إعراب القرآن - ج ٢

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ٢

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١١

يحيى ، قال : المعنى : واتّخذ موسى سبيل الحوت في البحر فعجب عجبا. قال أبو جعفر : وقد روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم تتبّع أثر الحوت وتنظّر إلى دورانه في الماء وتعجّب من تغيّبه فيه.

(قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) (٦٤)

(قالَ ذلِكَ) مبتدأ (ما كُنَّا نَبْغِ) خبره وحذفت الياء لأنه تمام الكلام فأشبه رؤوس الآيات (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) أي رجعا في الطريق الذي جاءا منه يقصّان الأثر قصصا.

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً) (٦٦)

(فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ) يكون نعتا ، ويكون مستأنفا. (وَعَلَّمْناهُ) معطوف عليه. (مِنْ لَدُنَّا) مبنية لأنها لا تتمكن (عِلْماً) مفعول ثان. وقرأ أهل المدينة وأهل الكوفة (رُشْداً) (١) وقرأ أبو عمرو (رشدا) (٢) وهما لغتان بمعنى واحد.

(وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً) (٦٨)

مصدر لأن معنى أحطت به وخبرته واحد ، ومثله : [الطويل]

٢٧٧ ـ فسرنا إلى الحسنى ورقّ كلامنا

ورضت فذلّت صعبة أيّ إذلال (٣)

لأن معنى رضت أذللت.

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٧٠)

(قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ) أي إن رأيت شيئا تنكره فلا تعجلنّ بسؤالي عنه حتّى أذكره لك.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) (٧١)

(قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها) وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما ليغرق أهلها (٤) والمعنى واحد. (لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً) قيل : إنما قال له موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذا لأنه لم يعلم أنه نبيّ وأنّ هذا بوحي. وقيل : لا يجوز أن يكون موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صحبه على أن يتعلم منه إلّا وهو نبيّ ؛ لأن الأنبياء صلوات الله عليهم لا يتعلمون إلّا من الملائكة أو النبيين صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١١٧.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ١٤٠ ، وتيسير الداني ١١٧.

(٣) مرّ الشاهد رقم (٧٨).

(٤) انظر تيسير الداني ١١٨.

٣٠١

قيل : لقد جئت شيئا إمرا ونكرا أي هو في الظاهر منكر حتّى نعلم الحكمة فيه. (شَيْئاً) منصوب على أنه مفعول به أي أتيت شيئا ، ويجوز أن يكون التقدير : جئت بشيء إمر ثم حذفت الباء فتعدّى الفعل فنصب.

(قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) (٧٣)

(قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ) في معناه قولان : أحدهما روي عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : هذا من معاريض الكلام والآخر أنه نسي فاعتذر ولم ينس في الثانية ولو نسي لاعتذر (وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً) مفعولان.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) (٧٤)

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ) قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو (١) وقرأ الكوفيون (زَكِيَّةً) فزعم أبو عمرو أن زاكية هاهنا أولى ؛ لأن الزاكية التي لا ذنب لها : وكان الذي قتله الخضر صلّى الله عليه طفلا ، وخالفه في هذا أكثر الناس فقال الكسائي والفراء (٢) : زاكية واحد ، وقال غيرهما : لو كان الأمر على ما قال لكان زكيّة أولى ؛ لأن فعيلا أبلغ من فاعل ، ولم يصحّ أنّ الذي قتله الخضر كان طفلا بل ظاهر القرآن يدلّ على أنه كان بالغا. يدلّ على ذلك «بغير نفس» فهذا يدلّ على أن قتله بنفسه جائز ، وهذا لا يكون لطفل ، ولا يقع القود إلا بعد البلوغ (نُكْراً) الأصل ومن قال «نكرا» حذفت الضمة لثقلها.

(قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) (٧٦)

(قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها) أي بعد هذه المسألة (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً) أي من قبلي قد عذرتك مدافعتي عن صحبتك ، وهذه قراءة (٣) أبي عمرو والأعمش وحمزة والكسائي ، وقرأ أهل المدينة (من لدني) (٤) بتخفيف النون. والقراءة الأولى أولى في العربية وأقيس لأن الأصل «لدن» بإسكان النون ثم تزيد عليها ياء لتضيفها إلى نفسك ثم تزيد نونا ليسلم سكون نون لدن ، كما نقول : عنّي ومنّي فكما لا تقول عني يجب ألّا تقول : لدني ، والحجّة في جوازه على ما حكي عن محمد بن يزيد أنّ النون حذفت كما قرأ أهل المدينة (فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) [الحجر : ٥٤] بكسر النون. وأحسن من هذا القول ما

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١١٨ ، والبحر المحيط ٦ / ١٤٢.

(٢) انظر معاني الفراء ٢ / ١٥٥.

(٣) و (٤) انظر البحر المحيط ٦ / ١٤٢ ، وتيسير الداني ١١٨.

٣٠٢

ذهب إليه أبو إسحاق قال : «لدن» اسم و «عن» حرف والحذف في الأسماء جائز كما قال : [الراجز]

٢٧٨ ـ قدني من نصر الخبيبين قدي (١)

فجاء باللغتين جميعا. قال : وأيضا فإن لدن أثقل من عن ومن.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) (٧٧)

وقرأ أبو رجاء العطاردي (٢) فأبوا أن يضيفوهما مخففا. يقال : أضفته وضيّفته أي أنزلته ضيفا وضفته أي مالت نزلت به. وهو مشتق من ضاف السّهم أي مال ، وضافت الشمس أي مالت للغروب. وهو مخفوض بالإضافة أي بالإضافة الاسم إليه. وروي عن أبي عمرو ومجاهد لتخذت (٣) يقال : تخذ يتخذ واتّخذ افتعل منه.

(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٧٨)

(قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ) تكرير «بين» عند سيبويه على التوكيد أي هذا فراق بيننا أي تواصلنا. قال سيبويه : ومثله أخزى الله الكاذب منّي ومنك أي منّا ، وأجاز الفراء قال : هذا فراق بيني وبينك ، على الظرف.

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً) (٧٩)

(أَمَّا السَّفِينَةُ) مبتدأ والخبر (فَكانَتْ لِمَساكِينَ) ولم ينصرف مساكين لأنه جمع لا نظير له في الواحد. (وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ) أكثر أهل التفسير يقول : وراء بمعنى أمام. قال أبو إسحاق : وهذا جائز لأن وراء مشتقّة من توارى ، فما توارى عنك فهو وراءك كان أمامك أم خلفك فيجب على قول أبي إسحاق أن يكون وراء ليس من ذوات الهمزة وأن

__________________

(١) الشاهد لحميد بن مالك الأرقط في خزانة الأدب ٥ / ٣٨٢ ، والدرر ١ / ٢٠٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٨٧ ، ولسان العرب (خبب) ، والمقاصد النحوية ١ / ٣٥٧ ، ولحميد بن ثور في لسان العرب (لحد) وليس في ديوانه ، ولأبي بحدلة في شرح المفصّل ٣ / ١٢٤ ، وبلا نسبة في الكتاب ٢ / ٣٩٣ ، والأشباه والنظائر ٤ / ٢٤١ ، وتخليص الشواهد ١٠٨ ، والجنى الداني ٢٥٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ٢٤٦ ، ورصف المباني ٣٦٢ ، وشرح ابن عقيل ٦٤ ، ومغني اللبيب ١ / ١٧٠ ، ونوادر أبي زيد ٢٠٥ ، وبعده :

«ليس الإمام بالشحيح الملحد»

(٢) وهذه قراءة ابن الزبير والحسن وأبي رزين وابن محيصن وعاصم أيضا ، انظر البحر المحيط ٦ / ١٤٣.

(٣) انظر تيسير الداني ١١٨ ، وهي قراءة ابن كثير أيضا.

٣٠٣

يقال في تصغيره : وريئة وزعم الفراء (١) أنه لا يقال لرجل أمامك : هو وراءك ، ولا لرجل خلفك : هو بين يديك ، وإنما يقال ذلك في المواقيت من الليل والنهار والدهر. يقال : بين يديك برد ، وإن كان لم يأتك ، ووراءك برد ، وإن كان بين يديك لأنه إذا لحقك صار وراءك.

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) (٨٠)

(وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ) ويجوز عند سيبويه في غير القرآن مؤمنان على أن نضمر في كان و (أبواه مؤمنان) ابتداء وخبر في موضع خبر كان ، وحكى سيبويه «كلّ مولود يولد على الفطرة حتّى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصّرانه» (٢) (فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً) أي تجاوزا فيما لا يجب. وعلم الله عزوجل هذا منه إن أبقاه فأمر بفعل الأصلح.

(فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) (٨١)

(خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً) أكثر أهل التفسير يقول : الزكاة الدين ، والرحم : المودة. قال أبو جعفر : وليس هذا بخارج من اللغة لأن الزكاة مشتقة من الزكاء وهو النماء والزيادة ، والرحم من الرّحمة كما قال : [الراجز]

٢٧٩ ـ يا منزل الرّحم على إدريس

ومنزل اللّعن على إبليس (٣)

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٨٢)

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مفعول من أجله ، ويجوز أن يكون مصدرا. (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ) نذكره في العشر الذي بعد هذا لأنه أولى به.

(فَأَتْبَعَ سَبَباً) (٨٥)

(فَأَتْبَعَ سَبَباً) (٤) أي من الأسباب التي أوتيها ، وهذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو. وقراءة الكوفيين (فأتبع) جعلوها ألف قطع ، وهذه القراءة اختيار أبي عبيد لأنها من

__________________

(١) انظر معاني الفراء ٢ / ١٥٧.

(٢) مرّ تخريج الحديث في حواشي تفسير الآية ٥٨ ـ سورة النحل.

(٣) الشاهد لرؤبة بن العجاج في اللسان (رحم).

(٤) انظر البحر المحيط ٦ / ١٥١.

٣٠٤

السير. وحكى هو والأصمعي أنه يقال : تبعه واتّبعه إذا سار ولم يلحقه وأتبعه إذا لحقته. قال أبو عبيد : ومثله (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) [الشعراء : ٦٠]. قال أبو جعفر : وهذا التفريق ، وإن كان الأصمعي قد حكاه ، لا يقبل إلّا بعلّة أو دليل ، وقوله عزوجل (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) ليس في الحديث أنه لحقوهم ، وإنما الحديث لمّا خرج موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من البحر وحصل فرعون وأصحابه انطبق عليهم البحر ، والحقّ في هذا أنّ تبع واتبع واتّبع لغات بمعنى واحد ، وهي بمعنى السير ، فقد يجوز أن يكون معه لحاق وأن لا يكون.

(حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) (٨٧)

(وَجَدَها تَغْرُبُ) في موضع الحال (فِي عَيْنٍ) والحمأة الطين المتغير اللون والرائحة. (وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) قال أبو جعفر : قد ذكرنا قول أبي إسحاق أنّ المعنى أنّ الله جلّ وعزّ خيّره بين هذين الحكمين وردّ عليّ بن سليمان عليه قوله جلّ وعزّ خيّره لم يصح أن ذا القرنين نبيّ فيخاطب بهذا ، وكيف يقول لربه جلّ وعزّ : (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) وكيف يقول : (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) فيخاطب بالنون. قال : والتقدير : قلنا يا محمد قالوا يا ذا القرنين. قال أبو جعفر : هذا الذي قاله أبو الحسن لا يلزم منه شيء أما (قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) فيجوز أن يكون الله جلّ وعزّ خاطبه على لسان نبي في وقته ، ويجوز أن يكون قال له هذا كما قال (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) [محمد : ٤] ، وأما إشكال (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) فإن تقديره أن الله جلّ وعزّ لما خيّره بين القتل في قوله (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ) وبين الاستبقاء في قوله جلّ وعزّ (وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً قالَ) لأولئك القوم. (أَمَّا مَنْ ظَلَمَ) أي أقام على الكفر منكم (فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ) أي بالقتل (ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ) أي يوم القيامة (فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً) أي شديدا.

(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً) (٨٨)

(وَأَمَّا مَنْ آمَنَ) أي تاب من الكفر. (وَعَمِلَ صالِحاً) قال أحمد بن يحيى : «أن» في موضع نصب في (إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً) قال ولو رفعه كان صوابا بمعنى فإمّا هو ، كما قال : [الطويل]

٢٨٠ ـ فسيرا فإمّا حاجة تقضيانها

وإمّا مقيل صالح وصديق (١)

(فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) (٢) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ سائر

__________________

(١) الشاهد بلا نسبة في تفسير الطبري ١٦ / ١٨٥ ، ومعاني الفراء ٢ / ١٥٨.

(٢) انظر البحر المحيط ٦ / ١٥٢ ، ومعاني الفراء ٢ / ١٥٩ ، وتيسير الداني ١١٨.

٣٠٥

الكوفيين (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) وقرأ ابن أبي إسحاق فله جزاء حسنى وعن ابن عباس ومسروق (فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى) منصوبا غير منون. قال أبو جعفر : القراءة الأولى فيها تقديران : أحدهما أن يكون «جزاء» رفعا بالابتداء أو بالاستقرار و «الحسنى» في موضع خفض بالإضافة ويحذف التنوين للإضافة ، والتقدير الآخر أن يحذف التنوين لالتقاء الساكنين ويكون «الحسنى» في موضع رفع على البدل عند البصريين والترجمة عند الكوفيين وعلى هذا الوجه القراءة الثانية إلا أنك لم تحذف التنوين ، وهو أجود. والقراءة الثالثة فيها ثلاثة أقوال : قال الفراء : جزاء منصوب على التمييز ، والقول الثاني أن يكون مصدرا ، وقال أبو إسحاق : هو مصدر في موضع الحال أي مجزيّا بها جزاء ، والقراءة الرابعة عند أبي حاتم على حذف التنوين وهي كالثانية وهذا عند غيره خطأ لأنه ليس موضع حذف تنوين لالتقاء الساكنين ، فيكون تقديره : فله الثواب جزاء الحسنى وعندها عند العين.

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً) (٩٠)

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) ويقال مطلع وهو القياس.

(كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً) (٩٢)

(كَذلِكَ) بمعنى الأمر كذلك ويجوز أن تكون الكاف في موضع نصب أي تطلع طلوعا كذلك. (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً). (حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) (١) قراءة أهل المدينة وعاصم ، وقرأ أهل مكة وأبو عمرو (بَيْنَ السَّدَّيْنِ) والذي بعده كذلك ، وقرأ الكوفيون إلّا عاصما بضمّ هذا وفتح الذي بعده ، وتكلّم الناس في السّدّ والسّدّ. فقال عكرمة : كلّ ما كان من صنع الله جل وعز فهو سدّ بالضم ، وما كان من صنعة بني آدم فهو سدّ بالفتح ، وقال أبو عمرو بن العلاء : السدّ بالفتح هو الحاجز بينك وبين الشيء ، والسدّ بالضم ما كان من غشاوة في العين ، وقال عبد الله بن أبي إسحاق : السدّ بالفتح ما لم يره عيناك ، والسدّ بالضّم ما رأته عيناك. قال أبو جعفر : هذه التفريقات لا تقبل إلا بحجّة ودليل ، ولا سيما وقد قال الكسائي : هما لغتان بمعنى واحد. ووقع هذا الاختلاف بلا دليل ولا حجّة. والحقّ في هذا ما حكي عن محمد بن يزيد قال : السدّ المصدر ، وهذا قول الخليل وسيبويه ، والسدّ الاسم. فإذا كان على هذا كانت القراءة بالضم أولى ؛ لأن المقصود الاسم لا المصدر. (وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) هذه قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ سائر الكوفيون (يَفْقَهُونَ قَوْلاً) (٢) بضم الياء ، وهو

__________________

(١) انظر تيسير الداني ١١٨.

(٢) انظر تيسير الداني ١١٨ ، والبحر المحيط ٦ / ١٥٤.

٣٠٦

على حذف المفعول أي لا يكادون يفقهون أحدا قولا ، والأول بغير حذف ، وعلى القراءتين يكون المعنى أنهم لا يفقهون ولا يفقهون.

(قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) (٩٤)

(قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ) بلغتهم أو بإيماء (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) (١) وقرأ عاصم والأعرج (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ) (٢) بالهمز جعلهما مشتقّين من أجيج النار عند الكسائي ، ويكونان عربيّين ولم يصرفا جعلا اسمين لقبيلتين. (فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم ، وقرأ سائر الكوفيين خراجا (٣) ومحمد بن يزيد يذهب إلى أن الخرج : المصدر ، والخراج : الاسم ، وأن معنى استخرجت الخراج أظهرته ، ويوم الخروج يوم الظهور (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا) قد ذكرناه(٤).

(قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) (٩٥)

(قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ) مبتدأ وخبره أي الّذي مكّنّي فيه ربّي من الأسباب التي أوتيتها خير من الخراج الذي تجعلونه لي ، وقرأ مجاهد وابن كثير قال ما مكّنني (٥) فلم يدغم لأن النون الأولى من الفعل والثانية ليست منه ، والإدغام حسن لاجتماع حرفين من جنس واحد (أَجْعَلْ) جزم لأنه جواب الأمر.

(آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (٩٦)

قال الفراء : (ساوى) وسوّى واحد. قال أبو إسحاق : الصّدفان والصّدفان ناحيتا الجبل. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو والكسائي (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (٦) بمعنى أعطوني قطرا أفرغ ، وقراءة الكوفيين «ايتوني» بمعنى جيئوني معينين. (آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) نصب في هذه القراءة بأفرغ.

(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً) (٩٧)

(فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) حكى أبو عبيد أن حمزة كان يدغم التاء في الطاء ويشدد

__________________

(١) و (٢) انظر تيسير الداني ١١٨.

(٣) انظر البحر المحيط ٦ / ١٥٤.

(٤) مرّ في إعراب الآية ٩٣ ـ الكهف.

(٥) انظر البحر المحيط ٦ / ١٥٥ ، وكتاب السبعة لابن مجاهد ٤٠٠.

(٦) انظر البحر المحيط ٦ / ١٥٥.

٣٠٧

الطاء. قال أبو جعفر : وهذا الذي حكاه أبو عبيد لا يقدر أحد أن ينطق به ؛ لأن السين ساكنة والطاء المدغمة ساكنة قال سيبويه (١) هذا محال ، إدغام التاء فيما بعدها ، ولا يجوز تحريك السين لأنها مبنية على السكون. وفيه أربع لغات حكاها سيبويه والأصمعي والأخفش يقال : استطاع يستطيع ، واسطاع يسطيع فيحذف التاء لأنها من مخرج الطاء ، ويقال : استاع يستيع فتحذف الطاء ، واللغة الرابعة أسطاع يسطيع بقطع وضم أول الفعل المستقبل ، وأصله عند سيبويه (٢) أطاع يطيع فجاؤوا بالسين عوضا من ذهاب حركة العين ، وحكى الكسائي : أنت تستطيع بكسر التاء الأولى.

(قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) (٩٨)

(قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي) أي هذا الفعل نعمة من الله عزوجل ، والرحمة من الله جلّ وعزّ هي النعمة والإحسان. (فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي) أي الوقت الذي وعد فيه أن يأجوج ومأجوج يخرجون (جَعَلَهُ دَكَّاءَ) بمعنى بقعة دكّاء وأرضا دكّاء.

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً) (٩٩)

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ) أي خلّيناهم ولم يمنعهم حتّى ماجوا مع الناس.

(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً) (١٠٠)

(وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ) أي أخرجناها.

(الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) (١٠١)

(الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ) في موضع خفض على النعت للكافرين (فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي) أي هم بمنزلة من عينه مغطّاة فلا ينظر إلى دلائل الله جلّ وعزّ ولا يسمع وعظه. (وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً) أي ذلك ثقيل عليهم.

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً) (١٠٢)

(أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ) أبو إسحاق يقدره بمعنى فحسبوا أن ينفعهم ذلك ، وقال غيره : في الكلام حذف ، والمعنى : أفحسب الذين كفروا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء ولا أعاقبهم.

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) (١٠٣)

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ) فخالف حمزة في هذا ، وقراءة حمزة أصوب وأولى في هذا ، وهذا

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٦٠٤.

(٢) انظر الكتاب ٤ / ٦١٣.

٣٠٨

قول سيبويه (١) ؛ لأنه يستبعد أن تدغم اللام في النون ، واعتلّ في ذلك بما يستجاد ويستحسن ، قال : لأنه لا تدغم في النون واللام فاستوحشوا من إدغامها فيها ، وذلك جائز على بعد عنده لقرب المخرجين. (بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) نصب على التمييز.

(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٠٤)

(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ) في موضع خفض على النعت للأخسرين ، ويجوز أن يكون في موضع رفع بمعنى هم ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أعني.

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (١٠٩)

(قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي) قيل المعنى لما يقدر أن يتكلّم به والله عزوجل أعلم بما أراد.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠)

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) أي لست أقدر على أن أكرهكم ولا أن أجبركم على ما أدعوكم إليه ، قال أبو إسحاق : يقال حال من المكان يحول حولا إذا تحوّل منه ومثله من المصادر عظم عظما وصغر صغرا. (فَلْيَعْمَلْ) والأصل فليعمل حذفت الكسرة لثقلها ولأن اللام قد اتصلت بالفاء (وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) روي عن ابن أبي طلحة عن ابن عباس : هذا في المشركين خاصة. قال أبو جعفر : والتقدير على هذا القول : ولا يشرك بالله جلّ وعزّ أحدا فيعبده معه.

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ٥٩٠.

٣٠٩
٣١٠

فهرس المحتويات

شرح إعراب سورة الأنعام.......................................................... ٣

شرح إعراب سورة الأعراف...................................................... ٤٤

شرح إعراب سورة الأنفال........................................................ ٨٩

شرح إعراب سورة براءة........................................................ ١٠٨

شرح إعراب سورة يونس عليه‌السلام.................................................. ١٣٩

شرح إعراب سورة هود عليه‌السلام................................................... ١٦٠

شرح إعراب سورة يوسف عليه‌السلام................................................. ١٨٩

شرح إعراب سورة الرعد........................................................ ٢١٨

شرح إعراب سورة إبراهيم عليه‌السلام................................................. ٢٢٧

شرح إعراب سورة الحجر....................................................... ٢٣٦

شرح إعراب سورة النحل....................................................... ٢٤٧

شرح إعراب سورة الإسراء...................................................... ٢٦٤

شرح إعراب سورة الكهف..................................................... ٢٨٨

٣١١