أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

شرح الكلمات :

(سَيَّارَةٌ) : رفقة من الناس تسير مع بعضها بعضا.

(وارِدَهُمْ) : أي الذي يرد لهم الماء.

(فَأَدْلى دَلْوَهُ) : أي دلى دلوه في البئر.

(وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً) : أي أخفوه كبضاعة من البضائع.

(وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ) : أي باعوه بثمن ناقص.

(وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ) : أي الرجل الذي اشتراه واسمه قطفير ولقبه العزيز.

(أَكْرِمِي مَثْواهُ) : أي أكرمي موضع إقامته بمعنى اكرميه وأحسني إليه.

(أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) : أي نتبناه فقال ذلك لأنه لم يكن يولد له.

(مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) : أي تعبير الرؤيا.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) : أي قوته البدنية والعقلية.

(حُكْماً وَعِلْماً) : أي حكمة ومعرفة أي حكمة في التدبير ومعرفة في الدين.

٦٠١

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وإخوته إنه لما ألقى يوسف في الجب وترك هناك جاءت قافلة من بلاد مدين تريد مصر فأرسلوا واردا لهم (١) يستقي لهم الماء فأدلى دلوه في البئر فتعلق به يوسف فخرج معه وما إن رآه المدلي حتى صاح قائلا يا بشراي (٢) هذا غلام وكان إخوة يوسف يترددون على البئر يتعرفون على مصير أخيهم فلما رأوه بأيدي الوارد ورفقائه قالوا لهم هذا عبد لنا أبق ، وإن رأيتم شراءه بعناه لكم فقالوا ذاك الذي نريد فباعوه لهم بثمن ناقص وأسره (٣) الذين اشتروا أي أخفوه عن رجال القافلة حتى لا يطالبوهم بالاشتراك فيه معهم ، وقالوا هذه بضاعة كلفنا أصحاب الماء بإيصالها إلى صاحبها بمصر. هذا ما دل عليه قوله تعالى (وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ).

وكونها معدودة غير موزونة دال على قلتها (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) أي إخوته لا الذين اشتروه. (٤) ولما وصلوا به مصر باعوه من وزير يقال له قطفير العزيز فتفرس فيه الخير فقال لامرأته زليخا أكرمي مقامه بيننا رجاء أن ينفعنا في الخدمة أو نبيعه بثمن غال ، أو نتخذه ولدا حيث نحن لا يولد لنا. هذا معنى قوله تعالى (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) قال تعالى. (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) أي وكما نجيناه من القتل والجب وعطفنا عليه العزيز مكّنا له في الأرض فيما بعد فصار ملك مصر بما فيها يحكمها ويسوسها بالعدل والرحمة. وقوله تعالى (وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) أي ولنعلمه (٥) تعبير الرؤا من أحاديث الناس وما يقصونه منه. وقوله تعالى (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ) (٦) أي على أمر يوسف فلم يقدر إخوته أن يبلغوا منه مرادهم

__________________

(١) الوارد الذي يرد الماء يستقي للقوم.

(٢) قرأ ورش بشراي ، وقرأ حفص بشرى.

(٣) اختلف فيمن أسروا يوسف بضاعة. فقيل إنهم اخوة يوسف وقيل هم التجار الذين اشتروه وقيل هم الوارد وأصحابه وذهب ابن عباس رضي الله عنهما إلى أنهم إخوة يوسف لما استخرج الوارد يوسف أدركهم إخوته وقالوا لهم هذا عبدنا أبق وإن شئتم بعناكموه فقالوا نود ذلك فباعوهم إياه كبضاعة لأنّ العبد يباع ويشترى كالبضاعة وما في التفسير وهو اختيار ابن جرير أصوب والله أعلم.

(٤) لفظ الزاهدين وصف للذين باعوا يوسف ومن هنا قيل هم إخوة يوسف وقيل الواردة وقيل السيارة فالخلاف عائد إلى الأول حيث اختلف فيمن أسروا يوسف بضاعة. واستدل مالك بالآية على جواز شراء الشيء الخطير بالثمن اليسير ويكون البيع لازما.

(٥) قال القرطبي : أي فعلنا ذلك تصديقا لقول يعقوب ويعلمك من تأويل الأحاديث.

(٦) اختلف في عود الضمير في قوله (على أمره) هل هو عائد إلى الله تعالى فهو الغالب على أمره دون سواه ، إذ لا يغلب الله شيء بل هو الغالب على أمره وقيل الضمير يعود إلى يوسف أي أن الله غالب على أمر يوسف يدبره ويحوطه ولا يكله إلى غيره.

٦٠٢

كما هو تعالى غالب على كل أمر أراده فلا يحول بينه وبين مراده أحد وكيف وهو العزيز الحكيم. وقوله (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) إذ لو علموا لفوضوا أمرهم إليه وتوكلوا عليه ولم يحاولوا معصيته بالخروج عن طاعته. وفي هذا تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما يجد من أقربائه من أذى إذ يوسف ناله الأذى من إخوته الذين هم أقرب الناس إليه بعد والديه. وقوله تعالى (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً (١) وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي ولما بلغ يوسف اكتمال قوته البدنية بتجاوز سن الصبا إلى سن الشباب وقوته العقلية بتجاوزه سن الشباب إلى سن الكهولة آتيناه حكما وعلما أي حكمة وهي الإصابة في الأمور وعلما وهو الفقه في الدين ، وكما آتينا يوسف الحكمة والعلم نجزي المحسنين (٢) طاعتنا بالصبر والصدق وحسن التوكل وفي هذا بشارة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحسن العاقبة وأن الله تعالى سينصره على أعدائه ويمكن له منهم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ جواز الفرح بما يسر (٣) والإعلان عنه.

٢ ـ جواز الاحتياط لأمر الدين والدنيا.

٣ ـ اطلاق لفظ الشراء على البيع.

٤ ـ نسخ التبنّي في الإسلام.

٥ ـ معرفة تعبير الرؤا كرامة لمن علّمه الله ذلك.

٦ ـ من غالب الله غلب.

٧ ـ بلوغ الأشد يبتدى بانتهاء الصبا والدخول في البلوغ.

٨ ـ حسن الجزاء مشروط بحسن القصد والعمل.

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها

__________________

(١) أي وليناه حكم مصر فصار الحاكم فيها وآتيناه النبوة والعقل والفهم والعلم بالدين.

(٢) هذا الجزاء عام في كل مؤمن أحسن فبقدر إحسان العبد يكون جزاء الرب له فالخطاب يتناول يوسف ومحمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتناول غيرهما لأن القرآن كتاب هداية فعمومه لا يخصص بالواحد والاثنين.

(٣) مأخوذ من قول الوارد. يا بشرى هذا غلام.

٦٠٣

لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥))

شرح الكلمات :

(راوَدَتْهُ) : أي طالبته لحاجتها تريد أن ينزل عن إرادته لإرادتها وهو يأبى.

(الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها) : أي زليخا امرأة العزيز.

(وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ) : أغلقتها بالمغّاليق.

(هَيْتَ لَكَ) : أي تعال عندي.

(مَعاذَ اللهِ) : أي أعوذ بالله أي أتحصن وأحتمي به من فعل ما لا يجوز.

(أَحْسَنَ مَثْوايَ) : أي إقامتي في بيته.

(هَمَّتْ بِهِ) : أي لتبطش به ضربا.

(وَهَمَّ بِها) : أي ليدفع صولتها عليه.

(بُرْهانَ رَبِّهِ) : ألهمه ربّه أن الخير في عدم ضربها.

(السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) : السوء ما يسوء وهو ضربها ، والفحشاء الخصلة القبيحة.

(الْمُخْلَصِينَ) : أي الذين استخلصناهم لولايتنا وطاعتنا ومحبتنا.

(وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ) : أي قطعته من وراء.

(وَأَلْفَيا سَيِّدَها) : أي وجدا العزيز زوجها وكانوا يطلقون على الزوج لفظ السيد لأنه يملك المرأة.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وما جرى له من أحداث في بيت العزيز الذي اشتراه إنه ما إن أوصى العزيز امرأته بإكرام يوسف حتى بادرت إلى ذلك فأحسنت طعامه وشرابه ولباسه وفراشه ، ونظرا إلى ما تجلبه الخلوة بين الرجل والمرأة من إثارة

٦٠٤

الغريزة الجنسية لا سيما إذا طالت المدة ، وأمن الخوف وقلت التقوى حتى راودته بالفعل عن نفسه أي طلبت منه نفسه ليواقعها بعد أن اتخذت الأسباب المؤمّنة حيث غلّقت أبواب الحجرة والبهو والحديقة ، وقالت تعال إليّ. وكان رد يوسف على طلبها حازما قاطعا للطمع وهذا هو المطلوب في مثل هذا الموقف قال تعالى مخبرا عما جرى في القصر حيث لا يعلم أحد من الناس ما جرى وما تم فيه من أحداث. (وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ (١) الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ (٢) لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ). إنها بعد أن اتخذت كل ما يلزم للحصول على رغبتها منه أجابها قائلا (إِنَّهُ رَبِّي (٣) أَحْسَنَ مَثْوايَ) يريد العزيز أحسن إقامتي فكيف أخونه في أهله. وفي نفس الوقت أن سيده الحق الله جل جلاله قد أحسن مثواه بما سخّر له فكيف يخونه فيما حرم عليه. وقوله إنه لا يفلح الظالمون تعليل ثان فالظالم بوضع الشيء في غير موضعه يخيب في سعيه ويخسر في دنياه وأخراه فكيف أرضى لنفسي ولك بذلك وقوله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) (٤) أي همت بضربه لامتناعه عن إجابتها لطلبها بعد مراودات طالت مدتها ، وهم هو بها أي بضربها دفعا لها عن نفسه إلا إنه أراه الله برهانا في نفسه فلم يضربها وآثر الفرار إلى خارج البيت ، ولحقته تجري وراءه لترده خشية أن يعلم أحد بما صنعت معه. واستبقا الباب هو يريد الخروج وهي تريد رده إلى البيت خشية الفضيحة وأخذته من قميصه فقدته أى شقته من دبر أي من وراء لأنه أمامها وهي وراءه. وقوله تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ) (٥) أي هكذا نصرف عن يوسف السوء فلا يفعله والفحشاء فلا يقربها ، وعلل لذلك بقوله إنه من عبادنا المخلصين أي الذين استخلصناهم لعبادتنا ومحبتنا فلا نرضى لهم أن يتلوثوا بآثار الذنوب والمعاصي. وقوله تعالى (وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ) (٦) أي ووجدا زوجها عند الباب جالسا في حال هروبه منها

__________________

(١) أي أحكمت إغلاقها متحققة من ذلك وقد قيل إنها سبعة أبواب يقال غلق الباب وأغلقه وإذا أريد الكثرة قيل غلّق الأبواب.

(٢) أي هلم وأقبل وتعال ولا مصدر له ولا تصريف. كأنه اسم فعل أمر بمعنى أقبل وتعال وفيه سبع قراءات أفصحها وأجلها هيت لك بفتح الهاء وسكون الياء وفتح التاء ونظيرها هيت بكسر الهاء وفتح التاء وهي قراءة نافع وروي أن عكرمة قال إنها لغة عربية تدعو بها إلى نفسها. قال الجوهري يقال هرّت وهيّت به إذا صاح به ودعاه. قال الشاعر :

قد رابني أن الكرىّ أسكتا

لو كان معنيا بها لهيّتا

(أي لصاح) ، وقال آخر : يحدو بها كل فتى هيّات

(٣) يعني بقوله ربي زوجها أي سيده.

(٤) جواب (لَوْ لا) محذوف لعلم السامع به وتقديره لضربها أو لكان ما كان.

(٥) السوء هو ضرب وقدم في الذكر عن الفحشاء لأنه الحادث الأخير وأما الفحشاء فكانت قبل.

(٦) في عرف لغتهم إطلاق السيد على الزوج.

٦٠٥

وهي تجرى وراءه حتى انتهيا إلى الباب وإذا بالعزيز جالس عنده فخافت المعرة على نفسها فبادرت بالاعتذار قائلة ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أي يوما أو يومين ، أو عذاب أليم يكون جزاءا له كأن يضرب ضربا مبرحا.

(قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

شرح الكلمات :

(وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) : أي ابن عمها.

(قُدَّ مِنْ قُبُلٍ) : أي من قدام.

(قُدَّ مِنْ دُبُرٍ) : أي من وراء أي من خلف.

(إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَ) : أي قولها ، ما جزاء من أراد بأهلك سوءا.

(يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا) : أي عن هذا الأمر ولا تذكره لكيلا يشيع.

(مِنَ الْخاطِئِينَ) : المرتكبين للخطايا الآثمين.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن يوسف وأحداث القصة فقد ادعت زليخا أن يوسف راودها عن نفسها وطالبت بعقوبته فقالت (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ) وهنا رد يوسف ما قذفته به ، ولو لا أنها قذفته ما أخبر عن مراودتها إياه فقال ما أخبر تعالى به في هذه الآيات (هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي) وهنا انطق الله جل جلاله طفلا رضيعا (١)

__________________

(١) وقيل إنه كان رجلا حكيما ذا عقل كان الوزير يستشيره في أموره وكان من أهل المرأة ورجح هذا غير واحد وما في التفسير أصحّ لصحة الحديث الشريف : تكلم أربعة وهم صغار ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى بن مريم.

٦٠٦

إكراما لعبده وصفيّه يوسف فقال هذا الطفل والذي سماه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم شاهد يوسف (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ ، وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ) هذا ما قضى به الشاهد الصغير. (فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ). (إِنَّهُ) أي قولها (ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً مِنْ كَيْدِكُنَ) (١) أي من صنيع النساء (إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ ،) ثم قال ليوسف (٢) يا يوسف (أَعْرِضْ عَنْ هذا) الأمر ولا تذكره لأحد لكيلا يفشو فيضر. وقال لزليخا (اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ) أي اطلبي العفو من زوجك ليصفح عنك ولا يؤاخذك بما فرط منك من ذنب إنك كنت من الخاطئين أي الآثمين من الناس هذا ما تضمنته الآيات الأربع في هذا السياق الكريم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ مشروعية الدفاع عن النفس ولو بما يسيء إلى الخصم.

٢ ـ إكرام الله تعالى لأوليائه حيث أنطق طفلا في المهد فحكم ببراءة يوسف.

٣ ـ تقرير أن كيد النساء عظيم وهو كذلك.

٤ ـ استحباب الستر على المسيء وكراهية إشاعة الذنوب بين الناس.

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً

__________________

(١) الكيد : المكر والاحتيال وقال إن كيدكن عظيم ، لعظم فتنتهن واحتيالهن في التخلص من الورطة.

(٢) القائل هو الشاهد وقيل الزوج ، والراجح حسب السياق والعادة أنه الشاهد الذي أصبح حكما بينهما.

٦٠٧

مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤))

شرح الكلمات :

(فِي الْمَدِينَةِ) : أي عاصمة مصر يومئذ.

(تُراوِدُ فَتاها) : أي عبدها الكنعاني.

(قَدْ شَغَفَها حُبًّا) : أي دخل حبّه شغاف قلبها أي أحاط بقلبها فتملكه عليها.

(إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) : أي في خطأ بيّن بسبب حبها إياه.

(فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) : أي بما تحدثن به عنها في غيبتها.

(وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً) : أي وأعدت لهن فراشا ووسائد للاتكاء عليها.

(أَكْبَرْنَهُ) : أي أعظمنه في نفوسهن.

(فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) : أي قلتن كيف تحب عبدا كنعانيا.

(فَاسْتَعْصَمَ) : أي امتنع مستمسكا بعفته وطهارته.

(الصَّاغِرِينَ) : الذليلين المهانين.

(أَصْبُ إِلَيْهِنَ) : أمل إليهن.

(وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ) : أي المذنبين إذ لا يذنب إلا من جهل قدرة الله واطلاعه عليه.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في قصة يوسف إنه بعد الحكم الذي أصدره شاهد يوسف عليه‌السلام انتقل الخبر إلى نساء بعض الوزراء فاجتمعن في بيت إحداهن وتحدثن بما هو لوم لامرأة العزيز حيث راودت عبدا لها كنعانيا عن نفسه وهو ما أخبر تعالى عنه في الآيات الآتية قال تعالى (وَقالَ نِسْوَةٌ (١) فِي الْمَدِينَةِ) أي عاصمة مصر يومئذ (امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ

__________________

(١) (نِسْوَةٌ) بكسر النون وضمها والجمع الكثير نساء ولا واحدة من لفظه إذ مفرد النسوة امرأة من غير لفظه.

٦٠٨

فَتاها) (١) أي عبدها (عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا) أي قد بلغ حبها إياه شغاف قلبها أي غشاءه. (٢) (إِنَّا لَنَراها) أي نظنها (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي خطأ واضح : إذ كيف تحب عبدا وهي من هي في شرفها وعلوّ مكانتها. قوله تعالى (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ) (٣) أي ما تحدثن به في غيبتها (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ (٤) وَأَعْتَدَتْ لَهُنَ (٥) مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً) أي فقابلت مكرهن بمكر أعظم منه فأعدت لهن حفلة طعام وشراب فلما أخذن في الأكل يقطعن بالسكاكين الفواكه كالأترج وغيره أمرته أن يخرج عليهن ليرينه فيعجبن برؤيته فيذهلن عن أنفسهن ويقطعن (٦) أيديهن بدل الفاكهة التي يقطعنها للأكل وبذلك تكون قد دفعت عن نفسها المعرة والملامة ، وهذا ما جاء في قوله تعالى (وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ (٧) ما هذا بَشَراً) أي إنسان من الناس. (إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ) أي ما هذا إلا ملك (كَرِيمٌ) وذلك لجماله وما وهبه الله تعالى من حسن وجمال في خلقه وخلقه. وهنا قالت ما أخبر تعالى به في قوله (قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) أي هذا هو الفتي الجميل الذي لمتنني في حبه ومراودته عن نفسه (وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) أي راودته فعلا وامتنع عن إجابتي. (وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ) أي به مما أريده منه (لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ) أي الذليلين المهانين. وهكذا اسمعته تهديدها أمام النسوة المعجبات به. ومن هنا فزع يوسف إلى ربّه ليخلصه من مكر هذه المرأة وكيدها فقال ما أخبر تعالى به عنه (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) أي يا رب فلذا عد كلامه هذا سؤالا لربه ودعاء السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه من الإثم ، (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) أي كيد النسوة (أَصْبُ إِلَيْهِنَ) أي أمل إليهن (وَأَكُنْ) أي بفعل ذلك (مِنَ الْجاهِلِينَ) أي الآثمين بارتكاب معصيتك.

__________________

(١) (فَتاها) نسب إليها وهو لزوجها باعتبار أنه يخدمها بملك زوجها له فصحّ نسبته إليها ، وقيل : إن زوجها وهبه إيّاها كما وهبت سارة هاجر لإبراهيم عليه‌السلام.

(٢) شغاف القلب : غلافه ، وهو : جلدة عليه ، وقرىء : شعفها بالعين المهملة أي : أحرق حبّه قلبها ، يقال : ؛ شعفه الحب : إذا أحرق قلبه.

(٣) وجه مكرهن : أنهن لما سمعن بجمال يوسف وحسنه ، رغبن في النظر إليه فاحتلن لذلك بالحديث عن زليخا وانتقادها في حبها لخادمها.

(٤) في الكلام حذف تقديره : فأرسلت إليهن تدعوهنّ إلى وليمة لتوقعن فيما وقعت فيه. أعتدت : هذا من العتاد وهو ما جعل عدّة لشيء ومنه العتاد الحربي وهو ما أعدّ للحرب من أنواع السلاح.

(٥) أصل : (مُتَّكَأً) موتكأ ، حذفت منه الواو كمتزن من وزنت ، ومتّعدّ من وعدت وقرىء : متكا غير مهموز وهو الأترج وأمّا مهموزا فهو : كل ما اتكىء عليه عند الجلوس.

(٦) قال مجاهد : ليس قطعا تبين به اليد ، وإنما خدش وحزر وهو معروف في كلام العرب ، يقال قطع يده إذا جرحها.

(٧) قرىء : (حاشَ لِلَّهِ) وحاشا لله ، وفيه أربع لغات ، ويقال : حاشا زيد. وحاشا زيدا ، ومعناه هنا : معاذ الله.

٦٠٩

وهذا ما لا أريده وهو ما فررت منه (فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ) أي أجابه في دعائه وصرف عنه كيدهن إنه تعالى هو السميع لأقوال عباده ودعاء عبده وصفيه يوسف عليه‌السلام العليم بأحوال وأعمال عباده ومنهم عبده يوسف. ولذا استجاب له فطمأنه وأذهب الألم ألم الخوف من نفسه ، وله الحمد والمنة.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ بيان طبيعة الإنسان في حب الاطلاع وتتبع الأخبار.

٢ ـ رغبة الإنسان في الثأر لكرامته ، وما يحميه من دم أو مال أو عرض.

٣ ـ ضعف النساء أمام الرجال ، وعدم قدرتهن على التحمل كالرجال.

٤ ـ إيثار يوسف عليه‌السلام السجن على معصية الله تعالى وهذه مظاهر الصديقية.

٥ ـ الجهل بالله تعالى وبأسمائه وصفاته ووعده ووعيده وشرعه هو سبب كل الجرائم في الأرض.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨))

٦١٠

شرح الكلمات :

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ) : أي ظهر لهم.

(الْآياتِ) : أي الدلائل على براءة يوسف.

(أَعْصِرُ خَمْراً) : أي أعصر عنبا ليكون خمرا.

(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ) : أي دين.

(ما كانَ لَنا) : أي ما انبغى لنا ولا صح منّا.

(أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ) : أي أن أشرك بالله شيئا من الشرك وإن قل ولا من الشركاء وإن عظموا أو حقروا.

(ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا) : أي ذلك التوحيد والدين الحق.

(وَعَلَى النَّاسِ) : إذ جاءتهم الرسل به ولكنهم ما شكروا فلم يتبعوا.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن يوسف عليه‌السلام وما حدث له بعد ظهور براءته من تهمة امرأة العزيز قال تعالى (ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ) أي ثم ظهر للعزيز ومن معه من بعد ما رأوا الدلائل الواضحة على براءة يوسف وذلك كقدّ القميص من دبر ونطق الطفل وحكمه في القضية بقوله (إِنْ كانَ قَمِيصُهُ) الخ وهي أدلة كافية في براءة يوسف إلا أنهم رأوا سجنه إلى حين (١) ما ، أي ريثما تسكن النفوس وتنسى الحادثة ولم يبق لها ذكر بين الناس. وقوله تعالى (وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ (٢) فَتَيانِ) أي فقرروا سجنه وادخلوه السجن ودخل معه فتيان أي خادمان كانا يخدمان ملك البلاد بتهمة (٣) وجهت إليهما. وقوله تعالى (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) وكان هذا الطلب منهما بعد أن أعجبا بسلوكه مع أهل السجن وحسن معاملته وسألاه عن معارفه فأجابهم

__________________

(١) ذكر للحين آماد مختلفة : فقد قيل : ستة أشهر ، وقيل : ثلاثة عشر شهرا وقيل : تسع سنين ، وما في التفسير أصح تلك الأقوال.

(٢) رضي بالسجن ولم يرض ارتكاب الفاحشة لعصمة الله تعالى له ، ومن هنا قال العلماء : لو أكره مؤمن على الفاحشة أو السجن لتعيّن عليه أن يدخل السجن ولا يرتكب الفاحشة.

(٣) هذه التهمة هي : تآمرهما على قتل الملك بوضع سمّ في طعامه أو شرابه ، وفعلا كان الطاهي قد وضع سما في الطعام وأعطى حيوانا فمات لفوره ، ومن ثمّ أدخلا السجن معا نظرا للحكم عليهما.

٦١١

بأنه يعرف تعبير الرؤيا فعندئذ قالا هيا نجربه فندعي (١) أنا رأينا كذا وكذا وسألاه فأجابهما بما أخبر تعالى به في هذه الآيات : (قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ (٢) أَنْ يَأْتِيَكُما) واللفظ محتمل لما يأتيهما في المنام أو اليقظة وهو لما علمه الله تعالى يخبرهما به قبل وصوله إليهما وبما يؤول إليه. وعلل لهما مبيّنا سبب علمه هذا بقوله (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي (٣) تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) وهم الكنعانيون والمصريون إذ كانوا مشركين يعبدون الشمس وغيرها ، تركت ملة الكفر واتبعت ملة الإيمان بالله واليوم الآخر ملة آبائي ابراهيم واسحق ويعقوب ، ثم واصل حديثه معهما دعوة لهما إلى الإيمان بالله والدخول في الإسلام فقال (ما كانَ لَنا) أي ما ينبغي لنا أن نشرك بالله من شيء فنؤمن به ونعبده معه ، ثم أخبرهما أن هذا لم يكن باجتهاد منهم ولا باحتيال ، وإنما هو من فضل الله تعالى عليهم ، فقال ذلك من فضل الله علينا ، (٤) وعلى الناس إذ خلقهم ورزقهم وكلأهم ودعاهم إلى الهدى وبيّنه لهم ولكن أكثر الناس لا يشكرون (٥) فهم لا يؤمنون ولا يعبدون.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ دخول يوسف السجن بداية أحداث ظاهرها محرق وباطنها مشرق.

٢ ـ دخول السجن ليس دائما دليلا على أنه بيت المجرمين والمنحرفين إذ دخله صفي لله تعالى يوسف عليه‌السلام.

٣ ـ تعبير الرؤى تابع لصفاء الروح وقوة الفراسة وهي في يوسف علم لدني خاص.

٤ ـ استغلال المناسبات للدعوة إلى الله تعالى كما استغلها يوسف عليه‌السلام.

٥ ـ وجوب البراءة من الشرك وأهله.

٦ ـ اطلاق لفظ الآباء على الجدود إذ كل واحد هو أب لمن بعده.

__________________

(١) روي أنه قال لهما : فما رأيتما؟ فقال الخباز : رأيت كأنّي اختبزت في ثلاثة تنانير وجعلته في ثلاث سلال فوضعته على رأسي فجاء الطير فأكل منهن ، وقال الآخر رأيت كأني أخذت ثلاثة عناقيد من عنب أبيض فعصرتهن في ثلاث أوان ، ثمّ صفيته فسقيت الملك كعادتي فيما مضى هذا معنى قوله : (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً).

(٢) أي : بتفسيره في اليقظة ، فقالا له : هذا من فعل العرّافين والكهنة فردّ عليهما قائلا : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي)

(٣) لمّا ردّ عليهما بقوله : (ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي) علّل له بقوله : (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ.).

(٤) إذ جعلنا أنبيّاء ورسلا ندعوا الناس إلى عبادة ربهم ، وتوحيده فيها ليكملوا عليها ويسعدوا في الدارين.

(٥) أي : لا يعرفون نعمة الله تعالى عليهم بإرسال الرسل إليهم مبشرين ومنذرين فلذا هم لا يعبدون الله ولا يوحدونه فيها.

٦١٢

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

شرح الكلمات :

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ) : أي يا صاحبي في السجن وهما الفتيان صاحب طعام الملك وصاحب شرابه.

(أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) : أي آلهة متفرقون هنا وهناك أي في ذواتهم وصفاتهم وأماكنهم.

(مِنْ دُونِهِ) : أي من دون الله سبحانه وتعالى.

(إِلَّا أَسْماءً) : أي مجرد اسم إله ، وإلا في الحقيقة هو ليس بإله إنما هو صنم.

(ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) : أي لم يأمر الله تعالى بعبادتها بأي نوع من أنواع العبادة.

(فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) : أي يسقي سيده الذي هو ملك البلاد شراب الخمر.

٦١٣

(فَيُصْلَبُ) : يقتل مصلوبا على خشبة كما هي عادة القتل عندهم.

(قُضِيَ الْأَمْرُ) : أي فرغ منه وبتّ فيه.

(ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا) : أي أيقن إنه محكوم ببراءته.

(اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) : أي أذكرني عند الملك بأني مسجون ظلما بدون جريمة.

(فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ) : أي أنسى الشيطان يوسف ذكر ربّه تعالى.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وهو في السجن لقد سبق أن استعبر الفتيان يوسف رؤياهما أي طلبا منه أن يعبرها لهما لما علما منه أنه يعبر الرؤى غير أن يوسف استغل الفرصة وأخذ يحدثهما عن أسباب علمه بتعبير الرؤى وأنه تركه لملّة الكفر وإيمانه بالله تعالى وحده وأنه في ذلك متّبع ملة آبائه ابراهيم واسحق ويعقوب ، وانه لا ينبغي لهم أن يشركوا بالله وفي هذا تعريض بما عليه أهل السجن من الشرك بالله تعالى بعبادة الأصنام ، وواصل حديثه داعيا إلى الله تعالى فقال ما أخبر به تعالى في هذا السياق (يا صاحِبَيِ (١) السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) فخاطب صاحبيه يا صاحبي السجن أخبراني واصدقاني : آرباب أي آلهة متفرقون هنا وهناك ، هذا صنم وهذا كوكب ، وهذا إنسان ، وهذا حيوان ، وهذا لونه كذا وهذا لونه كذا خير أم الله الواحد في ذاته وصفاته القهار لكل ما عداه من سائر المخلوقات ، ولم يكن لهم من جواب سوى (اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) إن العقل يقضي بهذا. ثم خاطب أهل السجن كافة فقال (ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ) (٢) أي من دون الله الواحد القهار (إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ) إنها مجرد أسماء لا غير إذ كونكم تطلقون لفظ إله أو رب على صنم أو كوكب مرسوم له صورة لا يكون بذلك ربّا وإلها إن الرب هو الخالق الرازق المدبر أما المخلوق المرزوق الذي لا يملك نفعا ولا ضرا لنفسه فضلا عن غيره فإطلاق الربّ والإله عليه كذب وزور ، إنّها أسماء ما أنزل الله بها من سلطان (٣) حجة ولا برهانا فتعبد لذلك بحكم أن الله أمر بعبادتها. ثم قال لهم (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي ما الحكم إلا لله ، وقد حكم بأن لا يعبد إلا هو ، إذا فكل عبادة لغيره

__________________

(١) أطلق لفظ الصحبة لطول مكثهما في السجن كقوله تعالى : (أَصْحابُ الْجَنَّةِ) وأصحاب النار. وذلك لطول المقام فيهما.

(٢) بيّن بذلك عجز تلك الآلهة الباطلة.

(٣) أي : من حجّة تحكم بمشروعية عبادتها كما تفعلون.

٦١٤

هي باطلة يجب تركها والتخلي عنها ، ذلك الدين القيم أخبرهم أن عبادة الله وحده وترك عبادة غيره هي الدين القويم والصراط المستقيم إلا أن أكثر الناس لا يعلمون فجهلهم بمعرفة ربهم الحق الذي خلقهم ورزقهم ويدبر حياتهم وإليه مرجعهم هو الذي جعلهم يعبدون ما ينحتون ويؤلهون ما يصنعون. ولما فرغ من دعوته إلى ربّه التفت إلى من طلبا منه تعبير رؤياهما فقال : ما أخبر تعالى به عنه (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) أي سيطلق سراحه (١) ويعود إلى عمله عند الملك فيسقيه الخمر كما كان يسقيه من قبل ، وأما الآخر وهو طباخ الملك المتهم بأنه أراد أن يضع في طعام الملك السم ليقتله ، فيصلب فتأكل الطير من رأسه بعد صلبه. وهنا قالا : إننا لم نر شيئا وإنما سألناك لنجربك لا غير فرد عليهما قائلا (قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ) أي فرغ منه وبت فيه رأيتما أم لم تريا. ثم قال للذي ظن أنّه ناج منهما ما أخبر تعالى به عنه (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) (٢) أي عند سيدك وكانوا يطلقون على السيد المالك لفظ الربّ. فأنساه الشيطان ذكر ربّه (٣) أي أنسى الشيطان يوسف عليه‌السلام ذكر ربّه تعالى حيث التفت بقلبه إلى الخادم والملك ونسى الله تعالى فعاقبه ربّه الحق فلبث في السجن بضع سنين أي سبع سنوات عدا ،

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب اغتنام الفرص للدعوة إلى الله تعالى.

٢ ـ تقرير التوحيد عن طريق أحاديث السابقين.

٣ ـ لا حكم في شيء إلا بحكم الله تعالى فالحق ما أحقه الله والباطل ما أبطله والدين ما شرعه.

٤ ـ مشروعية الاستفتاء في كل مشكل من الأمور.

__________________

(١) أي : بعد ثلاثة أيام ، وكذلك كان.

(٢) إطلاق لفظ الربّ على السيد كان عند من قبلنا أمّا نحن أمّة الإسلام ، فقد نهينا عن ذلك ، روى مسلم قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا يقل أحدكم : اسق ربّك أطعم ربّك وضىء ربك ، ولا يقل أحدكم : ربّي ، وليقل سيّدي ومولاي ، ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي وليقل : فتاي فتاتي غلامي).

(٣) عجبا لبعض المفسرين كيف يرجعون الضمير في قوله : (فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ) إلى الفتى الخادم ، ولم يرجعوه إلى يوسف عليه‌السلام كما رجحه ابن جرير الطبري في تفسيره ، إذ لو كان الضمير يصحّ رجوعه إلى الخادم لكان النظم القرآني هكذا : فأنساه الشيطان ذكر يوسف عند ربّه فلبث في السجن.

٦١٥

٥ ـ غفلة يوسف عليه‌السلام بإقباله على الفتى وقوله له اذكرني عند ربك ناسيا مولاه الحق ووليه الذي أنجاه من القتل وغيابة الجب ، وفتنة النساء جعلته يحبس في السجن سبع سنين.

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦))

شرح الكلمات :

(الْمَلِكُ) : ملك مصر الذي العزيز وزير من وزرائه واسمه الريان بن الوليد.

(سَبْعٌ عِجافٌ) : هزال غير سمان.

(يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) : أيها الأشراف والأعيان من رجال الدولة.

(أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ) : أي عبروها لي.

(أَضْغاثُ أَحْلامٍ) : أي أخلاط أحلام كاذبة لا تعبير لها إلا ذاك.

(وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) : أي وتذكر بعد حين من الزمن أي قرابة سبع سنين.

(يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ) : أي يا يوسف أيها الصديق أي يا كثير الصدق علم ذلك منه في السجن.

معنى الآيات :

ما زال السياق الكريم في الحديث عن يوسف وهو في محنته إنه لما قارب الفرج أوانه رأى

٦١٦

ملك مصر رؤيا أهالته وطلب من رجال دولته تعبيرها ، وهو ما أخبر تعالى به في هذه الآيات إذ قال عزوجل : (وَقالَ الْمَلِكُ) أي ملك البلاد (إِنِّي أَرى) أي في منامي (سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ) بقرات (عِجافٌ) (١) أي مهازيل في غاية الهزال. (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ) أي سنبلات يابسات. ثم واجه رجال العلم والدولة حوله وقد جمعهم لذلك فقال (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) أي تؤولون. فأجابوه بما أخبر تعالى عنهم بقوله (قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ) (٢) أي رؤياك هذه هي من أضغاث الأحلام التي لا تعبر ، إذ قالوا (وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ) والمراد من الأضغاث الأخلاط وفي الحديث الصحيح «الرؤيا من الرحمن والحلم من الشيطان». وقوله تعالى (وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما) أي من صاحبي السجن ، (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) (٣) أي وتذكر ما أوصاه به يوسف وهو يودعه عند باب السجن إذ قال له (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) بعد حين من الزمن قرابة سبع سنوات. قال ما أخبر تعالى به عنه (أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ) أي إلى يوسف في السجن فإنه أحسن من يعبر الرؤى فأرسلوه فدخل عليه وقال ما أخبر به تعالى عنه في قوله (يُوسُفُ) أي يا يوسف (أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ) وقوله (لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ) أي الملك ورجاله (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ) أي ما تعبرها به أنت فينتفعون بذلك.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ جواز الرؤيا الصالحة يراها الكافر والفاسق.

٢ ـ الرؤى نوعان حلم من الشيطان ، ورؤيا من الرحمن.

٣ ـ النسيان من صفات البشر.

٤ ـ جواز وصف الإنسان بما فيه من غير إطراء كقوله أيها الصديق.

٥ ـ لعل تكون بمعنى كي التعليلية.

__________________

(١) (عِجافٌ) جمع عجفاء من عجف يعجف كعظم يعظم ، والعجاف ، المهاذيل والهزال في الحيوان : الضعف لقلة الشحم واللحم.

(٢) الأضغاث : جمع ضغث والضّغث في اللغة : الحزمة من الشيء كالبقل والكلأ ، والأحلام : الرؤيا المختلطة ، وما لا تأويل له من الرؤى.

(٣) قرئ : وادّكر بعد أمة بفتح الهمزة وتخفيف الميم أي : بعد نسيان يقال : أمه أمها إذا نسي ، قال الشاعر :

أمهت وكنت لا أنسى حديثا

كذاك الدهر يودي بالعقول

(وَادَّكَرَ) اصلها : واذدكر ، فأبدلت التاء دالا ، ثم ادغمت الذال في الدال فصارت : وادكر ، وذلك لمناسبتين الأولى : لقرب مخرج التاء من الذال والثانية : رخاوة الدال ولينها فحصل الإدغام لذلك.

٦١٧

(قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))

شرح الكلمات :

(دَأَباً) : أي متتابعة على عادتكم.

(فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ) : أي اتركوه في سنبله لا تدرسوه.

(سَبْعٌ شِدادٌ) : أي صعاب قاسية لما فيها من الجدب.

(مِمَّا تُحْصِنُونَ) : أي تحفظونه وتدخرونه للبذر والحاجة.

(يُغاثُ النَّاسُ) : أي يغيثهم ربهم بالأمطار وجريان النيل.

(وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) : أي ما من شأنه أن يعصر كالزيتون والعنب وقصب السكر.

معنى الآيات :

قوله تعالى (قالَ تَزْرَعُونَ) إلى آخره هو جواب يوسف للذي استفتاه أي طلب منه تعبير رؤيا الملك قال له في بيان تأويل الرؤيا تزرعون بمعنى ازرعوا سبع سنين دأبا أي (١) متتالية كعادتكم في الزرع كل سنة وهي تأويل السبع البقرات السمان ، فما حصدتم من زروع فذروه في سنبله أي اتركوه بدون درس حتى لا يفسد (٢) إلا قليلا مما تأكلون أي فادرسوه لذلك. ثم يأتي بعد ذلك أي من بعد المخصبات سبع (٣) شداد أي مجدبات صعاب وهي

__________________

(١) (دَأَباً) : أي : متتالية متتابعة وهي مصدر على غير معناه لأنّ معنى تزرعون تدأبون كعادتكم في الزراعة سبع سنين. وقرئ دأبا بسكون الهمزة وأصل الدأب : العادة ، ومنه قول الشاعر :

كدأبك من أم الحويرث قبلها

وجارتها أم الرباب بمأسل

(٢) أي : بأكل السوس له.

(٣) هذه الآية دليل على مشروعية المصالح الشرعية المرسلة ، التي هي حفظ الأديان ، والنفوس ، والعقول ، والأنساب ، والأموال ، فكل ما تضمّن تحصيل شيء من هذه الكليات الخمس فهو مصلحة ، وكل ما يفوّت شيئا منها فهو مفسدة ودفعه مصلحة ، ولا خلاف أن مقصود الشارع إرشاد الناس إلى مصالحهم الدنيوية والأخروية. على هذا أهل السنة والجماعة.

٦١٨

تأويل السبع البقرات العجاف يأكلن ما قدمتم لهن أي من الحبوب التي احتفظتم بها من السبع المخصبات يريد تأكلونه فيهن إلا قليلا مما تحصنون (١) أي تدخرونه للبذور ونحوه. ثم يأتي (بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ (٢) يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي يأتي من بعد السبع السنين المجدبات عام فيه يغاث الناس بالمطر وفيه يعصرون العنب والزيت وكل ما يعصر لوجود الخصب فيه. وقوله ثم يأتي من بعد ذلك عام الخ. هذا لم تدل عليه الرؤيا وإنما هو مما علّمه الله تعالى يوسف فأفادهم به من غير ما سألوه ذلك إحسانا منه ولحكمة عالية أرادها الله تعالى. وهو الحكيم العليم.

هداية الآيات :

من هداية الآيات :

١ ـ أرض مصر أرض فلاحة وزراعة من عهدها الأول.

٢ ـ الاحتفاظ بالفائض في الصوامع وغيرها مبدأ اقتصادي هام ومفيد.

٣ ـ كمال يوسف في حسن تعبير الرؤى شيء عظيم.

٤ ـ فضل يوسف عليه‌السلام على أهل مصر حيث أفادهم بأكثر مما سألوا.

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢))

__________________

(١) (تُحْصِنُونَ) : أي : تحبسونه وتخزنونه لتزرعوه وفي هذه دليل على رؤيا الكافر وأنّه قد يرى ما هو حق ، وذلك بتدبير الله تعالى.

(٢) يقال : غوّث الرجل : إذا قال : واغوثاه ، والاسم الغوث ، والغواث واستغاثه فأغاثه إغاثة والاسم الغياث ، والغيث : المطر.

٦١٩

شرح الكلمات :

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) : أي بيوسف.

(فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) : أي مبعوث الملك.

(ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) : أي سيدك.

(ما بالُ النِّسْوَةِ) : ما حالهن.

(ما خَطْبُكُنَ) : ما شأنكن.

(حاشَ لِلَّهِ) : أي تنزيها لله تعالى عن العجز أن يخلق بشرا عفيفا.

(حَصْحَصَ الْحَقُ) : وضح وظهر الحق.

معنى الآيات :

إن رؤيا الملك كانت تدبيرا من الله تعالى لإخراج يوسف من السجن إنه بعد أن رآى الملك الرؤيا وعجز رجاله عن تعبيرها وتذكّر أحد صاحبي السجن ما وصّاه به يوسف ، وطلب من الملك أن يرسله إلى يوسف في السجن ليستفتيه في الرؤيا وأرسلوه واستفتاه فأفتاه وذهب به إلى الملك فأعجبه التعبير وعرف مدلوله أمر بإحضار يوسف لإكرامه لما ظهر له من العلم والكمال وهو ما أخبر تعالى به في قوله (وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ) أي يوسف (فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ) أي جاء يوسف رسول الملك وهو صاحبه الذي كان معه في السجن ونجا من العقوبة وعاد إلى خدمة الملك فقال له إن الملك يدعوك فقال له عد إليه (١) واسأله (ما بالُ النِّسْوَةِ (٢) اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ) أي قل له يسأل عن حال النسوة اللائي قطعن أيديهن والمرأة التي اتهمتني فجمع الملك النسوة وسألهن قائلا ما خطبكن (٣) إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ فأجبن قائلات حاش لله ما علمنا عليه من سوء أي ننزه الله تعالى أن يعجز أن يخلق بشرا عفيفا مثل هذا. ما علمنا عليه من سوء.

__________________

(١) أبى أن يخرج إلّا أن تصحّ براءته للملك مما قذف به وأنّ حبسه كان بلا جرم روى الترمذي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن اسحق بن ابراهيم. قال : لو لبثت في السجن ما لبث ثم جاءني الرسول أجبت) وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : (قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي ، ونحن أحق من ابراهيم إذ قال له : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ : بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

(٢) ذكر النسوة جملة : حتى لا يؤذي امرأة العزيز لو خصها بالذكر إكراما منه وحلما ، وكمالا خلقيا وإلّا فالمراد زليخا.

(٣) قوله (ما خَطْبُكُنَ) : جرى فيه على سنّة يوسف إذ خاطب النسوة كافة ولم يفرد زليخا وهذا أيضا من باب الستر متى أمكن ولم تحوج الحال إلى التعيين والكشف.

٦٢٠