أيسر التفاسير لكلام العليّ الكبير - ج ٢

المؤلف:

أبي بكر جابر الجزائري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة العلوم والحكم
الطبعة: ٣
الصفحات: ٦٥٧

الدنيا والنهم فيها والتكالب عليها وهو سبب الظلم والفساد.

(قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٢) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٣) قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُل ـ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٤) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (١٦))

شرح الكلمات :

(كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) : أي أوجب على نفسه رحمة خلقه.

(لا رَيْبَ فِيهِ) : لا شك في مجيئه وحصوله في أجله المحدد له.

(خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) : حيث لوثوها بأوضار الشرك والمعاصى فلم ينتفعوا بها.

(وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : أي ما استقر فيها من ساكن ومتحرك أي له كل شيء.

(وَلِيًّا) : أحبه وأنصره واطلب نصرته ومحبته وولايته.

(مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ) : أي من العذاب بمعنى يبعد عنه.

(الْفَوْزُ الْمُبِينُ) : أي الواضح إذ النجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث مع العادلين بربهم غيره من أهل الشرك فيقول تعالى لرسوله

٤١

سلهم قائلا : (لِمَنْ (١) ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خلقا وإيجادا أو ملكا وتصرفا وتدبيرا ، واسبقهم إلى الجواب فقل لله ، إذ ليس لهم من جواب إلا هذا : (لِلَّهِ) ، أي هو الله الذي (كَتَبَ (٢) عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) قضى بها وأوجبها على نفسه ، ومظاهرها متجلية في الناس : إنهم يكفرونه ويعصونه وهو يطعمهم ويسقيهم ويكلؤهم ويحفظهم ، وما حمدوه قط. ومن مظاهر رحمته جمعه الناس ليوم القيامة ليحاسبهم ويجزيهم بعملهم الحسنة بعشر أمثالها أما السيئة فبسيئة مثلها فقط وهو ما دل عليه قوله : (لَيَجْمَعَنَّكُمْ (٣) إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ) أى الكائن الآتى بلا ريب ولا شك ، وقوله تعالى : (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) يخبر تعالى أنّ الذين كتب خسرانهم أزلا في كتاب المقادير فهم لذلك لا يؤمنون وما كتب أزلا لعلم تام بموقفهم هذا الذي هم وافقوه من الكفر والعناد والشرك والشر والفساد ، بذلك استوجبوا الخسران هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٢) أما الآية الثانية (١٣) (وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وهذا تقرير بأنه رب كل شيء والمالك لكل شيء إذ ما هناك إلا ساكن ومتحرك وهو رب الجميع ، وهو السميع لأحوال عباده وسائر مخلوقاته العليم بأفعالهم الظاهرة والباطنة ولذا لا يسأل عما يفعل ويفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ومن هنا وجب اللجأ إليه والتوكل عليه ، والانقياد لأمره ونهيه. وقوله تعالى في الآية الثالثة (١٤) (قُلْ أَغَيْرَ (٤) اللهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) يأمر تعالى رسوله أن يرد على المشركين المطالبين منه أن يوافقهم على شركهم ويعبد معهم آلهتهم فيقول : أفغير الله فاطر السموات والأرض الذي يطعم غيره لافتقاره إليه ، ولا يطعم (٥) لغناه المطلق أغيره تعالى أتخذ وليا أعبده كما اتخذتم أنتم أيها المشركون أولياء تعبدونهم. إن هذا لن يكون أبدا كما أمره ربه تعالى أن يقول في صراحة ووضوح ، (إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) أي وجهه لله ، وأقبل عليه يعبده

__________________

(١) هذا حجاج مع المشركين آخر : قل لهم لمن ما في السموات والأرض؟ فإن قالوا : لمن هو؟ قل : لله ، ولكن لا يقولون إلّا الله ، لمعرفتهم أنّ غير الله لا يخلق ولا يرزق ولا يملك.

(٢) ولذا لم يعاجلهم بالعقوبة التي يقتضيها كفرهم وعنادهم ، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله لمّا خلق الخلق كتب كتابا عنده فوق العرش ان رحمتي تغلب غضبي».

(٣) اللّام : للقسم أي : وعزتي وجلالي ليجمعنكم في يوم القيامة الذي كذّبتم به وهو لا شك فيه.

(٤) الإستفهام إنكاري وقدم المفعول الأوّل : (أَغَيْرَ اللهِ) لأنّه هو المقصود بالإنكار.

(٥) أي يرزق ولا يرزق كقوله تعالى : (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) وقرأ مجاهد وسعيد بن جبير (وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ) بفتح العين أي إنّه يطعم عباده بالرزق وهو لا يطعم لاستحالة احتياجه إلى الغذاء كما يحتاجه المخلوقون من عباده.

٤٢

بما شرع له ، ونهاني أن أكون من المشركين بقوله : (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يعبدون مع الله غيره من مخلوقاته وأمره في الآية (١٥) أن يقول للمشركين الراغبين في تركه التوحيد : (إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (١) وهو عذاب يوم القيامة. إنه عذاب أليم لا يطاق من يصرف (٢) عنه يومئذ فقد رحمه أي أدخله الجنة والنجاة من النار ودخول الجنة هو الفوز العظيم كما قال تعالى (فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) نعم فاز وأي فوز أكبر من الخلوص من العذاب ودخول في دار السّلام.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ عموم رحمة الله تعالى.

٢ ـ تقرير مبدأ الشقاوة والسعادة في الأزل قبل خلق الخلق.

٣ ـ الله رب كل شيء ومليكه.

٤ ـ تحريم ولاية غير الله ، وتحريم الشرك به تعالى.

٥ ـ بيان الفوز الأخروي وهو النجاة من العذاب ودخول الجنة.

(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (١٨) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (١٩))

__________________

(١) قوله : (إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي) عوضا عن اسم الجلالة (الله) فيه إيماء وإشارة إلى أن عصيان الرب قبيح قبحا أشد من عصيان المعبود ، لأنّ الربّ هو المليك المربي المتولي الحافظ الولي فعصيان من يربّي ويرزق قبيح جدا.

(٢) أي : من يصرف الله عنه العذاب يوم القيامة فقد رحمه فأدخله جنّته بعد أن نجّاه من النار.

٤٣

شرح الكلمات :

(يَمْسَسْكَ) : يصبك.

(بِضُرٍّ) : الضر : ما يؤلم الجسم أو النفس كالمرض والحزن.

(بِخَيْرٍ) : الخير : كل ما يسعد الجسم أو الروح.

(الْقاهِرُ) : الغالب المذل المعز.

(شَهادَةً) : الشهادة : إخبار العالم بالشيء عنه بما لا يخالفه.

(لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ) : لأخوفكم بما فيه من وعيد الله لأهل عداوته.

(إِلهٌ واحِدٌ) : معبود واحد لأنه رب واحد ، إذ لا يعبد إلا الرب الخالق الرازق المدبر.

معنى الآيات :

ما زال السياق في توجيه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتقوية موقفه من أولئك العادلين بربهم المشركين به فيقول له ربه تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ (١) فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ) أي إن أصابك الله بما يضرك في بدنك فلا كاشف له عنك بإنجائك منه إلا هو. (وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ) أي وإن يردك بخير فلا (٢) راد له (فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، والخطاب وإن كان موجها للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه عام في كل أحد فلا كاشف للضر إلا هو ، ولا راد لفضله أحد ، ومع كل أحد ، وقوله تعالى في الآية الثانية (١٨) (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ) تقرير لربوبيته المستلزمة لألوهيته فقهره لكل أحد ، وسلطانه على كل أحد مع علو كلمته وعلمه بكل شيء موجب لألوهيته وطاعته وطلب ولايته ، وبطلان ولاية غيره وعبادة سواه وقوله تعالى في الآية الثالثة (١٩) (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) نزلت لما قال المشركون بمكة للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إئتنا بمن يشهد لك بالنبوة فإن أهل الكتاب أنكروها فأمره ربه تعالى أن يقول لهم ردا عليهم : أي شيء أكبر شهادة؟ ولما كان لا جواب لهم إلا أن يقولوا الله أمره أن يجيب به : (قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ). فشهادة الله تعالى لي بالنبوّة إيحاؤه إليّ بهذا القرآن الذي أنذركم به ، وأنذر

__________________

(١) الضرّ : هو ما يؤلم الإنسان وهو من الشر المنافي للإنسان ويقابله النفع وهو من الخير الملائم للإنسان ولذا فالضرّ هنا أعم من المرض إذ يتناوله وغيره من سائر ما يضر الإنسان.

(٢) شاهده حديث ابن عباس عند الترمذي وهو صحيح إذ قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا غلام إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله واعلم انّ الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضروك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفّت الصحف».

٤٤

كل من بلغه وسمع به بأن من بلغه (١) ولم يؤمن به ويعمل بما جاء فيه من العقائد والعبادات والشرائع فإنه خاسر لنفسه يوم القيامة. ثم أمره أن ينكر عليهم الشرك بقوله : أئنكم (٢) لتشهدون مع الله آلهة أخرى ، وذلك بإيمانكم بها وعبادتكم لها أما أنا فلا أعترف بها بل أنكرها فضلا عن أن أشهد بها. ثم أمره بعد إنكار آلهة المشركين أن يقرر ألوهيته الله وحده وأن يتبرأ من آلهتهم المدعاة فقال له قل : (إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ، وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ). (٣)

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ وجوب اللجأ إلى الله تعالى دون غيره من سائر خلقه إذ لا يكشف الضر (٤) إلا هو.

٢ ـ شهادة الله تعالى لرسوله بالنبوة وما أنزل عليه من القرآن وما أعطاه من المعجزات.

٣ ـ نذارة الرسول بلغت كل من بلغه القرآن الكريم إلى يوم الدين.

٤ ـ تقرير مبدأ التوحيد لا إله إلا الله ، ووجوب البراءة من الشرك.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢١) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٢٢) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (٢٣) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤))

__________________

(١) في البخاري : «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني اسرائيل ولا حرج ، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» وقال مقاتل : من بلغه القرآن من الجن والإنس فهو نذير له ، وقال القرطبي : من بلغه القرآن فكأنما قد رأى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم وسمع منه.

(٢) الاستفهام للتوبيخ والتقريع مع الإنكار لشهادتهم الباطلة وذلك بتأليههم الأصنام ، والأحجار جهلا وعنادا.

(٣) أي من الشرك والشركاء معا.

(٤) آية (يونس) في هذا الباب عظيمة إذ قال مخاطبا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ ، فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ ، وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

٤٥

شرح الكلمات :

الذين أوتوا الكتاب : علماء اليهود والنصارى.

(يَعْرِفُونَهُ) : يعرفون محمدا نبيا لله ورسولا له.

(افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) : اختلق الكذب وزوّره في نفسه وقال.

(لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) : لا ينجون من عذاب الله يوم القيامة.

(أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ) : استفهام توبيخي لهم.

(تَزْعُمُونَ) : تدعون أنهم شركاء يشفعون لكم عند الله.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ) : غاب عنهم ولم يحضرهم ما كانوا يكذبونه.

معنى الآيات :

قوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي علماء اليهود والنصارى (يَعْرِفُونَهُ) أي النبي محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه نبي الله ورسوله وأن القرآن كتاب الله أوحاه إليه يعرفونه بما ثبت من أخباره ونعوته معرفة كمعرفة أبنائهم ، رد الله تعالى بهذا على العرب الذين قالوا : لو كنت نبيا لشهد لك بذلك أهل الكتاب ثم أخبر تعالى أن الذين (١) خسروا أنفسهم في قضاء الله وحكمه الأزلي لا يؤمنون ، وإن علموا ذلك في كتبهم وفهموه واقتنعوا به ، فهذا سر عدم إيمانهم ، فلن يكون إذا عدم إيمانهم حجة ودليلا على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه غير نبي ولا رسول هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٢٠) وفي الآية الثانية نداء الله تعالى لكلّ من مشركي العرب وكفار أهل الكتاب بقوله (وَمَنْ (٢) أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) وهم المشركون بزعمهم أن الأصنام تشفع لهم عند الله ولذا عبدوها ، أو كذبوا بآياته وهم أهل الكتاب ، وأخبر أن الجميع في موقفهم المعادي للتوحيد والاسلام ظالمون ، وإن الظالمون لا يفلحون فحكم بخسران الجميع إلا من آمن منهم وعبد الله ووحده وكان من المسلمين وقوله تعالى في الآية الثالثة (٢٢) (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ (٣) جَمِيعاً) مشركين وأهل كتاب أي لا يفلحون في الدنيا ولا يوم

__________________

(١) (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) في موضع النعت أو البدلية من قوله : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ).

(٢) (وَمَنْ أَظْلَمُ) الاستفهام للنفي والتقريع أي لا أحد أعظم ظلما ممن افترى على الله الكذب أو كذّب بآياته التي هي الآيات القرآنية والمعجزات النبوية.

(٣) الظرف معمول لفعل محذوف تقديره : واذكر لقومك الوقت الذي يجري فيه الاستنطاق والاستجواب وكيف يكون موقف هؤلاء المشركين الظالمين.

٤٦

نحشرهم وهو يوم القيامة لأنهم ظالمون ، ثم أخبر تعالى بمناسبة ذكر يوم القيامة أنه يسأل المشركين منهم فيقول لهم : (أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أنهم يشفعون لكم في هذا اليوم؟ ثم لم تكن نتيجة هذه الفتنة أي الاختبار إلا قولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا (١) مُشْرِكِينَ) ، يكذبون هذا الكذب لأنهم رأوا أن المشركين لا يغفر لهم ولا ينجون من النار. ثم أمر الله رسوله أن يتعجب من موقفهم هذا المخزي لهم فقال له : (انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى (٢) أَنْفُسِهِمْ) أما ربهم فهو عليم بهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ) أي غاب فلم يروه. (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) أي يكذبون.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ لم يمنع أهل الكتاب من الدخول في الاسلام إلا إيثار الدنيا على الآخرة.

٢ ـ سببان في عظم الجريمة الكاذب على الله المفتري والمكذب الجاحد به وبكتابه وبنبيه.

٣ ـ تقرير عدم فلاح الظالمين في الحياتين.

٤ ـ الشرك لا يغفر لصاحبه إذا لم يتب منه قبل موته.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٥) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٢٦) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٧)

__________________

(١) تبرّؤا من الشرك وانتفوا منه لما رأوا من تجاوز الله ومغفرته للموحدين ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : يغفر الله تعالى لأهل الإخلاص ذنوبهم ولا يتعاظم عليه ذنب أن يغفره فإذا رأى المشركون ذلك قالوا : إنّ ربنا يغفر الذنوب ولا يغفر الشرك فتعالوا نقول : والله ربّنا ما كنا مشركين.

(٢) وجه كذبهم : أنهم كانوا يقولون في الأصنام تشفع لنا عند الله وتقرّبنا إليه زلفى. ففي هذا الموقف غاب عنهم الكذب والافتراء وواجهوا الحقيقة المرّة كما هي.

٤٧

بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (٢٨) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (٢٩))

شرح الكلمات :

(أَكِنَّةً) : جمع كنان ما يكن فيه الشيء كالغطاء.

(وَقْراً) : ثقلا وصمما فهم لا يسمعون.

(يُجادِلُونَكَ) : يخاصمونك.

(أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) : جمع أسطورة : ما يكتب ويحكى من أخبار السابقين.

(وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) : أي ويبعدون عنه.

(بَلْ بَدا لَهُمْ) : بل ظهر لهم.

(إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا) : ما هي إلا حياتنا.

(بِمَبْعُوثِينَ) : بعد الموت أحياء كما كنا قبل أن نموت.

معنى الآيات :

ما زال السياق في الحديث عن أولئك العادلين بربهم المشركين به سواه فيخبر تعالى عن بعضهم فيقول (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ) حال قراءتك القرآن ولكنه لا يعيه قلبه ولا يفقه ما فيه من أسرار وحكم تجعله يعرف الحق ويؤمن به ، وذلك لما جعلنا حسب سنتنا في خلقنا من أكنة (١) على قلوبهم أي أغطية ، ومن (٢) وقر أي ثقل وصمم في آذانهم ، فلذا هم يستمعون ولا يسمعون ، ولا يفقهون وتلك الأغطية وذلك الصمم هما نتيجة ما يحملونه من بغض للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكره لما جاء به من التوحيد ، ولذا فهم لو يرون كل آية مما يطالبون به من المعجزات كإحياء الموتى ونزول الملائكة عيانا لا يؤمنون بها لأنهم لا يريدون أن يؤمنوا ولذا قال تعالى :

__________________

(١) الأكنة : جمع كنان كأسنة جمع سنان ، والأعنة جمع عنان ، والكنّة : امرأة الأب لأنّها في كنّه ، وكذا امرأة الابن والأخ.

(٢) يقال : وقرت أذنه توقر وقرا ، إذا صمّت ، والنخلة موقر وموقرة إذا كانت ذات ثمر كثير.

٤٨

(وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ) أي في شأن التوحيد وآلهتهم (يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا (١) إِنْ هذا) أي ما هذا (إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) ، أمليت عليك أو طلبت كتابتها فأنت تقصها ، وليس لك من نبوة ولا وحي ولا رسالة. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٢٥) أما باقي الآيات فإن الثانية (٢٦) تضمنت إخبار الله تعالى عنهم بأنهم ينهون الناس عن الإيمان بالنبي وبما جاء به وعن متابعته والدخول في دينه ، وينأون هم بأنفسهم أي يبعدون عنه فلا إيمان ولا متابعة. وهذه شر الصفات يصفهم الله تعالى بها وهي البعد عن الحق والخير ، وأمر الناس بالبعد عنهما ونهيهم عن قربهما ولذا قال تعالى : (وَإِنْ يُهْلِكُونَ (٢) إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) بهذا الموقف الشائن المعادى للرسول والتوحيد ، وما يشعرون بذلك إذ لو شعروا لكفوا ، والذي أفقدهم الشعور هو حب الباطل والشر الذي حملهم على عداوة الرسول وما جاء به من عبادة الله وتوحيده وها هم أولا قد حشروا في جهنم ، والله تعالى يقول للرسول : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا (٣) عَلَى النَّارِ) ولا بد لهم من دخولها والاصطلاء بحرها والاحتراق بلهبها ، فقالوا وهم في وسطها (يا لَيْتَنا نُرَدُّ) إلى الحياة الدنيا (وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا ، وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) ، وما هم والله بصادقين وإنما هي تمنيات حمل عليها الإشفاق من العذاب والخوف من نار جهنم ، والفضيحة حين ظهر لهم (٤) ما كانوا يخفون في الدنيا من جرائم وفواحش وهم يغشونها الليل والنهار قال تعالى وهو العليم الخبير : (وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) ، وصدق الله لو ردوا لعادوا وفي الآية الأخيرة (٢٩) يسجل الله تعالى عليهم سبب بلائهم ومحنتهم ، وإقدامهم في تلك الجرأة الغريبة على الشرك ومحاربة التوحيد ، ومحاربة الموحدين بالضرب والقتل والتعذيب إنه كفرهم بالبعث والجزاء إذ قالوا ما أخبر تعالى به عنهم : (إِنْ هِيَ إِلَّا (٥) حَياتُنَا الدُّنْيا ، وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ).

__________________

(١) قال ابن عباس : قالوا للنضر بن الحارث ما يقول محمد؟ قال : أرى تحريك شفتيه وما يقول إلّا أساطير الأوّلين مثل ما أحدّثكم أنا عن القرون الماضية إذ كان النضر صاحب قصص سمعها من ديار العجم إذ كان سافر إليها للتجارة ، والأساطير : جمع أسطار وأسطورة نحو : أحاديث وأحدوثة ومعنى الأساطير : ما كتب وسطّر من أخبار الأولين وهو ترّهاتهم وأباطيلهم.

(٢) (وَإِنْ يُهْلِكُونَ) أي : ما يهلكون فإن بمعنى : ما النافية.

(٣) أي : وهم على الصراط وهي تحتهم أو وقفوا بقربها وهم يعاينونها ، وجواب لو محذوف تقديره : لرأيت منظرا هائلا ونحوه.

(٤) قوله تعالى (بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ) أي في دار الدنيا من الكفر والتكذيب والعناد وجائز أن يكون ظهر لهم صدق ما كانوا يعلمون أنّه حق من أمر الدين والتوحيد ولكن يخفونه في أنفسهم حتى لا يعلم ذلك إخوانهم في الكفر واتباعهم في الشرك.

(٥) هذا سبب شقائهم هو إنكارهم للبعث والجزاء ومغالطة أنفسهم بأنه لا حياة إلّا الحياة الدنيا.

٤٩

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ بيان سنة الله تعالى فى أن العبد إذا كره أحدا وأبغضه وتغالى في ذلك يصبح لا يسمع ما يقول له ، ولا يفهم معنى ما يسمع منه.

٢ ـ شر دعاة الشر من يعرض عن الهدى ويأمر بالإعراض عنه ، وينهى من يقبل عليه.

٣ ـ سبب الشر في الأرض الكفر بالله ، وإنكار البعث والجزاء الآخر.

(وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٠) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٣٢))

شرح الكلمات :

(وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ) : جيء بهم ووقفوا على قضائه وحكمه تعالى فيهم.

(بَلى وَرَبِّنا) : أي إنه للحق والله.

(خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا) : أي خسروا أنفسهم في جهنم.

(السَّاعَةُ بَغْتَةً) : ساعة : البعث ليوم القيامة وبغتة : أي فجأة.

(يا حَسْرَتَنا) : الحسرة : التندم والتحسر على ما فات ينادون حسرتهم زيادة في التألم والتحزن.

(أَوْزارَهُمْ) : أحمال ذنوبهم إذ الوزر الحمل الثقيل.

(لَعِبٌ وَلَهْوٌ) : اللعب : العمل الذي لا يجلب درهما للمعاش ، ولا حسنة للمعاد.

واللهو : ما يشغل الإنسان عما يعنيه مما يكسبه خيرا أو يدفع عنه ضيرا.

٥٠

معنى الآيات :

يقول تعالى لرسوله : ولو ترى (١) إذ وقف أولئك لمنكرون للبعث القائلون (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) ، لو تراهم وقد حبسوا لقضاء الله وحكمه فيهم وقيل لهم وهم يشاهدون أهوال القيامة وما فيها من حساب وجزاء وعذاب (أَلَيْسَ (٢) هذا بِالْحَقِ) أي الذي كنتم تكذبون فيسارعون بالإجابة قائلين (بَلى ، وَرَبِّنا) ، فيحلفون بالله تعالى تأكيدا لصحة جوابهم فيقال لهم (٣) : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) لا ظلما منا ولكن بسبب كفركم إذ الكفر منع من طاعة الله ورسوله ، والنفس لا تطهر إلا على تلك الطاعة ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣٠) أما الآية الثانية (٣١) فقد أعلن تعالى عن خسارة صفقة الكافرين الذين باعوا الإيمان بالكفر والتوحيد بالشرك ، والطاعة بالمعاصي فقال تعالى : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ) (٤) أي بالحياة بعد الموت وهذا هو سبب المحنة والكارثة (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ) ساعة فناء هذه الحياة وإقبال الحياة الآخرة (بَغْتَةً) أي فجأة لم يكونوا يفكرون فيها لكفرهم بها ، وعندئذ صاحوا بأعلى أصواتهم معلنين عن تندمهم (يا حَسْرَتَنا (٥) عَلى ما فَرَّطْنا) أي في صفقتنا حيث اشترينا الكفر بالإيمان والشرك بالتوحيد قال تعالى : (وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ) من الجائز أن تصور لهم أعمالهم من الكفر والشرك والظلم والشر والفساد في صورة رجل قبيح أشوه فيحملونه على ظهورهم في عرصات القيامة وقد ورد به خبر. ولذا قال تعالى : (أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ) أي قبح ما يحملونه! وفي الآية (٣٢) الأخيرة يخبر تعالى مذكرا واعظا ناصحا فيقول يا عباد الله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ) فانتبهوا فلا تغتروا بما فيها من ملذات فإن نعيمها إلى زوال ما شأنها إلا شأن من يلعب أو يلهو ، ثم لا يحصل على طائل من لعبه (٦) ولهوه ، أما الدار الآخرة فإنها خير ولكن للذين يتقون الشرك والشر

__________________

(١) جواب لو محذوف تقديره : لعظم شأن الوقوف.

(٢) الاستفهام للتقريع والتوبيخ أي : أليس هذا البعث كائنا موجودا.

(٣) جائز أن يكون القائل : الله تعالى ، وجائز أن تكون الملائكة وهو أولى لأنهم ليسوا أهلا لأن يكلّمهم الربّ تبارك وتعالى.

(٤) أي بالبعث بعد الموت والجزاء على العمل في الدنيا هذا كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين ليقتطع بها مال امرىء مسلم لقي الله وهو عليه غضبان» في الصحيح ، إلّا أنه لا مانع من حمل اللفظ على ظاهره لأنّ لقاء الله كائن حقا وكيف وهو الذي يفصل بينهم في ساحة فصل القضاء.

(٥) أي : يا حسرتنا احضري فهذا أوان حضورك ، والحسرة : الندم الشديد ، والتلهف والنداء للتندّم والتعجب من حالهم وما حلّ بهم.

(٦) هي كما قال الحكيم :

ألا إنّما الدنيا كأحلام نائم

وما خير عيش لا يكون بدائم

تأمّل إذا ما نلت بالأمس لذّة

فأفنيتها هل أنت إلا كحالم

٥١

والمعاصي ، فما لكم مقبلين على الفانى معرضين عن الباقي (أَفَلا تَعْقِلُونَ؟!)

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ تقرير مبدأ البعث والجزاء بذكر صور ومشاهد له.

٢ ـ قبح الذنوب وأنها أسوأ حمل يحمله صاحبها يوم القيامة.

٣ ـ حكم الله تعالى بالخسران على من كذب بلقائه فلم يؤمن ولم يعمل صالحا.

٤ ـ الساعة لا تأتي إلا بغتة ، ولا ينافي ذلك ظهور علاماتها ، لأن الزمن ما بين العلامة والعلامة لا يعرف مقداره.

٥ ـ نصيحة القرآن للعقلاء بأن لا يغتروا بالحياة الدنيا. ويهملوا شأن الآخرة وهي خير للمتقين.

(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (٣٥))

شرح الكلمات :

(لَيَحْزُنُكَ) : أي ليوقعك في الحزن الذي هو ألم النفس من جراء فقد ما تحب من هدايتهم أو من أجل ما تسمع منهم من كلم الباطل كتكذيبك وأذيتك.

٥٢

(فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ) : أي لا ينسبونك إلى الكذب في بواطنهم ومجالسهم السرية لعلمهم اليقيني أنك صادق.

(كُذِّبَتْ رُسُلٌ) : أي كذبتهم أقوامهم وأممهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام.

(وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللهِ) : التي تحمل وعده بنصر أوليائه وإهلاك أعدائه.

(مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ) : أي أخبارهم في دعواتهم مع أممهم.

(تَبْتَغِيَ نَفَقاً) : تطلب سربا تحت الأرض.

(أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) : أي مصعدا تصعد به الى السماء.

(بِآيَةٍ) : أي خارقة من خوارق العادات وهى المعجزات.

(فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ) : أي فلا تقف موقف الجاهلين بتدبير الله في خلقه.

معنى الآيات :

هذه الآيات من تربية الله تعالى لرسوله وإرشاده لما يشد من عزمه ويزيد في ثباته على دعوة الحق التي أناط به بلاغها وبيانها فقال له تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ (١) إِنَّهُ) أي الحال والشأن ، (لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ) أي الكلام الذي يقولون لك وهو تكذيبك واتهامك بالسحر ، والتقول على الله ، وما إلى ذلك مما هو إساءة لك وفي الحقيقة إنهم لا يكذبونك (٢) لما يعلمون من صدقك وهم يلقبونك قبل إنبائك لهم وإرسالك بالأمين ولكن الظالمين هذا شأنهم فهم يرمون الرجل بالكذب وهم يعلمون أنه صادق ويقرون هذا في مجالسهم الخاصة ، ولكن كي يتوصلوا إلى تحقيق أهدافهم في الإبقاء على عاداتهم وما ألفوا من عبادة أوثانهم يقولون بألسنتهم من نسبتك إلى الكذب وهم يعلمون أنك صادق (٣) غير كاذب فإذا عرفت هذا فلا تحزن لقولهم.

__________________

(١) قد نعلم إنه : كسرت إن في إنه لدخول اللام في (لَيَحْزُنُكَ) ولولاها لفتحت نحو أنه يحزنك.

(٢) روي أنّ أبا جهل وجماعة معه من رجالات قريش مرّوا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا يا محمد ما نكذّبك وإنّك عندنا لصادق ولكن نكذّب ما جئت به. وهذه الآية شاهد لصحة هذه الرواية ، ومعنى يكذّبونك ينسبونك إلى الكذب ويردون قولك.

(٣) روى ابن اسحق وغيره أنّ الأخنس بن شريق أتى أبا جهل فقال له : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد إذ كانوا يأتون دار محمد وهو يصلي بالليل يستمعون القرآن فإذا طلع النهار تفرّقوا قال ما ذا سمعت؟ تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف أطعموا فأطعمنا وحملوا فحملنا وأعطوا فأعطينا حتى إذا تجاثينا على الرّكب وكنا كفرسي رهان قالوا : منّا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك نحن هذه والله لا نؤمن أبدا ولا نصدقه فقام الأخنس وتركه.

٥٣

هذا أولا وثانيا فقد كذبت رسل من قبلك وأوذوا كما كذبت أنت وأوذيت ، وصبروا حتى أتاهم نصرنا فاصبر أنت حتى يأتيك النصر فإنه لا مبدل لكلمات الله التي تحمل وعده لأوليائه ووعيده لأعدائه ، ولقد جاءك في هذا الكتاب الذي أوحينا إليك من نبأ المرسلين وأخبارهم ما يكون عونا لك على الصبر حتى النصر فاصبر ، وثالثا (إِنْ كانَ كَبُرَ (١) عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ) عن دعوتك وعدم إيمانهم بها حتى تأتيهم بآية تلجئهم إلى الإيمان بك وبرسالتك كما يطلبون منك ويلحّون عليك وهم كاذبون فإن استطعت أن تطلب لهم آية من تحت الأرض أو من السماء فافعل ، وهذا ما لا تطيقه ولا تستطيعه لأنه فوق طاقتك فلا تكلف به وإذا فما عليك إلا بالصبر هذا معنى قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ) أي (٢) سربا ، (أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ) أي مصعدا (فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ) أي فافعل ، وما أنت بقادر فاصبر إذا ورابعا إن الله قادر على أن يجمعهم كلهم على الإيمان بك وبرسالتك والدخول في دينك ، ولكنه لم يشأ ذلك لحكم عالية فلا تطلب أنت ما لا يريده ربك ، فإنك إن فعلت كنت من الجاهلين ، (٣) ولا نريد لك ذلك. (٤)

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ ثبوت بشرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولذا هو يحزن لفوت محبوب كما يحزن البشر لذلك.

٢ ـ تسلية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحمله على الصبر حتى يأتيه موعود ربه بالنصر.

٣ ـ بيان سنة الله في الأمم السابقة.

٤ ـ إرشاد الرب تعالى رسوله إلى خير المقامات وأكمل الحالات بإبعاده عن ساحة الجاهلين.

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦) وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ

__________________

(١) (كَبُرَ) ثقل فشق عليه تحمله لثقله.

(٢) أي نفقا كالأنفاق المعروفة اليوم تحت الأرض ، والسلّم : الدرج وهو ما يرقى عليه وسمي السلم من السلامة.

(٣) ولا يليق بمثلك مثله وهذا كلّه تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتعزية وحمل له على الصبر وهو لكلّ داع إلى الله تعالى يواجه التكذيب والتعذيب إلى يوم الدين.

(٤) جائز أن يكون المعنى : من الجهل الذي هو ضد العلم ، والجهل الذي هو ضد الحلم ويناسب الأوّل قوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى) والثاني قوله : (وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ ..) الآية.

٥٤

قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٧) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٩))

شرح الكلمات :

(إِنَّما يَسْتَجِيبُ) : أي لدعوة الحق التي دعا بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيؤمن ويهتدي.

(يَبْعَثُهُمُ اللهُ) : أي يوم القيامة.

(لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) : هلا أداة تحضيض لا لو لا الشرطية.

(آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) : آية : خارقة تكون علامة على صدقه.

(لا يَعْلَمُونَ) : أي ما يترتب على إيتائها مع عدم الإيمان بعدها من هلاك ودمار.

(مِنْ دَابَّةٍ) : الدابة كل ما يدب على الأرض من إنسان وحيوان.

(فِي الْكِتابِ) : كتاب المقادير أم الكتاب اللوح المحفوظ.

(صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ) : صم : لا يسمعون وبكم : لا ينطقون في الظلمات لا يبصرون.

(صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) : هو الدين الإسلامي المفضي بالآخذ به إلى سعادة الدارين.

معنى الآيات :

بعد ما سلى الرب تعالى رسوله في الآيات السابقة وحمله على الصبر أعلمه هنا بحقيقة علمية تساعده على الثبات والصبر فأعلمه أن الذين يستجيبون لدعوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم هم الذين يسمعون لأن حاسة السمع عندهم سليمة ما أصابها ما يخل بأداء وظيفتها من كره الحق

٥٥

وبغض أهله والداعين إليه فهؤلاء هم الذين يستجيبون لأنهم أحياء أما الأموات فإنهم لا يسمعون ولذا فهم لا يستجيبون ولكن سيبعثهم الله يوم القيامة أحياء ثم يرجع الجميع إليه من استجاب ، لحياة قلبه ، ومن لم يستجب لموت قلبه ويجزيهم بما عملوا الجزاء الأوفى وهو على كل شيء قدير ، هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٣٦) أما الآية الثانية (٣٧) فقد أخبر تعالى رسوله بقولهم (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) ، وعلمه أن يقول لهم (إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً) وهي الخارقة كإحياء الموتى أو تسيير الجبال أو إنزال الملائكة يشاهدونهم عيانا ، ولكن لم ينزلها لحكم عالية وتدبير حكيم ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) الحكمة فى (١) ذلك ، ولو علموا أنها إذا نزلت كانت نهاية حياتهم لما سألوها. هذا ما تضمنته الآية الثانية أما الآية الثالثة (٣٨) وهي قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ (٢) بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) سبقت هذه الآية لبيان كمال الله تعالى وشمول علمه وعظيم قدرته ، وسعة تدبيره تدليلا على أنه تعالى قادر على إنزال الآيات ، ولكن منع ذلك حكمته تعالى في تدبير خلقه فما من دابة تدب في الأرض ولا طائر يطير في السماء إلا أمم مثل الأمة (٣) الإنسانية مفتقرة إلى الله تعالى في خلقها ورزقها وتدبير حياتها ، والله وحده القائم عليها ، وفوق ذلك إحصاء عملها عليها ثم بعثها يوم القيامة ومحاسبتها ومجازاتها ، وكل ذلك حواه كتاب المقادير وهو يقع فى كل ساعة ولا يخرج شيء عما كتب في كتاب المقادير ، اللوح المحفوظ (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) فهل يعقل مع هذا أن يعجز الله تعالى عن إنزال آية ، وكل مخلوقاته دالة على قدرته وعلمه ووحدانيته ، ووجوب عبادته وفق مرضاته ، وقوله (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) (٤) كل دابة وكل طائر يموت أحب أم كره ، ويبعث (٥) أحب أم كره ، والله وحده مميته ومحييه ومحاسبه ومجازيه ، (ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) ، ومن هنا كان المكذبون بآيات الله (صُمٌّ وَبُكْمٌ

__________________

(١) قال القرطبي : القول بحشر البهائم هو الصحيح ، والبهائم وإن كان القلم لا يجري عليها في الأحكام ولكن فيما بينها تؤاخذ به ، وروي عن أبي ذرّ قال ، انتطحت شاتان عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «يا أبا ذر أتدري فيما انتطحتا. قلت : لا ، قال : لكن الله تعالى يدري وسيقضي بينهما».

(٢) من الحكمة في عدم انزال الآية أنه لو أنزلها ما آمنوا بها ، فاستوجبوا الهلاك فأهلكهم ، ولكنّه يريد الإبقاء عليهم ليخرج من أصلابهم مؤمنين يعبدونه ويوحدونه.

(٣) ذكر الجناحين للتأكيد من جهة ، وإزالة الإبهام من جهة أخرى لأنّ العرب تطلق لفظ الطيران على غير الطائر فتقول للرجل طر في حاجتي أي أسرع في قضائها وطائر الإنسان ما قسم الله له أزلا قال تعالى : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ).

(٤) وهذه المثلية بين الإنسان وبين دواب الأرض وطائر السماء تقتضي ألا يظلم الإنسان الحيوان ولا يؤذيه ولا يتجاوز ما أمر به نحوه ، ووجه المثلية في كون كل من الإنسان والحيوان يسبّح الله تعالى ويدل على قدرته وعلمه وحكمته.

(٥) قيل في (يُحْشَرُونَ) أنّ حشرها الموت وهو مروي عن ابن عباس قال : موت البهائم : حشرها وروي عن مجاهد والضحاك أيضا ، وقيل حشرها : هو بعثها يوم القيامة حيّة وهذا أصح لحديث : «إن الجماء لتقتص من القرناء يوم القيامة».

٥٦

فِي الظُّلُماتِ) (١) أموات غير أحياء إذ الأحياء يسمعون وينطقون ويبصرون وهؤلاء صم بكم في الظلمات فهم أموات غير أحياء وما يشعرون. وأخيرا أعلم تعالى عباده أن هدايتهم كإضلالهم بيده فمن شاء هداه ومن شاء أضله ، وعليه فمن أراد الهداية فليطلبها في صدق من الله جل جلاله وعظم سلطانه ومن رغب عنها فلن يعطاها.

هداية الآيات

من هداية الآيات :

١ ـ الإيمان بالله ورسوله ولقائه حياة والكفر بذلك موت فالمؤمن حي والكافر ميت.

٢ ـ سبب تأخر الآيات علم الله تعالى بأنهم لو أعطاهم الآيات ما آمنوا وبذلك يستوجبون العذاب.

٣ ـ تعدد الأمم (٢) في الأرض وتعدد أجناسها والكل خاضع لتدبير الله تعالى مربوب له.

٤ ـ تقرير ركن القضاء والقدر وإثباته في أم الكتاب.

(قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٠) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (٤١) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (٤٢) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٤٣) فَلَمَّا

__________________

(١) إنها ظلمات الكفر والشرك والمعاصي وما ينتج عن ذلك من القلق والحيرة واضطراب النفس ، والخوف ، والهمّ.

(٢) روى ابن كثير بسنده عن الحافظ أبي يعلى عن جابر بن عبد الله أن الجراد لم يرفي سنة من سني عمر رضي الله عنه التي ولي فيها فسأل عنه فلم يخبر بشيء فاغتم لذلك فأرسل راكبا إلى كذا واخر إلى الشام ، واخر إلى العراق يسأل هل رؤي من الجراد شيء أو لا؟ قال فأتاه الراكب الذي من قبل اليمن بقبضة من جراد فألقاها بين يديه فلما رآها كبر ثلاثا ثم قال سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «خلق الله عزوجل ألف أمّة منها ستمائة في البحر وأربعمائة في البرّ وأول شيء يهلك من هذه الأمم الجراد فإذا هلكت تتابعت مثل النظام إذا قطع سلكه. هذه الرواية ذكر بعض أهل العلم بطلانها.

٥٧

نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٥))

شرح الكلمات :

(أَرَأَيْتَكُمْ) : أخبروني.

(السَّاعَةُ) : يوم القيامة.

(فَيَكْشِفُ) : يزيل ويبعد وينجي.

(بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) : البأساء : الشدائد من الحروب والأمراض ، والضراء : الضر.

(يَتَضَرَّعُونَ) : يتذللون في الدعاء خاضعون.

(بَغْتَةً) : فجأة وعلى حين غفلة.

(مُبْلِسُونَ) : آيسون قنطون متحسرون حزنون.

(دابِرُ الْقَوْمِ) : آخرهم أي أهلكوا من أولهم إلى آخرهم.

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) : الثناء بالجميل والشكر لله دون سواه.

معنى الآيات :

ما زال السياق في طلب هداية أولئك المشركين العادلين بربهم أصناما وأحجارا ، فيقول الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قل يا رسولنا لأولئك الذين يعدلون بنا الأصنام (أَرَأَيْتَكُمْ) (١) أي أخبرونى ، (إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ) اليوم انتقاما منكم ، (أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ) وفيها عذاب يوم القيامة ، (أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ) ليقيكم العذاب ويصرفه عنكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في أن آلهتكم تنفع وتضر ، تقي السوء وتجلب الخير؟ والجواب معلوم أنكم لا تدعونها لبأسكم من إجابتها بل الله (٢) وحده هو الذي تدعونه فيكشف ما تدعونه له إن شاء ، وتنسون عندها ما تشركون به من الأصنام فلا تدعونها ليأسكم من إجابتها لضعفها وحقارتها.

__________________

(١) قال القرطبي : هذه الآية في محاجة المشركين ممن اعترف أنّ له صانعا أي : أنتم عند الشدائد ترجعون إلى الله تعالى وسترجعون إليه يوم القيامة أيضا ، فلم تصرّون على الشرك في حال الرفاهية؟! وكانوا يعبدون الأصنام ويدعون الله في صرف العذاب.

(٢) (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ) بل : للإضراب ، إضراب عن الأوّل وهو دعاء غير الله تعالى وايجاب للثاني وهو دعاء الله عزوجل.

٥٨

هذا ما تضمنته الآيتان الأولى (٤٠) والثانية (٤١) وأما الآيات الأربع بعد هما فإن الله تعالى يخبر رسوله بقوله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ) (١) (مِنْ قَبْلِكَ) أي أرسلنا رسلا من قبلك إلى أممهم فأمروهم بالإيمان والتوحيد والعبادة فكفروا وعصوا فأخذناهم بالشدائد من حروب ومجاعات وأمراض لعلهم يتضرعون إلينا فيرجعون إلى الإيمان بعد الكفر والتوحيد بعد الشرك والطاعة بعد العصيان ولما لم يفعلوا وبخهم تعالى بقوله : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) (٢) أي فهلا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا إلينا (وَلكِنْ) حصل العكس حيث (قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ) أي حسن لهم (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) من الشرك والمعاصى. وهنا لما نسوا ما ذكرتهم به رسلهم فتركوا العمل به معرضين عنه غير ملتفتين إليه فتح الله تعالى عليهم أبواب كل شيء من (٣) الخيرات حتى إذا فرحوا بذلك (٤) وسكنوا إليه واطمأنوا ولم يبق بينهم من هو أهل للنجاة. قال تعالى (أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) أي فجأة بعذاب من أنواع العذاب الشديدة (فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ) (٥) آيسون من الخلاص متحسرون (فَقُطِعَ دابِرُ (٦) الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) أي استؤصلوا بالعذاب عن آخرهم. وانتهى أمرهم (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) ناصر أوليائه ومهلك أعدائه فاذكر هذا لقومك يا رسولنا لعلهم يثوبون إلى رشدهم ويعودون إلى الحق الذي تدعوهم إليه وهم معرضون.

هداية الآيات

من هداية الايات :

١ ـ من غريب أحوال الإنسان المشرك أنه في حال الشدة الحقيقية يدعو الله وحده ولا يدعو معه الآلهة الباطلة التي كان في حال الرخاء والعافية يدعوها.

__________________

(١) أي أرسلنا رسلا. فرسلا مضمر وهناك إضمار آخر تقديره : فكذّبوهم فأهلكناهم.

(٢) يتضرعون : يدعون الله ويتذلّلون له ، إذ التضرع مأخوذ من الرضاعة التي هي الذلة ، يقال : ضرع إليه فهو ضارع أي : متذلل.

(٣) أبواب كل شيء كان مغلقا عنهم وهو استدراج لهم وقد تطول مدّة الاستدراج والإمهال عشرين سنة فأكثر.

(٤) روى أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّه قال : «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج ، ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلما نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون».

(٥) قالوا : المبلس : هو الباهت الحزين الآيس من الخير لشدة ما نزل به من سوء الحال قال العجاج.

يا صاح هل تعرف رسما مكرسا

قال نعم أعرفه وأبلسا

المكرّس : الذي به الكرس وهو أبوال الإبل وأبعارها.

(٦) الدابر : الآخر يقال : دبر القوم يدبرهم دبرا إذا كان آخرهم. ومعناه أخذهم أجمعين إذ آخر من يؤخذ هو من كان خلف القوم وآخرهم.

٥٩

٢ ـ بيان سنة الله تعالى في إهلاك الأمم.

٣ ـ إذا رأيت الأمة قد فسقت عن أمر ربها ورسوله فعوقبت فلم تتعظ بالعقوبة واستمرت على فسقها وبسط الله تعالى لها في الرزق وأغدق عليها الخيرات فاعلم أنها قد استدرجت للهلاك وأنها هالكة لا محالة.

٤ ـ شؤم الظلم هلاك الظالمين.

٥ ـ الإرشاد إلى حمد الله تعالى عند نهاية كل عمل ، وعاقبة كل أمر.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (٤٦) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (٤٧) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٤٨) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٤٩))

شرح الكلمات :

(أَرَأَيْتُمْ) : أخبروني وفي هذه الصيغة نوع من التعجب.

أخذ سمعكم وأبصاركم : أي أصمكم وأعماكم.

(وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ) : جعلها لا تعى ولا تفهم.

(نُصَرِّفُ الْآياتِ) : ننوع الأساليب لزيادة البيان والإيضاح.

(يَصْدِفُونَ) : يعرضون.

(بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً) : بغتة : بدون إعلام ولا علامة سابقة ، والجهرة : ما كان بإعلام وعلامة تدل عليه.

(هَلْ يُهْلَكُ) : أي ما يهلك.

٦٠