أصول الإيمان

عبدالقاهر التميمي الشافعي

أصول الإيمان

المؤلف:

عبدالقاهر التميمي الشافعي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ٠
الصفحات: ٢٦٩

نواقض العادات. وليس كذلك النبي والمتنبي لأن الصورة لا توجب تمييزا بينهما فلا بد فيها من علامة ناقضة للعادة تكون مع الصادق دون الكاذب ليقع بها التمييز بينهما.

المسألة الخامسة من هذا الأصل

في الفرق بين معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء

اعلم إن المعجزات والكرامات متساوية في كونها ناقضة للعادات. غير أنّ الفرق بينهما وجهان :

أحدهما : تسمية ما يدل على صدق الأنبياء معجزة وتسمية ما يظهر على الأولياء كرامة للتمييز بينهما.

والوجه الثاني : إن صاحب المعجزة لا يكتم معجزته بل يظهرها ويتحدى بها خصومه ويقول إن لم تصدقوني فعارضوني بمثلها. وصاحب الكرامة يجتهد في كتمانها ولا يدعي فيها. فإن اطلع الله عليها بعض عباده كان ذلك تنبيها ، لما أطلعه الله تعالى عليها ، على حسن منزلة صاحب الكرامة عنده أو على صدق دعواه فيما يدعيه من الحال.

وفرق ثالث : وهو إن صاحب المعجزة مأمون التبديل معصوم عن الكفر والمعصية بعد ظهور المعجزة عليه. وصاحب الكرامة لا يؤمن تبدل حاله فإن بلعم ابن باعورا أوتي من هذا الباب ما لم يؤت غيره ثم ختم له بالشقاء. وأنكرت القدرية كرامات الأولياء لأنهم لم يجدوا في أهل بدعتهم ذا كرامة فأنكروا ما حرموه بشؤم بدعتهم وظنوا أنّ إجازة ظهور الكرامة للأولياء يقدح في دلالة المعجزة على النبوة. وقلنا لهم ليست دلالة المعجزة مقصورة على النبوة. وإنما هي دلالة الصدق فتارة تدل على الصدق في النبوة وتارة تدل على الإخلاص والصدق في الحال وعلى أنّه لا رياء فيها. فإن قيل أجيزوا على هذا القياس ظهورها على الفاسق للدلالة على صدقه في بعض ما يصدق فيه. قيل إن أظهر الله له علامة تدل على

١٤١

صدقه وبراءة ساحته مما يقذف به جاز ذلك وسميناها حينئذ مغوثة (١). فالمعجزات للأنبياء والكرامات للأولياء والمغوثات (٢) لسائر العباد.

المسألة السادسة من هذا الأصل

في بيان ما يجب فيه قبول قول النبي

زعمت الإباضية وكثير من الخوارج أنّ نفس قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا نبي ودعوته إلى ما يدعو إليه حجة ولا يحتاج عليها إلى بينة وبرهان وعلى قومه قبول قوله وإن لم يأت ببرهان ، فمن لم يقبله كفر. وقد سرقت الكرّامية هذه البدعة من الإباضية فزعمت أنّ كل من سمع قول الرسول أو سمع الخبر عن ظهوره وعن دعوته لزمه الإقرار والتصديق به سواء علم برهانه وحجته أو لم يعلمها. وقال ثمامة وأتباعه من القدرية لا يحتاج النبي في الحجة على نبوته إلى أكثر من سلامة شرعه وما يأتي به ، من التناقض فيه. وقال أصحابنا : إن سلامة معجزته عن المعارضة دليل على صحته. وأما سلامة شرعه عن التخليط والنقض فيه فلا يدل على صحته لأن الكاذب لو شرع شرعا وطرد فيه قياسه لم يجب به تصديقه ولا بد من علامة تدل على صدقه ليجب بها اتباعه. ولو جاز تقليده في دعواه من غير برهان لم يكن لنا دلالة على كذب الكاذب في دعوى النبوة إذا لم يكن معه برهان صحتها. وهذا باطل فما يؤدي إليه مثله.

المسألة السابعة من هذا الأصل

في أن المعجزات كلها من الله تعالى دون غيره

قال أصحابنا : إن أكثر المعجزات من أفعال الله تعالى لا يقدر على جنسها غيره كإحياء الأموات وإبراء الأكمه والأبرص وقلب العصا حية وفلق البحر وإمساك الماء في الهواء وتشقيق القمر وإنطاق الحصى وإخراج الماء من بين الأصابع ونحو ذلك. ومنها ما هو خلق لله اختراعا وكسب لصاحب المعجزة كإقداره إنسانا على

__________________

(١) [معونة].

(٢) [والمعونات].

١٤٢

الطفر (١) [على الصعود] (٢) إلى السماء وعلى قطع المسافة البعيدة في الساعة القصيرة وعلى إطلاق لسان الأعجمي بالعربية ونحو ذلك مما لم يجر العادة به. وزعم معمر شيخ القدرية أن المعجزات ليس شيء منها من فعل الله تعالى. لأنه قال إن الله خلق الأجسام والأجسام خلقت الأعراض في أنفسها وليست المعجزة حدوث جسم وإنما وجه الإعجاز كون الجسم على وجه لم تجر العادة به. وذلك بحصول نوع من الأعراض فيه وليست الأعراض فعلا لله تعالى. وبان من هذا أن ليست المعجزات فعلا لله عنده وإن الله نصب دلالة على صحة نبوة أحد من أنبيائه. وإذا كشفنا عن ضمير معمر في هذا الباب ظهر لنا أن غرضه إبطال الشريعة وأحكامها. وبيان ذلك أنّا إذا سألناه عن قوله في القرآن لم يمكنه أن يقول إنه فعل الله ، كما قال إخوانه من القدرية ، لدعواه إن الله لم يخلق شيئا من الأعراض. ولم يمكنه أن يقول إن كلام الله صفة من صفاته الأزلية ، كقول أصحابنا ، لأنه ينفي الصفات الأزلية. فلم يمكنه إثبات كلام الله عزوجل لا على معنى الصفة ولا على معنى الفعل. وإذا لم يكن له كلام لم يكن له أمر ولا نهي ولا خبر ولا شرع ولا حكم. وفي هذا سقوط التكليف عن العباد. وما أراد هذا المبتدع غيره. وكذلك المعروف بثمامة ، في قوله إن المتولدات أفعال لا فاعل لها ، ما أراد إلا إسقاط التكليف. لأن الكلام عنده متولد وليس هو صفة قائمة بالله عنده لنفيه صفاته ولا يصح منه الفعل على التولد فلا يصح على أصله كونه متكلما ولا آمرا ولا ناهيا ولا يكون له على هذا الأصل شرع ولا حكم ولا تكليف. ويكفي المعتزلة بهذين الشيخين منهما خزيا.

المسألة الثامنة من هذا الأصل

في كيفية الاستدلال بالمعجزة على صدق صاحبها في دعواه

إن العلم بصحة نبوة النبي فرع العلم بصحة المعجزة الدالة على صدقه في

__________________

(١) الطفرة الوثبة وبابه جلس.

(٢) [على الصعود].

١٤٣

دعواه ، إذا لم يضطرنا الله تعالى إلى العلم بصدقه. وإذا صحت هذه المقدمة وظهر على مدعي النبوة من فعل الله تعالى ما ينقض العادة عند دعوى المدعي رسالته وكان الذي ظهر مطابقا لدعواه وقد سبق العلم بأن الله كان سامعا لدعواه عليه إرساله إياه وعالما بها وبمعناها ثم ظهر ما ادعاه عليه علم بذلك إنه تعالى قصد بذلك تصديقه في دعواه وصار إظهاره لذلك مطابقا لدعواه بمنزلة [قوله صدقت أو قوله لقوم صدق هو رسولي إليكم على وجه يفهم تصديقه له] بل يكون التصديق له بالفعل أبعد من التهمة لأن قول القائل لغيره صدقت قد يكون على طريق الاستهزاء والتصديق له بالفعل لا يحتمل وجها سوى التصديق ومثاله في الشاهد قول مدعي الرسالة من إنسان إلى غيره : إن كنت رسولك إلى فلان فاكتب إليه بخطك بعض الأسرار التي بينك وبينه أو قال له بحضرتها إن كنت أمرتني بأخذ وديعتك منه فناولني خاتمك فإذا فعل ما سأله علم بذلك أنه قصد بذلك الفعل تصديقه في دعواه وأقام ذلك مقام قوله صدقت وكان الفعل في ذلك أبلغ من هذا القول. فهذا وجه دلالة المعجزة على صدق من ظهرت عليه فيما لا يعرف فيه صدقه ولا كذبه إلا بدلالة.

المسألة التاسعة من هذا الأصل

في بيان طريق العلم بمعجزات الأنبياء

إن الذين شاهدوا معجزات الأنبياء عند ظهورها عليهم يعرفون وجه الإعجاز فيها بعجز الخصوم عن معارضتها بمثلها مع حرصهم على التكذيب. وأما الذين غابوا عنها فيعرفون وجودها بتواتر الأخبار ، الموجبة للعلم الضروري ، عنها. فإذا عرفوا وجودها بالتواتر ولم ينقل إليهم معارضة لها علموا أنها كانت في وقتها معجزة ودلالة على صدق من ظهرت عليه. وإنما يخالف في هذا من ينكر وقوع العلم من جهة الأخبار المتواترة كالسمنية. ووافقنا البراهمة على وقوع العلم بالبلدان والأمم الماضية من جهة التواتر وخالفونا في العلم بمعجزات الأنبياء من جهة تواتر الأخبار. والتواتر فيما أنكروه كالتواتر فيما أقروا به. ومن أنكر ذلك توجّه الإلزام عليه بإنكار

١٤٤

البلدان التي يدخلها الناس مع تواتر الأخبار عنها [و] إنكار أبويه وإن عرفهما بتواتر الأخبار عنها. وهذا ما لا محيص له منه.

المسألة العاشرة من هذا الأصل

في بيان معجزة كل نبي على التفصيل

كانت معجزة آدم عليه‌السلام علمه بالأسماء من غير درس ولا قراءة كتاب.

وكانت معجزة نوح الطوفان وخلاصه منه. ومعجزة هود الريح وما كان من شأنها مع قوم عاد. ومعجزة صالح الناقة والصحيحة التي دمرت على القوم. ومعجزة إبراهيم عليه‌السلام النجاة من النار. ومعجزة موسى اليد البيضاء وقلب العصا حية وحل العقدة من لسانه وسائر الآيات التسع التي كانت له. ومعجزة داود تليين الحديد له. ومعجزة سليمان الريح وتسخير الجن والشياطين له. ومعجزة عيسى إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ونحو ذلك. وكذلك كل نبي له معجزة مخصوصة. واجتمعت لنبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميع وجوه المعجزات التي تفرقت في الأنبياء كما بيناها في كتاب الموازنة بين الأنبياء.

المسألة الحادية عشرة من هذا الأصل

في نبوة موسى ومعجزته

كل من أقر بشريعة من الشرائع أقر بموسى وبنبوته عليه‌السلام. وزعم ماني أن موسى كان من رسل شياطين الظلمة وأقر بنبوة عيسى عليه‌السلام. وليس لماني من المقدار ما يناظر لأجله في النبوات مع وقوع الخلاف معه في توحيد الصانع وفي حدوث الأجسام. ومن خالف في الأصل لم يناظر في فرعه. على أنه لا ينفصل من قول من قال في عيسى مثل قوله في موسى. ومعجزات موسى الآيات التسع التي نطق بها القرآن. وتواتر الخبر عنها كتواتر الخبر عن ظهور موسى ودعوته. ومن ادعى أن ذلك الذي ظهر عليه كان سحرا أو مخرقة كمن ادعى مثل هذه الدعاوى في معجزات عيسى عليه‌السلام.

١٤٥

المسألة الثانية عشرة من هذا الأصل

في نبوة عيسى ومعجزاته

وإنما يناظر في هذه المسألة اليهود المنكرون مع إقرارهم بنبوة من قبله.

والعلم بمعجزاته من الطرق التي علم بها معجزات موسى. ومن طعن في التواتر عن معجزات عيسى كمن طعن في التواتر عن معجزات موسى عليه‌السلام. والنقل في أن عيسى ظهر له إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص والمشي على الماء كالنقل في فلق البحر لموسى وقلب العصا حية له ونحو ذلك. ومن ادعى في أحدهما السحر كمن ادعاه في الآخر مع عدم النقل في المعارضة.

المسألة الثالثة عشرة من هذا الأصل

في معجزات نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم

إن معجزات نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأعداد كثيرة الأمداد. فمنها بشارات الأنبياء به قبله ولذلك أذعن له جماعة من أحبار أهل الكتاب مثل كعب الأحبار (١) ووهب بن منبه (٢) وقبلهما عبد الله بن سلام (٣) وقبله بحيرا الراهب ثم النجاشي وقبله سيف بن ذي يزن. ولسماع شأنه من أهل الكتاب آمن به العيسوية من اليهود ، غير أنهم شكوا في بعثه إلى بني إسرائيل. ومنها الرجوم بالنجوم عند قرب بعثته وذلك كان سبب إسلام قوم من الكهنة. ومنها انشقاق القمر بدعوته وفي ذلك نزل قوله تعالى :

__________________

(١) هو عالم الكتاب والآثار كعب الأحبار ، أسلم زمن أبي بكر وروى عن عمر رضي الله عنه.

توفي سنة خمس وثلاثين للهجرة ..

(٢) هو أبو عبد الله وهب بن منبه الصنعاني من أبناء الفرس الذين بعث بهم كسرى الى اليمن ، روى عن ابن عباس قيل وابي هريرة وغيره من الصحابة وولى القضاء لعمر بن عبد العزيز وكان شديد الاعتناء بكتب الأولين وأخبار الأمم وقصصهم بحيث كان يشبه بكعب الأحبار في زمانه ، توفي بصنعاء سنة أربع عشرة ومائة للهجرة.

(٣) هو عبد الله بن سلام الاسرائيلي حليف الأنصار من سبط يوسف بن يعقوب وقصة إسلامه مشهورة في الصحاح وشهد له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجنة وهو المراد عن بعض المفسرين بقوله تعالى (ومن عنده علم الكتاب) وقوله تعالى (وشهد شاهد من بني اسرائيل على مثله). توفي سنة ثلاث وأربعين للهجرة ..

١٤٦

(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) (١). ولو لم يقع ذلك لقال له أعداؤه متى كان هذا؟ وهذه معجزة سماوية وكانت معجزات من قبله أرضية. ومنها إشباع الخلق الكثير من الطعام اليسير في مواضع كثيرة. ومنها نبوع الماء من بين أصابعه لوضوء جيشه وذلك أعجب من خروج الماء من الحجر لموسى عليه‌السلام. ومنها تسبيح الحصى في يده حتى سمع الحاضرون. ومنها حنين الجذع إليه حتى التزمه. ومنها مجيء الشجرة بأمره ورجوعها بأمره إلى مغرسها. ومنها القرآن وهو أفضل المعجزات من وجهين : أحدهما : بقاؤه بعد وفاته ومعجزات غيره لم تبق بعد وفاة أصحابها. والثاني : استنباط جميع أحكام الشريعة منه ولا يستنبط من معجزة غيره حكم الشريعة. والدليل على صحة معجزة القرآن أنه تحدى قومه بسورة مثله فلو عارضوه بها لكذبوه. فلما عدلوا عن المعارضة التي لو تمت لدلت على كذبه إلى قتاله الذي لو تم مرادهم فيه ، لم يدل على كذبه علمنا أنهم إنما عدلوا عما يدل على التكذيب إلى ما لا يدل عليه ، لعجزهم عما يكون دليلا على ذلك. ولو عارضوه لنقل ذلك لأن الذين لا يتواطئون على الكذب لا يتواطئون على كتمان ما قد علموه بالضرورة. ألا ترى أنه نقل ما عورض به مما لا يشبهه كقول مسيلمة : والطاحنات طحنا والخابزات خبزا ، في معارضة : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) (٢). وفي عدم المعارضة دلالة على صحة المعجزة.

المسألة الرابعة عشرة من هذا الأصل

في بيان وجه إعجاز القرآن

قال أصحابنا : الإعجاز في القرآن من وجوه : منها نظمه العجيب في البلاغة والفصاحة الخارجة عن العادة في نظم الخطب والشعر والمزدوج من الكلام ونحو ذلك. ومنها ما فيه من الأخبار عن غيوب سالفة وذلك عجيب إذا وردت ممن لم يعرف الكتب ولم يجالس أصحاب التواريخ. ومنها الأخبار عن غيوب كانت في المستقبل كما وقع في الخبر عنها على التفصيل لا على وجه تخمين الكهنة

__________________

(١) سورة القمر آية ١.

(٢) سورة العاديات آية ١.

١٤٧

والمنجمين. وزعم النظام أن الإعجاز في القرآن من جهة ما فيه من الأخبار عن الغيوب ولا إعجاز في نظمه. وزعم مع أكثر القدرية أن الناس قادرون على مثل القرآن وعلى ما هو أبلغ منه في الفصاحة والنظم. وقد أكذبهم الله عزوجل في ذلك بأن تحدى المشركين بأن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات ولا يكون في الافتراء تحقيق غيب فدل على أنه إنما أراد به تحقيق إعجازه من جهة النظم والفصاحة. فإن قيل إذا كانت فصاحة القرآن لا يعرفها إلّا العرب فكيف عرفت العجم وجه الإعجاز فيه. قيل إذا علمت العجم أن العرب أهل اللسان وقد عجزوا عن معارضته فيه علموا كونه معجزا كما أن السحرة لما عجزت عن معارضة موسى في عصاه عرف غيرها وجه الإعجاز في العصا وأنها ليست بسحر لأنها لو كانت سحرا لعارضته السحرة بمثلها. كذلك العجم يعلم أن القرآن لو كان من جنس كلام البشر لقدر على مثله أهل اللغة.

المسألة الخامسة عشرة من هذا الأصل

في كرامات الأولياء

أنكرت القدرية كرامات الأولياء على وجه ينقض العادة وأثبتها الموحدون لاستفاضة الخبر عن صاحب سليمان في إتيانه بعرش بلقيس قبل ارتداد الطرف إليه. ومنها رؤية عمر رضي الله عنه على منبره بالمدينة جيشه بنهاوند ، حتى قال : يا سارية الجبل وسمع سارية ذلك الصوت على مسافة زهاء خمسمائة فرسخ حتى صعد الجبل وفتح منه الكمين للعدو وكان ذلك سبب الفتح. ومنها قصة سفينة مولى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الأسد. وقصة عمير الطائي مع الذيب حتى قيل له كليم الذيب وقصة أهبان بن صيفي وأبي ذر الغفاري مع الوحش وما أشبه ذلك كثير مما حرمه أهل القدر بشؤم بدعتهم. وليس في جوازها قدح في النبوات لأن الناقض للعادة دلالة على الصدق فتارة يدل على الصدق في دعوى النبوة وتارة يدل على الصدق في الحال. فإن ألزمونا مثلها في بعض الرعايا أو في بعض الفسقة. قلنا إن ظهر عليه شيء منها كانت مغوثة له في محنة يخلصه الله تعالى بها منها ولم نسمها كرامة وصار الخلاف في التسمية دون المعنى والله أعلم بالصواب.

١٤٨

الأصل التاسع

من أصول هذا الكتاب في بيان معرفة

أركان الإسلام

وفي هذا الأصل خمس عشرة مسألة هذه ترجمتها :

مسألة في الأركان الخمسة.

مسألة في تفصيل الركن الأول.

مسألة في تفصيل الركن الثاني.

مسألة في تفصيل الركن الثالث.

مسألة في تفصيل الركن الرابع.

مسألة في تفصيل الركن الخامس.

مسألة في شروط الأركان الخمسة.

مسألة في شروط الجهاد والأحكام.

مسألة في أحكام المعاملات.

مسألة في أحكام النكاح والفروج.

مسألة في أحكام الحدود.

مسألة في أحكام المحرمات والمباحات.

مسألة في أحكام الأموات في الميراث.

مسألة في بيان مأخذ الأحكام الشرعية.

مسألة في الفرق بين الشرعيات والعقليات. فهذه مسائل هذا الأصل وسنذكر في كل واحدة منها مقتضاها إن شاء الله تعالى.

١٤٩

المسألة الأولى من هذا الأصل

في بيان الأركان الخمسة

الأصل فيها قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلّا الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت (١). وجاءت الشريعة بترتيب أحكام كثيرة على خمسة منها الصلاة المفروضة خمس بإجماع السلف عليه. ولا اعتبار فيها بخلاف من قال من الروافض بزيادة صلوات مع تركهم كلها. فأما الوتر فهي عندنا سنة وعند أبي حنيفة واجبة وليست بفريضة. ومنها خمسة أركان فرضها الشافعي رضي الله عنه في الصلاة وهي : التكبيرة الأولى وقراءة الفاتحة والتشهد الأخير والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد التشهد والتسليمة الأولى. ومنها أن الزكاة المفروضة تجب في خمسة أجناس من الأموال.

أحدها : النعم السائمة من الإبل والبقر والغنم.

وثانيتها : الأثمان المطلقة من الذهب والورق.

وثالثها : الحبوب المقتاتة التي يزرعها الناس.

ورابعها : من الثمار التمر والزبيب.

وخامسها : أموال التجارة. ومنها أن أول نصاب الإبل خمس ثم في كل خمس سائمة شاة إلى أربع وعشرين فإذا بلغت خمسا وعشرين وجبت فيها بنت مخاض (٢) ، انتقل الفرض فيها بعد ذلك إلى الإبل. ومنها أن نصاب ما يجب فيه

__________________

(١) أخرجه الترمذي عن ابن عمر برقم ٢٦٠٩ وأخرجه البخاري في التاريخ برواية عن خليد وعن ابن عمر ٢ / ١ / ١٩٨.

(٢) المخاض بالفتح وجع الولادة ، وقد مخضت الحامل بالكسر مخاضا أي ضربها الطلق فهي ماخض ، والمخاض الحوامل من النوق ، واحدتها خلفة ولا واحد لها من لفظها ، ومنه قيل للفصيل إذا استكمل الحول ودخل في الثانية : ابن مخاض ، والأنثى ابنة مخاض لأنه فصل عن أمه وألحقت أمه بالمخاض سواء لقحت أو لم تلقح ، وابن مخاض نكرة فإن عرفته قلت : ابن المخاض ، وهو تعريف جنس ، ولا يقال في جمعه : لا بنات مخاض وبنات لبون وبنات آوى ..

١٥٠

الزكاة من الحبوب أو التمر أو الزبيب خمسة أوسق. كل خمس منها ستون صاعا (١). ومنها أن أول نصاب الورق في الزكاة خمسة أواق ، كل أوقية أربعون درهما ، ثم فيما زاد بحسابه. ومنها أن الصيام خمسة أنواع : صوم رمضان وصوم القضاء وصوم النذر وصوم الكفارة وصوم التطوع. ومنها أن الغسل يجب من خمسة أشياء : من إنزال الماء الدافق ومن التقاء الختانين وإيلاج في فرج أو دبر ومن انقطاع دم الحيض ومن انقطاع دم النفاس ومن الموت من غير قتل شهادة في المعركة. ومنها سقوط فرض الجمعة عن خمسة من المكلفين وهم العبد والمرأة والمسافر والمريض والممرض الذي له عذر. ومنها أن دية كل سن للرجل خمس من الإبل. وفي موضحة الرجل خمس من الإبل وفي إحدى أنملتي الإبهام من اليد أو الرجل خمس من الإبل. وفي إصبع المرأة خمس من الإبل وفي هاشمتها خمس من الإبل. ودية الخطأ من خمسة أصناف من الإبل عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون (٢) وعشرون حقة (٣) وعشرون جذعة.

والسن الخامس (٤) : اختلفوا فيه : فقال الشافعي عشرون ابن لبون وقال أبو حنيفة عشرون ابن مخاض. وفي الخلقة أخماس كثيرة. منها كل يد خمس أصابع وفي كل رجل كذلك ومنها خمس حواس عليها مدار الإدراكات. الخمس من الأجزاء كثير منها في الركاز (٥) ومنها إخراج الخمس من الغنيمة والفيء ثم وجوب قسمة ذلك الخمس بين أهل الخمس على خمسة أسهم. وفي هذا كله دليل على تشريف الله عزوجل الخمسة من وجوه فلذلك بني الإسلام على خمسة أركان.

__________________

(١) [كل وسق ستون صاعا].

(٢) ابن لبون : ولد الناقة إذا استكمل السنة الثانية ودخل في الثالثة والانثى ابنة لبون لأن أمه وضعت غيره فصار لها لبن ، وهو نكرة ويعرف باللام فيقال : ابن اللبون.

(٣) الحق بالكسر ما كان من الإبل ابن ثلاث سنين وقد دخل في الرابعة والأنثى حقّة وحق أيضا ، سمي بذلك لاستحقاقه أن يحمل عليه وأن ينتفع به والجمع حقاف ثم حقق بضمتين مثل : كتاب وكتب.

(٤) [الصنف الخامس].

(٥) الركاز بالكسر : دفين أهل الجاهلية ، كأنه ركز في الأرض وأركز الرجل : وجد الركاز.

١٥١

المسألة الثانية من هذا الأصل

في تفصيل الركن الأول من أركان الإسلام

(اعلموا (١)) إن الركن الأول من أركان الإسلام ، كما ورد به الخبر ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. ولهذه الشهادة شروط منها أنها لا تقبل ولا يثاب عليها صاحبها إلا إذا عرف صحتها وقالها عن معرفة وتصديق لها بالقلب. فأما إذا أطلقها المنافق الذي يعتقد خلافها فإنه لا يكون عند الله مؤمنا ولا ناجيا من عقاب الآخرة. وإنما يجري عليه في الظاهر حكم الإسلام في سقوط الجزية عنه وفي دفنه في مقابر المسلمين وفي الصلاة عليه وخلفه في الظاهر. هذا كله إذا لم يظهر مع نفاقه الباطن بدعة شنعاء فإن أظهر بدعة نظر فإن كانت بدعته كبدعة القرامطة الباطنية وكبدعة الغلاة من الرافضة الحلولية فإنه مرتد يقتل ولا يصلى عليه ويكون ماله فيئا للمسلمين. وإن كانت بدعته كبدعة القدرية فإن المتكلمين من أصحابنا قالوا بانقطاع التوارث بينهم وبين أهل السنة ولذلك امتنع الحارث المحاسبي (٢) عن غنم ميراث أبيه لأن أباه كان معتزليا. وقال الفقهاء من أصحابنا أن قريبه (٣) [وارثه] السني يرث منه كما أن أهل الذمة يرث بعضهم بعضا مع اختلافهم في الأديان. وأجمع الفقهاء والمتكلمون من أصحابنا على أنه لا يصح الصلاة خلف المعتزلي ولا عليه ولا يحل أكل ذبيحته ولا رد السلام عليه ورأوا (٤) في ذلك قول عبد الله بن عمر في النهي عن ذلك وفي براءته من القدرية. وزعمت الكرّامية أنّ المنافق المضمر الشرك مؤمن حقا وأنّ إيمانه كإيمان جبرائيل وميكائيل والأنبياء أجمعين. والكلام عليهم في ذلك يأتي في باب الإيمان.

__________________

(١) زيدت على المطبوع لسياق النص.

(٢) هو الحرث بن أسد المحاسبي الزاهد الناطق بالحكمة صاحب المصنفات في التصرف والأحوال ، قال ابن الأهدل : كان أحد الخمسة الجامعين بين العلمين في واحد هو والجنيد وأبو محمد وأبو العباس بن عطاء وعمرو بن عثمان المكي وله مصنفات نفيسة في السلوك والأصول ، وهو احد شيوخ الجنيد ، توفي سنة ثلاث وأربعين ومائتين للهجرة.

(٣) [وارثه].

(٤) [ورووا].

١٥٢

المسألة الثالثة من هذا الأصل

في تفصيل الركن الثاني وهو الصلاة

والصلوات المفروضات خمس وعدد ركعاتها لمن لا يجوز له القصر سبع عشرة ولمن جاز له القصر في السفر إحدى عشرة. وهذه الخمس من أسقط وجوب بعضها أو أسقط وجوبها كلها كفر. واختلفوا في وجوب الوتر ولا يكفر من أوجبها ولا من أسقط وجوبها. واختلف الفقهاء في بعض أركان الصلاة. ومن أسقط ما اختلفوا في وجوبه منها لم يكفر ومن أسقط وجوب ركن قد أجمع السلف على وجوبه كفر. ولهذا أكفرنا الكرّامية في قولها إن نية الصلاة المفروضة غير واجبة ونية قبول الإسلام في الابتداء كافية. وهذا خلاف قول الأمة كلها. ومن ترك الصلاة مع اعتقاد وجوبها عليه فقد اختلفوا فيه : فقال أحمد بن حنبل إنه يكفر بذلك وقال الشافعي يقتل ولا يكون كافرا وقال أبو حنيفة يضرب على ذلك ولا يقتل. فأما إذا استحلّ ترك الصلاة فهو كافر بلا خلاف. وكل من لا يرى الجمعة وصلاة العيد خلف أهل السنة فإنا أيضا لا نرى الصلاة خلفه ولا عليه إذا مات وحكمه عندنا حكم المرتدين. والجمعة واجبة عندنا على كل مكلف إلا المرأة والعبد والمريض والمسافر والممرض والهارب من ظالم لا يطيقه. والفرائض من الصلوات كلها موقتة ولا يصح شيء منها قبل دخول وقتها. ومن شرط صحة الصلاة الطهارة ودخول الوقت واستقبال القبلة عند الإمكان في فرائضها دون النافلة على الراحلة. وستر العورة عند الإمكان. ومن فاتته الفريضة في وقتها فعليه قضاؤها. ومن فاتته النافلة فليس عليه قضاؤها وإن كان قضاء بعضها مستحبا.

المسألة الرابعة من هذا الأصل

في تفصيل الركن الثالث (وهو الزكاة) (١)

والركن الثالث من أركان الإسلام : الزكاة. والزكاة التي أجمعوا على وجوبها عشر : زكاة البقر وزكاة الغنم وزكاة الزبيب وزكاة التمر وزكاة الحبوب المقتاتة التي يزرعها الآدميون وزكاة التجارة وزكاة الفطر. فمن أسقط وجوب شيء من ذلك كفر

__________________

(١) زيدت على المطبوع.

١٥٣

إلا زكاة التجارة فللاجتهاد فيها مجال. واختلفوا في زكاة سائر الثمار وفي زكاة الحلى وزكاة الخيل. وللاجتهاد فيها مجال وكذلك الاختلاف في زكاة البقول والورس (١) والزعفران والعسل. وحكمها مبني على الاجتهاد. وكل زكاة سوى زكاة الفطر وجوبها بشرطين :

إحداهما : كمال النصاب.

والثاني : حئول الحول عليه. واختلفوا في اعتبار السوم في زكاة النعم وفي وجوب الزكاة في مال الصغير والمجنون. وللاجتهاد ، في ذلك وفي كل ما اختلف فيه الفقهاء من مسائل الزكاة ، مساغ.

المسألة الخامسة من هذا الأصل

في تفصيل الركن الرابع من أركان الإسلام (وهو الصيام)

والركن الرابع من أركان الإسلام هو صوم رمضان ولا بدّ لكل مكلّف من العلم بوجوب صوم رمضان وبوجوب قضائه على من أفطر فيه لعذر أو لغير عذر ولا بد له من العلم بوجوب صوم المنذور. فأما الصوم في الكفّارات فإنما يعرفه الفقهاء والخواص. ولا بد من العلم بأن صوم رمضان يكون الدخول فيه برؤية هلاله أو باستكمال ثلاثين يوما من شعبان. ومن قال من الروافض بالدخول فيه يوم الشك فلا اعتبار بخلافه في هذا الباب. واليهود يرون وجوب صوم واحد. والنصارى تصوم ثمانية واربعين يوما ابتداؤها فيما بين شباط وآذار. فأما فروع الصوم وأكثر شروطه فمما يختص بمعرفة الفقهاء.

المسألة السادسة من هذا الأصل (٢)

في تفصيل الركن الخامس وهو الحج

وجوب هذا الركن في العمر مرة واحدة على من وجد استطاعة. وأركانه

__________________

(١) الورس بوزن الفلس : نبت أصفر يكون باليمن تتخذ منه الغمرة للوجه ، تقول منه : وأورس المكان فهو وارس ولا يقال مورس وهو من النوادر ، وورس الثوب توريسا صبغه بالورس.

(٢) زيدت على المطبوع.

١٥٤

الواجبة التي لا بد منها عند الشافعي أربعة : وهي الإحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعي بين الصفا والمروة. ووقت الوقوف ما بين زوال الشمس من يوم عرفة إلى طلوع الفجر الصادق من يوم النحر. فمن وقف منها ساعة بها فقد أدرك الحج. وأقل ما يجزيه من الطواف في قول الشافعي سبعة أشواط ومن السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط. واختلفوا في وجوب العمرة : فأوجبها الشافعي وجعل أركانها ثلاثة : الإحرام والطواف والسعي. وأسقط أبو حنيفة وجوبها.

المسألة السابعة من هذا الأصل

في بيان شروط الأركان الخمسة

أما الصلاة فمن شرطها الطهارة وستر العورة ودخول الوقت واستقبال القبلة باليقين أو بالاجتهاد عند عدم اليقين إلا في حال التحام القتال ، فإنها تصح على حسب الإمكان. وكذلك النافلة على الراحلة سقط فيها فرض الاستقبال. وشروط الطهارة في الوضوء عند أهل الحديث ستة : منها أركانها الأربعة والنية والترتيب. وللغسل شرطان أحدهما النية والثاني إيصال الماء إلى كل بشرة ظاهرة وشعر ظاهر. وشروط الجمعة الحرية والذكورة والبلوغ والعقل والإقامة والصحة. وشروط الزكاة في الغنم : حئول الحول عليها وهي سائمة في ملك مسلم تام الملك وهو مع ذلك نصاب كامل. وشروط الحج والعمرة : وجود الاستطاعة. وهي لمن حضر مكة أو ما يتصل بها بالبدن ولمن بعد عنها بالزاد والراحلة مع أمن الطريق.

المسألة الثامنة من هذا الأصل

في شرط الجهاد وأحكامه

الجهاد واجب مع أعداء الدين على حسب الوسع والطاقة وأصله وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والجهاد مع أهل الكفر بالقتال إلى أن يؤمنوا بالله وكتبه ورسله ويقبلوا دين الإسلام بكمال أركانه أو يقبل الجزية ممن يجوز لنا بذل العهد على الجزية. والجهاد مع أهل البدع بالحجاج أوّلا ثم بالاستتابة ثانيا. ومن لم يبلغه دعوة الإسلام فلا يجوز قتله ولا أخذ ماله حتى يدعى إلى الإسلام

١٥٥

ويقام عليه الحجة فيه فإن لم يقبل ذلك عومل حينئذ بما يعامل به أهل الكفر. فإن قتله قاتل قبل قيام الحجة فقد اختلفوا فيه. وأوجب أصحابنا على قاتله الكفّارة ودية له كما يليق بدية أهل دينه. وعلى الإمام سد الثغور وإغراء الجيوش واستتابة أهل الردة وأهل البدع وإقامة الحدود وقسمة الفيء والغنيمة بين المستحقين. وإذا وقع النفير العام وجب على جميع المكلفين القيام به. ومتى قام بفرض الجهاد في ناحية بعض الناس سقط فرضه عن غيره. لأن الجهاد من فروض الكفاية.

المسألة التاسعة من هذا الأصل

في بيان أحكام المعاملات

والمعاملات أنواع : منها البيوع والرهون والديون والضمان والكفالة والوكالة والحوالة والشركة والوديعة والعارية والصلح والشفعة والهبة والأوقاف والإجارات والمزارعات والمساقاة وأحكام الإقرار والتفليس وأحكام اللقطة وإحياء الموات وإقطاع المعادن وسائر الوجوه التي تكتسب منها الأموال فكل ذلك على الإباحة في الجملة. واختلف العلماء في تفصيل فروع بعض منها. ومن حرّم شيئا منها وكان مما قد أجمع سلف الأمة على إباحته كفر ، ولذلك أكفرنا الأصم في إنكاره صحة عقد الإجارة التي أجمع سلف الأمة على جوازها. وأكفرناه أيضا في إجازته الوضوء بالخل كما أكفرناه في نفي الأعراض. ومن أنكر منها ما اختلف العلماء في جوازه لم يكفر كعقد المساقاة والمخابرة والمزارعة ورد ما عند المفلس من مال البائع ونحو ذلك. وفي عقود المعاوضة لا بد أن يكون العوض والمعوض معلومين. وكل عقد كان فيه أجل فلا بد من أن يكون الأجل فيه معلوما. ولا يصح شيء من العقود إلا من بالغ عاقل كما لا يتوجه التكليف إلا على عاقل بالغ. والربا في المعاملات حرام. وقد أجمعوا على تحريم الربا في ستة أشياء وهي :

الذهب والورق والبر والشعير والتمر والملح.

واختلفوا فيما سواه فأجرى الشافعي تحريم الربا في كل مطعوم. وأجراه مالك في كل مقتات مدخر. وأجراه أبو حنيفة في كل مكيل وموزون. فمن أباح

١٥٦

الربا في الستة التي ذكرناها كفر. ومن أباحه في غيرها لم يكفر لاختلاف الأمة فيه. وللكلام في فروع المعاملات وشروطها كتاب مفرد

المسألة العاشرة من هذا الأصل

في بيان أحكام الفروج

وأحكام الفروج كثيرة. منها : النكاح والرجعة والطلاق والخلع والظهار والإيلاء والعدة واللعان والرضاع والمهر ونفقات الأزواج ونحوها. والفرج لا يستباح إلا بنكاح أو ملك يمين. وغاية ما ينكح الحر من النسوة ، في قول أكثر الأمة ، أربع. وأكثر ما ينكح العبد ، في قول الأكثر ، امرأتان. وأجمعوا على تحريم نكاح الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت. والجدات يدخلن في عموم الأمهات وبنات الأولاد وإن سفلن يدخلن في جملة البنات. وكذلك عمات الآباء والأمهات وخالات الصنفين وبنات أولاد الأخوة والأخوات على هذا القياس. هذا إذا كنّ من النسب وأجمعوا على تحريم الأمهات والأخوات من الرضاع. واختلفوا في تحريم العمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت من الرضاع : فأباحهن أهل الظاهر وأكثر الخوارج وحرمهن أكثر الأمة وذلك هو الصحيح. وأجمعوا على تحريم أمهات النساء وتحريم منكوحات الآباء وحلائل الأبناء بالعقد وعلى تحريم الربائب بشرط الدخول. وأجمعوا على تحريم الجمع بين الأختين بالنكاح واختلفوا في تحريم الاستمتاع بهما بملك اليمين. وكذلك الخلاف في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها. فكل من خالف في شيء مما اختلف فيه سلف الأمة من أبواب النكاح في تحريم امرأة وإباحتها وفي شرط قد اختلفوا فيه كشهود النكاح ولفظه والولي لم يكفر. ومن نازع فيما أجمعوا عليه منه كفر. ولذلك أكفرنا الميمونية من الخوارج بأن أباحوا نكاح بنات البنات ونكاح بنات البنين. وزعموا أن الآية اقتضت تحريم نكاح بنات الصلب دون بنات الأولاد. وأجمعوا على أن الصداق يجب أن يكون معلوما حلالا فإن كان الصداق مجهولا أو فاسدا فالنكاح صحيح في قول الشافعي رضي الله عنه وأبي حنيفة ويرجع في الصداق إلى مهر المثل. وفي قول مالك يفسد النكاح بفساد الصداق.

١٥٧

فإن لم يذكر في النكاح صداقا صح النكاح بلا خلاف واستقر فيه مهر المثل بالوطء. والرجعة تكون بعد طلاق رجعي فإن كان الطلاق على عوض أو كان قبل الدخول أو كان ثلاثا لم يكن بعده رجعة بلا خلاف. ولفروع أحكام الفروج كتب مفردة والغرض من جملتها أن من غيّر منها ما أجمعت الأمة عليه عن نص من القرآن أو السنة كفر. ومن خالف في شيء اختلف فيه سلف الأمة لم يكفر.

المسألة الحادية عشرة من هذا الأصل

في أحكام الحدود على الجملة

(اعلموا) (١) أن الحدود نوعان : أحدهما : حق لله عزوجل كحد الزنا وشرب الخمر. والثاني : حق لآدمي كالقصاص وحد القذف. وما كان منها حقا لله عزوجل قد يسقط بالتوبة ومن أقرّ بشيء منها أو قامت البينة عليه وجب على الإمام إقامته وذلك كحد الزنا وحد الخمر وقطع السارق وقتل المرتد والزنديق. وكل حد كان حقا لإنسان فلا يسقط إلا بعفو من له الحق كالقود وحد القذف. وقد أجمعوا على وجوب قتل المرتد إن لم يتب. وإنما اختلفوا في قتل المرتدة إذا ارتدت فأوجب الشافعي قتلها ومنع أبو حنيفة من قتلها ورأى استرقاقها. ويكون مال المرتد إذا قتل أو مات على ردّته فيئا وفيه الخمس ، وقال أبو حنيفة : ما اكتسبه قبل ردّته لورثته المسلمين وما اكتسبه بعد ردّته يكون فيئا. وأجمعوا على أن حد البكر الحر في الزنا جلد مائة. واختلفوا في تغريبه فرآه الشافعي سنة وأباه أبو حنيفة. وإن كان الزاني الحر محصنا مسلما رجم. واختلفوا في رجم الذمي المحصن فرآه الشافعي وأباه أبو حنيفة. واختلفوا في حد العبد في الزنا فرآه أكثر الأمة نصف حد الحر وزعم داود أنه مثل حد الحر ووافقنا في أن حد الأمة نصف حد الحرة. وكذلك حد العبد في القذف والخمر حد الحر عند الجمهور. والصحيح من مذهب الشافعي أن حد الخمر أربعون للأحرار وللعبد عشرون. واختلفوا في شرب النبيذ فأوجب الشافعي به الحد سواء كان منه سكر أو لم يكن. وقال أبو حنيفة : لا حدّ فيه إلا إذا

__________________

(١) زيدت على الأصل.

١٥٨

سكر منه الشارب. وقطع السرقة معلق بنصاب من حرز بلا شبهة خلاف قول الأزارقة بوجوب القطع في القليل والكثير. ومن اعتبر فيه النصاب اختلفوا في مقداره : فرآه الشافعي ربع دينار أو قيمته ورآه أبو حنيفة مقدار عشرة دراهم. فإن كان ذلك في المحاربة اجتمع فيها قطع اليد والرجل من خلاف. والمحارب إذا قتل وأخذ المال جاز صلبه. وحد القذف ثمانون للأحرار وأربعون للعبيد والإماء. وأجمعوا على أن الحدود لا تجب على الصبيان والمجانين. واختلفوا في الاقتصاص من المؤمن بالذمي ومن الحر بالعبد فأسقطه الشافعي وأثبته أبو حنيفة. وأجمعوا على أنه لا يقاد الوالد بولده ولا السيد بمملوكه إلا إذا قتل ولده غيلة فإن مالكا رأى فيه القود. وهذه جملة لا يسع جهلها وفروعه مبسوطة في كتب الفقه.

المسألة الثانية عشرة (من هذا الأصل) (١)

في المحرمات والمباحات

قال أصحابنا إنّ أحكام الشريعة كلها خمسة أقسام : واجب ومحظور ومسنون ومكروه ومباح. فالواجب كل ما يستحق المكلف بتركه عقابا. والمحظور ما يستحق بفعله عقابا والمسنون ما يثاب فاعله ولا يعاقب تاركه. والمكروه ما يثاب تاركه ولا يعاقب فاعله. والمباح من أفعال المكلفين ما لم يكن في فعله ولا تركه ثواب ولا عقاب. وهذا المعنى حاصل في أفعال الصبيان والمجانين والبهائم ولا يقال لها مباحة. والجواز يجمعها كلها. وقد ورد الأمر بالمفروض والمسنون وورد النهي عن المحظور وعن المكروه. ولم يرد بالمباح أمر ولا عنه نهي. هذا قول أصحابنا. وزعم ابن الراوندي وطائفة من القدرية أن الأمر ما ورد إلا بالواجب وأن النوافل غير مأمور بها. ويلزمهم على هذا الأصل أن لا تكون النوافل طاعات ولو صحت طاعة لم يؤمر بها المطيع لصحت أيضا معصية لم ينه عنها العاصي. وزعم بعض المعتزلة البغدادية أنّا مأمورون بالمباح واعتل بأن فاعل المباح يترك به معصية وإذا كان منهيا عن المعصية فهو مأمور بتركها. ويلزمه على هذا الاعتلال أن تكون

__________________

(١) زيدت على الأصل.

١٥٩

المعصية مأمورا بها لأن كل معصية يترك بها فاعلها معصية سواها وكل كفر يترك به كفر سواه. وإذا بطل هذا القول بطل ما يؤدي إليه.

المسألة الثالثة عشرة من هذا الأصل

في أحكام الأموات

وللأموات ثلاثة أحكام : منها حكم الكفن والمئونة والغسل والدفن ومنها حكم الديون والوصايا التي تقضى عنهم. ومنها حكم الميراث عنهم. فأما حكم الكفن والمئونة فإنه أول ما يبدأ به من رأس مال الميت قبل الديون والوصايا ، من غير إسراف ولا تقصير على حسب العرف والعادة في يساره وإعساره. وإن تطوع أجنبي بكفنه ومئونة دفنه إبقاء لتركه على ديونه لم يجبر ورثته على قبول ذلك. وقيل للمتطوع إن أردت صلة الميت فاقض بعض ديونه. فإن لم يكن للميت مال فكفنه ومئونته على من كان يلزمه نفقته في حياته فإن لم يكن ففي بيت المال. فأما المرأة ذات الزوج فقد قال أبو حنيفة كفنها ومئونتها على الزوج وقال الشافعي : على ذوي الأنساب منها. فإن لم يكونوا أو عجزوا ففي بيت المال. وأما حكم الديون فإن كانت التركة تفيء ولا يفضل منها شيء قضيت الديون منها. وإن كانت تقصر عن الديون نظر فإن كان صاحب الدين واحدا دفعت التركة إليه بعد الكفن والمئونة.

وإن كانوا جماعة نظر فإن كان بعضهم أولى من بعض كالمرتهن والمجني عليه ورادّ السلعة بالعيب ونحوهم فهو مقدم فيما هو أولى به على غيره. وإن كانت ديونهم في الذمة ولم يكن بعضهم أولى من بعض قسمت التركة بينهم على مقادير ديونهم. ولا فرق في ذلك بين ما ثبت عليه بيّنة وبين ما أقر به قبل موته عند الشافعي. وقدّم أبو حنيفة ما أقر به في حال الصحة على ما أقر به في حال المرض. وأجمعوا على أن ما أقر به الميت قبل موته مقدم في حال المرض. وأجمعوا على أن ما أقر به الميت قبل موته مقدم على ما أقر به الورثة بعد موته. فإن فضل منهم شيء قضي به ما أقر به الوارث. وأما وصاياه فمحدودة بالثلث في قول الأكثرين وللورثة رد ما زاد منها على ثلث الباقي من التركة بعد المئونة والديون. واختلفوا في عطاياه في مرضه الذي مات منه فاعتبرها أكثرهم من الثلث وجعلها أهل الظاهر من رأس

١٦٠