آثار البلاد وأخبار العباد

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني

آثار البلاد وأخبار العباد

المؤلف:

زكريّا بن محمّد بن محمود القزويني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار صادر
الطبعة: ٤
الصفحات: ٦٦٧

قرية صاهك

من كورة ارجان. بها بئر ذكر ان أهلها امتحنوا قعرها بالمثقلات والأرسان ، فلم يقفوا منها على عمق ، يغور الدهر كلّه ، منها ماء بقدر ما يدير الرحى يسقي تلك القرية.

قرية عبد الرحمن

بأرض فارس. عمقها قامات كثيرة جافة القعر عامة السنة ، حتى إذا كان الوقت المعلوم عندهم في السنة نبع ماء يرتفع على وجه الأرض ، قدر يدير الرحى ويجري وينتفع به في سقي الزروع ثمّ يغور.

قفط

مدينة بأرض مصر بالصعيد الأعلى ، كثيرة البساتين والمزارع ، وبها النخل والاترج والليمون ، قال صاحب عجائب الأخبار : بها بيت عجيب تحت سقفه ثلاثمائة وستون عمودا ، كلّ عمود قطعة واحدة من حجارة ، على رأس العمود صورة رجل عليه قلنسوة ، والسقف حجارة كلّه ، قد وضعت أطراف الحجر على زواياه وعلى أرباع رؤوس الأساطين ، ثمّ ألحمت الحاما لا يرى فيها فصل ، يحسبها الناظر قطعة واحدة. يقولون : إن تلك الصور صور أهل تلك الدولة ، وعلى كلّ عمود كتابة لا يدرى ما هي ولا يحسن أحد في زماننا قراءتها.

قلعة النّجم

قلعة حصينة مطلّة على الفرات ، وعندها جسر الفرات يعبر عليه قوافل الشام والعراق والروم ، وتحتها ربض به طائفة يتعاطون أنواع القمار ، فإذا رأوا غريبا أظهروا أنّهم مرمدون ويلعبون لعبا دونا ليظنّ الغريب أنّهم في طبقة

٢٤١

نازلة يطمع فيهم ، ويخرجون المال إذا قمروا من غير اكتراث فتتوق نفس الغريب أن يلعب معهم ، فكلّما جلس لا يتركونه يقوم ومعه شيء حتى سراويله ، وربّما استرهنوا نفسه ومنعوه من الذهاب ، حتى يأتي أصحابه ويؤدوا عنه ويخلّصوه.

القيروان

مدينة عظيمة بافريقية ، مصّرت في أيّام معاوية ، وذلك انّه لمّا ولّي عقبة بن نافع القرشي افريقية ذهب إليها وفتحها وأسلم على يده كثير من البربر ، فجمع عقبة أصحابه وقال : ان أهل افريقية قوم إذا غصبهم السيف أسلموا ، وإذا رجع المسلمون عنهم عادوا إلى دينهم ، ولست أرى نزول المسلمين بين أظهرهم رأيا ، لكن رأيت أن أبني ههنا مدينة يسكنها المسلمون.

فجاؤوا إلى موضع القيروان ، وهي أجمة عظيمة وغيضة لا تشقّها الحيّات من تشابك شجرها ، فقالوا : هذه غيضة كثيرة السباع والهوام ، وكان عقبة مستجاب الدعوة فجمع من كان في عسكره من الصحابة ، وكانوا ثمانية عشر نفسا ، ونادى : أيّتها السباع والحشرات ، نحن أصحاب رسول الله ، صلّى الله عليه وسلّم ، ارحلوا عنّا فإنّا نازلون فمن وجدناه بعد قتلناه! فرأى الناس ذلك اليوم عجبا لم يروه قبل ذلك ، وكان السبع يحمل أشباله ، والذئب اجراءه ، والحيّة أولادها وهي خارجة سربا سربا ، فحمل ذلك كثيرا من البربر على الإسلام. ثمّ بنى المدينة فاستقامت في سنة خمس وخمسين. ذكر الجيهاني ان بالقيروان أسطوانتين لا يدرى جوهرهما ما هو ، وهما تترشّحان ماء كلّ يوم جمعة قبل طلوع الشمس ، وموضع العجب كونه يوم الجمعة. وقد قيل :ان ملوك الروم طلبوهما بثمن بالغ ، فقال أهل القيروان : لا نخرج أعجوبة من العجائب من بيت الله إلى بيت الشيطان!

٢٤٢

قيس

جزيرة في بحر فارس دورها أربعة فراسخ ، ومدينتها حسنة مليحة المنظر ، ذات سور وأبواب وبساتين وعمارات ، وهي مرفأ مراكب الهند والفرس ومنقلب التجارة ومتجر العرب والعجم. شربها من الآبار ولخواصّ الناس صهاريج.

وحولها جزائر كلّها لصاحب قيس ، لكنّها في الصيف أشبه شيء ببيت حمّام حارّ شديدة السخونة ، وفي هذا الوقت يطول جلد خصي الناس حتى يصير ذراعا ، فيرى كلّ أحد يتّخذ كيسا فيه عفص مسحوق وقشر رمان ويترك خصيتيّه فيه حتى لا تطول صفته.

يجلب منها كلّ أعجوبة وقعت في بلاد الهند. وكان ملكها في قوم ورثوها إلى أن ملك منهم ظالم يظلمهم ، فخامروه وبعثوا إلى صاحب هرمز فطلبوه ، فجاء الهرري ملكها وكان يظلم أفحش من ظلم القيسي ، فخامروه وبعثوا إلى صاحب شيراز فطلبوه ، فجهّز عسكرا بعثهم في مراكب وخرج عسكر الهرمزي لقتالهم في مراكب ، فنزلوا في سيرهم على نشز للاستراحة ، فوصلت مراكب الفرس وهم على النشز فأضرموا النار في مراكب الهرامزة وساروا نحو قيس وملكوها بأسهل طريق ، وكانت الهرامزة أقوى من الفرس وأعرف بقتال البحر إلّا أن جدّهم قعد بهم.

كابل

مدينة مشهورة بأرض الهند. بها ما يوجد من الجروم إلّا النخل ويقع بنواحيها الثلج ولا يقع بها. وأهلها مسلمون وكفّار. وزعمت الهند ان الشاهية لا تنعقد إلّا بكابل ، وإن كان بغيرها فلا يصير واجب الطاعة حتى يصير إليها ويعقد له الملك هنا. يجلب منها النوق البخاتي وهي أحسن أنواع الإبل.

٢٤٣

كاريان

بليدة بأرض فارس بها بيت نار معظم عند المجوس تحمل ناره إلى بيوت النار في الآفاق. قال الاصطخري : من القلاع التي لم تفتح قطّ عنوة قلعة كاريان ، وهي على جبل من طين ، حوصرت مرارا ولم يظفر بها قطّ.

كازرون

مدينة بفارس عامرة حصينة كثيرة الغلّات وافرة الثمرات ، كلّها قصور وبساتين ونخيل ممتدّة عن يمين وشمال ؛ قال الاصطخري : ليس بأرض فارس أصحّ هواء وتربة من كازرون.

يقال لها دمياط العجم لأنّه تنسج بها ثياب الكتّان على عمل القصب والشّطوى وإن لم يكن رقاعا. ومعظم دورها والجامع على تلّ ، والأسواق وقصور التجّار تحت التلّ.

بنى عضد الدولة بها دارا جمع فيها السماسرة كان دخلها كلّ يوم عشرة آلاف درهم. بها تمر يقال له الجيلان ، لا يوجد في غير كازرون ، يحمل إلى العراق للهدايا مع كثرة تمر العراق.

كدال

ولاية في جبال افريقية. ذكر بعض أهلها أن الحنطة بها تريع ريعا مفرطا ، حتى ان أحدهم ربّما يزرع مكوكا يحصل منه خمسمائة مكوك وأكثر.

كرد فنّاخسرو (١)

مدينة بناها عضد الدولة بقرب شيراز ، وساق إليها نهرا كبيرا من مسيرة يوم أنفق عليه مالا عظيما ، وجعل إلى جنبها بستانا سعته نحو فرسخ. ولمّا

__________________

(١) وردت في معجم البلدان هكذا : كرد فناخسره ، بالهاء.ss

٢٤٤

فرغ من شقّ النهر ووصول الماء إليها ، كان لثمان بقين من ربيع الأوّل سنة أربع وخمسين وثلاثمائة ، جعل هذا اليوم عيدا في كلّ سنة ، يجتمع فيه الناس من النواحي للهو ويقيمون سبعة أيّام. ونقل إليها الصّنّاع الخزّ والديباج والصوف وأمرهم بكتابة اسمه على طرزها ، واتخذ قوّاده بها دورا وقصورا فكثرت عماراتها.

وبقاضيها يضرب المثل في الخيانة ، وذلك ما حكي أن بعض الناس أودعه مالا كثيرا ، فلمّا استردّه جحد ، فاجتمع المودع بعضد الدولة وقال : أيّها الملك اني ابن فلان التاجر ، ورثت من أبي خمسين ألف دينار أودعت عشرين ألف دينار في قمقمتين عند هذا القاضي للاستظهار ، وكنت أتصرّف بالباقي ، فوقعت في بعض أسفاري في أسر كفّار الروم ، وبقيت في الأسر أربع سنين حتى مرض ملك الروم وخلّى الأسارى ، فتخلّصت وأنا رخيّ البال استظهارا بالوديعة ، فلمّا طلبتها جحد وأظهر أنّه لم يعرفني ، وكرّرت الطلب فقال لي : انّك رجل استولت السوداء على دماغك وأطعموك شيئا ، وإني ما رأيتك إلّا الآن! دع عنك هذا الجنون وإلّا حملتك إلى المارستان وأدخلتك في السلسلة! فبكى عضد الدولة وقال : أنا ظلمتك لمّا ولّيت مثل هذا! أعطاه مائتي دينار وبعثه إلى أصبهان ، وكتب إلى عامل أصبهان إن يحسن إليه وقال له : لا ترجع تذكر هذا الأمر لأحد وأقم في أصبهان حتى يأتيك أمري. وصبر عضد الدولة على ذلك شهرا ثمّ طلب القاضي يوما عند الظهيرة بالخلوة وأكرمه وقال له : أيّها القاضي ان لي سرّا ما وجدت في جميع مملكتي له محلّا غيرك ، لما فيك من كمال العلم ووفور العقل والدين ، وهو ان لي أولادا ذكورا واناثا. أمّا الذكور فلست أهتمّ بأمرهم ، وأمّا الاناث فعندهن التقاعد عن الأمور وأنا أخشى عليهن ، فأردت أن تتّخذ في دارك موضعا صالحا لوديعة لا يعلم بها أحد غير الله ، تدفعها إلى بناتي بعد موتي. ودفع إلى القاضي مائتي دينار وقال : اصرفها إلى عمارة ازج قعير يتسع لمائتين وأربعين قمقمة ، وإذا تمّ أخبرني حتى أبعث القماقم على يد

٢٤٥

بعض من يستحقّ القتل ثمّ اقتله.

فقال القاضي : سمعا وطاعة! وقام من عنده فرحا يقول في نفسه : ذهبت بألفي ألف دينار أتمتّع بها أنا وأولادي وأحفادي ، وإذا مات عضد الدولة من يطالب بالمال ولا حجّة ولا شاهد؟ واشتغل بعمل الازج وبعث عضد الدولة إلى أصبهان لإحضار الفتى المظلوم.

فلمّا أخبر القاضي عضد الدولة بإتمام الازج قال عضد الدولة للفتى المظلوم : اذهب إلى القاضي وطالبه بالوديعة وهدّده برفع الأمر إلى عضد الدولة! فذهب إليه وقال : أيّها القاضي ساء حالي وطال ظلمك عليّ. لآخذنّ غدا بلجام عضد الدولة! فقام القاضي ودخل الحجرة وطلب الفتى وعانقه وقال : يا ابن الأخ ان أباك كان صديقي واني ما حبست حقّك إلّا لمصلحتك ، لأني سمعت أنّك أتلفت مالا كثيرا فأخّرت وديعتك إلى أن أعرف رشدك ، والآن عرفت رشدك ، خذ حقّك بارك الله لك فيها!

وأخرج القمقمتين وسلّمهما إليه ، فأخذهما الفتى ومضى إلى عضد الدولة بهما. فأحضر القاضي وقال : أيّها الشيخ القاضي اني أجريت عليك رزقك لتقطع طمعك عن أموال الناس ، ولولا أنّك شيخ لجعلتك عبرة للناس ، وصحّ عندي أن جميع ما تتقلّب فيه حرام من أموال الناس!

فختم على جميع ما كان له وعزله ، وردّ مال الفتى إليه وقال : الحمد لله الذي وفّقني لإزالة ظلم هذا الظالم!

كركويه

مدينة بسجستان قديمة. بها قبّتان عظيمتان زعموا أنّهما من عهد رستم الشديد ، وعلى رأس القبّتين قرنان قد جعل ميل كلّ واحد منهما إلى الآخر ، تشبيها بقرني الثور ، بقاؤهما من عهد رستم إلى زماننا هذا من أعجب الأشياء ؛ وتحت القبّتين بيت نار للمجوس تشبيها بأن الملك يبني قرب داره معبدا يتعبّد

٢٤٦

فيه ، ونار هذا البيت لا تطفأ أبدا. ولها خدم يتناوبون في إشعال النار ، يقعد الموسوم مع الخدمة على بعد النار عشرين ذراعا ويغطي فمه وأنفاسه ، ويأخذ بكلبتين من فضّة عودا من الطرفاء نحو الشبر يقلبه في النار. وكلّما همّت النار بالخبوّ يلقي خشبة خشبة ، وهذا البيت من أعظم بيوت النار عند المجوس.

كرمان

ناحية مشهورة ، شرقها مكران وغربها فارس وشمالها خراسان وجنوبها بحر فارس. تنسب إلى كرمان بن فارس بن طهمورث. وهي بلاد واسعة الخيرات وافرة الغلّات من النخل والزرع والمواشي.

وبها ثمرات الصرود والجروم والجوز والنخل. وبها معدن التوتيا ، يحمل منها إلى جميع الدنيا ، بها خشب لا تحرقه النار ولو ترك فيها أيّاما ، ينبت في بعض جبالها ، يأخذه الطرقيّون ويقولون : انّه من الخشب الذي صلب عليه المسيح.

وشجر القطن بكرمان يبقى سنين حتى يصير مثل الأشجار الباسقة ، وكذلك شجر الباذنجان والشاهسفرم. وبها شجر يسمّى كادي ، من شمّه رعف ، ورقه كورق الصبر إن ألقي في النار لا يحترق.

ومن عجائب الدنيا أرض بين كرمان وجاريح إذا احتكّ بعض أحجارها بالبعض يأتي مطر عظيم ، وهذا شيء مشهور عندهم ، حتى ان من اجتاز بها يتنكّب عنها كيلا تحتكّ تلك الحجارة بعضها ببعض فيأتي مطر يهلك الناس والدواب! وبها معدن الزاج الذهبي يحمل من كرمان إلى سائر الآفاق.

وحكى ابن الفقيه أن بعض الملوك غضب على جمع من الفلاسفة ، فنفاهم إلى أرض كرمان لأنّها كانت أرضا يابسة بيضاء ، لا يخرج ماؤها إلّا من خمسين ذراعا. فهندسوا حتى أخرجوا الماء على وجه الأرض وزرعوا عليه وغرسوا فصارت كرمان أحسن بلاد الله ، ذات شجر وزرع. فلمّا عرف

٢٤٧

الملك ذلك قال : اسكنوهم جبالها ، فعملوا الفوّارات وأظهروا الماء على رؤوس جبالها ، فقال الملك : اسجنوهم ، فعملوا في السجن الكيميا وقالوا : هذا علم لا نخرجه إلى أحد! وعملوا مقدار ما يكفيهم مدّة عمرهم ، وأحرقوا كتبهم وانقطع علم الكيميا.

وبأرض كرمان في رساتيقها جبال بها أحجار تشتعل بالنار مثل الحطب.

وينسب إلى كرمان الشيخ أبو حامد أحمد الكرماني الملقب بأوحد الدين.

كان شيخا مباركا صاحب كرامات ، وله تلامذة ، وكان صاحب خلوة يخبر عن المغيبات ، وله أشعار بالعجميّة في الطريقة ، كان صاحب اربل معتقدا به ، بقي عنده مدّة ثمّ تأذّى منه وفارقه وهو يقول :

با دل كفتم خدمت شاهي كم كير

جون سر نهاده كلاهي كم كير

دل كفت مرا ازين سخن كمتر كو

كردي ودهي وخانقاهي كم كير

مات سنة خمس وثلاثين وستمائة ببغداد.

كفرطاب

بلدة بين حلب والمعرة في بريّة معطشة أعزّ الأشياء عند أهلها الماء ، ذكر أنّهم حفروا ثلاثمائة ذراع لم ينبط لهم ماء ، وليس لها إلّا ما يجمعونه من مياه الأمطار ، وقال سنان الخفاجي :

بالله يا حادي المطايا

بين حناك وأرضايا

عرّج على أرض كفرطاب

وحيّها أحسن التّحايا

واهد لها الماء فهي ممّن

يفرح بالماء في الهدايا

ومن العجب إقامة جمع من العقلاء بأرض هذا شأنها.

٢٤٨

كفرمندة

قرية بالأردنّ بين مكّة والطبرية. قيل : انّها مدين المذكور في القرآن ، وكان منزل شعيب ، عليه السلام. وبها قبر بنت شعيب صافورا زوجة موسى ، عليه السلام.

وبها الجبّ الذي قلع موسى الصخرة عن رأسه وسقى مواشي شعيب ، والصخرة باقية إلى الآن.

كفرنجد

قرية كبيرة من أعمال حلب في جبل السّمّاق ، بها عين ماء حارّ. لها خاصيّة عجيبة ، وهي ان من تشبّث بحلقه العلق من الحيوانات شرب من مائها ودار حولها فألقاها ، بإذن الله ، حدّث بهذا بعض سكّانها.

كلّز

قرية من نواحي عزاز بين حلب وانطاكية ، جرى في أواخر ربيع الأوّل سنة تسع عشرة وستمائة بها أمر عجيب ، وشاع ذلك بحلب ، وكتب عامل كلّز إلى حلب كتابا بصحّة ذلك ، وهو أنّهم رأوا هناك تنّينا عظيما غلظه شبه منارة ، أسود اللون ينساب على الأرض ، والنار تخرج من فيه ودبره ، فما مرّ على شيء إلّا أحرقه ، حتى أحرقت مزارع وأشجار كثيرة.

وصادف في طريقه بيوت التركمان وخرقاهاتهم فأحرقها بما فيها من الناس والمواشي ، ومرّ نحو عشرة فراسخ كذلك والناس يشاهدونه من البعد ، حتى أغاث الله أهل تلك النواحي بسحابة أقبلت من البحر وتدلّت حتى اشتملت عليه ورفعته نحو السماء ، والناس يشاهدونه حتى غاب عن أعين الناس ، ولقد لفّ ذنبه على كلب والكلب ينبح في الهواء.

٢٤٩

كوزا

قلعة بطبرستان من عجائب الدنيا ؛ قال الأبيّ : هي تناطح النجوم ارتفاعا وتحكيها امتناعا حتى لا تعلوها الطير في تحليقها ، ولا السّحب في ارتفاعها ، فتحتفّ بها الغمام وتقف دون قلتّها ، ولا تسمو عليها ، فيمطر سفحها دون أعلاها ، والفكر قاصر عن ترتيب مقدمات استخلاصها.

الكوفة

هي المدينة المشهورة التي مصرّها الإسلاميّون بعد البصرة بسنتين ، قال ابن الكلبي : اجتمع أهل الكوفة والبصرة وكلّ قوم يرجّح بلده فقال الحجّاج : يا أمير المؤمنين ، إن لي بالبلدين خبرا ؛ قال : هات غير متهم! قال : أمّا الكوفة فبكر عاطل لا حلي لها ولا زينة ، وأمّا البصرة فعجوز شمطاء بخراء دفراء أوتيت من كلّ حلي وزينة! فاستحسن الحاضرون وصفه إيّاهما.

قال ابن عبّاس الهمداني : الكوفة مثل اللهاة من البدن يأتيها الماء بعذوبة وبرودة ، والبصرة مثل المثانة يأتيها الماء بعد تغيّره وفساده.

ولمسجدها فضائل كثيرة ، منها ما روى حبة العرني قال : كنت جالسا عند عليّ فجاءه رجل وقال : هذا زادي وهذه راحلتي أريد زيارة بيت المقدس! فقال له : كل زادك وبع راحلتك وعليك بهذا المسجد ، يريد مسجد الكوفة ، ففي زاويته فار التنور ، وعند الأسطوانة الخامسة صلّى إبراهيم ، وفيه عصا موسى وشجرة اليقطين ومصلّى نوح ، عليه السلام. ووسطه على روضة من رياض الجنّة ، وفيه ثلاث أعين من الجنّة ، لو علم الناس ما فيه من الفضل لأتوه حبوا.

بها مسجد السهلة ؛ قال أبو حمزة الثّمالي : قال لي جعفر بن محمّد الصادق :يا أبا حمزة ، أتعرف مسجد السهلة؟ قلت : عندنا مسجد يسمّى مسجد السهلة.

قال : لم أرد سواه! لو ان زيدا أتاه وصلّى فيه واستجار فيه بربّه من القتل

٢٥٠

لأجاره! ان فيه موضع البيت الذي كان يخيط فيه ادريس ، عليه السلام ، ومنه رفع إلى السماء ، ومنه خرج إبراهيم إلى العمالقة ، وهو موضع مناخ الخضر ، وما أتاه مغموم إلّا فرّج الله عنه.

كان بها قصر اسمه طمار يسكنه الولاة. أمر عبيد الله بن زياد بإلقاء مسلم ابن عقيل بن أبي طالب من أعلاه قبل مقتل الحسين ، وكان بالكوفة رجل اسمه هانىء يميل إلى الحسين ، فجاء مسلم إليه فأرادوا إخراجه من داره فقاتل حتى قتل ؛ قال عبد الله بن الزبير الأسدي :

إذا كنت لا تدرين ما الموت فانظري

إلى هانىء في السّوق وابن عقيل

إلى بطل قد عفّر السّيف وجهه

وآخر يلقى من طمار قتيل

وكان في هذا القصر قبّة ينزلها الأمراء ، فدخل عبد الملك بن عمير على عبد الملك بن مروان وهو في هذه القبّة على سرير ، وعن يمينه ترس عليه رأس مصعب بن الزبير ، فقال : يا أمير المؤمنين ، رأيت في هذه القبّة عجبا! فقال :ما ذاك؟ قال : رأيت عبيد الله بن زياد على هذا السرير ، وعن يمينه ترس عليه رأس الحسين ، ثمّ دخلت على المختار بن عبيد وهو على هذا السرير ، وعن يمينه ترس عليه رأس عبيد الله بن زياد ، ثمّ دخلت على مصعب بن الزبير وهو على هذا السرير ، وعن يمينه ترس عليه رأس المختار ، ثمّ دخلت عليك يا أمير المؤمنين وأنت على هذا السرير ، وعن يمينك ترس عليه رأس مصعب! فوثب عبد الملك عن السرير وأمر بهدم القبّة.

زعموا أن من أصدق ما يقوله الناس في أهل كلّ بلدة قولهم : الكوفي لا يوفي! وممّا نقم على أهل الكوفة أنّهم طعنوا الحسن بن عليّ ونهبوا عسكره ، وخذلوا الحسين بعد أن استدعوه ، وشكوا من سعد بن أبي وقّاص إلى عمر بن الخطّاب ، رضي الله عنه ، وقالوا : انّه ما يحسن الصلاة! فدعا عليهم سعد أن لا يرضيهم الله عن وال ولا يرضي واليا عنهم ، ودعا علي عليهم وقال :

٢٥١

اللهمّ أمّرهم بالغلام الثقفي! يعني الحجّاج.

وادّعى النبوّة منهم كثيرون. ولمّا قتل مصعب بن الزبير ، أرادت زوجته سكينة بنت الحسين الرجوع إلى المدينة ، فاجتمع عليها أهل الكوفة وقالوا :حسن الله صحابتك يا ابنة رسول الله! فقالت : لا جزاكم الله عني خيرا ولا أحسن إليكم الخلافة! قتلتم أبي وجدّي وعمّي وأخي! أيتمتوني صغيرة وأرملتموني كبيرة!

تظلّم أهل الكوفة إلى المأمون من واليهم فقال : ما علمت من عمّالي أعدل وأقوم بأمر الرعيّة منه! فقال أحدهم : يا أمير المؤمنين ليس أحد أولى بالعدل والانصاف منك! فإن كان هو بهذه الصفة فعلى الأمير أن يوليّه بلدا بلدا ليلحق كلّ بلدة من عدله ما لحقناه ، فإذا فعل الأمير ذلك لا يصيبنا أكثر من ثلاث سنين! فضحك المأمون وأمر بصرفه.

ينسب إليها الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت ، كان عابدا زاهدا خائفا من الله تعالى. ودعي أبو حنيفة إلى القضاء فقال : إني لا أصلح لذلك! فقيل : لم؟فقال : إن كنت صادقا فلا أصلح لها ، وإن كنت كاذبا فالكاذب لا يصلح للقضاء. وأراد عمر بن هبيرة أبا حنيفة للقضاء فأبى ، فحلف ليضربنّه بالسياط على رأسه وليحبسنّه ، ففعل ذلك حتى انتفخ وجه أبي حنيفة ورأسه من الضرب ، فقال : الضرب بالسياط في الدنيا أهون من مقامع الحديد في الآخرة!

قال عبد الله بن المبارك :

لقد زان البلاد ومن عليها

إمام المسلمين أبو حنيفه

بآثار رفقه في حديث

كآيات الزّبور على الصّحيفه

فما إن بالعراق له نظير

ولا بالمشرقين ولا بكوفه

وحكي أن الربيع صاحب المنصور كان لا يرى أبا حنيفة ، فقال له يوما :

٢٥٢

يا أمير المؤمنين ، هذا أبو حنيفة يخالف جدّك عبد الله بن عبّاس ، فإن جدّك يقول إذا حلف الرجل واستثنى بعد يوم أو يومين جاز ، وأبو حنيفة يقول :لا يجوز! فقال أبو حنيفة : هذا الربيع يقول ليس لك في رقاب جندك بيعة! قال : كيف؟ قال : يحلفون عندك ويرجعون إلى منازلهم يستثنون فتبطل اليمين! فضحك المنصور وقال : يا ربيع لا تتعرّض لأبي حنيفة. فلمّا خرج من عند المنصور قال له الربيع : أردت أن تشطّ بدمي! قال : لا ، ولكنك أردت أن تشطّ بدمي فخلّصتك وخلّصت نفسي! وحكى قاضي نهروان أن رجلا استودع رجلا بالكوفة وديعة ومضى إلى الحجّ. فلمّا عاد طلبها ، فأنكر المودع وكان يجالس أبا حنيفة ، فجاء المظلوم وشكا إلى أبي حنيفة فقال له :اذهب لا تعلم أحدا بجحوده! ثمّ طلب الظالم وقال : إن هؤلاء بعثوا إليّ يطلبون رجلا للقضاء فهل تنشط لها؟ فتمانع الرجل قليلا ثمّ رغب فيها. فعند ذلك بعث أبو حنيفة إلى المظلوم وقال : مرّ إليه وقل له : أظنّك نسيت ، أليس كان في يوم كذا وفي موضع كذا؟ فذهب المظلوم إليه وقال ذلك ، فردّها إليه. فجاء الظالم إلى أبي حنيفة يريد القضاء فقال : نظرت في قدرك أريد أن أرفعه بأجلّ من هذا.

وذكر أنّ أبا العبّاس الطوسي كان سيء الرأي في أبي حنيفة ، وأبو حنيفة يعلم ذلك. فرآه يوما عند المنصور فقال : اليوم اقتل أبا حنيفة! فقال له : يا أبا حنيفة ، ما تقول في أن أمير المؤمنين يدعو أحدا إلى قتل أحد ، ولا ندري ما هو ، أيسع لنا أن نضرب عنقه؟ قال أبو حنيفة : يا أبا العبّاس ، الأمير يأمر بالحقّ أو بالباطل؟ قال : بالحقّ! قال : انفذ الحقّ حيث كان ولا تسأل عنه! ثمّ قال لمن كان بجنبه : هذا أراد أن يوبقني فربطته! توفي سنة خمسين ومائة عن اثنتين وسبعين.

ينسب إليها أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري منسوب إلى ثور أطحل ، كان من أكثر الناس علما وورعا. وكان إماما مجتهدا ، وجنيد البغدادي يفتي على

٢٥٣

مذهبه ، كان يصاحب المهدي ، فلمّا ولّي الخلافة انقطع عنه ، فقال له المهدي :إن لم تصاحبني فعظني! قال : إن في القرآن سورة ، أوّلها : ويل للمطفّفين! والتطفيف لا يكون إلّا شيئا نزرا فكيف من يأخذ أموالا كثيرة؟وحكي أن المنصور رآه في الطواف فضرب يده على عاتقه فقال : ما منعك أن تأتينا؟ قال : قول الله تعالى : ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار! فالتفت المنصور إلى أصحابه وقال : القينا الحبّ إلى العلماء فلقطوا إلّا ما كان من سفيان فإنّه أعيانا! ثمّ قال له : سلني حاجتك يا أبا عبد الله! فقال :وتقضيها يا أمير المؤمنين؟ قال : نعم. قال : حاجتي أن لا ترسل إليّ حتى آتيك ، وأن لا تعطيني شيئا حتى أسألك.

وخرج ليلة أراد العبور على دجلة فوجد شطّيها قد التصقا ، فقال : وعزّتك لا أعبر إلّا في زورق! وكان في مرض موته يبكي كثيرا ، فقال له : أراك كثير الذنوب! فرفع شيئا من الأرض وقال : ذنوبي أهون عليّ من هذا وإنّما أخاف سلب الإيمان قبل أن أموت. وقال حمّاد بن سلمة : لمّا حضر سفيان الوفاة كنت عنده ، قلت : يا أبا عبد الله ابشر فقد نجوت ممّا كنت تخاف ، وإنّك تقدم على ربّ غفور! فقال : يا أبا سلمة ، أترى يغفر الله لمثلي؟ قلت :إي والذي لا إله إلّا هو! فكأنّما سرّي عنه. توفي سنة إحدى وستّين ومائة عن ستّ وستين سنة بالبصرة.

وينسب إليها أبو أميّة شريح بن الحرث القاضي ، يضرب به المثل في العدل وتدقيق الأمور ، بقي في قضاء الكوفة خمسا وسبعين سنة ، استقضاه عمر وعليّ ، واستعفى من الحجّاج فأعفاه ، ذكر أن امرأة خاصمت زوجها عنده وكانت تبكي بكاء شديدا فقال له الشعبي : أصلح الله القاضي! أما ترى شدّة بكائها؟ فقال : أما علمت أن اخوة يوسف جاؤوا أباهم عشاء يبكون وهم ظلمة؟الحكم إنّما يكون بالبينة لا بالبكاء.

وشهد رجل عنده شهادة فقال : ممّن الرجل؟ قال : من بني فلان. قال :

٢٥٤

أتعرف قائل هذا الشعر :

ماذا أؤمّل بعد آل محرّق

تركوا منازلهم وبعد إيّاد

قال : لا! فقال : توقّف يا وكيل في شهادته فإن من كان في قومه رجل له هذه النباهة وهو لا يعرفه أظنّه ضعيفا.

وكتب مسروق بن عبد الله إلى القاضي شريح ، وقد دخل زياد ابن أبيه في مرض موته ومنعوا الناس عنه ، وكتب إليه : أخبرنا عن حال الأمير فإن القلوب لبطء مرضه مجروحة ، والصدور لنا حزينة غير مشروحة! فأجابه القاضي :تركت الأمير وهو يأمر وينهى! فقال : أما تعلمون أن القاضي صاحب تعريض؟يقول : تركته يأمر الوصيّة وينهى عن الجزع! وكان كما ظنّ. والقاضي شريح توف سنة اثنتين وثمانين عن مائة وعشرين سنة.

وينسب إليها أبو عبد الله سعيد بن جبير ، كان الناس إذا سألوا بالكوفة ابن عبّاس يقول : أتسألونني وفيكم سعيد بن جبير؟ وكان سعيد ممّن خرج على الحجّاج وشهد دير الجماجم ، فلمّا انهزم ابن الأشعث لحق سعيد بمكّة ، وبعد مدّة بعثه خالد بن عبد الله القسري ، وكان واليا على مكّة من قبل الوليد ابن عبد الملك ، إلى الحجّاج تحت الاستظهار ، وكان في طريقه يصوم نهارا ويقوم ليلا ، فقال له الموكّل به : إني لا أحبّ أن أحملك إلى من يقتلك ، فاذهب أي طريق شئت! فقال له سعيد : انّه يبلغ الحجّاج أنّك خليتني وأخاف أن يقتلك! فلمّا دخل على الحجّاج قال له : من أنت؟ قال : سعيد بن جبير! قال : بل أنت شقيّ بن كسير! قال : سمّتني أمّي! قال : شقيت! قال : الغيب يعلمه غيرك! فقال له الحجّاج : لأبدّلنّك من دنياك نارا تتلظّى! فقال سعيد :لو علمت أن ذاك إليك ما اتّخذت إلها غيرك! قال : ما تقول في الأمير؟ قال :إن كان محسنا فعند الله ثواب إحسانه ، وإن كان مسيئا فلن يعجز الله! قال :فما تقول فيّ؟ قال : أنت أعلم بنفسك! فقال : تب في علمك! فقال : اذم

٢٥٥

أسوءك ولا أسرك. قال : تب! قال : ظهر منك جور في حدّ الله وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله! قال : والله لأقطعنّك قطعا قطعا ولأفرقنّ أعضاءك عضوا عضوا! قال : فإذن تفسد عليّ دنياي وأفسد عليك آخرتك والقصاص أمامك! قال : الويل لك من الله! قال : الويل لمن زحزح عن الجنّة وأدخل النار! فقال : اذهبوا به واضربوا عنقه. فقال سعيد : اني أشهدك اني أشهد ان لا إله إلّا الله وأن محمّدا رسول الله ، لتستحفظه حتى ألقاك بها يوم القيامة! فذهبوا به فتبسّم ، فقال الحجّاج : لم تبسّمت؟ فقال : لجرأتك على الله تعالى! فقال الحجّاج : اضجعوه للذبح! فأضجع. فقال : وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض. فقال الحجّاج : اقلبوا ظهره إلى القبلة. قال سعيد : فأينما تولّوا فثمّ وجه الله! قال : كبّوه على وجهه. فقال : منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى! فذبح من قفاه ، فبلغ ذلك الحسن البصري فقال : اللهمّ يا قاصم الجبابرة اقصم الحجّاج.

وعن خالد بن خليفة عن أبيه قال : شهدت مقتل سعيد بن جبير ، فلمّا بان رأسه قال : لا إله إلّا الله مرّتين والثالثة لم يتمّها ، وعاش الحجّاج بعده خمسة عشر يوما ، وقع الدود في بطنه ، وكان يقول : ما لي ولسعيد بن جبير؟كلّما أردت النوم أخذ برجلي! وتوفي سعيد سنة خمس وتسعين عن سبع وخمسين سنة.

وينسب إليها أبو الطيّب أحمد المتنبي. كان نادر الدهر شاعرا مفلقا فصيحا بليغا ، أشعاره تشتمل على الحكم والأمثال ، قال ابن جنّي : سمعت أبا الطيّب يقول : إنّما لقبّت بالمتنبي لقولي :

ما مقامي بأرض نخلة إلّا

كمقام المسيح بين اليهود

أنا في أمّة ، تداركها اللّ

ه ، غريب كصالح في ثمود

وكان لا يمدح إلّا الملوك العظماء ، وإذا سمع قصيدة حفظها بمرّة واحدة ،

٢٥٦

وابنه يحفظها بمرّتين ، وغلامه يحفظها بثلاث مرّات ، فربّما قرأ أحد على ممدوح قصيدة بحضوره فيقول : هذا الشعر لي! ويعيدها ثمّ يقول : وابني أيضا يحفظها ، ثمّ يقول : وغلامي أيضا يحفظها.

اتّصل بسيف الدولة وقرأ عليه :

أجاب دمعي وما الدّاعي سوى طلل

فلمّا انتهى إلى قوله :

أقل أنل اقطع احمل سلّ علّ أعد

زدهشّ بشّ تفضّل ادن سرّ صل

أمر سيف الدولة أن يفعل جميع هذه الأوامر التي ذكرها فيقول المتنبي :

أمرّ إلى إقطاعه في ثيابه

على طرفه من داره بحسامه

حكى ابن جنّي عن أبي علي النسوي قال : خرجت من حلب فإذا أنا بفارس متلثّم قد أهوى نحوي برمح طويل سدّده في صدري ، فكدت أرمي نفسي من الدابّة ، فثنى السنان وحسر لثامه فإذا المتنبي يقول :

نثرت رؤوسا بالأحيدب منهم

كما نثرت فوق العروس دراهم

ثمّ قال : كيف ترى هذا البيت أحسن هو؟ قلت : ويحك قتلني! قال ابن جنّي : حكيت هذا بمدينة السلام لأبي الطيّب فضحك.

وحكى الثعالبي أن المتنبي لمّا قدم بغداد ترفع عن مدح الوزير المهلبي ، ذهابا بنفسه إلى أنّه لا يمدح غير الملوك ، فشقّ ذلك على الوزير فأغرى به شعراء بغداد في هجوه ، ومنهم ابن سكّرة الهاشمي والحاتمي وابن لنكك ، فلم يجبهم بشيء وقال : اني قد فرغت عن جوابهم بقولي لمن هو أرفع طبقة منهم في الشعر :

٢٥٧

أفي كلّ يوم تحت ضبني شويعر

ضعيف يقاويني قصير يطاول

لساني بنطقي صامت عنه عادل

وقلبي بصمتي ضاحك منه هازل

وأتعب من ناداك من لا تجيبه

وأغيظ من عاداك من لا تشاكل

وما التّيه طبّي فيهم غير أنّني

بغيض إليّ الجاهل المتعاقل

وفارق بغداد قاصدا عضد الدولة بفارس ومدحه بقصائده المذكورة في ديوانه ، وربحت تجارته عند عضد الدولة ، وبقي عنده مدّة ، ووصل إليه من مبرّاته أكثر من مائتي ألف درهم ، فاستأذن في المسير ليقضي حوائجه فأذن له وأمر له بالخلع والصلات ، فقرأ عليه قصيدته الكافيّة وكأنّه نعى فيها نفسه ويقول :

ولو أني استطعت حفظت طرفي

ولم أبصر به حتّى أراكا

وفي الأحباب مختصّ بوجد

وآخر يدّعي معه اشتراكا

إذا اجتمع الدّموع على خدود

تبيّن من بكى ممّن تباكى

وأنّى شئت يا طرقي فكوني

أذاة أو نجاة أو هلاكا

وهذه الأبيات ممّا يتطيّر بها ، وجعل قافية آخر شعره هلاكا فهلك. ولمّا ارتحل من شيراز بحسن حال ووفور مال ، فلمّا فارق أعمال فارس حسب أن السلامة تستمرّ كما كانت في أعمال عضد الدولة ، فخرج عليه سريّة من الأعراب فحاربهم حتى انكشفت الوقعة عن قتله ، وقتل ابنه محسّد ، ونفر من غلمانه في سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.

اللّاذقيّة

مدينة من سواحل بحر الشام عتيقة ، سمّيت باسم بانيها رومية ، وفيها أبنية قديمة ، ولها مرقاة جيدة وقلعتان متّصلتان على تلّ مشرف على ربضها ، ملكها

٢٥٨

الفرنج فيما ملكوه من بلاد الساحل في حدود سنة خمسمائة. وللمسلمين بها جامع وقاض وخطيب ، فإذا أذّن المسلمون ضرب الفرنج بالناقوس غيظا ، قال المعري :

باللّاذقيّة فتنة

ما بين أحمد والمسيح

هذا يعالج دلبه

والشّيخ من حنق يصيح!

أراد بالدلب الناقوس وبالصياح الأذان.

قال ابن رطلين : رأيت باللاذقيّة أعجوبة ، وذلك أن المحتسب يجمع الفواجر والغرباء المؤثرين للفجور في حلقته ، وينادي على واحدة ويتزايدون ، حتى إذا وقف سلّمها إلى صاحبها مع ختم المطران. وهو يأخذها إلى الفنادق ، فإذا وجد البطريق إنسانا لم يكن معه ختم المطران ألزمه جناية ، فلمّا كانت سنة أربع وثمانين وخمسمائة استرجعها صلاح الدين يوسف ، وهي إلى الآن في يد المسلمين.

اللّجّون

مدينة بالأردنّ. في وسطها صخرة كبيرة مدوّرة ، وعلى الصخرة قبّة مزار يتبرّكون بها.

حكي أن الخليل ، عليه السلام ، دخل هذه المدينة ومعه غنم له ، وكانت المدينة قليلة الماء ، فسألوه أن يرتحل لقلّة الماء ، فضرب بعصاه هذه الصخرة فخرج منها ماء كثير اتّسع على أهل المدينة ، حتى كانت قراهم ورساتيقهم تسقى من هذا الماء ، والصخرة باقية إلى الآن.

ماردين

قلعة مشهورة على قلّة جبل بالجزيرة ، ليس على وجه الأرض قلعة أحسن منها ولا أحكم ولا أعظم ، وهي مشرفة على دنيسر ودارا ونصيبين ، وقدّامها

٢٥٩

ربض عظيم فيه أسواق وفنادق ومدارس وربط. وضعها وضع عجيب ليس في شيء من البلدان مثلها ، وذلك أن دورهم كالدرج كلّ دار فوق أخرى ، وكلّ درب منها مشرف على ما تحته ، وعندهم عيون قليلة ، جلّ شربهم من الصهاريج المعدّة في دورهم. وقال بعض الظرفاء :

في ماردين ، حماها الله ، لي سكن

لولا الضّرورة ما فارقتها نفسا

لأهلها ألسن لان الحديد لها

وقلبهم جبليّ قد قسا وعسا

ماسبدان (١)

مدينة مشهورة بقرب السيروان ، كثيرة الشجر كثيرة الحمات والكباريت والزاجات والبوارق والاملاح. بها عين عجيبة ، من شرب منها قذف اخلاطا كثيرة ، لكنه يضرّ بأعصاب الرأس ، وإن احتقن بمائها أسهل إسهالا عظيما.

مجّانة

بلدة بإفريقية تسمّى قلعة بسر لأن بسر بن أرطاة فتحها. أرضها أرض طيّبة ينبت بها زعفران كثير ، بها معادن الفضّة والحديد والمرتك والرصاص والكحل ، وفي جنوبيّها جبل تقطع منه أحجار الطواحين وتحمل إلى سائر بلاد العرب.

محجّة

من قرى حوران. بها حجر يزوره الناس ، وزعموا أن النبي ، صلّى الله عليه وسلّم ، جلس عليه.

__________________

(١) وردت في معجم البلدان بالذال المعجمة : ماسبذان.ss

٢٦٠