إعجاز القرآن

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن الطيّب الباقلّاني


المحقق: أبو عبدالرحمن صلاح بن محمّد بن عويضة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-0344-X
الصفحات: ١٩١

الله فأوجز ثم قال :

«أيها الناس ، إنا قد أصبحنا في دهر عنود ، وزمن شديد. يعدّ فيه المحسن مسيئا. ويزداد الظالم فيه عتوا. لا ننتفع بما علمنا. ولا نسأل عما جهلنا. ولا نتخوف من قارعة حتى تحل بنا. فالناس على أربعة أصناف :

منهم : من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه ؛ وكلال حدّه ، ونضيض وفره.

ومنهم : المسلط لسيفه ، والمجلب برجله ، والمعلن بشره ، قد أشرط نفسه ، وأوبق دينه ، لحطام ينتهزه ، أو مقنب يقوده ، أو منبر يقرعه وبئس المتجر أن تراها لنفسك ثمنا ، وممّا لك عند الله عوضا.

ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا ، قد طامن من شخصه ، وقارب من خطوه ، وشمّر من ثوبه ، وزخرف نفسه للأمانة ، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية ، ومنهم من أقعده عن الملك ضئولة في نفسه ، وانقطاع سببه ، فقصرته الحال ، فتحلى باسم القناعة ، وتزين بلباس الزهاد ، وليس من ذلك في مراح ولا مغذى.

وبقي رجال أغض أبصارهم ذكر المرجع ، وأراق دموعهم خوف المحشر. فهم بين شديد ناد ، وخائف منقاد ، وساكت مكعوم ، وداع مخلص ، وموجع ثكلان ، قد أخملتهم التّقيّة ، وشملتهم الذلة. فهم في بحر أجاج. أفواههم دامية ، وقلوبهم قريحة ، قد وعظوا حتى ملوا ، وقهروا حتى ذلوا ، وقتلوا حتى قلوا.

فلتكن الدنيا في عيونكم أقل من متانة القرظ ، وقراضة الجلم ، واتعظوا بمن كان قبلكم أن يتعظ بكم من بعدكم. فارفضوها ذميمة ، فإنها قد رفضت من كان أشغف بها منكم».

خطبة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : «أيها الناس ، إنكم ميتون ، ثم إنكم مبعوثون. ثم إنكم محاسبين. فلعمري لئن كنتم صادقين لقد قصرتم. ولئن كنتم كاذبين لقد هلكتم. يا أيها الناس ، إنه من يقدر له رزق برأس جبل ، أو بحضيض أرض يأته ، فاجملوا في الطلب».

خطبة للحجاج بن يوسف : حمد الله وأثنى عليه ثم قال : «يا أهل العراق ، ويا أهل الشقاق والنفاق ، ومساوئ الأخلاق ، وبني اللّكيعة ، وعبيد العصا. وأولاد الإماء ، والفقع بالقرقر. إني سمعت تكبيرا لا يراد به الله. وإنما يراد به الشيطان. وإنما مثلي ومثلكم ما قاله ابن براقة الهمداني :

وكنت إذا قوم غزني غزوتهم

فهل أنا في ذا بالهمذان ظالم

١٠١

متى تجمع القلب الذكي وصارما

وأنفا حميّا تجتنبك المظالم

أما والله لا تقرع عصا إلا جعلتها كأمس الدابر».

خطبة لقس بن ساعدة الأيادي : أخبرني محمد بن علي الأنصاري بن محمد بن عامر قال : حدثنا علي بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن داود بن عبد الرحمن العمري قال : حدثنا الأنصاري علي بن محمد الحنظلي من ولد حنظلة الغسيل ، حدثنا جعفر بن محمد ، عن محمد بن حسان ، عن محمد بن حجاج اللخمي ، عن مجالد ، عن الشعبي ، عن ابن عباس قال :

ولما وفد وفد عبد القيس على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أيكم يعرف قس بن ساعدة؟

قالوا : كلنا نعرفه يا رسول الله. قال : لست أنساه بعكاظ إذ وقف على بعير لهن أحمر فقال :

«أيها الناس اجتمعوا ، وإذا اجتمعتم فاسمعوا ، وإذا سمعتم فعوا ، وإذا وعيتم فقولوا ، وإذا قلتم فاصدقوا. من عاش مات ، ومن مات فات. وكل ما هو آت آت.

أما بعد : فإن في السماء لخبرا ، وإن في الأرض لعبرا. مهاد موضوع ، وسقف مرفوع ، ونجوم تمور ، وبحار لا تغور. أقسم بالله قس قسما حقا لا كاذبا فيه ، ولا آثما. لئن كان في الأرض رضا ليكونن سخط. إن الله تعالى دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه. وقد أتاكم أوانه ولحقتكم مدته. ما لي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون. أرضوا بالمقام فأقاموا ، أم تركوا فناموا»؟ ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيكم يروي شعره؟ فأنشدوه :

في الذاهبين الأوّلي

ن من القرون لنا بصائر

لما رأيت مواردا

للموت ليس لها مصادر

ورأيت قومي نحوها

يسعى الأصاغر والأكابر

لا يرجع الماضي إل

ي ولا من الباقين غابر

أيقنت أني لا محا

لة حيث صار القوم صائر (١)

أخبرني الحسن بن عبد الله بن سعيد ، حدثنا علي بن الحسين بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن زكريا ، حدثنا عبد الله بن الضحاك ، عن هشام عن أبيه ، أن وفدا من إياد قدموا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسألهم عن حال قس بن ساعدة ، فقالوا : قال قس :

يا ناعي الموت والأموات في جدث

عليهم من بقايا بزّهم حرق

دعهم فإن لهم يوما يصاح بهم

كما ينبّه من نوماته الصّعق

__________________

(١) دلائل النبوة ١ / ٢٨ ، والبداية والنهاية ٢ / ٢٣١ والطبراني ١٢ / ٨٨.

١٠٢

منهم عراة ومنهم في ثيابهم

منها الجديد ومنها الأورق الخلق

مطر ونبات ، وآباء وأمهات وذاهب وآت ، وآيات في إثر آيات ، وأموات بعد أموات ، ضوء وظلام ، وليال وأيام ، وغني وفقير. وشقي وسعيد ، ومحسن ومسيء. أين الأرباب الفعلة ..؟ ليصلحن كل عامل عمله. كلا ، بل هو الله واحد ، ليس بمولود ولا والد ، أعاد وأبدى. وإليه المآب غدا.

أما بعد يا معشر أياد أين ثمود وعاد ..؟ وأين الآباء؟ والأجداد؟ أين الحسن الذي لم يشكر؟ أين الظلم الذي لم ينقم؟ كلا ورب الكعبة ليعودن ما بدا. ولئن ذهب يوم ليعودن يوم. قال : وهو قس بن ساعدة بن حذاق بن ذهل بن أياد بن نزار أول من آمن بالبعث من أهل الجاهلية ، وأول من توكأ على عصا ، وأول من تكلم بأما بعد.

خطبة لأبي طالب : «الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم ، وزرع إسماعيل ، وجعل لنا بلدا حراما ، وبيتا محجوجا. وجعلنا الحكام على الناس ، وأن محمدا بن عبد الله ، ابن أخي ، لا يوازن به فتى من قريش إلا رجح به ، بركة ، وفضلا ، وعدلا ، ومجدا ، ونبلا.

وإن كان في المال مقلا ، فإن المال عارية مسترجعة ، وظل زائل. وله في خديجة بنت خويلد رغبة. ولها فيه مثل ذلك. وما أردتم من الصداق فعليّ».

قد نسخت لك جملا من كلام الصدر الأول ومحاورتهم وخطبهم. وأحيلك فيما لم أنسخ على التواريخ والكتب المصنفة في هذا الشأن فتأمل ذلك ، وسائر ما هو مسطر من الأخبار المأثورة ، عن السلف وأهل البيان واللسان ، والفصاحة والفطن ، والألفاظ المنثورة ، والأمثال المنقولة عنهم.

ثم انظر بسكون طائر ، وخفض جناح ، وتفريغ لب ، وجمع عقل في ذلك ، فسيقع لك الفضل بين كلام الناس ، وبين كلام رب العالمين. وتعلم أن نظم القرآن يخالف نظم كلام الآدميين. وتعلم الحد الذي يتفاوت بين كلام البليغ والبليغ ، والخطيب والخطيب ، والشاعر والشاعر ، وبين نظم القرآن جملة.

فإن خيل إليك أو شبه عليك ، وظننت أنه يحتاج أن يوازن بين نظم الشعر والقرآن ؛ لأن الشعر أفصح من الخطب ، وأبرع من الرسائل ، وأدق مسلكا من جميع أصناف المحاورات ، ولذلك قالوا له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هو شاعر ، أو ساحر ، وسوّل إليك الشيطان أن الشعر أبلغ وأعجب ، وأرق وأبرع ، وأحسن الكلام وأبدع ، فهذا فصل فيه نظر بين المتكلمين ، وكلام بين المحققين.

١٠٣

باب : أيهما أبلغ .. الشعر أم النثر؟!

أسمعت أفضل من رأيت من أهل العلم بالأدب والحذق بهذه الصناعة ، مع تقدمه في الكلام ، يقول : إن الكلام المنثور يتأتى فيه من الفصاحة والبلاغة ما لا يتأتى في الشعر ، لأن الشعر يضيّق نطاق الكلام ، ويمنع القول من انتهائه ، ويصده عن تصرفه على سننه.

وحضره من يتقدم في صنعة الكلام ، فراجعه في ذلك ، وذكر أنه لا يمتنع أن يكون الشعر أبلغ إذا صادف شروط الفصاحة. وأبدع إذا تضمن أسباب البلاغة. ويشهد عندي للقول الأخير أن معظم براعة كلام العرب في الشعر. ولا تجد في منثور قولهم ما تجد في منظومه. وإن كان قد أحدثت البراعة في الرسائل على حد لم يعهد في سالف أيام العرب.

ولم ينقل من دواوينهم وأخبارهم. وهو وإن ضيق نطاق القول ، فهو يجمع حواشيه ، ويضم أطرافه ونواحيه. فهو إذا تهذب في بابه ووفى له جميع أسبابه ، لم يقاربه من كلام الآدميين كلام. ولم يعارضه من خطابهم خطاب.

وقد حكي عن المتنبي أنه كان ينظر في المصحف فدخل إليه بعض أصحابه فأنكر نظره فيه لما كان رآه عليه من سوء اعتقاده ، فقال له : هذا المكي على فصاحته كان مفحما. فإذا صحت هذه الحكاية عنه في إلحاده ، عرف بها أنه كان يعتقد أن الفصاحة في قول الشعر أبلغ ، وإذا كانت الفصاحة في قول الشعر أو لم تكن ، وبينا أن نظم القرآن يزيد في فصاحته على كل نظم ، ويتقدم في بلاغته على كل قول ، بما يتضح به الأمر اتضاح الشمس ، ويتبين به بيان الصبح ، وقفت على جلية هذا الشأن. فانظر فيما نعرضه عليك ، ما نعرضه. ونصور بفهمك ما نصوره. ليقع لك موقع عظيم شأن القرآن. وتأمل ما نرتبه ، ينكشف لك الحق ، وإذا أردنا تحقيق ما ضمناه لك ، فمن سبيلنا أن نعمد إلى قصيدة متفق على كبر محلها ، وصحة نظمها ، وجودة بلاغتها ومعانيها ، وإجماعهم على إبداع صاحبها فيها ، مع كونه من الموصوفين بالتقدم في الصناعة ، والمعروفين بالحذق في البراعة ، فنوقفك على مواضع خللها ، وعلى تفاوت نظمها ، وعلى اختلاف فصولها ، وعلى كثرة فضولها ، وعلى شدة تعسفها ، وبعض تكلفها ، وما نجمع من كلام رفيع ، يقرن بينه وبين كلام وضيع ، وبين لفظ سوقي يقرن بلفظ ملوكي ، وغير ذلك من الوجوه التي يجيء تفصيلها ، ونبيّن ترتيبها وتنزيلها.

فأما كلام مسيلمة الكذاب وما زعم أنه قرآن ، فهو أخس من أن نشتغل به ، وأسخف من أن نفكر فيه. وإنما نقلنا منه طرفا ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر. فإنه على سخافته قد أضل ، وعلى ركاكته قد أذل. وميدان الجهل واسع ، وممن نظر فيما نقلناه عنه ، وفهم

١٠٤

موضع جهله ، كان جديرا أن يحمد الله على ما رزقه من فهم ، وآتاه من علم.

فمما كان يزعم أنه نزل عليه من السماء (والليل الأطخم ، والذئب الأدلم ، والجذع الأزلم ، ما انتهكت أسيد من محرم) وذلك قد ذكر في خلاف وقع بين قوم أتوه من أصحابه.

وقال أيضا : (والليل الدامس والذئب الهامس ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس).

وكان يقول : (والشاة وألوانها وأعجبها السوداء ، وألبانها والشاة السوداء ، واللبن الأبيض إنه لعجب محض ، وقد حرم المذق فما لكم لا تجتمعون).

وكان يقول : (ضفدع بنت ضفدعين ، نقي ما تنقين أعلاك في الماء وأسفلك في الطين ، ولا الشارب تمنعين ، ولا الماء تكدرين ، لنا نصف الأرض ، ولقريش نصفها ، ولكن قريشا قوم يعتدون).

وكان يقول : (والمبتديات زرعا ، والحاصدات حصدا ، والذاريات قمحا ، والطاحنات طحنا ، والخابزات خبزا ، والثاردات ثردا ، واللاقمات لقما ، أهالة وسمنا. لقد فضلتم على أهل الوبر. وما سبقكم أهل المدر. ريفكم فامنعوه ، والمعتر فآووه ، والباغي فناووه).

وقالت سجاح بنت الحارث بن عقبان وكانت تتنبأ ، فاجتمع مسيلمة معها فقالت له : ما أوحي إليك؟ فقال : (ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى ، أخرج منها نسمة تسعى. من بين صفاق وحشا).

وقالت : فما بعد ذلك ..؟ قال : أوحي إلي (أن الله خلق النساء أفواجا ، وجعل الرجال لهن أزواجا ، فتولج فيهن قعسا إيلاجا ، ثم نخرجها إذا شئنا إخراجا ، فينتجن لنا سخالا نتاجا). فقالت : أشهد أنك نبي.

ولم ننقل كل ما ذكر من سخفه كراهة التثقيل. وروي أنه سأل أبو بكر الصديق رضي الله عنه أقواما قدموا عليه من بني حنيفة عن هذه الألفاظ فحكوا بعض ما نقلناه.

فقال أبو بكر : «سبحان الله ويحكم إن هذا الكلام لم يخرج عن آل. فأين كان يذهب بكم؟!» ومعنى قوله : لم يخرج عن آل ، أي عن ربوبية. ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام.

فنرجع الآن إلى ما ضمناه من الكلام على الأشعار المتفق على جودتها وتقدم أصحابها في صناعتهم ، ليتبين لك تفاوت أنواع الخطاب ، وتباعد مواقع البلاغة. وتستدل على مواضع البراعة.

١٠٥

وأنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس ، ولا ترتاب في براعته ، ولا تتوقف في فصاحته. وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورا اتبع فيها من ذكر الديار ، والوقوف عليها ، إلى ما يتصل بذلك من البديع الذي أبدعه ، والتشبيه الذي أحدثه ، والتلميح الذي يوجد في شعره ، والتصرف الكثير الذي يصادفه في قوله ، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه ، من صناعة وطبع ، وسلاسة وعلو ، ومتانة ورقة ، وأسباب تحمد ، وأمور تؤثر وتمدح.

وقد ترى الأدباء أولا يوازنون بشعره فلانا وفلانا. ويضمون أشعارهم إلى شعره ، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقبناه ، وبين شعره في أشياء لطيفة وأمور بديعة. وربما فضلوهم ، عليه أو سووا بينهم وبينه ، أو قربوا موضع تقدمهم عليه ، وبرزوه بين أيديهم.

ولما اختاروا قصيدته في السبعيات أضافوا إليها أمثالها ، وقرنوا بها نظائرها. ثم تراهم يقولون لفلان لامية مثلها. ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته وتساويه في طريقته. وربما عثرت في وجهه على أشياء كثيرة وتقدمت عليه في أسباب عجيبة.

وإذا جاءوا إلى تعداد محاسن شعره ، كان أمرا محصورا وشيئا معروفا ، أنت تجد من ذلك البديع ، أو أحسن منه في شعر غيره ، وتشاهد مثل ذلك البارع في كلام سواه ، وتنظر إلى المحدثين كيف توغلوا إلى حيازة المحاسن منهم من جمع رصانة الكلام إلى سلاسته ، ومتانته إلى عذوبته ، والإصابة في معناه إلى تحسين بهجته ، حتى أن منهم من إن قصر عنه في بعض ، تقدم عليه في بعض ، لأن الجنس الذي يرمون إليه والغرض الذي يتواردون عليه ، مما للآدمي فيه مجال ، وللبشرى فيه مثال. فكل يضرب فيه بسهم ، ويفوز بقدح. ثم قد تتفاوت السهام تفاوتا ، وتتباين تباينا. وقد تتقارب تقاربا على حسب مشاركتهم في الصنائع ، ومساهمتهم في الحرف.

ونظم القرآن جنس مميز وأسلوب متخصص وقبيل عن النظير متخلص. فإذا شئت أن تعرف عظم شأنه ، فتأمل ما نقوله في هذا الفصل لامرئ القيس في أجود أشعاره. وما نبين لك من عواره على التفصيل وذلك قوله :

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها

لما نسجتها من جنوب وشمأل

الذين يتعصبون له ، أو يدعون محاسن الشعر ، يقولون : هذا من البديع لأنه وقف ، واستوقف وبكى واستبكى ، وذكر العهد والمنزل والحبيب. وتوجع واستوجع ، كله في بيت ونحو ذلك.

وإنما بيّنا هذا لئلا يقع لك ذهابنا عن مواضع المحاسن ، إن كانت. ولا غفلتنا عن

١٠٦

مواضع الصناعة ، إن وجدت. تأمل ـ أرشدك الله ـ وانظر هداك الله : أنت تعلم أنه ليس في البيتين شيء قد سبق في ميدانه شاعرا ، ولا تقدّم به صانعا. وفي لفظه ومعناه خلل.

فأول ذلك : أنه استوقف من يبكي لذكر الحبيب ، وذكراه لا يقتضي بكاء الخليّ.

وإنما يصحّ طلب الإسعاد في مثل هذا على أن يبكي لبكائه ، ويرق لصديقه في شدة برحائه.

فأما أن يبكي على حبيب صديقه ، وعشيق رفيقه ، فأمر محال.

فإن كان المطلوب وقوفه وبكاءه أيضا عاشقا ، صح الكلام ، وفسد المعنى. من وجه آخر ؛ لأنه من السخف أن لا يغار على حبيبه ، وأن يدعو غيره إلى التغازل عليه ، والتواجد معه فيه.

ثم إن في البيتين ما لا يفيد من ذكر هذه المواضع ، وتسمية هذه الأماكن من «الدّخول» و «حومل» ، «وتوضح» و «المقراة» ، و «سقط اللّوى». وقد كان يكفيه أن يذكر في التعريف بعض هذا. وهذا التطويل إذا لم يفد ، كان ضربا من العي.

ثم إن قوله : «لم يعف رسمها» ، ذكر الأصمعي من محاسنه أنه باق ، فنحن نحزن على مشاهدته ، فلو عفا لاسترحنا.

وهذا بأن يكون من مساويه أولى ؛ لأنه إن كان صادق الود فلا يزيده عفاء الرسوم إلا جدة عهد ، وشدة وجد. وإنما فزع الأصمعي إلى إفادته هذه الفائدة ، خشية أن يعاب عليه ، فيقال : أيّ فائدة لأن يعرّفنا أنه لم يعف رسم منازل حبيبه؟ وأي معنى لهذا الحشو؟ فذكر ما يمكن أن يذكر ، ولكن لم يخلصه بانتصاره له من الخلل. ثم في هذه الكلمة خلل آخر لأنه عقّب البيت بأن قال :

«فهل عند رسم دارس من معول».

فذكر أبو عبيدة أنه رجع فأكذب نفسه ، كما قال زهير :

قف بالديار التي لم يعفها القدم

نعم وغيّرها الأرواح والدّيم

وقال غيره : أراد بالبيت الأول أنه لم ينطمس أثره كله ، وبالثاني أنه ذهب بعضه حتى لا يتناقض الكلامان. وليس في هذا انتصار ؛ لأن معنى عفا ودرس واحد ، فإذا قال لم يعف رسمها ثم قال قد عفا ، فهو تناقض لا محالة. واعتذار أبي عبيدة أقرب لو صح. ولكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك ، كما قاله زهير فهو إلى الخلل أقرب ، وقوله : لما نسجتها ، كان ينبغي أن يقول لما نسجها ، ولكنه تعسف فجعل ما في تأويل التأنيث لأنها في معنى الريح ، والأولى التذكير دون التأنيث. وضرورة الشعر قد دلته على هذا التعسف ، وقوله لم يعف رسمها كان الأولى أن يقول لم يعف رسمه ، لأنه ذكر المنزل.

١٠٧

فإن كان رد ذلك إلى هذه البقاع ، والأماكن التي المنزل واقع بينها ، فذلك خلل ؛ لأنه إنما يريد صفة المنزل الذي نزله حبيبه بعفائه ، أو بأنه لم يعف دون ما جاوره. وإن أراد بالمنزل الدار حتى أنث ، فذلك أيضا خلل. ولو سلم من هذا كله ، ومما نكره ذكره كراهية التطويل ، لم يشك في أن شعر أهل زماننا لا يقصر عن البيتين بل يزيد عليهما ويفضلهما. ثم قال :

وقوفا بها صحبي عليّ مطيّهم

يقولون لا تهلك أسى وتحمّل

وإن شفائي عبرة مهراقة

فهل عند رسم دارس من معوّل

وليس في البيتين أيضا معنى بديع ، ولا لفظ حسن كالأولين.

والبيت الأول منهما متعلق بقوله : «قفا نبك» فكأنه قال : قفا وقوف صحبي بها على مطيهم. أوقفا حال وقوف صحبي. وقوله بها متأخر في المعنى وإن تقدم في اللفظ. ففي ذلك تكلف وخروج عن اعتدال الكلام.

والبيت الثاني مختل من جهة أنه قد جعل الدمع في اعتقاده شافيا كافيا. فما حاجته بعد ذلك إلى طلب حيلة أخرى ، وتحمّل ومعوّل عند الرسوم؟ ولو أراد أن يحسن الكلام ، لوجب أن يدلّ على أن الدمع لا يشفيه لشدة ما به من الحزن. ثم يسائل هل عند الربع من حيلة أخرى؟ وقوله :

كدأبك من أم الحويرث قبلها

وجارتها أمّ الرّباب بمأسل

إذ قامتا تضوّع المسك منهما

نسيم الصبا يأتي بريّا القرنفل

أنت لا تشك في أن البيت الأول قليل الفائدة ، ليس له مع ذلك بهجة ، فقد يكون الكلام مصنوع اللفظ ، وإن كان منزوع المعنى. وأما البيت الثاني فوجه التكلف فيه قوله : إذا قامتا تضوع المسك منهما. ولو أراد أن يجود أفاد أن بهما طيبا على كل حال.

فأما في حال القيام فقط فذلك تقصير ، ثم فيه خلل آخر لأنه بعد أن شبه عرفها بالمسك ، شبه ذلك بنسيم القرنفل ، وذكر ذلك بعد ذكر المسك نقص. وقوله نسيم الصبا في تقدير المنقطع عن المصراع الأول لم يصله به وصل مثله. وقوله :

ففاضت دموع العين مني صبابة

على النحر حتى بلّ دمعي محملي

ألا رب يوم لك منهن صالح

ولا سيما يوم بدارة جلجل

قوله : ففاضت دموع العين ، ثم استعانته بقوله مني ، استعانة ضعيفة عند المتأخرين في الصنعة. وهو حشو غير مليح ، ولا بديع. وقوله : على النحر ، حشو آخر ، لأن قوله : بلّ دمعي محملي يغني عنه ، ويدل عليه. وليس بحشو حسن. ثم قوله : حتى بلّ دمعي محملي

١٠٨

إعادة ذكره الدمع حشو آخر. وكان يكفيه أن يقول : حتى بلّت محملي ، فاحتاج لإقامة الوزن إلى هذا كله.

ثم تقديره أنه قد أفرط في إفاضة الدمع حتى بلّ محمله ، تفريط منه وتقصير. ولو كان أبدع لكان يقول : حتى بلّ دمعي مغانيهم وعراصهم. ويشبه أن يكون غرضه إقامة الوزن والقافية ، لأن الدمع يبعد أن يبلّ المحمل. وإنما يقطر من الواقف والقاعد على الأرض أو على الذيل. وإن بله فلقلته وأنه لا يقطر. وأنت تجد في شعر الخبزرزيّ ما هو أحسن من هذا البيت وأمتن وأعجب منه.

والبيت الثاني خال من المحاسن والبديع ، خال من المعنى. وليس له لفظ يروق ولا معنى يروع. من طبائع السوقة ، فلا يرعك تهويله ، باسم موضع غريب ، وقال :

ويوم عقرت للعذارى مطيّتي

فيا عجبا من رحلها المتحمّل

فظلّ العذارى يرتمين بلحمها

وشحم كهدّاب الدّمقس المفتّل

تقديره : أذكر يوم عقرت مطيتي. أو يرده على قوله : يوم بدارة جلجل وليس في المصراع الأول من هذا البيت إلا سفاهته.

قال بعض الأدباء قوله : يا «عجبا» ، يعجبهم من سفهه في شبابه من نحره ناقته لهم.

وإنما أراد أن لا يكون الكلام من هذا المصراع منقطعا عن الأول. وأراد أن يكون الكلام ملائما له.

وهذا الذي ذكره بعيد. وهو منقطع عن الأول. وظاهره أنه يتعجب من تحمل العذارى رحله ، وليس في هذا تعجب كبير. ولا في نحر الناقة لهن تعجب ، وإن كان يعني به أنهن حملن رحله ، وأن بعضهن حملته ، فعبر عن نفسه برحله ، فهذا قليلا يشبه أن يكون عجبا. لكن الكلام لا يدل عليه. ويتجافى عنه. ولو سلم البيت من العيب لم يكن فيه شيء غريب ولا معنى بديع ، أكثر من سفاهته ، مع قلة معناه ، وتقارب أمره ، ومشاكلته طبع المتأخرين من أهل زماننا. وإلى هذا الوضع لم يمر له بيت رائع ، وكلام رائق.

وأما البيت الثاني فيعدونه حسنا ، ويعدون التشبيه مليحا واقعا ، وفيه شيء : وذلك أنه عرّف اللحم ، ونكّر الشّحم ، فلا يعلم أنه وصف شحمها ، وذكر تشبيه أحدهما بشيء واقع ، وعجز عن تشبيه القسمة الأولى ، فمرّت مرسلة ، وهذا نقص في الصنعة ، وعجز عن إعطاء الكلام حقّه ، وفيه شيء آخر من جهة المعنى : وهو أنه وصف طعامه الذي أطعم من أضاف بالجودة ، وهذا قد يعاب ، وقد يقال إن العرب تفتخر بذلك ، ولا يرونه عيبا. وإنما الفرس هم الذين يرون هذا عيبا شنيعا.

١٠٩

وأما تشبيه الشحم بالدّمقس ، فشيء يقع للعامة ، ويجري على ألسنتهم ، فليس بشيء قد سبق إليه ، وإنما زاد المفتّل للقافية ، وهذا مفيد. ومع ذلك ، فلست أعلم العامة تذكر هذه الزيادة ، ولم يعدّ أهل الصنعة ذلك من البديع ، ورأوه قريبا.

وفيه شيء آخر ، وهو : أن تبجحه بما أطعم للأحباب مذموم وإن سوّغ التبجيح بما أطعم للأضياف إلا أن يورد الكلام مورد المجون ، وعلى طريق أبي نواس في المزاح والمداعبة. وقوله :

ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة

فقالت لك الويلات إنك مرجلي

تقول وقد مال الغبيط بنا معا

عقرت بعيري يا امرأ القيس فأنزل

قوله : دخلت الخدر خدر عنيزة ، ذكره تكريرا لإقامة الوزن لا فائدة فيه. غيره ، ولا ملاحة ولا رونق. وقوله في المصراع الأخير من هذا البيت : فقالت لك الويلات إنك مرجلى كلام مؤنث من كلام النساء ، نقله من جهته إلى شعره ، وليس فيه غير هذا. وتكريره بعد ذلك «تقول وقد مال الغبيط» يعني قتب الهودج بعد قوله : «فقالت لك الويلات إنك مرجلي» لا فائدة فيه غير تقدير الوزن ، وإلا فحكاية قولها الأول كاف ، وهو في النظم قبيح ، لأنه ذكر مرة «فقالت» ، ومرة «تقول» في معنى واحد وفصل خفيف.

وفي مصراع الثاني أيضا تأنيث من كلامهن ، وذكر أبو عبيدة أنه قال : عقرت بعيري ، ولم يقل ناقتي ؛ لأنهم يحملون النساء على ذكور الإبل لأنها أقوى ، وفيه نظر ؛ لأن الأظهر أن البعير اسم للذكر والأنثى ، واحتاج إلى ذكر البعير لإقامة الوزن ، وقوله :

فقلت لها سيري وأرخى زمامه

ولا تبعديني من جناك المعلّل

فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

فألهيتها عن ذي تمائم مغيل

البيت الأول قريب النسج ، ليس له معنى بديع ، ولا لفظ شريف ، كأنه من عبارات المنحطين في الصنعة. وقوله فمثلك حبلى قد طرقت ، عابه عليه أهل العربية. ومعناه عندهم حتى يستقيم الكلام (فرب مثلك حبلى قد طرقت) وتقديره أنه زير نساء ، وأنه يفسدهن ويلهيهن عن حبلهن ورضاعهن ؛ لأن الحبلى والمرضعة أبعد من الغزل ، وطلب الرجال.

والبيت الثاني في الاعتذار والاستهتار والتهيام وغير منتظم مع المعنى الذي قدمه في البيت الأول. لأن تقديره لا تبعديني عن نفسك ، فإني أغلب النساء وأخدعهن عن رأيهن وأفسدهن بالتغازل. وكونه مفسدة لهن لا يوجب له وصلهن وترك إبعادهن إياه. بل يوجب هجره والاستخفاف به ، لسخفه ودخوله كل مدخل فاحش ، وركوبه كل مركب فاسد ، وفيه

١١٠

من الفحش والتفحش ما يستنكف من مثله ويأنف من ذكره ، وكقوله :

إذا ما بكى من خلفها انصرفت له

بشقّ ، وتحتي شقّها لم يحوّل

ويوما على ظهر الكثيب تعذّرت

عليّ وآلت حلفة لم تحلّل

فالبيت الأول غاية في الفحش ، ونهاية في السخف. وأي فائدة لذكره لعشيقته ، كيف كان يركب هذه القبائح ، ويذهب هذه المذاهب ، ويرد هذه الموارد؟! إن هذا ليبغضه إلى كل من سمع كلامه. ويوجب له المقت. وهو لو صدق لكان قبيحا ، فكيف ويجوز أن يكون كاذبا. ثم ليس في البيت لفظ بديع ، ولا معنى حسن. وهذا البيت متصل بالبيت الذي قبله ، من ذكر المرضع التي لها ولد محول. فأما البيت الثاني وهو قوله ويوما يتعجب منه ، وإنما تشددت وتعسرت عليه ، وحلفت عليه ، فهو كلام رديء النسج ، لا فائدة لذكره لنا ، أن حبيبته تمنعت عليه يوما بموضع يسميه ويصفه. وأنت تجد في شعر المحدثين من هذا الجنس في التغزل ما يذوب معه اللب وتطرب عليه النفس ، وهذا مما تستنكره النفس ويشمئز منه القلب ، وليس فيه شيء من الإحسان والحسن. وقوله :

أفاطم مهلا بعض هذا التدلّل

وإن كنت قد أزمعت صرمي فأجملي

أغرّك مني أن حبّك قاتلي

وأنك مهما تأمري القلب يفعل

فالبيت الأول فيه ركاكة جدا ، وتأنيث ورقة. ولكن فيهما تخنيث! ولعل قائلا يقول :

إن كلام النساء بما يلائمهن من الطبع أوقع وأغزل؟ وليس كذلك ، لأنك تجد الشعراء في الشعر المؤنث لم يعدلوا عن رصانة قولهم.

والمصراع الثاني منقطع عن الأول لا يلائمه ولا يوافقه ، وهذا يبين لك إذا اعترضت معه البيت الذي تقدمه ، وكيف ينكر عليها تدللها ، والمتغزل يطرب على دلال الحبيب وتدلّله؟

والبيت الثاني : قد عيب عليه لأنه قد أخبر أن من سبيلها أن لا تغتر بما يريها من أن حبها يقتله. وأنها تملك قلبه ، فما أمرته فعله. والمحب إذا أخبر عن مثل هذا صدق ، وإن كان المعنى غير هذا الذي عيب عليه ، وإنما ذهب مذهبا آخر وهو أنه أراد أن يظهر التجلد ، فهذا خلاف ما أظهر من نفسه فيما تقدم من الأبيات ، من الحب والبكاء على الأحبة. فقد دخل في وجه آخر من المناقضة والإحاطة في الكلام ، ثم قوله : تأمري القلب يفعل معناه : تأمريني. والقلب لا يؤمر ، والاستعارة في ذلك غير واقعة ولا حسنة. وقوله :

فإن كنت قد ساءتك مني خليقة

فسلّي ثيابي عن ثيابك تنسل

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي

بسهميك في أعشار قلب مقتّل

١١١

البيت الأول قد قيل في تأويله : إنه ذكر الثوب وأراد البدن ، مثل قول الله تعالى (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) (١) وقال أبو عبيدة : هذا مثل للهجر ، وتنسل : تبين.

وهو بيت قليل المعنى ، ركيكة ووضيعه. وكل ما أضاف إلى نفسه ، ووصف به نفسه سقوط وسفه وسخف يوجب قطعه. فلم يحكم على نفسه بذلك ، ولكن يورده مورد أن ليست له خليقة توجب هجرانه. والتقصّي من وصله ، وأنه مهذب الأخلاق ، شريف الشمائل ، فذلك يوجب أن لا ينفك من وصاله.

والاستعارة في المصراع الثاني فيها تواضع وتقارب ، وإن كانت غريبة. وأما البيت الثاني فمعدود من محاسن القصيدة وبدائعها ، ومعناه ما بكيت إلا لتجرحي قلبا معشّرا ، أي مكسرا ، من قولهم : برمة أعشار ، إذا كانت قطعا هذا تأويل ذكره الأصمعي رضي الله عنه ، وهو أشبه عند أكثرهم.

وقال غيره : وهذا مثل للأعشار التي تقسم الجزور عليها. ويعني بسهميك ، المعلى وله سبعة أنصباء ، والرقيب وله ثلاثة أنصباء. فأراد أنك ذهبت بقلبي أجمع. ويعني بقوله : مقتل مذلل. وأنت تعلم أنه على ما يعني به فهو غير موافق للأبيات المتقدمة ، لما فيها من التناقض الذي بيّنا.

ويشبه أن يكون من قال بالتأويل الثاني فزع إليه لأنه رأى اللفظ مستكرها على المعنى الأول ، لأن القائل إذا قال : ضرب فلان بسهمه في الهدف ، بمعنى أصابه ، كان كلاما ساقطا مرذولا. وهو يرى أن معنى الكلمة أن عينيها كالسهمين النافذين في إصابة قلبه المجروح ، فلما بكتا وذرفتا بالدموع كانتا ضاربتين في قلبه.

ولكن من حمل على التأويل الثاني سلم من الخلل الواقع في اللفظ ، ولكنه إذا حمل على الثاني فسد المعنى واختل ، لأنه إن كان محتاجا على ما وصف به نفسه من الصبابة ، فقلبه كله لها. فكيف يكون بكاؤه هو الذي يخلص قلبه لها؟

واعلم بعد هذا أن البيت غير ملائم للبيت الأول ، ولا متصل به في المعنى ، وهو منقطع عنه ، لأنه لم يسبق كلام يقتضي بكاءها ، ولا سبب يوجب ذلك. فتركيبة هذا الكلام على ما قبله فيه اختلال ، ثم لو سلم له بيت من عشرين بيتا وكان بديعا ولا عيب فيه ، فليس بعجيب لأنه لا يدعي على مثله أن كلامه كله متناقض ، ونظمه كله متباين.

وإنما يكفي أن نبين أن ما سبق من كلامه إلى هذا البيت مما لا يمكن أن يقال إنه يتقدم

__________________

(١) آية (٤) سورة المدثر.

١١٢

فيه أحدا من المتأخرين ، فضلا عن المتقدمين ، وإنما قدم في شعره لأبيات قد برع فيها وبان حذقه بها. وإنما أنكرنا أن يكون شعره متناسبا في الجودة ومتشابها في صحة المعنى واللفظ ، وقلنا إنه يتصرف بين وحشي غريب مستنكر وعربية كالمهل مستنكرة ، وبين كلام سليم متوسط ، وبين عامي سوقي في اللفظ والمعنى ، وبين حكمة حسنة ، وبين سخف مستشنع.

ولهذا قال الله عز اسمه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١) فأما قوله :

وبيضة خدر لا يرام خباؤها

تمتعت من لهوبها غير معجل

تجاوزت أحراسا وأهوال معشر

عليّ حراص لو يسرّون مقتلي

فقد قالوا : عنى بذلك أنها كبيضة خدر في صفائها ورقتها. وهذه كلمة حسنة ، ولكن لم يسبق إليها ، بل هي دائرة في أفواه العرب وتشبيه سائر.

ويعني بقوله : غير معجل ، أنه ليس ذلك مما يتفق قليلا وأحيانا ، بل يتكرر له الاستمتاع بها. وقد يحمله غيره على أنه رابط الجأش فلا يستعجل إذا دخلها خوف حصانتها ومنعتها.

وليس في البيت كبير فائدة ، لأنه الذي حكى في سائر أبياته ، فلا تتضمن مطاولته في المغازلة ، واشتغاله بها. فتكريره في هذا البيت مثل ذلك قليل المعنى ، إلا الزيادة التي ذكر من منعتها. وهو مع ذلك بيت سليم اللفظ في المصراع الأول ، دون الثاني. والبيت الثاني ضعيف وقوله : لو يسرون مقتلي ، أراد أن يقول لو أسروا فإذا نقله إلى هذا ضعف ووقع في مضمار الضرورة. والاختلال على نظمه بيّن حتى أن المحترز يحترز من مثله وقوله :

إذا ما الثريا في السماء تعرضت

تعرض أثناء الوشاح المفصّل

وقد أنكر عليه قوم قوله : «إذا ما الثريا في السماء تعرضت» ، وقالوا : الثريا لا تتعرض ، حتى قال بعضهم : سمي الثريا ، وإنما أراد الجوزاء لأنها تعرض والعرب تفعل ذلك كما قال زهير : «كأحمر عاد» وإنما هو أحمر ثمود ، وقال بعضهم في تصحيح قوله : تعرض له أول ما تطلع كما أن الوشاح إذا طرح يلقاك بعرضه ، وهو ناحيته ، وهذا كقول الشاعر :

تعرّضت لي بمجان خلّ

تعرّض المهرة في الطول

__________________

(١) آية (٨٢) سورة النساء.

١١٣

يقول : تريك عرضها وهي في الرّسن ، وقال أبو عمرو : يعني إذا أخذت الثريا في وسط السماء كما يأخذ الوشاح وسط المرأة ، والأشبه عندنا أن البيت غير معيب من حيث عابوه به ، وأنه من محاسن هذه القصيدة ، ولو لا أبيات عدة فيه لقابله ما شئت من شعر غيره. ولكن لم يأت فيه بما يفوت الشأو ويستولي على الأمد.

أنت تعلم أنه ليس للمتقدمين ولا للمتأخرين في وصف شيء من النجوم ، مثل ما في وصف الثريا. وكلّ قد أبدع فيه وأحسن ، فإما أن يكون قد عارضه أو زاد عليه ، فمن ذلك قول ذي الرمة (١) :

 وردت اعتسافا والثريا كأنها

على قمة الرأس ابن ماء محلّق

ومن ذلك قول ابن المعتز (٢) :

وترى الثريا في السماء كأنها

بيضات أدحيّ يلحن بفدفد

وكقوله :

كأن الثريا في أواخر ليلها

تفتّح نور أو لجام مفضّض

وقوله أيضا :

فناولنيها والثريا كأنها

جنى نرجس حيا الندامى به السّاقي

وقول الأشهب بن رميلة :

ولاحت لساريها الثريا كأنها

لدى الأفق الغربي قرط مسلسل

ولابن المعتز :

وقد هوى النجم والجوزاء تتبعه

كذات قرط أرادته وقد سقطا

أخذه من ابن الرومي في قوله :

طيّب ريقه إذ ذقت فاه

والثّريا بجانب الغرب قرط

ولابن المعتز :

قد سقاني المدام والص

بح بالليل مؤتزر

والثّريّا كنور غص

ن على الأرض قد نثر

وقوله :

ونروم الثريّا

في السماء مراما

كانكباب طمر

كاد يلقي لجاما

__________________

(١) سبقت ترجمته.

(٢) سبقت ترجمته.

١١٤

ولابن الطثرية :

إذا ما الثريا في السماء كأنها

جمان وهي من سلكه فتبدّدا

ولو نسخت لك كل ما قالوا من البديع في وصف الثريا لطال عليك الكتاب ، وخرج عن الغرض. وإنما نريد أن نبين لك أن الإبداع في نحو هذا أمر قريب ، وليس فيه شيء غريب.

وفي جملة ما نقلناه ، ما يزيد على تشبيهه في الحسن ، أو يساويه أو يقاربه. فقد علمت أن ما حلّق فيه ، وقدر المتعصب له أنه بلغ النهاية فيه أمر مشترك ، وشريعة مورودة ، وباب واسع ، وطريق مسلوك. وإذا كان هذا بيت القصيدة ، ودرة القلادة ، وواسطة العقد ، وهذا محله فكيف بما تعداه؟

ثم فيه ضرب من التكلف لأنه قال : «إذا ما الثريا في السماء تعرضت» ، تعرض أثناء الوشاح فقوله : تعرضت من الكلام الذي يستغنى عنه ، لأنه يشبّه أثناء الوشاح ، سواء كان في وسط السماء ، أو عند الطلوع والمغيب.

فالتهويل بالتعرض والتطويل بهذه الألفاظ لا معنى له ، وفيه أن الثريا كقطعة من الوشاح المفصّل ، فلا معنى لقوله : تعرض أثناء الوشاح وإنما أراد أن يقول تعرض قطعة من أثناء الوشاح ، فلم يستقم له اللفظ حتى شبه ما هو كالشيء الواحد بالجمع وقوله :

فجئت وقد نضت لنوم ثيابها

لدى السّتر إلا لبسة المتفضّل

فقالت : يمين الله ما لك حيلة

وما إن أرى عنك المعاوية تنجلي

انظر إلى البيت الأول ، والأبيات التي قبله ، كيف خلّط في النظم ، وفرّط في التأليف! فذكر التمتع بها ، وذكر الوقت والحال والحرّاس. ثم يذكر كيف كان صفتها لما دخل عليها ، ووصل إليها من نزعها ثيابها إلا ثوبا واحدا ، والمتفضّل : الذي في ثوب واحد ، وهو الفضل ، فما كان من سبيله أن يقدّمه إنما ذكره مؤخرا.

وقوله لدى الستر حشو ، وليس بحسن ولا بديع ، وليس في البيت حسن ولا شيء يفضّل لأجله.

وأما البيت الثاني ففيه تعليق واختلال. ذكر الأصمعي أن معنى قوله : ما لك حيلة ، أي ليست لك جهة تجيء فيها والناس حوالي. والكلام في المصراع الثاني منقطع عن الأول ، ونظمه إليه فيه ضرب من التفاوت ، وقوله :

فقمت بها أمشي تجرّ وراءنا

على إثرنا أذيال مرط مرجّل

١١٥

فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى

بنا بطن خبت ذي حقاف عقنقل

البيت الأول من مساعدتها إياه ، حتى قامت معه ليخلوا ، وإنما كانت تجر على الأثر أذيال مرط مرجّل ، والمرجّل : ضرب من البرود ، يقال : لو شبه الترجيل وفيه تكلف لأنه قال : وراءنا على إثرنا. ولو قال على إثرنا ، كان كافيا. والذيل إنما يجر وراء الماشي ، فلا فائدة لذكره وراءنا. وتقدير القول : فقمت أمشي بها ، وهذا أيضا ضرب من التكلف. وقوله أذيال مرط ، كان من سبيله أن يقول : ذيل مرط ، على أنه لو سلم من ذلك كان قريبا ، ليس مما يفوت بمثله غيره ، ولا يتقدم به سواه ، وقول ابن المعتز أحسن منه :

فبت أفرش خدي في الطريق له

ذلا واسحب أكمامي على الأثر

وأما البيت الثاني فقوله : أجزنا بمعنى قطعنا ، والخبت بطن من الأرض ، والحقف رمل منعرج ، والعقنقل : المنعقد من الرمل الداخل بعضه في بعض.

وهذا بيت متقارب مع الأبيات المتقدمة ، لأن فيها ما هو سلس قريب يشبه كلام المولدين ، وكلام البذلة. وهذا قد أغرب فيه وأتى بهذه اللفظة الوحشية ، المتعقدة ، وليس في ذكرها والتفضيل بإلحاقها بكلامها فائدة.

والكلام الغريب ، واللفظة الشديدة المباينة لنسج الكلام قد تحمد إذا وقعت موقع الحاجة في وصف ما يلائمها ، كقوله عزوجل في وصف يوم القيامة : (يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً) (١) فأما إذا وقعت في غير هذا الموقع فهي مكروهة مذمومة ، بحسب ما تحمد في موضعها.

وروي أن جريرا أنشد بعض خلفاء بني أمية قصيدته :

بان الخليط برامتين فودعوا

أو كلما جدوا لبين تجزع؟

كيف العزاء ولم أجد مذ بنتم

قلبا يقر ولا شرابا ينقع

قال : وكان يزحف من حسن هذا الشعر حتى بلغ قوله :

وتقول بوزع : قد دببت على العصا

هلّا هزئت بغيرنا يا بوزع

فقال : أفسدت شعرك بهذا الاسم ، وأما قوله :

هصرت بغصني دوحة فتمايلت

عليّ هضيم الكشح ريّا المخلخل

مهفهفة بيضاء غير مفاضة

ترائبها مصقولة كالسّجنجل

فمعنى قوله : هصرت : جذبت وثنيت.

__________________

(١) آية (١٠) سورة الإنسان.

١١٦

وقوله : «بغصني دوحة» تعسّف ، ولم يكن من سبيله أن يجعلهما اثنين.

والمصراع الثاني أصح ، وليس فيه شيء إلا ما يتكرر على ألسنة الناس من هاتين الصفتين. وأنت تجد ذلك في وصف كل شاعر ، ولكنه مع تكرره على الألسن صالح.

وأما معنى قوله : مهفهفة أنها مخففة ليست مثقلة ، والمفاضة التي اضطرب طولها ، والبيت مع مخالفته في الطبع الأبيات المتقدمة ونزوعه فيه إلى الألفاظ المستكرهة ، وما فيه من الخلل من تخصيص الترائب بالضوء بعد ذكر جميعها بالبياض ، فليس بطائل ؛ ولكنه قريب متوسط ، وقوله :

تصدّ وتبدي عن أسيل وتتّقي

بناظرة من وحش وجرة مطفل

وجيد كجيد الرّيم ليس بفاحش

إذا هي نضته ولا بمعطّل

معنى قوله : عن أسيل ، أي بأسيل ، وإنما يريد خدا ليس بكرا.

وقوله : تتقي يقال اتقاه بترسه أي جعله بينه وبينه ، وقوله : تصد وتبدي عن أسيل متفاوت لأن الكشف عن الوجه مع الوصل دون الصد.

وقوله : تتقي بناظرة ، لفظة مليحة ، ولكن أضافها إلى ما نظم به كلامه وهو مختل ، وهو قوله : من وحش وجرة ، وكان يجب أن تكون العبارة بخلاف هذا. كان من سبيله أن يضيف إلى عيون الظبا أو المها دون إطلاق الوحش ، ففيهن ما تستنكر عيونها.

وقوله : «مطفل» فسروه على أنها ليست بصبية وأنها قد استحكمت ، وهذا اعتذار متعسف. وقوله مطفل زيادة لا فائدة فيها على هذا التفسير الذي ذكره الأصمعي. ولكن قد يحتمل عندي أن يفيد غير هذه الفائدة. فيقال : إنها إذا كانت مطفلا لحظت أطفالها بعين رقة ، ففي نظر هذه رقة نظر المودة ، ويقع الكلام معلقا تعليقا متوسطا.

وأما البيت الثاني فمعنى قوله : ليس بفاحش ، أي ليس بفاحش الطول ، ومعنى قوله : نضته ، رفعته ، ومعنى قوله : ليس بفاحش في مدح الأعناق ، كلام فاحش موضوع منه. وإذا نظرت في أشعار العرب رأيت في وصف الأعناق ما يشبه السحر. فكيف وقع على هذه الكلمة ودفع إلى هذه اللفظة ..؟ وهلا قال كقول أبي نواس؟

مثل الظباء سمت إلى

روض صوادر عن غدير

ولست أطول عليك ، فتستثقل ، ولا أكثر القول في ذمه ، فتستوحش. وأكلك الآن إلى جملة من القول ، فإن كنت من أهل الصنعة ، فطنت واكتفيت وعرفت ما رمينا إليه واستغنيت.

١١٧

وإن كنت عن الطبقة خارجا ، وعن الإتقان بهذا الشأن خاليا ، فلا يكفيك البيان ، وإن استقرينا جميع شعره ، وتتبعنا عامة ألفاظه ، ودللنا على ما في كل حرف منه. اعلم أن هذه القصيدة قد ترددت بين أبيات سوقية مبتذلة ، وأبيات متوسطة ، وأبيات ضعيفة مرذولة ، وأبيات وحشية غامضة مستكرهة ، وأبيات معدودة بديعة.

وقد دللنا على المبتذل منها ، ولا يشتبه عليك الوحشي المستنكر الذي يروع السمع ، ويهول القلب ، ويكدّ اللسان ، ويعبس معناه في وجه كل خاطر ، ويكفهر مطلعه على كل متأمل وناظر ، ولا يقع بمثله التمدح والتفاصح وهو مجانب لما وضع له أصل الإفهام ، ومخالف لما بنى عليه التفاهم الكلام. فيجب أن يسقط عن الغرض المقصود ، ويلحق باللغز والإشارة المستبهمة. فأما الذي زعموا أنه من بديع هذا الشعر ، فهو قوله :

ويصحى فتيت المسك فوق فراشها

تؤم الضّحى لم تنتطق عن تفضّل

والمصراع الأخير عندهم بديع ، ومعنى ذلك : أنها مترفة متنعمة ، لها من يكفيها.

ومعنى قوله : لم تنتطق عن تفضل ، يقول : لم تنتطق وهو فضل. و «عن» هي بمعنى «بعد». قال أبو عبيدة : لم تنتطق فتعمل ، ولكنها تتفضل. ومما يعدونه من محاسنها :

وليل كموج البحر أرخى سدوله

عليّ بأنواع الهموم ليبتلى

فقلت له لما تمطى بصلبه

وأردف أعجازا وناء بكلكل

ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي

بصبح ، وما الإصباح منك بأمثل

وكان بعضهم يعارض هذا بقول النابغة :

كليني لهم يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب

وصدر أراح الليل عازب همّه

تضاعف فيه الحزن من كلّ جانب

تقاعس حتى قلت ليس بمنقض

وليس الذي يتلو النجوم بآئب

وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء ، فقدمت أبيات امرئ القيس ، واستحسن استعارتها ، وقد جعل لليل صدرا يثقل تنحيه ، ويبطئ تقضيه. وجعل له أردافا كثيرة ، وجعل له صلبا يمتد ويتطاول. ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكرة. ورأوا أن الألفاظ جميلة.

واعلم أن هذا صالح جميل ، وليس من الباب الذي يقال إنه متناه عجيب وفيه إلمام بالتكلف. ودخول في التعمل. وقد خرجوا له في البديع من القصيدة قوله :

وقد اغتدي والطير في وكناتها

بمنجرد قيد الأوابد هيكل

مكرّ مفرّ مقبل مدبر معا

كجلمود صخر حطّه السيل من عل

١١٨

وقوله أيضا :

به أيطلا ظبي وساقا نعامة

وإرخاء سرحان وتقريب تنفل

فأما قوله : قيد الأوابد ، فهو مليح ، ومثله في كلام الشعراء وأهل الفصاحة كثير. والتعمل بمثله ممكن.

وأهل زماننا الآن يصنفون نحو هذا تصنيفا ، ويؤلفون المحاسن تأليفا ، ثم يوشحون به كلامهم. والذين كانوا من قبل لغزارتهم وتمكّنهم لم يكونوا يتصنّعون لذلك ، إنما كان يتفق لهم اتفاقا ، ويطّرد في كلامهم اطرادا.

وأما قوله في وصفه : «مكرّ مفرّ» فقد جمع فيه طباقا وتشبيها ، وفي سرعة جري الفرس للشعراء ما هو أحسن من هذا وألطف. وكذلك في جمعه بين أربعة وجوه من التشبيه في بيت واحد صنعة. ولكن قد عورض فيه وزوحم ، والتوصل إليه يسير ، وتطلبه سهل قريب.

وقد بيّنا لك أن هذه القصيدة ونظائرها تتفاوت في أبياتها تفاوتا بيّنا في الجودة والرداءة ، والسلاسة والانعقاد ، والسلامة والانحلال ، والتمكن والتسهيل ، والاسترسال ، والتوحش والاستكراه. وله شركاء في نظائرها ومنازعون في محاسنها ، ومعارضون في بدائعها. ولا سواء كلام ينحت عن الصخر تارة ، ويذوب تارة ، ويتلوّن تلوّن الحرباء ، ويختلف اختلاف الأهواء ، ويكثر في تصرفه اضطرابه ، وتتقاذف به أسبابه وبين قول يجري في سبكه على نظام ، وفي رصفه على منهاج ، وفي وضعه على حدّ ، وفي صفائه على باب ، وفي بهجته ورونقه على طريق ، مختلفه مؤتلف ، ومؤتلفه متّحد ، ومتباعده متقارب ، وشارده مطيع ، ومطيعه شارد. وهو على متصرّفاته واحد ، لا يستصعب في حال ، ولا يتعقد في شأن.

وكنا أردنا أن نتصرّف في قصائد مشهورة ، فنتكلم عليها ، وندلّ على معانيها ومحاسنها ، ونذكر لك من فضائلها ونقائصها ، ونبسط لك القول في هذا الجنس ، ونفتح عليك في هذا النهج.

ثم رأينا هذا خارجا عن غرض كتابنا ، والكلام فيه يتصل بنقد الشعر وعياره ، ووزنه بميزانه ومعياره ؛ ولذلك كتب وإن لم تكن مستوفاة ، وتصانيف وإن لم تكن مستقصاة.

وهذا القدر يكفي في كتابنا. ولم نحب أن ننسخ لك ما سطره الأدباء في خطأ امرئ القيس في العروض والنحو والمعاني ، وما عابوه عليه في أشعاره ، وتكلموا به على ديوانه ، لأن ذلك أيضا خارج عن غرض كتابنا ، ومجانب لمقصوده.

١١٩

وإنما أردنا أن نبين الجملة التي بيّناها ، لتعرف أن طريقة الشعر شريعة مورودة ، ومنزلة مشهودة ، يأخذ منها أصحابها على مقادير أسبابهم ، ويتناول منها ذووها على حسب أحوالهم. وأنت تجد للمتقدم معنى قد طمسه المتأخر بما أبرّ عليه فيه. وتجد للمتأخر معنى قد أغفله المتقدم. وتجد معنى قد توافدا عليه ، وتوافيا إليه. فهما فيه شريكا عنان ، وكأنهما فيه رضيعا لبان. والله يؤتي فضله من يشاء.

فأما نهج القرآن ونظمه وتأليفه ورصفه ؛ فإن العقول تتيه في جهته ، وتحار في بحره ، وتضل دون وصفه. ونحن نذكر لك في تفصيل هذا ما تستدل به على الغرض ، وتستولي به على الأمد. وتصل به إلى المقصد. وتتصور إعجازه كما تتصور الشمس ، وتتيقن تناهي بلاغته كما تتيقن الفجر. وأقرّب عليك الغامض ، وأسهّل لك العسير.

واعلم أن هذا علم شريف المحل. عظيم المكان. قليل الطلاب. ضعيف الأصحاب ليست له عشيرة تحميه ، ولا أهل عصمة تفطن لما فيه. وهو أدق من السحر ، وأهول من البحر ، وأعجب من الشعر.

وكيف لا يكون كذلك ، وأنت تحسب أن وضع الصبح في موضع الفجر يحسن في كل كلام ، إلا أن يكون شعرا أو سجعا ، وليس كذلك. فإن إحدى اللفظتين قد تنفر في وضع وتزل عن مكان لا تزل عنه اللفظة الأخرى. بل تتمكن فيه وتضرب بجرانها ، وتراها في مظانها ، وتجدها فيه غير منازعة إلى أوطانها. وتجد الأخرى لو وضعت موضعها في محل نفار ، ومرمى شراد ، ونابية عن استقرار.

ولا أكثر عليك المثال ، ولا أضرب لك فيه الأمثال ، وأرجع بك إلى ما وعدتك من الدلالة. وضمنت لك من تقريب المقالة. فإن كنت لا تعرف الفصل الذي بيّنا بين اللفظتين على اختلاف مواقع الكلام ، ومصرفات مجاري النظام ، لم تستفد مما نقر به عليك شيئا ، وكان التقليد أولى بك ، والاتباع موجب عليك. ولكل شيء سبب ، ولكل علم طريق ، ولا سبيل إلى الوصول إلى الشيء من غير طريقه. ولا بلوغ غايته من غير سبيله. خذ الآن ، هداك الله ، في تفريغ الفكر وتخلية البال ، وانظر فيما نعرض عليك ونهديه إليك ، متوكلا على الله ، ومعتصما به ، ومستعيذا به من الشيطان الرجيم ، حتى تقف على إعجاز القرآن العظيم ، سماه الله ، عز ذكره ، حكيما وعظيما ومجيدا.

وقال : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (١) وقال :

__________________

(١) آية (٤٢) سورة فصلت.

١٢٠