والحرج مقتضية لحكم كذا ، فلا ينافي أن يكون حكمها باعتبار طروّ هاتين الحالتين شيئا آخر ، كما هو مفاد القاعدتين.

وبالجملة ، فمفاد تلك الأدلّة اقتضائي ، ومفاد القاعدتين حكم فعليّ ، ولا تعارض بين الحكم الاقتضائي الغير الناظر إلى الطواري وبين الفعلي الناظر إليها أصلا ، ألا ترى أنّه لا تعارض بين دليل حليّة لحم الغنم ودليل حرمته إذا كان مغصوبا ، وكذلك بين دليل استحباب صلاة الليل مثلا ودليل وجوبها إذا صارت متعلّقة للنذر وشبهه ، وكذا بين دليل استحباب الإبكاء على الحسين صلوات الله عليه ، وبين دليل حرمته إذا كان مشتملا على الغناء أو الكذب.

وجه الفرق بين هذا وبين ما ذكرنا أنّ ما ذكرنا غير مبنيّ على عدم الإطلاق لأدلّة الأحكام بالنسبة إلى موارد الضرر والحرج ، بل يتمّ مع هذا الإطلاق أيضا كما هو واضح ، وعلى ما ذكره قدس‌سره لو لم يكن دليل نفي الضرر والحرج أيضا لم يمكن التمسّك في موارد ثبوتهما بتلك الأدلّة ؛ لعدم الإطلاق لها ، بل كان المرجع هو الاصول.

ثمّ قد تحصّل من مجموع ما ذكرنا قاعدة كلّية وهي أنّ كلّ دليلين كان لأحدهما لسان الشارحيّة بالنسبة إلى الآخر ، أو كان أحدهما متكفّلا لإرادة المتكلّم أو عدمها ، والآخر لإثبات حكم ، أو كان أحدهما حكما حيثيتيّا والآخر فعليّا فالترجيح للأوّل منهما في الصور الثلاث من دون معارضته بالثاني ، وإن كان النسبة بينهما عموما من وجه.

هذا كلّه هو الكلام في بيان نسبة القاعدتين مع غيرهما من القواعد ، وأمّا الكلام

٢٥٦

في تعارض إحداهما بالاخرى أو كلّ منهما بالمثل فقبل الخوض فيه لا بدّ من بيان أن هذا التعارض هل هو من باب التعارض المصطلح أو من باب التزاحم ، والمراد بالتزاحم أن يكون المقتضي في كلا الفردين من عامّ أو من عامّين موجودا تامّا وحصل الإلجاء بإخراج أحدهما عن تحت العموم من جهة عجز المكلّف ، والمراد بالتعارض أن يعلم بواسطة دليل لبيّ أو لفظيّ مجمل بأنّ المقتضي في أحد الفردين من عامّ أو عامين غير موجود ، فشكّ في مرحلة الإثبات في أنّ الخارج هل هو هذا الفرد أو ذاك ، فيقع التعارض بين ظهور العموم في أحدهما وبين ظهور هذا العموم أو العموم الآخر في الفرد الآخر.

فعلى الثاني إن كان ذلك في عامّ واحد لا يمكن الأخذ بعمومه في شيء من الفردين ، ويصير مجملا في كليهما ، فلا بدّ من الرجوع إلى الاصول والقواعد الأخر ، وإن كان في عامّين ، فإن كان أحدهما أظهر في شمول أحد الفردين من شمول الآخر للفرد الآخر كان هو قرينة على صرف ظهور الآخر ، وإلّا يحصل الإجمال أيضا ، وينحصر المرجع في الاصول والقواعد الأخر.

وعلى الأوّل نرجع في جميع هذه الصور إلى العقل ؛ فإنّه حينئذ يغنينا عن الرجوع إلى الشرع إلّا في خصوص تعيين الأهمّ ، فإنّه من وظيفة الشرع ليس إلّا ، نعم حكم الشكّ فيه مستفاد من العقل.

فنقول : الأظهر أنّ التعارض في المقام من قبيل التزاحم ، وذلك لأنّا كما نعلم بأنّ مطلوبيّة إنقاذ الغريق المسلم عند الشرع غير مقيّدة بحال دون حال ؛ إذ معنى تقيّدها بحال أن يكون الشارع رفع اليد عن عبده المسلم في غير هذه الحالة ، ونعلم أيضا بأنّ قبح الظلم عند العقل لا يتقيّد بحال ، بل هو العلّة التامّة للقبح في جميع الأحوال ، كذلك يمكن دعوى أنّ منّة الشارع على العباد برفع الضرر والحرج عنهم لا يتقيّد بحال دون حال ومقام دون مقام ؛ لأنّ معنى تقيّدها بحالة أن يكون الشارع طالبا لإيراد الضرر والحرج على عباده في غير هذه الحالة.

وعلى هذا ففي مورد دوران الأمر بين الضرر والحرج أو بين الضررين أو بين

٢٥٧

الحرجين نعلم بأنّ المقتضي وهو منّة الشرع في كلا الفردين موجود تامّ ، وعدم إمكان الجمع بينهما في شمول العموم إنّما هو من جهة عجز المكلّف ، وحينئذ فمجمل الكلام في المقام أنّ الضررين أو الحرجين أو الضرر والحرج إمّا أن يكونا بالنسبة إلى شخص واحد ، وإمّا أن يكونا بالنسبة إلى شخصين.

فإن كانا بالنسبة إلى شخص واحد فلا إشكال في تقديم الأقلّ منهما ؛ لأنّ ذلك مقتضى كون المقام من باب التزاحم ، فإنّ المرفوع جنس الضرر والحرج ، فملاك الرفع في الأكثر أقوى منه في الأقلّ.

وإن كان الأمران بالنسبة إلى شخصين ، فإن كان الضرر والحرج على أحدهما أقلّ قدرا منه على الآخر إمّا من جهة تفاوت الشخصين في الحال ، وإمّا من جهة تفاوت الأمرين في المقدار ، وإمّا من جهتهما معا ، كما إذا جرى الماء وكان قدّامه دور قوم ومزرعة آخرين ، وكان دفعه عن كلّ منهما إرسالا له في الآخر ، فإنّ ضرر خراب الدور على الجماعة الاولى أعظم بمراتب من ضرر غرق المزرعة على الجماعة الثانية.

فحينئذ ترجيح جانب الأقلّ مبنيّ على كون رفع الضرر والحرج دائرا مدار المنّة النوعيّة لا الشخصيّة ، فإنّه لو كان دائرا مدار المنّة الشخصيّة فإيراد الضرر والحرج على كلّ من الشخصين خلاف المنّة الشخصيّة بالنسبة إليه وإن كان سببا لدفع الضرر الكثير في غاية الكثرة عن غيره.

وأمّا إن كان دائرا مدار المنّة النوعيّة فدفع الضرر والحرج الكثيرين بإيراد القليل منهما ولو كان على شخص آخر موافق للمنّة النوعيّة ، فإنّ الشخص الآخر أيضا يندفع عنه الضرر والحرج الكثيران بإيراد القليل منهما على غيره عند ابتلائه بواقعة اخرى ، وعدم الابتلاء في خصوص مقام إنّما ينافي المنّة الشخصيّة لا النوعيّة.

ولا يخفى أنّ الظاهر ورود القاعدتين في مقام المنّة النوعيّة لا الشخصيّة ؛ لأنّ ذلك مقتضى كون العباد بتمامهم ملحوظين في نظر الشارع بنسبة واحدة هو جامع

٢٥٨

العبوديّة له تعالى ، فإنّ الشارع حاله حال الموالي الظاهريّة بالنسبة إلى عبيدهم ، فكما يكون عبيدهم جميعا في نظرهم على السواء ، فيطلبون سلامة عبيدهم من الضرر مهما أمكن ، فلو دار الأمر بين الضرر الأقلّ والأكثر يختارون الأقلّ ؛ لأنّ الضرر على العبيد على تقديره يكون أقلّ ، فكأنّهم يرون الضرر على عبيدهم ضررا على أنفسهم ، فكذلك حال الشارع بالنسبة إلى العباد.

وأمّا لو فرض مساواة الأمرين في المقدار ، ومساواة الشخصين في الحال ، كما لو كان حفر المالك البئر في داره ضررا على الجار من جهة أدائه إلى خراب حائط داره بوصول الرطوبة من البئر إلى أصل الحائط ، وعدم الحفر ضررا على المالك لأدائه إلى خراب بيته بماء السماء ، وكان مقدار الضررين وحال الشخصين متساويا فحينئذ مقتضى القاعدة العقليّة هو التخيير ، حيث لا أهميّة لشيء من الطرفين.

نعم تكون الأهميّة في خصوص المثال المذكور في جانب الحفر ، وذلك لأنّ المقتضي للمنع عنه شيء واحد وهو دفع الضرر عن الجار ، وأمّا المقتضي للاذن فيه فهو شيئان ، أحدهما دفع الضرر عن المالك ، والآخر كونه تصرّفا من المالك في ملكه ، وقضيّته أيضا هو الجواز والسلطنة ، لقوله : «الناس مسلّطون على أموالهم» فيكون حال قاعدة السلطنة حينئذ حال جهة العالميّة الموجودة في أحد الغريقين المسلمين ، فكما تكون الجهة المذكورة مرجّحة هناك ، تكون القاعدة هنا أيضا مرجّحة ، هذا بناء على التزاحم.

وأمّا بناء على التعارض فقد يقال : إنّ قاعدة «الناس» بعد تساقط قاعدة الضرر والحرج في الطرفين بسبب المعارضة تصير مرجعا ، فإنّها وإن كانت كسائر القواعد محكومة للقاعدتين ، إلّا أنّ تساقط الدليل الحاكم من جهة التعارض في نفسه يوجب حياة الدليل المحكوم ، ومن هنا يعلم أنّ هذا ليس من باب تعدّد الدليل في أحد طرفي المعارضة ووحدته في الطرف الآخر ، حيث إنّ المتعيّن حينئذ سقوط الجميع بالمعارضة ؛ فإنّ ذلك إنّما هو فيما إذا كان جميع الأدلّة في

٢٥٩

عرض واحد ، وأمّا لو كان أحدها في طول الباقي من جهة حكومة الباقي عليه كما في المقام فلا يكون هذا الأحد معدودا في شيء من طرفي المعارضة ، هذا ما يقال.

والحقّ عدم صلاحيّة قاعدة الناس للمرجعيّة بناء على التعارض أصلا ؛ لأنّ صلاحيّتها موقوفة على ثبوت الإطلاق والنظر لها بالنسبة إلى الحالات ، بأن يكون مفادها أنّ للمالك التصرّف في ملكه بأيّ تصرّف شاء ولو كان هو الإضرار على غيره ، ومن المقرّر في محلّه خلاف ذلك وأنّ القاعدة ليست بمشرعة ، بمعنى أنّها قضيّة حيثيتيّة ، ومفادها أنّ المالك من حيث إنّه مالك لا يكون ممنوعا عن التصرّف في ماله كما كان ممنوعا عن التصرّف في مال غيره ، فلا تفيد القاعدة إلّا ارتفاع ذاك المنع ، فلا ينافي أن يكون التصرّف في مال النفس ممنوعا من جهة عروض عارض.

ألا ترى أنّ أحدا لا يفهم من هذه القاعدة جواز رفع الإنسان عصاه ووضعه على رأس إنسان آخر مع أنّه لم يفعل إلّا تصرّفا في ملكه؟ ولا يرى المعارضة أحد بين هذه القاعدة وبين دليل حرمة هذا العمل من أدلّة حرمة الإضرار على الغير.

وحينئذ نقول : معنى وقوع التعارض في قاعدة الضرر والحرج في الطرفين كون أحد الطرفين خارجا عن عموم القاعدة في نفس الأمر ، مع كون الآخر داخلا ، غاية الأمر حصول الشكّ لنا في تمييز الخارج عن الداخل في مرحلة الإثبات ، فوقوع التعارض يكون بهذه الملاحظة ، وحينئذ فمن المحتمل أن يكون الفرد الخارج عن العموم هو نفس مورد قاعدة «الناس» أعني الحفر ، فيكون محرّما ، وقد فرضنا أنّ القاعدة لا نظر لها إلى المحرّمات ، فتكون مجملة لا يترتّب عليها فائدة ، بل يساوي وجودها مع عدمها ، فينحصر المرجع في القاعدة العقليّة وهو جواز الحفر ، لعدم الدليل على المنع.

فتحقّق من جميع ما ذكرنا أنّ الحفر جائز إمّا من جهة مرجحيّة قاعدة «الناس»

٢٦٠