إعراب القرآن - ج ١

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]

إعراب القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر أحمد بن محمّد بن إسماعيل النحّاس [ ابن النحّاس ]


المحقق: عبدالمنعم خليل إبراهيم
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ٢
ISBN: 2-7451-3023-4
الصفحات: ٢٩٣

تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (١٩٧)

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) ابتداء وخبر ، والتقدير أشهر الحجّ أشهر معلومات ، ويجوز «الحجّ أشهرا» على الظرف أي في أشهر وزعم الفراء (١) أنه لا يجوز النصب وعلّته أنّ أشهرا نكرة غير محصورات ، وليس هذا سبيل الظروف ، وكذا عنده : المسلمون جانب والكفار جانب فإن قلت جانب أرضهم وجانب بلادهم كان النصب هو الوجه. (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ) «من» في موضع رفع بالابتداء وهي شرط ، وخبر الابتداء محمول على المعنى أي فلا يكن فيه رفث (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) (٢) على التبرية وقرأ يزيد بن القعقاع (فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) جعل «لا» بمعنى «ليس» ، وإن شئت رفعت بالابتداء ، وقال أبو عمرو : المعنى فلا يكن فيه رفث إلّا أنه نصب. (وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ) وقطعه من الأول لأنّ معناه عنده أنه قد زال الشك في أنّ الحجّ في ذي الحجة ، ويجوز «فلا رفث ولا فسوق» يعطفه على الموضع وأنشد النحويون : [السريع]

٤٠ ـ لا نسب اليوم ولا خلّة

اتّسع الخرق على الرّاقع (٣)

ويجوز في الكلام : فلا رفث ولا فسوقا ولا جدالا في الحج عطفا على اللفظ على ما كان يجب في «لا» قال الفراء : ومثله : [الطويل]

٤١ ـ فلا أب وابنا مثل مروان وابنه

إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا (٤)

(وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) شرط وجوابه. (وَتَزَوَّدُوا) أمر وهو إباحة. (وَاتَّقُونِ) أمر فلذلك حذفت منه النون. (يا أُولِي الْأَلْبابِ) نداء مضاف وواحد الألباب لبّ ،

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ١١٩ ، والبحر المحيط ٢ / ٩٣.

(٢) انظر معاني الفراء ١ : ١٢٠ ، وهي أيضا قراءة مجاهد.

(٣) الشاهد لأنس بن العباس بن مرداس في تخليص الشواهد ص ٤٠٥ ، والدرر ٦ / ١٧٥ ، وشرح التصريح ١ / ٢٤١ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٠١ ، ولسان العرب (قمر) و (عتق) ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣٥١ ، وله أو لسلامان بن قضاعة في شرح أبيات سيبويه ١ / ٥٨٣ ، ولأبي عامر جدّ العباس بن مرداس في ذيل سمط اللآلي ص ٣٧ ، وبلا نسبة في أمالي بن الحاجب ١ / ٤٢١ ، وأوضح المسالك ٢ / ٢٠ ، وشرح الأشموني ١ / ١٥١ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٧٥ ، وشرح شذور الذهب ص ١١٢ ، وشرح ابن عقيل ص ٢٠٢ ، وشرح المفصّل ٢ / ١٠١ ، و ٩ / ١٣٨ ، واللّمع في العربية ص ١٢٨ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٢٦ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٤٤.

(٤) الشاهد لرجل من عبد مناة بن كنانة في تخليص الشواهد ص ٤١٣ ، وخزانة الأدب ٤ / ٦٧ ، وشرح التصريح ١ / ٢٤٣ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٠٧ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣٥٥ ، وله أو للفرزدق في الدرر ٦ / ١٧٢ ، وبلا نسبة في أمالي ابن الحاجب ١ / ٤١٩ ، ٢ / ٥٩٣ ، وأوضح المسالك ٢ / ٢٢ ، وجواهر الأدب ص ٢٤١ ، وشرح الأشموني ١ / ١٥٣ ، وشرح قطر الندى ص ١٦٨ ، وشرح المفصّل ٢ / ١٠١ ، والكتاب ٢ / ٢٩٤ ، واللامات ص ١٠٥ ، واللمع ص ١٣٠ ، والمقتضب ٤ / ٣٧٢ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٤٣.

١٠١

ولبّ كلّ شيء : خالصه ، فلذلك قيل للعقل لبّ. قال أبو جعفر : سمعت أبا إسحاق يقول : قال لي أحمد بن يحيى أتعرف في كلام العرب من المضاعف شيئا جاء على فعل؟ فقلت : نعم حكى سيبويه (١) عن يونس : لببت تلب فاستحسنه وقال : ما أعرف له نظيرا.

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (١٩٨)

(لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) اسم ليس. (أَنْ تَبْتَغُوا) في موضع نصب أي في أن تبتغوا ، وعلى قول الكسائي والخليل إنها في موضع خفض. (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) بالتنوين وكذا لو سمّيت امرأة بمسلمات لأن التنوين ليس فرقا بين ما ينصرف وما لا ينصرف فتحذفه وإنما هو بمنزلة النون في مسلمين هذا الجيد ، وحكى سيبويه (٢) عن العرب حذف التنوين (من عرفات يا هذا) ، ورأيت عرفات يا هذا. بكسر التاء بغير تنوين. قال : لما جعلوها معرفة حذفوا التنوين ، وحكى الأخفش : والكوفيون فتح التاء. قال الأخفش : تجرى مجرى الهاء فيقال : من عرفات يا هذا. وأنشدوا : [الطويل]

٤٢ ـ تنوّرتها من أذرعات وأهلها

بيثرب أدنى دارها نظر عالي (٣)

(فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) ومشعر مفعل من شعرت به أي علمت به أي معلم من متعبّدات الله جلّ وعزّ وكان يجب أن يكون على مفعل بناء على يشعر إلّا أنه ليس في كلام العرب اسم على مفعل. (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) الكاف في موضع نصب أي ذكرا مثل هدايته إيّاكم أي جزاء على هدايته إياكم. (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) لام توكيد إلّا أنّها لازمة لئلّا تكون إن بمعنى ما.

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (٢٠٠)

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) بالإظهار لأن الثاني بمنزلة المنفصل ويجوز (مناسكّم)

__________________

(١) انظر الكتاب ٤ / ١٤٦.

(٢) انظر الكتاب ٣ / ٢٥٦.

(٣) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ٣١ ، وخزانة الأدب ١ / ٥٦ ، والدرر ١ / ٨٢ ، ورصف المباني ٣٤٥ ، وسرّ صناعة الإعراب ص ٤٩٧ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢١٩ ، وشرح ١ / ٨٣ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ١٣٥٩ ، وشرح المفصّل ١ / ٤٧ ، والكتاب ٣ / ٢٥٥ ، والمقاصد النحوية ١ / ١٩٦ ، والمقتضب ٣ / ٣٣٣ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ١ / ٦٩ ، وشرح الأشموني ١ / ٤١ ، وشرح ابن عقيل ص ٤٤ وشرح المفصّل ٩ / ٣٤.

١٠٢

بالإدغام (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) [النساء : ٧٨ فلا يكون إلّا مدغما. (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) الكاف في موضع نصب أي ذكرا كذكركم ، ويجوز أن يكون في موضع الحال. (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) «أشدّ» في موضع خفض عطفا على ذكركم ، والمعنى أو (كأشدّ ذكرا. ولم ينصرف لأنه أفعل صفة ، ويجوز أن يكون في موضع نصب بمعنى أو اذكروه أشدّ ذكرا) ، (ذِكْراً) على البيان. (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ) في موضع رفع بالابتداء وإن شئت بالصفة. (يَقُولُ رَبَّنا آتِنا) صلة من (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) من زائدة للتوكيد.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (٢٠١)

والأصل في (قِنا) أوقنا حذفت الواو كما حذفت في يقي وحذفت من يقي لأنها بين ياء وكسرة مثل يعد. هذا قول البصريين ، وقال الكوفيون (١) : حذفت فرقا بين اللازم والمتعدّي ، وقال محمد بن يزيد : هذا خطأ لأن العرب تقول : ورم يرم فيحذفون الواو.

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (٢٠٣)

(وَاذْكُرُوا اللهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) قال الكوفيون : الألف والتاء لأقل العدد ، وقال البصريون : هما للقليل والكثير. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا المعدودات والمعلومات وقول العلماء فيهما. ونشرح ذلك ها هنا. أصحّ ما قيل في المعدودات : أنها ثلاثة أيام : بعد يوم النحر ، وقيل المعدودات والمعلومات واحد ، وهذا غلط لقوله جل وعز : «فمن تعجّل في يومين» ، والتقدير في العربية فمن تعجل في يومين منها ، والمعنى في أيام معدودات لذكر الله تعالى. وأصحّ ما قيل (فيه) في المعلومات قول ابن عمر رحمه‌الله وهو مذهب أهل المدينة : إنها يوم النحر ويومان بعده لأن الله عزوجل قال : (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) [الحج: ٢٨] فلا يجوز أن يكون هذا إلّا الأيام التي ينحر فيها ولا يخلو يوم النحر من أن يكون أولها أو أوسطها أو آخرها فلو كان آخرها أو أوسطها لكان النحر قبله ، وهذا محال فوجب أن يكون أولها. (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) «من» رفع بالابتداء والخبر : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ويجوز في غير القرآن فلا إثم عليهم لأن معنى «من» جماعة كما قال عزوجل (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢]

__________________

(١) انظر الإنصاف مسألة ١١٢.

١٠٣

وكذا (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى) يقال : بأيّ شيء اللام متعلقة؟ فالجواب وفيه أجوبة يكون التقدير المغفرة لمن اتقى وهذا على تفسير ابن مسعود ، وقال الأخفش : التقدير ذلك لمن اتّقى ، وقيل ؛ التقدير السلامة لمن اتقى ، وقيل ، واذكروا يدلّ على الذكر فالمعنى الذكر لمن اتّقى.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) (٢٠٤)

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قيل «من» هاهنا مخصوص ، وقال الحسن : الكاذب ، وقيل : الظالم وقيل : المنافق وقرأ ابن محيصن (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) (١) بفتح الياء والهاء. (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) الفعل مثل منه لددت تلدّ وعلى قول أبي إسحاق (٢) : خصام جمع خصم وقال غيره : وهو مصدر خاصم.

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) (٢٠٥)

(وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها) منصوب بلام كي. (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ) عطف عليه ، وفي قراءة أبيّ. وليهلك الحرث وقرأ الحسن وقتادة ويهلك (٣) بالرفع وفي رفعه أقوال : يكون معطوفا على يعجبك ، وقال أبو حاتم : هو معطوف على سعى لأن معناه يسعى ويهلك ، وقال أبو إسحاق : التقدير هو يهلك أي يقدر هذا ، وروي عن ابن كثير أنه قرأ ويهلك الحرث والنسل (٤) بفتح الياء وضم الكاف والحرث والنسل مرفوعان بيهلك.

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٢٠٧)

(ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) مفعول من أجله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (٢٠٨)

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) في الكسائي : السّلم والسّلم واحد ، وكذا هو عند أكثر البصريين إلّا أن أبا عمرو فرّق بينهما وقرأ هاهنا (ادخلوا في السّلم) (٥)

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٢ / ١٢٢ ، وهي قراءة أبي حيوة أيضا.

(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٢٣٩.

(٣) انظر البحر المحيط ٢ / ١٢٣.

(٤) انظر البحر المحيط ٢ / ١٢٣.

(٥) انظر التيسير ٦٨.

١٠٤

وقال : هو في الإسلام وقرأ التي في «الأنفال» (١) والتي في «سورة محمد»(٢)صلى‌الله‌عليه‌وسلم «السّلم» بفتح السين ، وقال : هي بالفتح المسالمة وقال عاصم الجحدري : «السّلم» الإسلام و «السّلم» الصّلح والسّلم الاستسلام ومحمد بن يزيد ينكر هذه التفريقات وهي تكثر عن أبي عمرو واللّغة لا تأخذ هكذا وإنما تأخذ بالسماع لا بالقياس ويحتاج من فرق إلى دليل ، وقد حكى البصريون : بنو فلان سلم وسلم بمعنى واحد ولو صح التفريق لكان المعنى واحدا لأنه إذا دخل في الإسلام فقد دخل في المسالمة. والصّلح والسّلم مؤنثة وقد تذكّر. (كَافَّةً) نصب على الحال وهو مشتق من قولهم : كففت أي منعت أي لا يمتنع منكم أحد ومنه قيل : مكفوف وكفّة الميزان وقيل : كفّ لأنه يمتنع بها. (وَلا تَتَّبِعُوا) نهي. (خُطُواتِ الشَّيْطانِ) مفعول وقد ذكرناه.

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٠٩)

(فَإِنْ زَلَلْتُمْ) المصدر زلا وزللا ومزلّة وزلّ في الطين زليلا.

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) (٢١٠)

وقرأ قتادة وأبو جعفر يزيد بن القعقاع في ظلال من الغمام وقرأ أبو جعفر (وَالْمَلائِكَةُ) (٣) بالخفض وظلل جمع ظلّة في التكسير ، وفي التسليم ظللات ، وأنشد سيبويه : [الطويل]

٤٣ ـ إذا الوحش ضمّ الوحش في ظللاتها

سواقط من حرّ وقد كان أظهرا (٤)

ويجوز ظللات وظلّات ، وظلّال جمع ظلّ في الكثير ، والقليل أظلال ، ويجوز أن يكون ظلال جمع ظلّة وقيل : بل القليل أظلال ، والكثير ظلال ، وقيل : ظلال جمع ظلّة مثله قلّة وقلال كما قال : [الخفيف]

٤٤ ـ ممزوجة بماءه القلال (٥)

قال الأخفش سعيد : (وَالْمَلائِكَةُ) بالخفض بمعنى وفي الملائكة قال : والرفع أجود كما قال (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) [الأنعام : ١٥٨](وَجاءَ رَبُّكَ

__________________

(١) يشير إلى الآية ٦١ : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ).

(٢) يشير إلى الآية ٣٥ : (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ).

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ١٢٤ ، والبحر المحيط ٢ / ١٢٥.

(٤) الشاهد للنابغة الجعدي في ديوانه ٧٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٤٨٤ ، والكتاب ١ / ١٠٦ ، ولسان العرب (سقط).

(٥) الشاهد للأعشى في ديوانه ص ٥٥ ، ولسان العرب (أسفط) و (سفط) و (عتق) ، وتاج العروس (سنفط) و (عتق) ، والمخصّص ١٧ / ١٩ وروايته : وكأن الخمر العتيق من الإرفنط ممزوجة بماء زلال.

١٠٥

وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر : ٢٢] قال الفراء (١) : وفي قراءة عبد الله هل ينظرون إلّا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام قال أبو إسحاق : التقدير في ظلل من الغمام ومن الملائكة.

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢١١)

(سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) بتخفيف الهمزة فلما تحركت السين لم تحتج إلى ألف الوصل. (كَمْ) في موضع نصب لأنها مفعول ثان لآتيناهم ، ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار عائد ولم يعرب وهي اسم لأنها بمنزلة الحروف لما وقع فيها معنى الاستفهام. قال سيبويه : فبعدت من المضارعة بعد «كم» و «إذ» من المتمكنة. (مِنْ آيَةٍ) إذا فرقت بين كم وبي الاسم كان الاختيار أن تأتي بمن فإن حذفتها نصبت في الاستفهام والخبر ، ويجوز الخفض في الخبر كما قال : [الرمل]

٤٥ ـ كم بجود مقرف نال العلى

وكريم بخله قد وضعه (٢)

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٢١٢)

(زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) اسم ما لم يسمّ فاعله ، وقرأ مجاهد وحميد بن قيس(٣) (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا) (٤) وهي قراءة شاذّة لأنه لم يتقدّم للفاعل ذكر. (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) ابتداء. (فَوْقَهُمْ) ظرف في موضع الخبر.

(كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢١٣)

(كانَ النَّاسُ) اسم كان. (أُمَّةً) خبرها. (واحِدَةً) نعت ، قال أبو جعفر : قد ذكرنا

__________________

(١) انظر معاني القرآن للفراء ١ / ١٢٤.

(٢) الشاهد لأنس بن زنيم في ديوانه ص ١١٣ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٧١ ، والدرر ٤ / ٤٩ ، وشرح شواهد الشافية ص ٥٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٩٣ ، ولعبد الله بن كريز في الحماسة البصرية ٢ / ١٠ ، وبلا نسبة في الإنصاف ١ / ٣٠٣ ، والدرر ٦ / ٢٠٤ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٠ ، وشرح الأشموني ٣ / ٦٣٥ ، وشرح عمدة الحفاظ ص ٥٣٤ ، وشرح المفصل ٤ : ١٣٢ ، والكتاب ٢ / ١٦٨ ، والمقتضب ٣ / ٦١ ، والمقرّب ١ / ٣١٣ ، وهمع الهوامع ١ / ٢٥٥.

(٣) حميد بن قيس المكي الأعرج القارئ ، ثقة ، أخذ عرضا عن مجاهد (ت ٢٢٤ ه‍) ترجمته في غاية النهاية ١ / ٢٦٥.

(٤) انظر معاني القرآن للفراء ١ / ١٣١ ، والبحر المحيط ٢ / ١٣٨ وهي قراءة أبي حيوة أيضا.

١٠٦

قول أهل التفسير في المعنى ، والتقدير في العربية : كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين ودلّ على هذا الحذف (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) أي كان الناس على دين الحق فاختلفوا. (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) أي «مبشّرين» من أطاع و «منذرين» من عصى وهما نصب على الحال. (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) الكتاب بمعنى الكتب. (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ) نصب بإضمار أن وهو مجاز مثل (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) [الجاثية : ٢٩] ، وقرأ عاصم الجحدري (لِيَحْكُمَ) شاذة لأنه قد تقدّم ذكر الكتاب. (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) موضع الذين رفع بفعلهم والذين اختلفوا فيه هم المخاطبون. (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ) قال أبو جعفر : قد ذكرنا قول أهل التفسير فيه وربما أعدنا الشيء مما تقدّم لنزيده شرحا أو لنختار منه قولا. فمن أحسن ما قيل فيه : إن المعنى فهدى الله الذين آمنوا بأن بيّن لهم الحقّ مما اختلفت فيه من كان قبلهم ، فأمّا الحديث «في يوم الجمعة فهم لنا تبع» (١) فمعناه فعليهم أن يتّبعونا لأن هذه الشريعة ناسخة لشرائعهم. قال أبو إسحاق (٢) : معنى بإذنه بعلمه. قال أبو جعفر: وهذا غلط وإنما ذلك الإذن والمعنى والله أعلم بأمره وإذا أذنت في الشيء فكأنك قد أمرت به أي فهدى الله الذين آمنوا بأن أمرهم بما يجب ن يستعملوه.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢١٤)

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْ) تقوم مقام المفعولين : (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) حذفت الياء للجزم (وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) (٣) هذه قراءة أهل الحرمين ، وقرأ أهل الكوفة والحسن وابن أبي إسحاق وأبو عمرو (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) بالنصب وهو اختيار أبي عبيد وله في ذلك حجّتان : إحداهما عن أبي عمرو : قال : «زلزلوا» فعل ماض و «يقول» فعل مستقبل فلما اختلفا كان الوجه النصب ، والحجة الأخرى حكاها عن الكسائي ، قال: إذا تطاول الفعل الماضي صار بمنزلة المستقبل. قال أبو جعفر : أما الحجّة الأولى بأنّ «زلزلوا» ماض و «يقول» مستقبل فشيء ليس فيه علّة الرفع ولا النصب لأن حتّى ليست من حروف العطف في الأفعال ولا هي البتّة من عوامل الأفعال ؛ وكذا قال الخليل وسيبويه(٤): في نصبهم ما بعدها على إضمار «أن» إنما حذفوا أن لأنهم قد علموا أن حتى من عوامل الأسماء هذا معنى قولهما ، وكأن هذه الحجة غلط وإنما تتكلم بها في

__________________

(١) أخرجه الطبري في تفسيره ٢ / ٣٣٨.

(٢) انظر إعراب القرآن ومعانيه للزجاج ٢٤٧ ، والبحر المحيط ٢ / ١٤٧.

(٣) انظر التيسير ٦٨.

(٤) انظر الكتاب ٣ / ١٦ ، والإنصاف مسألة ٨٣.

١٠٧

باب الفاء. وحجة الكسائي : بأن الفعل إذا تطاول صار بمنزلة المستقبل كلا حجّة ، لأنه لم يذكر العلّة في النصب ولو كان الأول مستقبلا لكان السؤال بحاله. ومذهب سيبويه (١) في «حتّى» أن النصب فيما بعدها من جهتين ، والرفع من جهتين : تقول : سرت حتّى أدخلها على أن السير والدخول جميعا قد مضيا أي سرت إلى أن أدخلها. وهذا غاية وعليه قراءة من قرأ بالنصب ، والوجه الآخر في النصب في غير الآية سرت حتى أدخلها أي كي أدخلها ، والوجهان في الرفع سرت حتّى أدخلهما أي سرت فأدخلها وقد مضيا جميعا أي كنت سرت فدخلت ولا تعمل حتّى ها هنا بإضمار أن لأن بعدها جملة كما قال الفرزدق : [الطويل]

٤٦ ـ فيا عجبا حتّى كليب تسبّني

كأنّ أباها نهشل أو مجاشع (٢)

فعلى هذه القراءة بالرفع وهي أبين وأصحّ معنى أي وزلزلوا حتى الرسول يقول أي حتى هذه حاله ، لأن القول إنما كان عن الزلزلة غير منقطع منها والنصب على الغاية ليس فيه هذا المعنى ، والوجه الآخر في الرفع في غير الآية سرت حتى أدخلها على أن يكون السير قد مضى والدخول الآن ، وحكى سيبويه مرض حتّى ما يرجونه ومثله : سرت حتّى أدخلها لا أمنع. (مَتى نَصْرُ اللهِ) رفع بالابتداء على قول سيبويه وعلى قول أبي العباس رفع بفعله أي متى يقع نصر الله. (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) اسم إنّ وخبرها ويجوز في غير القرآن إن نصر الله قريبا أي مكانا قريبا والقريب لا تثنّيه العرب ولا تجمعه ولا تؤنّثه في هذا المعنى قال عزوجل (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف : ٥٦] وقال الشاعر : [الطويل]

٤٧ ـ له الويل إن أمسى ولا أمّ هاشم

قريب ولا بسباسة ابنة يشكرا (٣)

فإن قلت : فلان قريب ، ثنّيت وجمعت فقلت : قريبون وأقرباء أو قرباء.

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٢١٥)

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ) وإن خفّفت الهمزة ألقيت حركتها على السين ففتحتها وحذفت الهمزة فقلت : يسلونك. (ما ذا يُنْفِقُونَ) «ما» في موضع رفع بالابتداء و «ذا»

__________________

(١) انظر الكتاب ٣ / ١٦.

(٢) الشاهد للفرزدق في ديوانه ٤١٩ ، وخزانة الأدب ٥ / ٤١٤ ، والدرر ٤ / ١١٢ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٢ ، وشرح المفصّل ٨ : ١٨ ومغني اللبيب ١ / ١٢٩ ، وبلا نسبة في رصف المباني ص ١٨١ ، وشرح المفصل ٨ / ٦٢ ، والمقتضب ٢ / ٤١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٢٤.

(٣) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ٦٨ ، ولسان العرب (قرب) ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٥ / ٢٣٢.

١٠٨

الخبر وهو بمعنى الذي وحذفت الياء لطول الاسم أي ما الذي ينفقونه وإن شئت كانت «ما» في موضع نصب بينفقون و «ذا» مع «ما» بمنزلة شيء واحد. (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) «ما» في موضع نصب بأنفقتم وكذا وما تنفقوا وهو شرط والجواب : (فَلِلْوالِدَيْنِ) وكذا (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢١٦)

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) اسم ما لم يسمّ فاعله. (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) ابتداء وخبر.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٢١٧)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) وفي قراءة عبد الله عن قتال فيه وقراءة عكرمة (١) عن الشهر الحرام قتل فيه بغير ألف وكذا : قل قتل فيه كبير. وقرأ الأعرج ويسئلونك بالواو. (عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) قال أبو جعفر : الخفض عند البصريين على بدل الاشتمال ، وقال الكسائي (٢) : هو مخفوض على التكرير أي عن قتال فيه ، وقال الفراء (٣) : هو مخفوض على نيّة «عن» ، وقال أبو عبيدة (٤) : هو مخفوض على الجوار. قال أبو جعفر : لا يجوز أن يعرب شيء على الجوار في كتاب الله عزوجل ولا في شيء من الكلام وإنما الجوار غلط وإنما وقع في شيء شاذّ وهو قولهم ، هذا جحر ضبّ خرب. والدليل على أنه غلط قول العرب في التثنية : هذان جحرا ضبّ خربان ، وإنما هذا بمنزلة الإقواء ولا يحمل شيء من كتاب الله عزوجل على هذا ، ولا يكون إلّا بأفصح اللّغات وأصحّها ، ولا يجوز إضمار «عن» ، والقول فيه أنه بدل ، وأنشد سيبويه : [الطويل]

٤٨ ـ فما كان قيس هلكه هلك واحد

ولكنّه بنيان قوم تهدّما (٥)

__________________

(١) عكرمة مولى ابن عباس. وردت عنه الرواية في حروف القرآن ، روى عن مولاه وابن عمر. عرض عليه عمرو بن العلاء (ت ١٠٥ ه‍) ، ترجمته في غاية النهاية ١ / ٥١٥.

(٢) انظر البحر المحيط ٢ / ١٥٤.

(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١ / ١٤١ ، والبحر المحيط : ٢ / ١٥٤.

(٤) انظر مجاز القرآن ١ / ٧٢.

(٥) الشاهد لعبدة بن الطبيب في ديوانه ٨٨ ، والأغاني ١٤ / ٧٨ ، ٢١ / ٢٩ ، وخزانة الأدب ٥ / ٢٠٤ ، وديوان ـ

١٠٩

فأمّا قتال فيه بالرفع فغامض في العربية. والمعنى فيه يسألونك عن الشهر الحرام أجائز قتال فيه فقوله : «يسألونك» يدلّ على الاستفهام كما قال : [الطويل]

٤٩ ـ أصاح ترى برقا أريك وميضه

كلمع اليدين في حبي مكلّل (١)

فالمعنى أترى برقا فحذف ألف الاستفهام لأن الألف التي في أصاح بدل منها وتدلّ عليها وإن كانت حرف النداء وكما قال (٢) : [المتقارب]

٥٠ ـ تروح من الحيّ أم تبتكر

والمعنى : أتروح فحذف الألف لأن أم تدلّ عليها. (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ابتداء وخبر. (وَصَدٌّ) ابتداء. (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) خفض بعن. (وَكُفْرٌ بِهِ) عطف على صدّ. (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عطف على سبيل الله. (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) عطف على صدّ وخبر الابتداء. أكرم عند الله و (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) ابتداء وخبر أي أعظم إثما من القتال في الشهر الحرام ، وقيل : في المسجد الحرام عطف على الشهر أي ويسألونك عن المسجد فقال تعالى وإخراج أهله منه أكبر عند الله وهذا لا وجه له لأن القوم لم يكونوا في شكّ من عظيم ما أتى المشركون إلى المسلمين في إخراجهم من منازلهم بمكة فيحتاجوا إلى المسألة عنه هل كان ذلك لهم ، ومع ذلك فإنه قول خارج عن قول العلماء لأنهم أجمعوا أنها نزلت في سبب قتل ابن الحضرمي (٣).

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢١٨)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) اسم إن. (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) عطف عليه : (أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ) ابتداء وخبر في موضع خبر إنّ.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (٢١٩)

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) هذه قراءة أهل الحرمين وأبي

__________________

ـ المعاني ٢ / ١٧٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٧٩٢ ، وشرح المفصل ٣ / ٦٥ ، والشعر والشعراء ٢ / ٧٣٢ ، والكتاب ١ / ٢٠٨ ، ولمرداس بن عبدة في الأغاني ١٤ / ٨٦.

(١) الشاهد للأسود بن يعفر في ديوانه ص ٥٧ ، وشرح المفصّل ١ / ٤٦ ، ولسان العرب (خلد) ، و (حجا) ، ونوادر أبي زيد ص ١٦٠ ، ولامرئ القيس في ديوانه ص ٢٤ ، ولسان العرب (كلل) ، وبلا نسبة في الاشتقاق ص ٢٤٤ ، وإصلاح المنطق ص ٤٠٣ ، وأمالي ابن الحاجب ص ٣٢٨ ، وجمهرة اللغة ص ٤٤٢ ، ٦٥٧ ، ١٠٣٧.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٧).

(٣) ابن الحضرميّ : هو عمرو بن الحضرمي وهو أول قتيل من المشركين (البحر المحيط ٢ / ١٥٥).

١١٠

عمرو بن العلاء ، وقرأ الكوفيون كثير (١) وإجماعهم على (حُوباً كَبِيراً) [النساء : ٢] يدلّ على أن كبيرا أولى أيضا فكما يقال : إثم صغير كذا يقال : كبير ولو جاز كثير لقيل : إثم قليل وأجمع المسلمون على قولهم : كبائر وصغائر. (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) هكذا قرأ أهل الحرمين وأهل الكوفة ، وقرأ أبو عمرو وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق (قُلِ الْعَفْوَ) بالرفع. قال أبو جعفر : إن جعلت «ذا» بمعنى الذي كان الاختيار الرفع وجاز النصب ، وإن جعلت ما وذا شيئا واحدا كان الاختيار النصب وجاز الرفع ، وحكى النحويون : ماذا تعلّمت أنحوا أم شعرا؟ بالنصب والرفع على أنهما جيدان حسنان إلا أن التفسير في الآية يدلّ على النصب. قال ابن عباس : الفضل ، وقال : العفو ما يفضل عن أهلك فمعنى هذا ينفقون العفو ، وقال الحسن : المعنى قل أنفقوا العفو ، وقال أبو جعفر : وقد بيّنا (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) في الدّنيا والآخرة.

(فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٢٠)

(قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) ابتداء وخبر. (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) شرط وجوابه، والتقدير : فهم إخوانكم ، ويجوز في غير القرآن فإخوانكم ، والتقدير : فتخالطون إخوانكم.

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٢١)

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) يقال : نكح ينكح إذا وطئ هذا الأصل ثم استعمل ذلك لمن تزوّج ويجوز ولا تنكحوا أي لا تزوّجوا بضم التاء ولا تنكحوا المشركين أي ولا تزوّجوهم ، وكل من كفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فهو مشرك يدلّ على ذلك القرآن ، وسنذكره إن شاء الله في موضعه. (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ) ابتداء وخبر وكذا (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) وكذا (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) وكذا (وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) في قراءة الحسن (٢) ، وفي قراءة أبي العالية (٣) (وَالْمَغْفِرَةِ) (٤) عطفا على الجنة.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٢ / ١٦١ (وهي قراءة حمزة والكسائي).

(٢) انظر البحر المحيط ٢ / ١٧٦.

(٣) أبو العالية : رفيع بن مهران الرياحي ، تابعي ، عرض على أبيّ وابن عباس وعمر (ت ٩٠ ه‍). ترجمته في غاية النهاية ١ / ٢٨٤.

(٤) انظر البحر المحيط ٢ / ١٧٦.

١١١

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ(٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) (٢٢٣)

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) محيض مصدر ومثله جاء مجيئا وقال مقيلا. (قُلْ هُوَ أَذىً) ابتداء وخبر ، وأذى من ذوات الياء. يقال : أذيت به أذى وأذاني وهما آذياني. (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) لم تحذف النون للنصب لأنها علامة التأنيث وقد ذكرناه. (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) «حيث» في العربية للموضع فتأوّل قوم هذا على ما يجب في العربية أنه موضع بعينه وهو الفرج ، وقال قوم : قد بيّن ذلك الموضع بقوله : (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) فإنّى شئتم وهو الذي أمر به. وأما قول مجاهد من حيث نهوا عنه في محيضهنّ فيدلّ على أنه جعل الأمر والنهي شيئا واحدا ، وهذا مردود. «أنّى» ظرف وحقيقته : من أين شئتم ، وقيل : كيف شئتم (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ) أي الطاعة ثم حذف المفعول. (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) حذفت النون للإضافة لأنه بمعنى المستقبل. وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار قال : سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن ابن عباس قال سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يخطب يقول : «إنّكم ملاقو الله حفاة عراة مشاة غرلا» (١) ثم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ).

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٢٢٤)

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ) نهي قال ابن عباس (٢) : يحلف أن لا يصل ذا قرابته. (أَنْ تَبَرُّوا) في موضع نصب ، وإن شئت في موضع خفض ، وإن شئت في موضع رفع فالنصب على ثلاث تقديرات منها : في أن تبرّوا ثم حذف «في» فتعدّى الفعل ، ومنها : كراهة أن تبرّوا ثم يحذف ، ومنها : لئلا تبرّوا والخفض في جهة واحدة على قول الخليل والكسائي يكون في أن تبرّوا فأضمرت «في» وخفضت بها والرفع بالابتداء وحذفت الخبر ، والتقدير أن تبرّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس أولى أو أمثل مثل (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) [محمد : ٢١].

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢٢٥)

(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) يقال : لغا يلغوا أو يلغى لغوا ولغي يلغى لغى إذا

__________________

(١) أخرجه الترمذي في سننه (القيامة ٩ / ٢٥٦) ، والقرطبي في تفسير ٣٥ / ٩٦.

(٢) انظر البحر المحيط ٢ / ١٨٧.

١١٢

أتى بما لا يحتاج إليه في الكلام أو بما لا خير فيه أو بما لا يلغى إثمه.

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢٢٦)

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) أي يحلفون والمصدر إيلاء وأليّة وألوة وإلوة. (تَرَبُّصُ) رفع بالابتداء أو بالصفة. (أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) أثبت الهاء لأنه عدد لمذكر وقد ذكرنا علّته (١).

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٢٨)

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) أثبت الهاء أيضا لأنه عدد لمذكر ، الواحد قرء ، والتقدير عند سيبويه (٢) ثلاثة أقراء من قروء لأن قروءا للكثير عنده ، وقد زعم بعضهم أن ثلاثة قروء لما كانت بالهاء دلت الهاء على أنها أطهار وليست لحيض ، قال : ولو كانت حيضا لكانت ثلاثة قروء. وهذا القول خطأ قبيح لأن الشيء الواحد قد يكون له اسمان مذكر ومؤنث نحو دار ومنزل ، وهذا بيّن كثير ، وقد قال الله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) قال إبراهيم النخعي : يعني الحيض وهذا من أصحّ قول ، وهكذا كلام العرب ، والتقدير : والمطلقات يتربّصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من القروء أي من الحيض ، ومحال أن يكون هاهنا الطهر لأنه إنما خلق الله جلّ وعزّ في أرحامهن الحيض والولد ، ولم يجر هاهنا للولد ذكر فوجب أن يكون الحيض ومن الدليل على أنّ القرء الحيضة في قول الله جلّ وعزّ (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) فقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الطلاق : ١] والطلاق في الطهر. ولا يخلو قوله جلّ وعزّ لعدّتهنّ من أن يكون معناه قبل عدتهنّ أو بعدها أو معها ومحال أن يكون معها أو بعدها فلمّا وجب أن يكون قبلها وكان الطهر كلّه وقتا للطلاق وجب أن يكون بعده وليس بعده إلّا الحيض ، والتقدير في العربية ليعتددن. (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) ابتداء وخبر ، وبعولة جمع بعل والهاء لتأنيث الجماعة.

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٢٩)

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ) ابتداء وخبر ، والتقدير عدد الطلاق الذي تملك معه الرجعة مرتان. (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) ابتداء والخبر محذوف أي فعليكم إمساك بمعروف ويجوز في

__________________

(١) انظر إعراب القرآن للزجاج ٢٦٤ ، وإعراب الآية ١٩٦ ، البقرة.

(٢) انظر الكتاب ٤ / ٥٤.

١١٣

غير القرآن فإمساكا على المصدر. (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً) أن في موضع رفع بيحل. (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) وقرأ أبو جعفر يزيد ابن القعقاع وحمزة. (إِلَّا أَنْ يَخافا) (١) بضم الياء وهو اختيار أبي عبيد قال : لقوله «فإن خفتم» فجعل الخوف لغيرهم ولم يقل : فإن خافا ، وفي هذا حجّة لمن جعل الخلع إلى السلطان. قال أبو جعفر : أنا أنكر هذا الاختيار على أبي عبيد وما علمت في اختياره شيئا أبعد من هذا الحرف لأنه لا يوجب الإعراب ولا اللفظ ولا المعنى ما اختاره فأما الإعراب فإنه يحتجّ له بأنّ عبد الله بن مسعود قرأ. إلّا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله (٢) فهذا في العربية إذا ردّ إلى ما لم يسمّ فاعله قيل إلّا أن يخاف أن لا يقيم حدود الله وأما اللفظ فإن كان على لفظ يخافا وجب أن يقال : فإن خيف وإن كان على لفظ فإن خفتم وجب أن يقال : إلّا أن تخافوا وأمّا المعنى فإنه يبعد أن يقال : لا يحلّ لكم أن تأخذوا مما آتيتموهنّ شيئا إلّا أن يخاف غيركم ولم يقل تعالى فلا جناح عليكم أن تأخذوا له منها فدية فيكون الخلع إلى السلطان ، وقد صحّ عن عمر وعثمان وابن عمر أنهم أجازوا الخلع بغير السلطان. وقال القاسم بن محمد (إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) ما يجب عليهما في العشرة والصحبة فأما فإن خفتم وقبله «إلا أن يخافا» فهذا مخاطبة الشريعة وهو من لطيف كلام العرب أي فإن كنتم كذا فإن خفتم ونظيره (فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) [البقرة : ٢٣٢] لأن الولي يعضل غيره ونظيره (وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ) [المجادلة : ٣] و (أَنْ يَخافا) في موضع نصب استثناء ليس من الأول «ألا يقيما» في موضع نصب أي من أن لا يقيما وبأن لا يقيما وعلى أن لا ، فلما حذف الحرف تعدّى الفعل وقول من قال : يخافا بمعنى يوقنا لا يعرف ، ولكن يقع النشوز فيقع الخوف من الزيادة. (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) أكثر العلماء وأهل النظر على أن هذا للمرأة خاصة لأنها التي لا تقيم حدود الله في نشوزها وهذا معروف في كلام العرب بيّن في المعقول ولو أن رجلا وامرأة اجتمعا فصلّى الرجل ولم تصلّ المرأة لقلت ما صلّيا وهذا لا يكون إلّا في النفي خاصة. (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) يقال : إنما الجناح على الزوج فكيف قال عليهما؟ فالجواب أنه قد كان يجوز أن يحظر عليهما أن يفتدي منه فأطلق لها ذلك وأعلم أنه لا إثم عليهما جميعا ، وقال الفراء (٣) : قد يجوز أن يكون فلا جناح عليهما للزوج وحده مثل (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرّحمن : ٢٢]. (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) في موضع جزم بالشرط فلذلك حذفت منه الألف ، والجواب (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

__________________

(١) انظر التيسير الداني ٦٩.

(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١ / ١٤٥ ، والبحر المحيط ٢ / ٢٠٦.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ١٤٧ والبحر المحيط ٢ / ٢٠٨.

١١٤

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (٢٣٠)

(فَإِنْ طَلَّقَها) أي فإن طلقها الثالثة : (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) أي من بعد الثالثة (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) وبيّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنّ النكاح ها هنا الجماع وكذلك أصله في اللغة.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٣١)

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) في إذا معنى الشرط فلذلك تحتاج إلى جواب ، والجواب (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) مفعول من أجله أي من أجل الضرار (لِتَعْتَدُوا) نصب بإضمار أن. (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) مفعولان.

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٢٣٢)

(ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ) ولم يقل : ذلكم لأنه محمول على معنى الجميع ولو كان ذلكم كان مثل (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ).

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٣)

(وَالْوالِداتُ) ابتداء. (يُرْضِعْنَ) في موضع الخبر وفعل المولود رضع يرضع فهو راضع (حَوْلَيْنِ) ظرف زمان ولا يجوز أن يكون الفعل في أحدهما. هذا قول سيبويه. وقرأ مجاهد وحميد بن قيس وابن محيصن لمن أراد أن تتمّ الرّضاعة (١) بفتح التاء الأولى ورفع الرضاعة بعدها. قال أبو جعفر : ويجوز (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) بالياء لأن الرّضاعة والرّضاع واحد ولا يعرف البصريون : الرضاعة إلا بفتح الراء والرضاع إلا بكسر الراء مثل القتال ، وحكى الكوفيون كسر الراء مع الهاء وفتحها بغير هاء وقد قرأ أبو رجاء وكان فصيحا (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) (٢) وقرأ (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ) بفتح

__________________

(١) هذه قراءة الحسن وأبي رجاء أيضا ، انظر البحر المحيط ٢ / ٢٣٢.

(٢) هذه قراءة الجارود بن أبي سبرة أيضا ، انظر مختصر ابن خالويه ١٤.

١١٥

التاء. (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) في موضع جزم بالنهي وفتحت الراء لالتقاء الساكنين ويجوز كسرها وهي قراءة ، وقرأ أبو عمرو (لا تُضَارَّ) (١) جعله خبرا بمعنى النهي وهذا مجاز والأول حقيقة. وروى أبان (٢) عن عاصم لا تضارر والدة وهذه لغة أهل الحجاز. قال أحمد بن يحيى : يجوز أن يكون تقدير «لا تضارّ والدة» لا تضارر ثم أدغم. قال أبو جعفر : لا تضارّ والدة اسم ما لم يسمّ فاعله إذا كان التقدير لا تضارر وإن كان التقدير لا تضارر كانت رفعا بفعله. (وَلا مَوْلُودٌ) عطف عليها بالواو ولا توكيد. (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) رفع بالابتداء أو الصفة. (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) التقدير في العربية وإن أردتم أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم وحذفت اللام لأنه يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف وأنشد سيبويه : [البسيط]

٥١ ـ أمرتك الخير فافعل ما أمرت به

فقد تركتك ذا مال وذا نشب (٣)

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (٢٣٤)

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً) يقال أين خبر «الذين» ففيه أقوال قال الأخفش سعيد : التقدير : والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا يتربّصن بأنفسهنّ بعدهم أو بعد موتهم ، ثم حذف هذا كما يحذف شيء كثير ، وقال الكسائي : في التقدير يتربّص أزواجهم كما قال جلّ وعزّ (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً ـ لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً) [التوبة : ١٠٧ ، ١٠٨] أي لا تقم في مسجدهم وقال الفراء (٤) : إذا ذكرت أسماء ثم ذكرت أسماء مضافة إليها فيها معنى الخبر وكان الاعتماد في الخبر على الثاني أخبر عن الثاني وترك الأول. قال أبو إسحاق : هذا خطأ لا يجوز أن يبتدأ باسم ولا يحدّث عنه. قال أبو جعفر : ومن أحسن ما قيل فيها قول أبي العباس محمد بن يزيد قال : التقدير :

__________________

(١) انظر تيسير الداني ٦٩.

(٢) أبان بن تغلب الربعي الكوفي النحوي ، قرأ على عاصم (ت ١٤١ ه‍) ، ترجمته في (مشاهير علماء الأمصار لابن حبان ١٦٤ ، وغاية النهاية لابن الجزري ١ / ٤).

(٣) الشاهد لعمرو بن معدي كرب في ديوانه ص ٦٣ ، وخزانة الأدب ٩ / ١٢٤ ، والدرر ٥ / ١٨٦ ، وشرح شواهد المغني ص ٧٢٧ ، والكتاب ١ / ٧٢ ، ومغني اللبيب ص ٣١٥ ، ولخفاف بن ندبة في ديوانه ص ١٢٦ ، وللعباس بن مرداس في ديوانه ص ١٣١ ، ولأعشى طرود في المؤتلف والمختلف ص ١٧ ، وهو لأحد الأربعة السابقين أو لزرعة بن خفاف في خزانة الأدب ١ / ٣٣٩ ، ولخفاف بن ندبة أو للعباس بن مرداس في شرح أبيات سيبويه ١ / ٢٥٠ ، وبلا نسبة في الأشباه والنظائر ٤ / ١٦ ، وشرح شذور الذهب ٤٧٧ ، وشرح المفصّل ٨ / ٥٠ وكتاب اللامات ص ١٣٩ ، والمحتسب ١ / ٥١ ، والمقتضب ٢ / ٣٦.

(٤) انظر معاني الفراء ١ / ١٥٠.

١١٦

والذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا أزواجهم يتربّصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا ثم حذف كما قال الشاعر : [الطويل]

٥٢ ـ وما الدّهر إلّا تارتان فمنهما

أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (١)

وفيها قول رابع يكون التقدير وأزواج الذين يتوفّون منكم وقد ذكرنا وعشرا.

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (٢٣٥)

(وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) خطبة وخطب واحد ، والخطبة ما كان لها أول وآخر ، وكذا ما كان على فعلة نحو الأكلة والضغطة. (أَوْ أَكْنَنْتُمْ) يقال : أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك ، وكننته : صنته ومنه (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [الصافات : ٤٩] هذه أفصح اللغات. (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) أي على سرّ حذف الحرف لأنه مما يتعدّى إلى مفعولين أحدهما بحرف ، ويجوز أن يكون في موضع الحال. (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً) استثناء ليس من الأول. (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) أي على عقدة النكاح ثم حذف «على» كما تقدّم (٢) وحكى سيبويه (٣) : ضرب فلان الظهر والبطن أي «على» ، قال سيبويه : والحذف في هذه الأشياء لا يقاس. قال أبو جعفر : ويجوز أن يكون المعنى ولا تعقدوا عقدة النكاح لأن معنى تعقدوا وتعزموا واحد ويقال : تعزموا.

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢٣٦)

(وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) (٤) ويقرأ قدره (٥) وأجاز الفراء :

__________________

(١) الشاهد لتميم بن مقبل في ديوانه ٢٤ ، وحماسة البحتري ص ١٢٣ ، والحيوان ٣ / ٤٨ ، وخزانة الأدب ٥ / ٥٥ ، والدرر ٦ / ١٨ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ١١٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٦٣٤ ، والكتاب ٢ / ٣٦٥ ، ولسان العرب (كدح) ، ولعجير السلولي في سمط اللآلي ص ٢٠٥ ، وبلا نسبة في خزانة الأدب ١٠ / ١٧٥ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٤٧ ، ولسان العرب (تور) ، والمحتسب ١ / ١١٢ ، والمقتضب ٢ / ١٣٨ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٢٠.

(٢) تقدّم ذكره في إعراب الآية ١٣٠.

(٣) انظر الكتاب ١ / ٢١١.

(٤) هذه قراءة ابن كثير وأبي بكر (بسكون الدال). انظر البحر المحيط ٢ / ٢٤٢.

(٥) بفتح الدال ، قراءة حمزة والكسائي وابن عامر وحفص ويزيد وروح ، انظر البحر المحيط ٢ / ٢٤٢.

١١٧

قدره (١) قال أبو جعفر : حكى أكثر أهل اللغة أن قدرا أو قدرا بمعنى واحد ، وقال بعضهم: القدر بالتسكين الوسع. يقال فلان ينفق على قدره أي على وسعه. وأكثر ما يستعمل القدر بالتحريك للشيء إذا كان مساويا للشيء. يقال : هذا على قدر هذا. فأما النصب فلأنّ معنى متّعوهنّ وأعطوهن واحد. (مَتاعاً) مصدر ويجوز أن يكون حالا أي قدره في هذه الحال.

(وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٢٣٧)

(فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) أي فعليكم ، ويجوز النصب في غير القرآن أي فأدّوا نصف ما فرضتم ويقال : نصف ونصف بمعنى نصف. (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) في موضع نصب بأن وعلامة النصب فيه مطّرحة لأنه مبني وقد ذكرنا نظيره ، إلّا أنا نزيده شرحا فقول سيبويه (٢) : إنه إنما بني لما زادوا فيه ولأنه مضارع للماضي ، والماضي مبنيّ فبني كما يبنى الماضي ومثّل هذا سيبويه بأن الأفعال أعربت لأنها مضارعة للأسماء والفعل بالفعل أولى من الفعل بالاسم ، وهذا مما يستحسن من قول سيبويه. وقال الكوفيون (٣) : كان سبيله أن يحذف منه النون ولكنها علامة فلو حذفت لذهب المعنى ، وقال محمد بن يزيد : اعتلّ هذا الفعل من ثلاث جهات والشيء إذا اعتلّ من ثلاث جهات بني منها أنّه فعل وأنه لجمع وأنه لمؤنث. قال أبو جعفر : وسمعت أبا إسحاق يسأل عن هذا فقال : هو غلط من قول أبي العباس : لأنا لو سمّينا امرأة بفرعون لم نبنه. (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) معطوف. (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ابتداء وخبر والأصل يعفوا وأسكنت الواو الأولى لثقل الحركة فيها ثم حذفت لالتقاء الساكنين. (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) قال طاوس : اصطناع المعروف. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا ضمة هذه الواو في (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) (٤).

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢٣٨)

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) قد ذكرناه (٥) ، ونزيده شرحا. قرأ الرّؤاسي (٦) : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) بالنصب أي والزموا الصلاة

__________________

(١) انظر معاني الفراء ١ / ١٥٣.

(٢) انظر الكتاب ١ / ٤٥.

(٣) انظر معاني الفراء ١ / ١٥٤.

(٤) راجع إعراب الآية ١٦ ـ البقرة.

(٥) يعني في معاني القرآن.

(٦) أبو جعفر الرؤاسي : محمد بن الحسن الكوفي النحوي ، إمام مشهور ، روى الحروف عن أبي عمرو ، ـ

١١٨

الوسطى وفي حرف ابن مسعود وعلى الصلاة الوسطى وروي عن ابن عباس والصلاة الوسطى صلاة العصر (١). وهذه القراءة على التفسير لأنها زيادة في المصحف ، والحديث المرويّ في القراءة والكتابة حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر لا يوجب أن يكون الوسطى خلاف العصر كما أنّ قوله عزوجل : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) [الرّحمن : ٦٨] أن يكون النخل والرمان خلاف الفاكهة كما قال الشاعر : [الكامل]

٥٣ ـ النّازلون بكلّ معترك

والطّيّبون معاقد الأزر (٢)

ليس الطّيّبون فيه خلاف النازلين ، وحكى سيبويه : مررت بزيد أخيك وصديقك ، والصديق هو الأخ. قال أبو جعفر : وقد ذكرنا احتجاج من قال : إن الصلاة الوسطى العصر لأنها بين الصلاتين من صلاة النهار وصلاتين من صلاة الليل وأجود من هذا الاحتجاج أن يكون قيل لها : الوسطى لأنها بين صلاتين إحداهما أول ما فرض والأخرى الثالثة مما فرض وحجّة من قال إنها الصبح : أنها بين صلاتين من صلاة النهار وصلاتين من صلاة الليل وحجة من قال إنها الظهر : أنها في وسط النهار وقال قوم : هي العشاء الآخرة وقال قوم : هي المغرب لأنها بين صلاتين من النهار وصلاتين من الليل. (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) منصوب على الحال وقد بينا معناه.

(فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٢٣٩)

(فَإِنْ خِفْتُمْ) شرط ، وجوابه ما قلنا (فَرِجالاً) نصب على الحال أي فصلّوا رجالا ، والمعنى : فإن خفتم أن تقوموا لله قانتين فصلّوا مشاة أو ركبانا. قال أبو جعفر : يقال : راجل ورجلان ورجل بمعنى واحد وفي الجمع لغات يقال : رجّالة رجال مثل صاحب وصحاب كما قال : [الطويل]

٥٤ ـ وقال صح ابي : قد شأونك فاطلب (٣)

ويجوز أن يكون رجال جمع رجل بمعنى راجل ، ويقال في الجمع : رجّال مثل

__________________

ـ وله اختيار في القراءة ، يروى عنه ، واختيار في الوقوف ، روى عنه الكسائي والفراء. ترجمته في غاية النهاية ٢ / ١١٦ ونزهة الألباء ٥٠.

(١) انظر البحر المحيط ٢ / ٢٥٠.

(٢) مرّ الشاهد رقم (٣٣).

(٣) الشاهد لامرئ القيس في ديوانه ص ٥٠ ، ولسان العرب (صحب) (شأى) ، والتنبيه والإيضاح ١ / ١٠٢ ، وبلا نسبة في ديوان الأدب ١ / ٤٥٤ ، وصدره :

«فكان تدانينا وعقد عذاره»

١١٩

كاتب وكتاب ، ويقال : رجل مثل تاجر وتجر ، ويقال : راجل ورجلة ورجلة اسم للجمع ، وكذا رجال مخفّف ويقال : رجالي رجالي ورجلي جمع رجلان. (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) أي فقوموا لله قانتين.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢٤٠)

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ) الذين في موضع رفع إن شئت بالابتداء ، والتقدير يوصون وصيّة. والمعنى ليوصوا وصيّة ، وإن شئت كان الذين رفعا بإضمار فعل أي يوصّي الذين يتوفّون منكم وصيّة ، وفي الرفع وجه ثالث أي وفيما فرض عليكم الذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجا يوصون وصيّة لأزواجهم والذين مبنيّ على حال واحدة لأنه لا تتمّ إلّا بصلة ويقال : الّذون في موضع الرفع ومن قرأ وصية (١) بالرفع فتقديره والذين يتوفّون منكم عليهم وصيّة لأزواجهم ، (مَتاعاً) مصدر عند الأخفش وعند أبي العباس أي ذوي متاع. (غَيْرَ إِخْراجٍ) في نصبه ثلاثة أوجه : قال الفراء (٢) : أي من غير إخراج ، وقال الأخفش : هو مصدر أي لا إخراجا ثم جعل : «غير» في موضع «لا» وقيل : هو حال أي غير ذوي إخراج ، والمعنى يوصون بهنّ غير مخرجين لهنّ وهذا كلّه منسوخ بالربع والثمن [النساء : ١٢] و (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) [البقرة : ٢٣٤] و «لا وصيّة لوارث». (فَإِنْ خَرَجْنَ) شرط والجواب (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف.

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) (٢٤١)

(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا) قال الأخفش : هو مصدر أي أحقّ ذلك حقا. قال أبو جعفر : (عَلَى) متعلّقة بالفعل المحذوف أي يحق ذلك على المتّقين حقا.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (٢٤٣)

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) هذه ترى من رؤية القلب أي ألم تتنبّه على هذا وألم يأتك علمه والأصل الهمز فترك استخفافا. (حَذَرَ الْمَوْتِ) مفعول من أجله وهو مصدر. (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) اسم إنّ وخبرها واللام زائدة للتوكيد.

__________________

(١) انظر البحر المحيط ٢ / ٢٥٤ ، (قرأ بها الحرميان والكسائي وأبو بكر ، لكن باقي السبعة قرءوها بالنصب).

(٢) انظر معاني الفراء ١ / ١٥٦.

١٢٠