أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٣

وفي الحديث : نهى النبىّ صلّى الله عليه وسلّم عن شريطة (١) الشيطان ، وهي هذه ، وشبّهها مما وفى فيها للشيطان بشرطه حين قال : (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ).

المسألة الثالثة ـ ثبت أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يسم الغنم في آذانها ، وكأن هذا مستثنى من تغيير خلق الله.

المسألة الرابعة ـ كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يقلّد الهدى ويشعره ؛ أى يشقّ جلده ، ويقلّده نعلين ، ويساق إلى مكّة نسكا ؛ وهذا مستثنى من تغيير خلق الله.

وقال أبو حنيفة : هو بدعة ؛ كأنه لم يسمع بهذه الشعيرة في الشريعة ، لهى [فيها] (٢) أشهر منه في العلماء.

المسألة الخامسة ـ وسم الإبل والدواب بالنار في أعناقها وأفخاذها مستثنى من التغيير لخلق الله تعالى كاستثناء ما سلف.

المسألة السادسة ـ لعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الواشمة والمستوشمة ، والنّامصة والمتنمصة ، والواشرة والموتشرة (٣) والمتفلجات للحسن المغيّرات خلق الله.

فالواشمة هي التي تجرح البدن نقطا أو خطوطا ، فإذا جرى الدم حشته كحلا ، فيأتى خيلانا وصورا فيتزيّن به النساء للرجال ؛ ورجال صقلية وإفريقية يفعلونه ليدلّ كلّ واحد منهم على رجلته في حداثته.

والنامصة : هي ناتفة الشعر ، تتحسّن (٤) به.

وأهل مصر ينتفون شعر العانة ، وهو منه ؛ فإنّ السنّة حلق العانة ونتف الإبط ، فأمّا نتف الفرج فإنه يرخيه ويؤذيه ويبطل كثيرا من المنفعة فيه.

والواشرة : هي التي تحدّد أسنانها.

والمتفلّجة : هي التي تجعل بين الأسنان فرجا ، وهذا كله تبديل للخلقة ، وتغيير للهيئة ، وهو حرام. وبنحو هذا قال الحسن في الآية.

__________________

(١) في ا : شرطة. وشريطة الشيطان : الذبيحة التي لا تقطع أوداجها ويستقصى ذبحها ؛ وكان أهل الجاهلية يقطعون بعض حلقها ويتركونها حتى تموت. وإنما أضافها إلى الشيطان لأنه هو الذي حملهم على ذلك وحسن هذا الفعل لديهم (النهاية).

(٢) ليس في ل.

(٣) في ا : والموشرة. والحديث في ابن كثير : ١ ـ ٥٥٦ ، وصحيح مسلم : ١٦٧٧

(٤) في ا : فتحسن.

٥٠١

وقال إبراهيم ومجاهد وغيرهما : التغيير لخلق الله يريد به دين الله ؛ وذلك وإن كان محتملا فلا نقول : إنه المراد بالآية ، ولكنه مما غيّر الشيطان وحمل الآباء على تغييره ، وكلّ مولود يولد على الفطرة ، ثم يقع التغيير على يدي الأب والكافل والصاحب ، وذلك تقدير العزيز العليم.

المسألة السابعة ـ قال جماعة من الصحابة منهم ابن عباس ومن التابعين جملة : توخية الخصاء تغيير خلق الله. فأما في الآدمي فمصيبة ، وأما في [الحيوان و] (١) البهائم فاختلف الناس في ذلك ؛ فمنهم من قال : هو مكروه ، لأجل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنما (٢) يفعل ذلك الذين لا يعلمون.

وروى مالك كراهيته عن ابن عمر. وقال : فيه نماء الخلق ، ومنهم من قال : إنه جائز ؛ وهم الأكثر.

والمعنى فيه أنهم لا يقصدون به تعليق الحال بالدين لصنم يعبد ، ولا لربّ يوحّد ؛ وإنما يقصد به تطييب اللخم فيما يؤكل ، وتقوية الذكر إذا انقطع أمله عن الأنثى ، والآدمىّ عكسه إذا خصى بطل قلبه وقوّته.

المسألة الثامنة ـ روى علماؤنا أنّ طاوسا كان لا يحضر نكاح سوداء بأبيض ، ولا بيضاء بأسود ، ويقول : هو من قول الله (٣) : (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ). وهو إن كان يحتمله عموم اللفظ ومطلقه فهو مخصوص بما أنفذه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم من نكاح مولاه زيد ، وكان أبيض ، بظئره (٤) بركة الحبشية أم أسامة ، فكان أسامة أسود من أبيض ، وهذا مما خفى على طاوس مع علمه.

الآية الثانية والخمسون ـ قوله تعالى (٥) : (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً).

__________________

(١) ليس في ل.

(٢) في ا : لنا.

(٣) سورة النساء ، آية ١٢٨

(٤) في ا : بنظيره. والصواب من ل ، والقرطبي.

(٥) الآية السابعة والعشرون بعد المائة.

٥٠٢

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قد تقدّم بيانها في أول السورة عند قولنا في آية (١) : (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى).

وقد روى أشهب عن مالك : كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يسأل فلا يجيب ، حتى ينزل عليه الوحى ، وذلك في كتاب الله ، قال الله تعالى : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ). (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى). (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ). (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ). هذا في كتاب الله سبحانه وتعالى كثير.

قال علماؤنا : طلبنا ما قال مالك فوجدناه في ثلاثة عشر موضعا : قوله : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ). و (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ). (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ). (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى). (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ). (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً). (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ). (يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ). (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ). (يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ). (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ). (يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ). (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ). (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ).

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ) الذين لا أب لهم ؛ أكد الله سبحانه أمرهم وأكد أمر اليتامى ، وهم الذين لا أبا لهم ؛ فيحتمل ـ وهي :

المسألة الثالثة ـ أن يكونوا هم ، أكد أمرهم بلفظ آخر أخصّ به من الضعف ، ويحتمل أن يريد بالمستضعفين من كان هو وأبوه ضعيفا ، واليتيم المنفرد بالضعف ، ويحتمل أن يريد بالمستضعفين من رماه أهله ودفعه أبوه عن نفسه لعجزه عن أمره.

الآية الثالثة والخمسون ـ قوله تعالى (٢) : (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً ، وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ، وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

قالت عائشة : هي المرأة تكون عند الرجل ليس بمستكثر منها أن يفارقها ؛ فيقول : أجعلك من شأنى في حلّ ، فنزلت الآية.

__________________

(١) صفحة ٣٠٩ من هذا الكتاب.

(٢) الآية الثامنة والعشرون بعد المائة.

٥٠٣

قال القاضي رضوان الله عليه وعلى الصديقة الطاهرة : لقد وفت ما حملها ربّها من العهد في قوله (١) : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ). ولقد خرجت في ذلك عن العهد. وهذا كان شأنها مع سودة بنت زمعة (٢) لما أسنّت أراد النبىّ صلّى الله عليه وسلّم أن يطلقها فآثرت الكون مع زوجاته. فقالت له : أمسكني واجعل يومى لعائشة ، ففعل صلّى الله عليه وسلّم وماتت وهي من أزواجه.

وقد صرح ابن أبى مليكة بذلك فقال : نزلت هذه الآية في عائشة. وفي هذه الآية ردّ على الرّعن الذين يرون الرجل إذا أخذ شباب المرأة وأسنت لا ينبغي له أن يتبدّل بها ، فالحمد لله الذي رفع حرجا وجعل من هذه الضيقة مخرجا.

الآية الرابعة والخمسون ـ قوله تعالى (٣) : (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

فيها ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قال الأستاذ أبو بكر : في هذه الآية دليل على جواز تكليف ما لا يطاق ، فإن الله سبحانه كلّف الرجال العدل بين النساء ، وأخبر أنهم لا يستطيعونه ، وهذا وهم عظيم ، فإن الذي كلّفهم من ذلك هو العدل في الظاهر الذي دلّ عليه بقوله (٤) : (ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا).

وهذا أمر مستطاع ، والذي أخبر عنهم أنهم لا يستطيعونه لم يكلّفهم قطّ إياه ؛ وهو النسبة في ميل النفس ؛ ولهذا كان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم يعدل بين نسائه في القسم ، ويجد نفسه أميل إلى عائشة في الحبّ ، فيقول : اللهم هذه قدرتي فيما أملك ، فلا تسألنى في الذي تملك ولا أملك ـ يعنى قلبه ، والقاطع لذلك الحاسم لهذا الإشكال أنّ الله سبحانه قد أخبر بأنه رفع الحرج عنّا في تكليف ما لا نستطيع فضلا ، وإن كان له أن يلزمنا إياه حقا وخلقا.

المسألة الثانية ـ قال محمد بن سيرين : سألت عبيدة عن هذه الآية فقال : هو الحبّ والجماع

__________________

(١) سورة الأحزاب ، آية ٣٤

(٢) ابن كثير : ١ ـ ٥٦٢

(٣) الآية التاسعة والعشرون بعد المائة.

(٤) سورة النساء ، آية ٣

٥٠٤

وصدق ؛ فإنّ ذلك لا يملكه أحد ؛ إذ قلبه بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يصرّفه كيف يشاء. وكذلك الجماع قد ينشط للواحدة ما لا ينشط للأخرى ، فإذا لم يكن ذلك بقصد منه فلا حرج عليه فيه ، فإنه مما لا يستطيعه فلم يتعلق به تكليف.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ).

قال العلماء : أراد تعمّد الإتيان ، وذلك فيما يملكه وجعل إليه ، من حسن العشرة والقسم والنفقة ونحوه من أحكام النكاح.

الآية الخامسة والخمسون ـ قوله تعالى (١) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما ، فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا ، وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً).

فيها ثلاث عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ في سبب نزولها :

روى أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم اختصم إليه رجلان : غنىّ وفقير ، فكان ضلعه مع الفقير ، يرى أنّ الفقير لا يظلم الغنى ، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغنى والفقير.

المسألة الثانية ـ القسط : العدل. بكسر الفاء (٢) وإسكان العين. والقسط بفتحها : الجور. ويقال : أقسط إذا عدل ، وقسط إذا جار ، ولعله مأخوذ من : قسط البعير قسطا إذا يبست (٣) يده ، فلعل أقسط سلب قسط ، فقد يأتى بناء أفعل للسلب. كقوله : أعجم الكتاب إذا سلب عجمته بالضبط.

وقيل : نزلت في الشهادة بالحق ، وهي عامّة لكل أحد في كل شيء.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) : يعنى فعّالين ، من قام ، واستعار القيام لامتثال الحقّ ؛ لأنه يفعل في مهمات الأمور ، وهي غاية الفعل لنا ، ومن أسمائه سبحانه الحىّ القيوم ، والقائم على كل نفس بما كسبت ، فضربه هاهنا مثلا لغاية القيام بالعدل.

__________________

(١) الآية الخامسة والثلاثون بعد المائة.

(٢) يريد فاء الكلمة ، وهي القاف في هذه الكلمة.

(٣) ارجع إلى اللسان ـ مادة قسط ، ففيه تفسير أوفى.

٥٠٥

المسألة الرابعة ـ (شُهَداءَ لِلَّهِ) :

كونوا ممن يؤدّى الشهادة لله ولوجهه ، فيبادر بها قبل أن يسألها ، ويقول الحقّ فيها ، وإن الله يشهد بالحق ، والملائكة وأولو العلم وعدول الأمة ، وكلّ من قام بالقسط فقد شهد لله سبحانه بالحق ، وكل من قام لله فقد شهد بالقسط ، ولهذا نزلت الآية الأخرى في المائدة بمقلوب هذا النظم (١) ، وهو مثله في المعنى كما بينّاه آنفا.

المسألة الخامسة والسادسة ـ قوله تعالى : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) :

أمر الله سبحانه العبد بأن يشهد على نفسه بالحقّ ، ويسمى الإقرار على نفسه شهادة ، كما تسمّى الشهادة على الغير الإقرار.

وفي حديث ماعز : فلم يرجمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أقرّ على نفسه أربع مرات ، ولا يبالى المرء أن يقول الحقّ على نفسه لله جلّ وعلا فالله يفتح له (٢). قال الله سبحانه (٣) : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) ، إلا أنه في باب الحدود ندب إلى أن يستر على نفسه فيتوب حتى يحكم الله له ؛ بل إنه يجوز أن يقر على نفسه بالحدّ إذا رأى غيره قد ابتلى به وهو صاحبه ، فيشهد على نفسه ليخلّصه ويبرئه.

روى أبو داود والنسائي عن الحلاج أنه كان يعمل في السوق فرمت امرأة صبيا. قال : فثار الناس وثرت فيمن ثار ، فانتهيت إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول : من أبو هذا معك؟ فقال فتى حذاءها : أنا أبوه يا رسول الله. فأقبل عليها فقال : من أبو هذا معك؟ فسكتت. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنها حديثة السنّ حديثة عهد بحزن ، وليست تكلّمك ، أنا أبوه ؛ فنظر إلى بعض أصحابه كأنه يسألهم عنه ، فقالوا : ما علمنا إلا خيرا. فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم : أحصنت. قال : نعم ، فأمر به فرجم. قال : فخرجنا فحفرنا له حتى أمكناه ثم رميناه بالحجارة حتى هدأ محتضرا.

المسألة السابعة ـ قوله تعالى : (أَوِ الْوالِدَيْنِ) :

أمر الله سبحانه بالشهادة بالحقّ على الوالدين الأب والأم ، وذلك دليل على أنّ شهادة

__________________

(١) آية ٨ : لله شهداء.

(٢) في ا : ويفتح الله ومن يتق الله. والمثبت من ل.

(٣) سورة الطلاق ، آية ٣

٥٠٦

الابن على الأبوين لا يمنع ذلك برّهما ، بل من برّهما أن يشهد عليهما بالحق ، ويخلّصهما من الباطل ، وهو من قوله تعالى (١) : (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) في بعض معانيه.

وقد اتفقت الأمة على قبول شهادة الابن على الأبوين ، فإن شهد لهما أو شهدا له وهي : المسألة الثامنة ـ فقد اختلف العلماء فيها قديما وحديثا ؛ فقال ابن شهاب : كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالد والأخ لأخيه ، ويتأوّلون في ذلك قول الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ ، وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) ؛ فلم يكن أحد يتّهم في ذلك من السلف الصالح ، ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم ، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والمرأة ، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعى وأحمد بن حنبل أنه لا تجوز شهادة الوالد للولد ، وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا.

وروى عن عمر أنه أجازه ، وكذلك روى عن عمر بن عبد العزيز ، وبه قال إسحاق وأبو ثور (٢) والمزني.

ومذهب مالك جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلا إلا في النسب.

وروى ابن وهب عن مالك أنه (٣) لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيب من مال يرثه ، ولا تجوز عند مالك شهادة الزوج والمرأة أحدهما للآخر ؛ وأجازه الشافعى.

ولا تجوز شهادة الصديق الملاطف عنده ، ولا إذا كان في عياله.

والمختار عندي أن أصل الشريعة لا تجوز شهادة الوالد للولد ولا الولد للوالد لما بينهما من البعضية ؛ قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنما فاطمة بضعة منى يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها. وشهادة الإنسان لنفسه لا تجوز ، إلا أن من تقدم قال : إنه كان يسامح فيه ؛ وما روى قطّ أحد أنه نفذ قضاء بشهادة ولد لوالده ولا والد لولده ، وإنما معنى المسامحة فيه أنهم كانوا لا يصرّحون بردّها ، ولا يحذّرون منها لصلاح الناس ، فلما فسدوا وقع التحذير ، ونبّه العلماء على الأصل ، فظنّ من تغافل أو غفل أنّ الماضين جوّزوها ، وما كان ذلك

__________________

(١) سورة التحريم ، آية ٦

(٢) في القرطبي : والثوري.

(٣) في القرطبي : إنها.

٥٠٧

قط ؛ وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم : إنّ من أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وإن ولده من كسبه ، وقد جعله الله جزءا منه في الإسلام ؛ وتبعا له في الإيمان ، فهو مسلم بإسلام أبيه بإجماع ، ومسلم بإسلام أمه باختلاف ، وماله لأبيه حيا وميتا ، وهكذا في أصول الشريعة ، ولا بيان فوق هذا.

والأخ وإن كان بينهما بعضية فإنها بعيدة حقيقة وعادة ، فجوّزها العلماء في جانب الأخ بشرط العدالة المبررة ، ما لم تجرّ نفعا.

وخالف الشافعى فقال : يجوز شهادة الزوجين بعضهما لبعض ؛ لأنهما أجنبيان ؛ وإنما بينهما عقد الزوجية ، وهو سبب معرّض للزوال.

وهذا ضعيف : فإنّ الزوجية توجب الحنان والتعطف والمواصلة والألفة والمحبة ، وله حقّ في مالها عندنا ، ولذلك لا تتصرف في الهبة إلا في ثلثها.

وقد بينا ذلك في مسائل الخلاف ، ولها في ماله حقّ الكسوة والنفقة ، وهذه شبهة توجب ردّ الشهادة.

المسألة التاسعة ـ ألحق مالك الصديق الملاطف بالقرابة القريبة ؛ فهي في العادة أقوى منها ، وهي في المودة ؛ فكانت مثلها في ردّ الشهادة.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) :

المعنى لا تميلوا بالهوى مع الفقير لضعفه ، ولا على الغنى لاستغنائه ، وكونوا مع الحق ؛ فالله الذي أغنى هذا وأفقر هذا أولى بالفقير أن يغنيه بفضله بالحق لا بالهوى والباطل ، والله أولى بالغنىّ أن يأخذ ما في يده بالعدل والحق ، لا بالتحامل عليه ؛ فإنما جعل الله سبحانه الحقّ والعدل عيارا لما يظهر من الخبث وميزانا لما يتبيّن من الميل ، عليه تجرى الأحكام الدنياوية ، وهو سبحانه يجرى المقادير بحكمته ، ويقضى بينهم يوم القيامة بحكمه.

المسألة الحادية عشرة ـ قال جماعة : قوله تعالى : (وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) فسوّى بين الأقربين والأبوين في الأمر بالحق والوصية بالعدل ، وإن تفاضلوا في الدرجة ؛ كما سوّى بين الخلق أجمعين ، وإن تفاضلوا أيضا في الدرجة ، وكأنه سبحانه

٥٠٨

يقول : لا تلتفتوا في الرّحم قربت أو بعدت في الحق كونوا معه عليها ، ولو لا خوف العدل عنه لها لما خصوا بالوصية بها ، وذلك قوله سبحانه ـ وهي :

المسألة الثانية عشرة ـ (فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) :

معناه لا تتبعوا أهواءكم في طلب العدل برحمة الفقير والتحامل على الغنىّ ، بل ابتغوا الحقّ فيهما ، وهذا بيان شاف.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) :

المعنى إن مطلتم حقّا فلم تنفذوه إلّا بعد بطء ، أو عرضتم عنه جملة فالله خبير بعملكم. يقال لويت الأمر ألويه ليّا وليّانا ، إذا مطلته ، قال غيلان (١) :

تطيلين ليّانى وأنت مليّة

وأحسن يا ذات الوشاح التقّاضيا

وقرأ حمزة والأعمش (٢) : وإن تلوا ، والأول أفصح ، وأكثر ، وقد ردّ إلى الأول بوجه عربي ؛ وذلك أن تبدل من الواو الآخرة همزة فتكون تلوؤا ، ثم حذفت الهمزة وألقيت حركتها على الواو ، والعرب تفعل ذلك.

وقيل : إن معناه تلوا من الولاية ، أى استقللتم بالأمر أو ضعفتم عنه فالله خبير بذلك.

الآية السادسة والخمسون ـ قوله تعالى (٣) : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً).

هذا خبر ، والخبر من الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره ، ونحن نرى الكافرين يتسلّطون على المؤمنين في بلادهم وأبدانهم وأموالهم وأهليهم ، فقال العلماء في ذلك قولين :

أحدهما : لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا في الحجة ، فلله الحجة البالغة.

الثاني ـ لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا في الحجة يوم القيامة.

قال القاضي : أمّا حمله على نفى وجود الحجة من الكافر على المؤمن فذلك ضعيف ؛ لأنّ وجود الحجة للكافر محال ، فلا يتصرّف فيه الجعل بنفي ولا إثبات.

وأما نفى وجود الحجة يوم القيامة فضعيف ؛ لعدم فائدة الخبر فيه ؛ وإن أوهم صدر الكلام معناه ؛ لقوله : (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فأخّر الحكم إلى يوم القيامة ،

__________________

(١) ذو الرمة ، والبيت في اللسان ـ لوى. وديوانه : ٦٥١

(٢) إعراب القرآن للعكبرى : ١٩٨

(٣) من الآية الواحدة والأربعين بعد المائة.

٥٠٩

وجعل الأمر في الدنيا دولة تغلب الكفار تارة وتغلب أخرى بما رأى من الحكمة وسبق من الكلمة ، ثم قال : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً). فتوهّم من توهّم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله ، وذلك يسقط فائدته. وإنما معناه ثلاثة أوجه :

الأول ـ لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا يمحو به دولة المؤمنين ، ويذهب آثارهم ، ويستبيح بيضتهم ، كما جاء في الحديث : ودعوت ربي ألّا يسلّط عليهم عدوّا من غيرهم يستبيح بيضتهم فأعطانيها.

الثاني ـ أنّ الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن تتواصوا بالباطل ، ولا تتناهوا عن المنكر ، وتتقاعدوا عن التوبة ؛ فيكون تسليط العدوّ من قبلكم ؛ وهذا نفيس جدا.

الثالث ـ أنّ الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا بالشرع ؛ فإن وجد ذلك فبخلاف الشرع ، ونزع بهذا علماؤنا في الاحتجاج على أنّ الكافر لا يملك العبد المسلم ؛ وبه قال أشهب والشافعى ؛ لأنّ الله سبحانه نفى السبيل للكافر عليه ، والملك بالشراء سبيل فلا يشرع ولا ينعقد بذلك.

وقال ابن القاسم عن مالك ، وهو قول أبى حنيفة : إنّ معنى (لَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) في دوام الملك ؛ لأنّا نجد ابتداءه يكون له عليه ، وذلك بالإرث ، وصورته أن يسلم عبد كافر في يدي كافر فيلزم القضاء عليه ببيعه ، فقبل الحكم ببيعه مات ، فيرث العبد المسلم وارث الكافر ، فهذه سبيل قد ثبتت ابتداء ، ويحكم عليه ببيعه.

ورأى مالك في رواية أشهب والشافعى أنّ الحكم بملك الميراث ثابت قهرا لا قصد فيه.

فإن قيل : ملك الشراء ثبت بقصد اليد ، فقد أراد الكافر تملّكه باختياره.

قلنا : فإن الحكم بعقد بيعه وثبوت ملكه ؛ فقد تحقّق فيه قصده وجعل له سبيل اليد ، وهي مسألة طيولية عظيمة ، وقد حققناها في مسائل الخلاف ، وحكمنا بالحق فيها في كتاب الإنصاف لتكملة الإشراف ، فلينظر هنالك.

٥١٠

الآية السابعة والخمسون ـ قوله تعالى (١) : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً).

فيها من الأحكام ثلاث مسائل :

المسألة الأولى ـ قوله تعالى : (وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى) :

يعنى متكاسلين متثاقلين ، لا ينشطون لفعلها ، ولا يفرحون لها ، وقد قال صلّى الله عليه وسلّم في الآثار : أرحنا يا بلال. فكان يرى راحته فيها.

وفي آثار أخر : وجعلت قرّة عيني في الصلاة. وفي الحديث : أثقل صلاة على المنافقين العتمة والصبح ؛ فإنّ العتمة تأتى وقد أنصبهم عمل النهار ، فيثقل عليهم القيام إليها ، وتأتى صلاة الصبح ، والنوم أحبّ إليهم من مفروح به ، وهم لا يعرفون قدر الصلاة دنيا ولا فائدتها أخرى (٢) ؛ فيقومون إليها بغير نية إلا خوفا من السيف ومن قام إليها مع هذه الحالة بنيّة إتعاب النفس وإيثارها عليها ، طالبا لما عند الله سبحانه فله أجران ، والذي يرى راحته فيها مع الملائكة المقرّبين.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (يُراؤُنَ النَّاسَ) :

يعنى أنهم يفعلونها ليراها الناس وهم يشهدونها لغوا ، فهذا هو الرياء للشّرك ، فأما إن صلّاها ليراها الناس ، يعنى ويرونه فيها ، فيشهدون له بالإيمان فليس ذلك الرياء المنهىّ عنه ، وكذلك لو أراد بها طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة وجواز الإمامة لم يكن عليه حرج ، وإنما الرياء المعصية أن يظهرها صيدا للدنيا وطريقا إلى الأكل بها ، فهذه نيّة لا تجزئ ، وعليه الإعادة.

المسألة الثالثة ـ قوله تعالى : (وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلَّا قَلِيلاً) :

وروى الأئمة ـ مالك وغيره ، عن أنس أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال : تلك صلاة المنافقين. تلك صلاة المنافقين. تلك صلاة المنافقين. يجلس أحدهم حتى إذا اصفرّت الشمس ، وكانت بين قرني الشيطان ، أو على قرني الشيطان ، قام ينقر أربعا لا يذكر الله

__________________

(١) الآية الثانية والأربعون بعد المائة.

(٢) في ا : ولا فائدة لها أخرى.

٥١١

فيها إلا قليلا. فذمّها صلّى الله عليه وسلّم بقلّة ذكر الله سبحانه فيها ؛ لأنه يراها أثقل عليه من الجبل ، فيطلب الخلاص منها بظاهر من القول والعمل ، وأقلّ ما يجزئ فيها من الذكر فرضا الفاتحة. وسيأتى بيان ذلك إن شاء الله عز وجل. وأقل ما يجزئ من العمل في الصلاة إقامة الصّلب في الركوع والسجود ، والطمأنينة فيهما ، والاستواء عند الفصل بينهما.

ففي الحديث الصحيح : لا تجزئ صلاة من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود ، وعلّم الأعرابى (١) على ما روى في الصحيح فقال له : فاركع حتى تطمئنّ راكعا ، ثم ارفع حتى تطمئن رافعا ، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئنّ جالسا ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها.

وذهب ابن القاسم وأبو حنيفة إلى أنّ الطمأنينة ليست بفرض ، وهي رواية عراقية لا ينبغي لأحد من المالكيين أن يشتغل بها ، فليس للعبد شيء يعول عليه سواها ؛ فلا ينبغي أن ينقرها نقر الغراب ، ولا يذكر الله بها ذكر المنافقين ، وقد بين صلاة المنافقين في هذه الآية ، وبيّن صلاة المؤمنين ، فقال (٢) : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) ، ومن خشع خضع واستمرّ ، ولم ينقر ولا استعجل ، إلا أن يكون له عذر فيقتصر على الفرض الذي قد بيناه.

وقد ثبت في الصحيح عن أنس بن مالك أنه ذكر صلاة عمر بن عبد العزيز فقال : هذا أشبهكم صلاة بصلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موجزة في تمام.

الآية الثامنة والخمسون ـ قوله تعالى (٣) : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً).

فيها خمس مسائل :

المسألة الأولى ـ اختلف الناس في تأويلها ؛ فقال ابن عباس : إنما نزلت في الرجل يظلم الرجل ، فيجوز للمظلوم أن يذكره بما ظلمه فيه لا يزيد عليه.

وقال مجاهد وآخرون : إنما نزلت في الضيافة ، إذا نزل رجل على رجل ضيفا فلم يقم به

__________________

(١) في ا : وعلم الأعرابى ما روى.

(٢) سورة المؤمنون ، آية ١ ، ٢

(٣) الآية الثامنة والأربعون بعد المائة.

٥١٢

جاز له إذا خرج عنه أن يذكر ذلك.

وقال رجل لطاوس : إنى رأيت من قوم شيئا في سفر ، أفأذكره؟ قال : لا.

قال القاضي : قول ابن عباس هو الصحيح ، وقد وردت في ذلك أخبار صحيحة ؛

قال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم (١) : مطل الغنىّ ظلم وقال (٢) : لىّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته. وقال العباس لعمر بحضرة أهل الشورى عن علىّ بن أبى طالب : اقض بيني وبين هذا الظالم ، فلم يردّ عليه أحد منهم ؛ لأنها كانت حكومة ، كلّ واحد منهما يعتقدها لنفسه حتى أنفذ فيها عليهم عمر للواجب (٣).

المسألة الثانية ـ قال علماؤنا : وهذا إنما يكون إذا استوت المنازل أو تقاربت ؛ فأمّا إذا تفاوتت فلا تمكّن الغوغاء من أن تستطيل على الفضلاء ، وإنما تطلب حقّها بمجرّد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب ؛ وهذا صحيح ، وعليه تدلّ الآثار.

وقد قال العلماء في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم : لىّ الواجد يحل عرضه ، بأن يقول مطلنى ، وعقوبته بأن يحبس له حتى ينصفه.

المسألة الثالثة ـ قال ابن عباس : رخص له (٤) أن يدعو على من ظلمه ، وإن صبر وغفر كان أفضل له ؛ وصفة دعائه على الظالم أن يقول : اللهم أعنّى عليه ، اللهم استخرج حقي منه ، اللهم حل بيني وبينه ؛ قاله الحسن البصري.

قال القاضي أبو بكر : وهذا صحيح ، وقد روى الأئمة عن عائشة أنها سمعت من يدعو على سارق سرقه ، فقالت : لا تستحيي عنه ، أى لا تخفّف عنه بدعائك ، وهذا إذا كان مؤمنا ؛ فأمّا إذا كان كافرا فأرسل لسانك وادع بالهلكة ، وبكلّ دعاء ، كما فعل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في التصريح على الكفار بالدعاء وتعيينهم وتسميتهم ؛ ولذلك قال علماؤنا وهي :

المسألة الرابعة ـ إذا كان الرجل مجاهرا بالظلم دعا عليه جهرا ، ولم يكن له عرض محترم ، ولا بدن محترم ، ولا مال محترم. وقد فصّلنا ذلك في أحكام العباد في المعاد.

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) :

قرئ بفتح الظاء ، وقرئ بضمها ، وقال أهل العربية : كلا القراءتين هو استثناء ليس من الأول ، وإنما هو بمعنى : لكن من ظلم. ويجوز أن يكون موضع «من» رفعا على البدل

__________________

(١) ابن ماجة : ٨٠٣

(٢) ابن ماجة : ٨١١

(٣) في ل : أنفذها عليهم فيها عمر بن الخطاب الواجب.

(٤) في ا : إن حضر. له وهو تحريف.

٥١٣

من أحد. التقدير : لا يحبّ الجهر بالسوء لأحد إلّا من ظلم.

والذي قرأها بالفتح هو زيد بن أسلم ، وكان من العلماء بالقرآن ، وقد أغفل المتكلّمون على الآية تقديرها وإعرابها ، وقد بيناه في ملجئة المتفقهين ؛ واختصاره أنّ الآية لا بدّ فيها من حذف مقدّر ، تقديره في فاتحة الآية ليأتى الاستثناء مركّبا على معنى مقدّر خير من تقديره هذا الاستثناء فنقول : معنى الآية لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول لأحد إلّا من ظلم ، بضم الظاء. أو نقول مقدرا للقراءة الأخرى : لا يحبّ الله الجهر بالسوء من القول لأحد إلّا من ظلم ، فهذا خير لك من أن تقول تقديره : لكن من ظلم بضم الظاء فإنه كذا. أو من ظلم فإنه كذا ، التقدير أبعد منه وأضعف ، كما قدّر العلماء المحققون في قوله تعالى(١): (إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ. إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ). قيل الاستثناء تقديرا انتظم به الكلام واتّسق به المعنى ؛ قالوا : تقدير الآية إنى لا يخاف لدىّ المرسلون ، لكن يخاف الظالمون ، إلا من ظلم ثم بدّل حسنا بعد سوء ، فإنى غفور رحيم.

الآية التاسعة والخمسون ـ قوله تعالى (٢) : (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً).

المسألة الأولى ـ قد قدّمنا القول في مخاطبة الكفّار بفروع الشريعة في مسائل الأصول ، وأشرنا إليه فيما سلف من هذا الكتاب ، ولا خلاف في مذهب مالك في أنهم يخاطبون.

وقد بيّن الله تعالى في هذه الآية أنهم نهوا عن الربا وأكل المال بالباطل ، فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فيها ونعمت ، وإن كان ذلك خبرا عما أنزل الله عزّ وجل على موسى في التوراة ، وأنهم بدّلوا وحرّفوا وعصوا وخالفوا ـ فهل يجوز لنا معاملتهم ، والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا؟ فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز ؛ وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد.

والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحامهم ما حرّم الله سبحانه عليهم ، فقد قام الدليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة : قال الله تعالى (٣) : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ

__________________

(١) سورة النمل ، آية ١٠ ، ١١

(٢) الآية الواحدة والستون بعد المائة.

(٣) سورة المائدة ، آية ٥

٥١٤

لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ).

وهذا نصّ في مخاطبتهم بفروع الشريعة ، وقد عامل النبىّ صلّى الله عليه وسلّم اليهود ، ومات ودرعه مرهونة عند يهودىّ في شعير أخذه لعياله.

وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه سئل عمن أخذ ثمن الخمر في الجزية والتجارة ، فقال : ولّوهم بيعها وخذوا منهم عشر أثمانها ؛ والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأئمة على جواز التجارة مع أهل الحرب ، وقد سافر النبىّ صلّى الله عليه وسلّم إليهم تاجرا ، وهي:

المسألة الثانية ـ وذلك من سفره صلّى الله عليه وسلّم أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم.

فإن قيل : كان ذلك قبل النبوّة.

قلنا : إنه لم يتدنّس قبل النبوة بحرام ، ثبت ذلك تواترا ، ولا اعتذر عنه إذ بعث ، ولا منع منه إذ نبىء ، ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته ولا أحد من المسلمين بعد وفاته ؛ فقد كانوا يسافرون في فكّ الأسرى ، وذلك واجب ؛ وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره ، وقد يجب وقد يكون ندبا ، فأما السفر إليهم لمجرد التجارة فذلك مباح.

المسألة الثالثة ـ فإن قيل : فإذا قلتم إنهم مخاطبون بفروع الشريعة ، كيف يجوز مبايعتهم بمحرّم عليهم ، وذلك لا يجوز للمسلم؟

قلنا : سامح الشرع في معاملتهم وفي طعامهم رفقا بنا ، وشدّد عليهم في المخاطبة تغليظا عليهم ، فإنه ما جعل علينا في الدين من حرج إلا ونفاه ، ولا كانت في العقوبة شدة إلا وأثبتها عليهم.

المسألة الرابعة ـ مع أنّ الله شرع لهم الشرع ، وبيّن لهم الأحكام فقد بدّلوا وابتدعوا رهبانية التزموها ، فأجرى الشرع الأحكام على ما هم عليه في بيع وطعام حتى في اعتقادهم في أولادهم وبناتهم ، سواء تصرّفوا في ذلك بشرعتهم أو بعصبيتهم ، حتى قال مالك ؛ وهي:

المسألة الخامسة ـ يجوز أن يؤخذ منهم في الصلح أبناؤهم ونساؤهم إذا كان الصلح للعامين ونحوهما ؛ لأنهما مهادنة ، ولو كان دائما أو لمدّة كثيرة لم يجز ؛ لأنه يكون لهم من الصلح مثل ما لآبائهم.

وقال ابن حبيب : لا يجوز ذلك ؛ فراعى مالك اعتقادهم في الأولاد والنساء ، كما راعى

٥١٥

اعتقادهم في الطعام ، فإن كان ذلك شرطا مع بطارقتهم ـ يعنى باتفاق منهم ـ جاز.

المسألة السادسة ـ فإن عامل مسلم كافرا بربا فلا يخلو أن يكون في دار الحرب أو في دار الإسلام ، فإن كان في دار الإسلام لم يجز ، وإن كان في دار الحرب جاز عند أبى حنيفة وعبد الملك من أصحابنا.

وقال مالك والشافعى : لا يجوز ، وتعلّق أبو حنيفة بأنّ ماله حلال فبأىّ وجه أخذ جاز.

قلنا : إنّ ما يجوز أخذه بوجه جائز في الشرع من غلّة وسرقة في سرية ، فأما إذا أعطى من نفسه الأمان ودخل دارهم فقد تعيّن عليهم أن يفي (١) بألا يخون عهدهم ، ولا يتعرّض لمالهم ، ولا شيء من أمرهم ؛ فإن جوّز القوم الربا فالشرع لا يجوّزه. فإن قال أحد : أنهم لا يخاطبون بفروع الشريعة فالمسلم مخاطب بها.

المسألة السابعة ـ توهم قوم أنّ ابن الماجشون لما قال : إن من زنا في دار الحرب بحربيّة لم يحدّ أنّ ذلك حلال. وهو جهل بأصول الشريعة. ومأخذ الأدلّة قال الله تعالى (٢) : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ ، أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) ؛ فلا يباح الوطء إلا بهذين الوجهين ، ولكن أبا حنيفة يرى أن دار الحرب لا حدّ فيها ، نازع بذلك ابن الماجشون معه ؛ فأما التحريم فهو متفق عليه فلا تستنزلنكم الغفلة في تلك المسألة.

الآية الموفية ستين ـ قوله تعالى (٣) : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ ، انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ، إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ، لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً).

فيها مسألتان :

المسألة الأولى ـ في تسمية عيسى بالمسيح :

قد ذكرنا في الحديث نحوا من خمسة وعشرين وجها في معناه ، وأمهاتها أنه اسم علم له. أو هو فعيل بمعنى مفعول ، ولد دهينا لأنه مسح بالدهن أو بالبركة ، أو مسحه حين ولد يحيى. أو فعيل بمعنى فاعل عليه مسحة جمال ، كما يقال : فلان جميل ، أو بمسح الزمن فيبرأ ،

__________________

(١) في ا : يخفى ، وهو تحريف.

(٢) سورة المؤمنون ، آية ٥ ، ٦

(٣) الآية الواحدة والسبعون بعد المائة.

٥١٦

أو يمسح الطائر فيحيا ، أو يمسح الأرض بالمشي ؛ وإليه ذهب مالك.

قال ابن وهب : أخبرنى مالك بن أنس : بلغني أنّ عيسى عليه السلام انتهى إلى قرية قد خربت حصونها ، وعفت آثارها ، وتشعّت شجرها ، فنادى : يا خرب ، أين أهلك؟ فنودي عيسى بن مريم عليه السلام : بادوا والتقمتهم الأرض ، وعادت أعمالهم قلائد في رقابهم إلى يوم القيامة ، عيسى بن مريم مجد.

قال الراوي : يريد مالك أنه كان يمسح الأرض.

وقيل (١) إنه معرب من مشيح كتعريب موسى عن موشى ، وهو بتخفيف الشين وكسرها ، وكذلك الدجال ، وقد دخل فيه جهلة يتوسّمون بالعلم ، فجعلوا الدجال مشدّد السين (٢) بالخاء المعجمة ، وكلاهما في الاسم سواء ، إنّ الأول قالوا هو المسيح الذي هو مسيح الهدى الصالح السليم ، والآخر المسيح الكذاب الأعور الدجال الكافر ، فاعلموه ترشدوا.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) :

اختلف العلماء فيه على ستة أقوال :

الأولى ـ أنها نفخة نفخها جبريل في جيب درعها ، وسميت النفخة روحا لأنها تكون عن الريح.

الثاني ـ أنّ الرّوح الحياة ، وقد بينا ذلك في المقسط والمشكلين.

الثالث ـ أنّ معنى روح رحمة.

الرابع ـ أنّ روح صورة ؛ لما خلق الله آدم أخرج من صلبه ذرّيته ، وصوّرهم ، ثم أشهدهم على أنفسهم ، ألست بربكم؟ قالوا : بلى. ثم أنشأهم كرّة أطوارا ، أو جعل لهم الدنيا قرارا ؛ فعيسى من تلك الأرواح أدخله في مريم. واختار هذا أبىّ بن كعب.

وقيل في الخامس ـ روح صورة صوّرها الله تعالى ابتداء وجهها في مريم.

وقيل في السادس ـ سرّ روح منه ، يعنى جبريل ، وهو معنى الكلام ألقاها إليه روح منه ؛ أى إلقاء الكلمة كان من الله ثم من جبريل.

__________________

(١) ارجع إلى اللسان ـ مادة مسح.

(٢) على وزن سكيت ـ كما في اللتان.

٥١٧

قال الطبري : وهذه الأحكام كلها محتملة غير بعيدة من الصواب.

قال القاضي وفقه الله : وبعضها أقوى من بعض ، وقد بيناها في المشكلين ، لكن يتعلّق بها الآن من الأحكام مسألة ؛ وهي إذا قال لزوجه : روحك طالق ؛ فاختلف علماؤنا فيه على قولين. وكذا لو قال لها : حياتك طالق ، فيها قولان. وكذلك مثله كلامك طالق.

واختلف أصحاب الشافعى كاختلافنا ، واستمر أبو حنيفة على أن الطلاق لا يلزمه في شيء من ذلك ؛ فأما إذا قال لها : كلامك طالق ؛ فلا إشكال فيه. فإن الكلام حرام سماعه ، فهو من محللات النكاح فيلحقه الطلاق.

وأما الروح والحياة فليس للنكاح فيهما متعلق ، فوجه وقوع الطلاق بتعليقه عليهما خفىّ ، وهو أنّ بدنها الذي فيه المتاع لا قوام له إلا بالروح والحياة. وهو باطن فيها ؛ فكأنه قال لها : باطنك طالق ، فيسرى الطلاق إلى ظاهرها ؛ فإنه إذا تعلق الطلاق بشيء منها سرى إلى الباقي.

وقال أبو حنيفة : لا يسرى ، وهي مسألة خلاف كبيرة تكلّمنا عليها في قوله : يدك طالق.

وتحقيق القول فيه أنه إذا طلق منها شيئا وحرّمه على نفسه ، فلا يخلو أن يقف حيث قال ، ولا يتعدى ، أو يسرى كما قلنا أو يلغو. ومحال أن يلغو لأنه كلام صحيح أضافه إلى محلّ بحكم صحيح جائز فنفذ كما لو قال : رأسك طالق أو ظهرك ، ومحال أن يقف حيث قال ؛ لأنه يؤدى إلى تحريم بعضها وتحليل بعضها. وذلك محال شرعا ، وهذا بالغ ، والله أعلم.

الآية الحادية والستون قوله تعالى (١) : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ).

هذا ردّ على النصارى الذين يقولون : إن عيسى ولد الله ، وردّ على من يقول : إنّ الملائكة بنات الله ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.

يقول الله سبحانه وتعالى لهم : إنّ من نسبتموه إلى ولادة الله تعالى ، من آدمي وملك ، ليس بممتنع أن يكون عبد الله ، فكيف تجعلونه ولدا؟ ولو كان اجتماع العبودية والولادة جائزا ما كان لله سبحانه وتعالى في ذلك حجة ، وذلك قوله سبحانه وتعالى (٢) : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً).

__________________

(١) الآية الثانية والسبعون بعد المائة.

(٢) سورة مريم ، آية ٩٢ ، ٩٣

٥١٨

فإن قيل : ما معنى (يَسْتَنْكِفَ) في اللغة؟

قلنا : هو يستفعل ، من نكفت كذا إذا نحيته ، وهو مشهور المعنى.

التقدير لن يتنحى من ذلك ، ولا يبعد عنه ، ولا يمتنع منه.

الآية الثانية والستون ـ قوله تعالى (١) : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ ، وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

فيها سبع مسائل :

المسألة الأولى ـ في وقت نزولها :

ثبت في الصحيح أنّ البراء بن عازب قال : آخر سورة براءة ، وآخر آية نزلت آية الكلالة.

المسألة الثانية ـ في سبب نزولها (٢) :

روى عن جابر بن عبد الله قال : مرضت وعندي تسع أخوات لي ، فدخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنضح في وجهى من الماء ، فأفقت فقلت : يا رسول الله ؛ ألا أوصى لأخواتى بالثلثين؟ قال : أحسن. قلت : بالشطر؟ قال : أحسن ، ثم خرج وتركني ، ثم رجع فقال : لا أراك ميتا من وجعك هذا ، فإن الله أنزل الذي لإخوانك فجعل لهنّ الثلثين.

وكان جابر يقول : نزلت فىّ هذه الآية : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ). خرجه النسائي ، وأبو داود ، والترمذي.

المسألة الثالثة ـ قال قتادة : وذكر لنا أنّ أبا بكر قال : ألا إنّ الآية التي نزلت في أول (٣) سورة النساء من شأن الفرائض نزلت في الولد والوالد ، والآية الثانية (٤) أنزلها الله سبحانه في الزوج والزوجة والإخوة من الأم ، والآية التي ختم بها سورة النساء في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والآية (٥) التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها الله سبحانه في ذوى الأرحام ، وما جرّت الرّحم من العصبة.

__________________

(١) الآية السادسة والسبعون بعد المائة.

(٢) أسباب النزول للسيوطي ٦٧

(٣) هي الآية ١١

(٤) هي الآية ١٢

(٥) هي الآية ٧٥ من سورة الأنفال.

٥١٩

المسألة الرابعة ـ قال ابن سيرين : نزلت والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم في مسير له ، وإلى جنبه حذيفة ، فبلّغها حذيفة وبلغها حذيفة عمر ، وهو يسير خلفه ، فلما استخلف عمر سأل حذيفة عنها ، ورجا أن يكون عنده تفسيرها ، فقال له حذيفة : والله إنك لعاجز هكذا قال الطبري في روايته.

وقال نعيم بن حماد فيها : والله إنك لأحمق إن ظننت أنّ إمارتك تحملني على أن أحدّثك بما لم أحدثك يومئذ. فقال عمر : لم أرد هذا رحمك الله ، والله لا أزيدك عليها شيئا أبدا ؛ فكان عمر يقول : اللهم من كنت بينتها له فإنها لم تتبيّن لي.

وقد روى أنّ عمر نازع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيها فضرب في صدره ، وقال(١) : يكفيك آية الصيف (٢) التي نزلت في آخر سورة النساء ، وإن أعش فسأقضى فيها بقضاء يعلمه من يقرأ القرآن ومن لا يقرؤه ، وهو من لا ولد له.

المسألة الخامسة ـ قال علماؤنا : معنى الآية إذا لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى فكان موروثا كلالة ، فلأخته النصف فريضة مسماة. فأما إن كان للميت ولد أنثى فهي مع الأنثى عصبة يصير لها ما كان يصير للعصبة لو لم يكن ذلك غير محدود بحدّ ، ولم يقل الله : إن ان له ولد فلا شيء لأخته معه ؛ فيكون لما قال ابن عباس وابن الزبير وجه ؛ إذ قال ابن عباس : إن الميت إذا ترك بنتا فلا شيء للأخت ، إلا أن يكون معها أخ ذكر ، وإنما بين الله سبحانه حقّها إذا ورثت الميت كلالة ، وترك بيان مالها من حقّ إذا لم يورث كلالة ؛ فبينه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوحي ربّه ، فجعلها عصبة مع إناث ولد الميت ، وذلك لا يغيّر وراثتها في الميت إذا كان موروثا عن كلالة.

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) :

معناه كراهية أن تضلّوا ، وفيه اختلاف قد بيناه في ملجئة المتفقهين فلينظره هنالك من أراده.

المسألة السابعة ـ فإن قيل : وأىّ ضلال أكبر من هذا؟ ولم يعلمها عمر ولا اتفق فيها الصحابة وما زال الخلاف إلى اليوم الموعود.

__________________

(١) ابن كثير : ١ ـ ٥٩٣

(٢) أى التي نزلت في الصيف ، وهي الآية التي في آخر سورة النساء ، والتي في أولها نزلت في الشتاء (النهاية).

٥٢٠