أحكام القرآن - ج ١

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]

أحكام القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي بكر محمّد بن عبدالله [ ابن العربي ]


المحقق: علي محمّد البجاوي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٢٣

وهذا كلّه صحيح في اللغة سائغ ، لكن إذا قام عليه دليل ؛ فأين الدليل؟

الثاني ـ أنّ الله تعالى قال في ميراث الأخوات (١) : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ) ، فحمل العلماء البنتين [١١٨] على الأختين في الاشتراك في الثلثين ، وحملوا الأخوات على البنات في الاشتراك في الثلثين ، وكان هذا نظرا دقيقا وأصلا عظيما في الاعتبار ، وعليه المعوّل ، وأراد الباري بذلك أن يبيّن لنا دخول القياس في الأحكام.

الثالث ـ أنّ الكلام في ذلك لما وقع بين عثمان وابن عباس ؛ قال له عثمان : إنّ قومك حجبوها ، يعنى بذلك قريشا ، وهم أهل الفصاحة والبلاغة وهم المخاطبون ، والقائمون لذلك ؛ والعاملون به ؛ فإذا ثبت هذا فلا يبقى لنظر ابن عباس وجه ؛ لأنه إن عوّل على اللغة فغيره من نظائره ومن فوقه من الصحابة أعرف بها ، وإن عوّل على المعنى فهو لنا ؛ لأنّ الأختين كالبنتين كما بيّنا ، وليس في الحكم بمذهبنا خروج عن ظاهر الكلام ؛ لأنّا بينّا أنّ في اللغة واردا لفظ الاثنين على الجميع.

المسألة الرابعة عشرة ـ قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ).

قال علماؤنا : هذا فصل عظيم من فصول الفرائض ، وأصل عظيم من أصول الشريعة ؛ وذلك أنّ الله سبحانه جعل المال قواما للخلق ؛ ويسّر لهم السبب إلى جمعه بوجوه متعبة ، ومعان عسيرة ، وركّب في جبلّاتهم الإكثار منه والزيادة على القوت الكافي المبلّغ إلى المقصود ، وهو تاركه بالموت يقينا ، ومخلّفه لغيره ، فمن رفق الخالق بالخلق صرفه عند فراق الدنيا ؛ إبقاء على العبد وتخفيفا من حسرته على أربعة أوجه :

الأول ـ ما يحتاج إليه من كفنه وجهازه إلى قبره.

الثاني ـ ما تبرأ به ذمّته من دينه.

الثالث ـ ما يتقرّب به إلى الله من خير ليستدرك به ما فات في أيام مهلته.

الرابع ـ ما يصير إلى ذوى قرابته الدانية وأنسابه المشتبكة المشتركة.

فأما الأول فإنما قدّم ؛ لأنه أولى بماله من غيره ، ولأنّ حاجته الماسّة في الحال متقدمة دينه ، وقد كان في حياته لا سبيل لقرابته إلى قوته ولباسه ، وكذلك في كفنه.

__________________

(١) سورة النساء آية ١٧٦

٣٤١

وأما تقديم الدّين فلأنّ ذمّته مرتهنة بدينه ، وفرض الدّين أولى من فعل الخير الذي يتقرّب به.

فأما تقديم الصدقة على الميراث في بعض المال ففيه مصلحة شرعية وإيالة دينية ؛ لأنه لو منع جميعه لفاته باب من البرّ عظيم ، ولو سلّط عليه لما أبقى لورثته بالصدقة منه شيئا لأكثر الوارثين أو بعضهم ؛ فقسّم الله سبحانه بحكمته المال وأعطى الخلق ثلث أموالهم في آخر أعمارهم ، وأبقى سائر المال للورثة ، كما قال عليه السلام (١) : إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون الناس. مع (٢) أنه كلالة منه بعيد عنه.

وأراد بقوله : «خير» هاهنا وجوها معظمها أنّ ذلك سبب إلى ذكره بالجميل ، وإحياء ذكره هو إحدى الحياتين ، ومعنى مقصود عند العقلاء ، وقد أثنى الله سبحانه على الأنبياء في طريقه فقال (٣) : (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) ، وأخبر عن رغبته فيه فقال (٤) : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ).

وإذا كان ورثته أغنياء عظم قدرهم ، وشرف ذكرهم في الطاعة وذكره.

وقد ذكر الله تعالى الأوجه الثلاثة وترك الأوّل ؛ لأنه ليس بمتروك ، وإنما يكون متروكا ما فضل عن حاجته ومصلحته ؛ ولما جعل الله في القسم الثالث الوصية مشروعة مسوّغة له ، وكلها إلى نظره لنفسه في أعيان الموصى لهم ، وبمقدار ما يصلح لهم.

وقد كانت قبل ذلك مفروضة للوالدين والأقربين غير مقدّرة ثم نسخ ذلك ، فروى أبو داود والترمذي أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال : إنّ الله أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه ؛ لا وصية لوارث.

وقد روى [١١٩] البخاري عن خبّاب قال : هاجرنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وذكر الحديث ، ثم قال : ومنهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد ، فلم نجد له ما نكفّنه فيه إلّا نمرة (٥) كنّا إذا غطّينا بها رأسه بدت رجلاه ، وإذا غطّينا بها رجليه بدا رأسه. فقال النبي صلّى

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٢٥٠

(٢) في ا : من.

(٣) سورة الصافات ، آية ٧٨

(٤) سورة الشعراء ، آية ٨٤

(٥) النمرة : الشملة فيها خطوط بيض وسود ، أو بردة من صوف يلبسها الأعراب (القاموس).

٣٤٢

الله عليه وسلّم : غطّوا بها رأسه واجعلوا عليه من الإذخر (١) ؛ فبدأ بالكفن على كل شيء.

وروى الأئمة عن جابر أنّ أباه استشهد يوم أحد ، وترك ستّ بنات ، وترك دينا ، فلما حضر جداد النخل أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت : يا رسول الله ؛ قد علمت أن والدي استشهد يوم أحد ، وترك عليه دينا ، وإنى أحب أن يراك الغرماء. قال : اذهب فبيدر (٢) كلّ تمرة على حدة ، ففعلت : فلما دعوته وحضر عندي ونظروا إليه كأنما أغروا بي تلك الساعة ، فلما رأى ما يصنعون طاف حول أعظمها بيدرا فجلس عليه ، وقال : ادع أصحابك ؛ فما زال يكيل لهم حتى أدّى الله أمانة والدي. فقدّم الدّين على الميراث.

وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع قال : كنّا جلوسا عند النبىّ صلّى الله عليه وسلّم إذ أتى بجنازة فقالوا : صلّ عليها ، فقال : هل عليه دين؟ قالوا : لا ، فصلّى الله عليه ، ثم أتى بجنازة أخرى فقالوا : يا رسول الله ، صلّ عليها. فقال : هل عليه دين؟ قالوا : نعم. قال : فهل ترك شيئا؟ قالوا : ثلاثة دنانير. فصلّى الله عليه. ثم أتى بالثالثة فقالوا : صلّ عليها. فقال : هل ترك شيئا؟ قالوا : لا ، قال : أعليه دين؟ قالوا : ثلاثة دنانير. قال: صلوا على صاحبكم. قال أبو قتادة : صلّ عليه يا رسول الله وعلىّ دينه ، فصلّى الله عليه ، فجعل الوفاء بمقابلة الدّين. ولهذه الآثار والمعاني السالفة قال على بن أبى طالب ـ رواه الترمذي وغيره : إن النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قضى بالدّين قبل الوصية ، وأنتم تقدّمون الوصية قبل الدّين.

فإن قيل : فما الحكمة في تقديم ذكر الوصية على ذكر الدّين ، والدّين مقدّم عليها؟

قلنا ؛ في ذلك خمسة أوجه :

الأول ـ أن «أو» لا توجب ترتيبا ، إنما توجب تفصيلا ، فكأنه قال : من بعد أحدهما أو من بعدهما ، ولو ذكرهما بحرف الواو لأوهم الجمع والتشريك ؛ فكان ذكرهما بحرف «أو» المقتضى التفصيل أولى.

الثاني ـ أنه قدّم الوصية ؛ لأن تسبّبها من قبل نفسه ، والدّين ثابت مؤدّى ذكره أم لم يذكره.

__________________

(١) الإذخر : الحشيش الأخضر ، وحشيش طيب الريح (القاموس).

(٢) بيدر الطعام : كومة ، والبيدر : موضعه الذي يداس فيه (القاموس).

٣٤٣

الثالث ـ أنّ وجود الوصية أكثر من وجود الدّين ؛ فقدّم في الذكر ما يقع غالبا في الوجود.

الرابع ـ أنه ذكر الوصية ، لأنه أمر مشكل ، هل يقصد ذلك ويلزم امتثاله أم لا؟ لأنّ الدّين كان ابتداء تاما مشهورا أنه لا بدّ منه ، فقدم المشكل ، لأنّه أهم في البيان.

الخامس ـ أنّ الوصية كانت مشروعة ثم نسخت في بعض الصور ، فلما ضعّفها النسخ قويت بتقديم الذكر ؛ وذكرهما معا كان يقتضى أن تتعلّق الوصية بجميع المال تعلّق الدّين. لكن الوصية خصصت ببعض المال ، لأنها لو جازت في جميع المال لاستغرقته ولم يوجد ميراث ؛ فخصّصها الشرع ببعض المال ؛ بخلاف الدّين ، فإنه أمر ينشئه بمقاصد صحيحة في الصحة والمرض ، بيّنة المناحى في كل حال ؛ يعمّ تعلّقها بالمال كله.

ولما قام الدليل وظهر المعنى في تخصيص الوصية ببعض المال قدّرت ذلك الشريعة بالثلث ، وبيّنت المعنى المشار إليه على لسان النبىّ صلّى الله عليه وسلّم في حديث سعد ؛ قال سعد للنبي صلّى الله عليه وسلّم (١) : يا رسول الله ، لي مال ولا يرثني إلا ابنة لي ، أفأتصدّق بثلثي مالي ... الحديث ، إلى أن قال له النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : الثلث والثلث كثير ، إنّك [١٢٠] إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون النّاس.

فظهرت المسألة قولا ومعنى وتبيّنت حكمة وحكما.

المسألة الخامسة عشرة ـ لما ذكر الله تقديم الدّين على الوصية تعلّق بذلك الشافعىّ في تقديم دين الزكاة والحجّ على الميراث ، فقال : إن الرجل إذا فرّط في زكاته وحجّه أخذ ذلك من رأس ماله.

وقال أبو حنيفة ومالك : إن أوصى بها أدّيت من ثلثه ، وإن سكت عنها لم يخرج عنه شيء.

وتعلّق الشافعى ظاهر ببادئ الرأى ، لأنه حقّ من الحقوق ؛ فلزم أداؤه عنه بعد الموت كحقوق الآدميين ، لا سيما والزكاة مصرفها إلى الآدمىّ.

ومتعلّق مالك أنّ ذلك موجب إسقاط الزكاة أو ترك الورثة فقراء ، لأنه يعتمد ترك

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٢٥٢

٣٤٤

الكل ، حتى إذا مات استغرق ذلك جميع ماله ؛ فلا يبقى للورثة حقّ ؛ فكان هذا قصدا باطلا في حقّ عباداته وحقّ ورثته ؛ وكلّ من قصد باطلا في الشريعة نقض عليه قصده ، تحقّق ذلك منه أو اتّهم به إذا ظهرت علامته ، كما قضينا بحرمان الميراث للقاتل ، وقد مهّدناه في مسائل الخلاف.

المسألة السادسة عشرة ـ قوله تعالى : (آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً).

اختلف العلماء في معناه على قولين :

أحدهما ـ لا تدرون في الدنيا أنهم أقرب لكم نفعا في الآخرة ؛ لأنّ كلّ واحد من الجنسين يشفع في الآخرة يوم القيامة.

الثاني ـ لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا : أيهم أرفع درجة في الدنيا ؛ روى عن ابن عباس.

والمعنى فيه أنه لو ترك الأمر على ما كان في أول الإسلام : الوصية للوالدين والأقربين لم يؤمن ـ إذا قسم التركة في الوصية ، حيف أحدكم ، لتفضيل ابن على بنت ، أو أب على أم ، أو ولد على ولد ، أو أحد من هؤلاء أو غيرهم على أحد ، فتولّى الله سبحانه قسمها بعلمه ، وأنفذ فيها حكمته بحكمه ، وكشف لكلّ ذي حقّ حقّه ، وعبّر لكم ربّكم عن ولاية ما جهلتم ، وتولّى لكم بيان ما فيه نفعكم ومصلحتكم ، والله أعلم.

الآية الحادية عشرة ـ قوله تعالى (١) : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ، فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ، وَصِيَّةً مِنَ اللهِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ).

فيها عشر مسائل :

المسألة الأولى ـ في قراءتها (٢) :

قرئ بفتح الراء وكسرها ، وقرئ بتشديدها مكسورة ، فإن كان بالفتح فذلك عائد

__________________

(١) من الآية الثانية عشرة.

(٢) يريد قراءة كلمة (يُورَثُ) في الآية.

٣٤٥

الميّت ، ويكون قوله : (كَلالَةً) حالا من الضمير في يورث.

وإذا قرئت بالكسر فمعناه عائد إلى الورثة ، ويكون قوله (كَلالَةً) مفعولا يتعدّى الفعل إليه. وكذلك بالتشديد ؛ وإنما فائدته تضعيف الفعل إليه.

المسألة الثانية ـ في لغتها :

اختلف أهل اللغة وغيرهم في ذلك على ستة أقوال :

قال صاحب العين : الكلالة : الذي لا ولد له ولا والد.

الثاني ـ قال أبو عمرو : ما لم يكن لحّا من القرابة فهو كلالة ، يقال : هو ابن عمى لحّا ، وهو ابن عمّى كلالة.

الثالث ـ وهو في معنى الثاني : أنّ الكلالة من بعد ، يقال : كلّت الرحم إذا بعد من خرج منها.

الرابع ـ أنّ الكلالة من لا ولد له ولا والد ولا أخ.

الخامس ـ أنّ الكلالة هو الميت بعينه ، كما يقال رجل عقيم ورجل أمىّ.

السادس ـ أنّ الكلالة هم الورثة ، والورّاث الذين يحيطون بالميراث.

المسألة الثالثة ـ في التوجيه :

أما القول الأوّل والثاني والثالث فيعضده الاشتقاق الذي بينّاه في القول الثالث ، ويقرب منه توجيه الرابع ؛ لأنّ الأخ قريب جدّا حين جمعه مع أخيه صلب واحد وارتكضا في رحم واحدة ، [١٢١] والتقما من ثدي واحدة ، وقد قال الشاعر (١) :

فإنّ أبا المرء أحمى له

ومولى الكلالة لا يغضب

وأما من قال : إنه الميت نفسه فقد نزع بقول الشاعر (٢) :

ورثتم قناة المجد لا عن كلالة

عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

ومن قال : إنهم المحيطون بالميراث نزع بأنّ العرب تقول : كلّله النسب : أحاط به ، ومنه سمّى التاج إكليلا ؛ لأنه يحيط بجوانب الرأس.

__________________

(١ ـ ٢) اللسان مادة (كلّ).

٣٤٦

وقال أبو عبيدة : هو الذي لا والد له ولا ولد ، مأخوذ من تكلّله النسب ، أى أحاط به ؛ كأنه سماه بضدّه كالمفازة والسليم على أحد الأقوال.

المسألة الرابعة ـ في المختار : دعنا من ترتان ، وما لنا ولاختلاف اللغة وتتبّع الاشتقاق؟ ولسان العرب واسع ، ومعنى القرآن ظاهر ، وظاهر القرآن أنّ الكلالة من فقد أباه وابنه والزوجات وترك الإخوة ، [والدليل عليه أن الله تعالى ترك سهام الفرائض مع الآباء والأبناء والزوجات وترك الإخوة] (١) ؛ فجعل هذه آيتهم وجعلهم كلالة اسما موضوعا لغة بأحد معاني الكلالة مستعملا شرعا ، وكذلك ذكره في آخر السورة في آية الصيف (٢) سمّاه كلالة ، وذكر فريضة لا أب فيها ولا اين ، فتحقّقنا بذلك مراد الله عزّ وجلّ في الكلالة.

تبقى ها هنا نكتة تفطّن لها أبو عمرو ، وهي إلحاق فقد الأخ للعين أو لعلة بالكلالة ، لأنها نازلة الآية في سورة النساء الأولى ، وهي هذه ؛ وفي الآية الأخرى آية الصيف : الكلالة فقد الأب والابن ؛ فدلّ على أنّ الاشتقاق يقتضى ذلك كله ؛ ومطلق اللغة يقتضيه ؛ لأن القرآن جاء بها فاستعمله الشّرع في كل موضع قصدا لبيان الأحكام بحسب الأدلة والمصالح ، فهذا جريان الأمر على الاشتقاق وتصريف اللغة ، فأما اعتبار المعنى على رسم الفتوى ، وهي :

المسألة الخامسة ـ واختلف العلماء في المراد بالكلالة على ثلاثة أقوال :

الأول ـ أنّ قوما اختاروا أنّ الكلالة من لا ولد له ولا والد ؛ وهو قول أبى بكر الصديق ، وإحدى الروايتين عن عمر.

الثاني ـ من لا ولد له وإن كان له أب أو إخوة.

الثالث ـ قول طريف لم يذكر في التقسيم الأول ؛ وهو أنّ الكلالة المال.

فأما من قال : إنه المال ، فلا وجه له. وأما من قال : إنه الذي ذهب طرفاه الأسفل فمشكل تحقيق القول فيه ؛ وذلك أنّ عمر أشكلت عليه هذه الآية حتى ألحف على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بيانها ؛ فقال له : ألا تكفيك آية الصيف ، يعنى الآية التي أنزلت في آخر النساء.

__________________

(١) من ل.

(٢) سيأتى أنها الآية التي في آخر النساء. وفي النهاية : آية الصيف أى الآية التي نزلت في الصيف.

٣٤٧

وروى معدان بن أبى طلحة قال : خطب عمر بن الخطاب يوم الجمعة فقال : إنى لا أدع بعدي شيئا هو أهمّ عندي من الكلالة. وفي رواية : أهمّ عندي من الجد والكلالة ، وما راجعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شيء ما راجعته في الكلالة ، وما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها حتى طعن بإصبعه في صدري ، وقال : يا عمر ؛ أما تكفيك آية الصيف ، يعنى الآية التي في آخر سورة النساء. قال : وإن أعش أقض فيها بقضية يقضى بها من يقرأ القرآن ومن لا يقرأ القرآن.

فإذا كان هذا أمرا وقف في وجه عمر فمتى يسفر لنا عنه وجه النظر؟

لكن الآن نرد في اقتحام هذا الوعر (١) بنيّة وعلم ، فنقول فيهما والله الموفق المنعم : إن الكلالة وإن كانت معروفة لغة متواردة على معان متماثلة ومتضادّة فعلينا أن نتبصّر مواردها في الشريعة فنقول :

وردت في آيتين : إحداهما هذه ، والأخرى التي في آخر سورة النساء كما تقدّم ، فأما هذه فهي التي لا ولد فيها ولا والد وفيها إخوة لأم. وأما التي في آخر سورة النساء فهي التي لا ولد ذكرا فيها ، وهم إخوة لأب وأم أو إخوة لأب أو أخوات لأب وأم وجدّ ، فجاءت هذه الآية لبيان حال الإخوة من الأم ، وجاءت في آخر سورة النساء لبيان إخوة الأعيان والعلّات حتى يقع البيان بجميع الأقسام ، ولو شاء ربك لجمعه وشرحه.

وكان عمر يطلب من النبىّ صلّى الله عليه وسلّم النصّ القاطع للعذر ، وهو عليه السلام يحمله على البيان الواقع مع الإطلاق الذي وكل فيه إلى الاجتهاد بالأخذ من اللغة ومقاطع القول ومرابط البيان ومفاصله.

وهذا نصّ في جواز الاجتهاد ، ونصّ في التكلّم بالرأى المستفاد عند النظر الصائب.

وإذا ثبت فيه النظر فإنّه يصحّ في ذلك أنّ معنى الكلالة من «كلّ» أى بعد ، ومن «تكلل» أى أحاط على معنيين :

أحدهما ـ أن يكون على معنى السلب (٢) ، كما يقال فاز في المفازة أى انتفى له الفوز.

والثاني ـ أن الإحاطة وجدت مع فقد السبب الذي يقتضى الإحاطة وهو قرب النسب.

__________________

(١) في ا : الوعد ، وهو تحريف.

(٢) يريد النفي.

٣٤٨

المسألة السادسة ـ إنما قلنا : إنّ الكلالة في هذه الآية فقد الابن والأب ؛ لأن الإخوة للأم يحجبون بالجد ، وهم المرادون في الآية بالإخوة إجماعا ، ودخل فيها الجدّ الخارج عن الكلالة ؛ لأنه أصل النسب كالأب المتولّد عنه الابن.

وأما الآية التي في آخر سورة النساء فقد قال المحقّقون من علمائنا : إنّ الجدّ أيضا خارج عنها ؛ لأنّ الأخت مع الجدّ لا تأخذ نصفا ؛ إنما هي مقاسمة ، وكذلك الأخ مقاسم لها.

فإن قيل : فلم أخرجتم الجدّ عنها؟ قلنا : لأنّ الاشتقاق يقتضى خروجه عنها ؛ إذ حقيقة الكلالة ذهاب الطرفين ، وعليه مبنى اللغة ، وغير ذلك من الأقوال بعيد ضعيف.

وأفسدها قول من قال : إنه المال ، فإنه غير مسموع لغة ولا مقيس معنى.

الثاني ـ أنّ الجدّ يرث مع ذكور ولد المتوفّى في السدس ، والإخوة لا يرثون معهم ، فكيف يشارك من يسقط الإخوة كلهم ويكون كأحدهم.

ولهذه العلة قال حبر الأمة مالك بن أنس : إنّ امرأة لو ماتت وتركت زوجها وأمّها وإخوتها لأبيها وإخوتها لأمها وجدّها : إنّ النصف للزوج ، والسدس للأم فريضة ، وللجد ما بقي ؛ قال : لأنّ الجدّ يقول : لو لم أكن كان للإخوة للأم ما بقي ، ولا يأخذ الإخوة للأب شيئا ، فلما حجبت إخوة الأم عنه كنت أنا أحقّ به.

وقد روى عن مالك أنه جعل للجدّ السدس ، وللإخوة للأب السدس كهيئة المقاسمة ، وذلك محقّق في الفرائض.

المسألة السابعة ـ قوله : (فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ) :

اتفق العلماء على أنّ التشريك يقتضى التسوية بين الذّكر والأنثى ؛ لأنّ مطلق اللفظ يدلّ عليه ، كما أنّ الآية التي في سورة النساء في آخرها ما يقتضى التعصيب ؛ ولذلك قلنا ـ في مسألة الزوج والأم والأخ من الأم والإخوة من الأب والأم : إنّ للزوج النصف ، وللأم السدس ، وللأخ للأمّ السدس ، وللإخوة للأب والأم السدس بحكم التعصيب.

المسألة الثامنة ـ الأخوات عصبة للبنات ، وإذا ترك بنتا وأختا أو ابنتين وأختا فالنصف للابنة ، وللأخت ما بقي ، وهما ذواتا فرض ، لكن إذا اجتمعا سقط فرض الأخوات

٣٤٩

وعاد سهمهنّ إلى التعصيب بقضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه ابن مسعود كما تقدّم.

وقال ابن عباس وابن الزبير : الابنة تسقط الأخت ؛ لأنّ الله تعالى يقول (١) : (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ) ، فتأخذ البنت النصف وما بقي للعصبة ، وقد سبق (٢) قضاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي رواه ابن مسعود.

وفي البخاري أنّ معاذا قضى باليمن على عهد رسول الله [١٢٣] صلّى الله عليه وسلّم بأنّ للابنة النصف ، وللأخت النصف ؛ وبهذا الحديث رجع ابن الزبير عن قوله ؛ فصار فرض الأخت والأخوات بالنصّ إن لم يكن ولد ، وصار فرضهنّ التعصيب إن كان بنتا ، وسقطن بالذكر بظاهر القرآن ، فخصّت السنة برواية ابن مسعود عموم قوله : (لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ).

المسألة التاسعة ـ لو كان الورثة أخوين للأم أحدهما ابن عم ، أو ابنا عم أحدهما أخ لأم ؛ فأما الصورة الأولى فاتفق الناس فيها أنّ الثلث لهما بسبب الأم ، ويأخذ الثاني ما بقي من الميراث بالتعصيب.

وأما الثانية فاختلفوا فيها ؛ فقال الجمهور : لمن اجتمعت فيه القرابتان السدس بحكم الأمومة ، والباقي بينه وبين الآخر.

وقال عمر ، وابن مسعود : المال للأخ للأم ، وبه قال شريح والحسن وأبو ثور ، واحتجّوا بأنه ساواه في التعصيب ، وفضله بقرابة الأم ، فكان مقدّما عليه في التعصيب كالأخ من الأب والأم مع الأخ من الأب.

ودليلنا أنّ الإخوة من الأم سبب يفرض به في السهام ، فلا يرجّح به في التعصيب ، كما لو كان زوجها ، وبهذا فارق الأخ الشقيق فإنه لا يفرض له بقرابة الأم.

فإن قيل : فقد فرضتم له في مسألة المشتركة.

قلنا : إنما يفرض فيها لولد الأم ، لا لولد الأب والأم ، ثم يدخل معهم فيه ولد الأب والأم.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (غَيْرَ مُضَارٍّ).

وذلك راجع إلى الوصية والدّين.

__________________

(١) النساء : ١٧٦

(٢) صفحة ٣٣٦

٣٥٠

أما رجوعه إلى الوصية فبوجهين :

أحدهما ـ بأن يزيد على الثلث. الثاني ـ بأن يوصى لوارث فأما إن زاد على الثلث فإنه يردّ إلا أن يجيز الورثة ؛ لأنّ المنع لحقوقهم لا لحقّ الله.

وأما إن أوصى إلى وارث فإنّ الورثة يحاصّون (١) به أهل الوصايا في وصاياهم ، ويرجع ميراثا.

وقال أبو حنيفة والشافعى : تبطل ، ولا يقع به تحاصّ ، ونظرهما بيّن في إسقاط ما زاد على الثلث لبطلانه. ومطلع نظر مالك أعلى ؛ لأنا نتبيّن بوصيته للوارث مع سائر الوصايا أنه أراد تنقيص حظّ الوصايا وتخصيص وارثه ، فإن بطل أحد القصدين ، لأنّ الشرع لم يجوّزه ، لم يبطل الآخر ؛ لأن الشرع لم يمنع منه. وقد بيناه في مسائل الخلاف ، فيردّ ما أبطل الشرع ويمضى ما لم يعترض فيه.

وأما رجوع المضارّة إلى الدّين فبالإقرار في حالة لا يجوز فيها لشخص الإقرار له به ، كما لو أقرّ في مرضه لوارثه بدين أو لصديق ملاطف له ، فإنّ ذلك لا يجوز عندنا إذا تحققنا المضارّة بقوة التهمة ، أو غلب على ظننا.

وقال أبو حنيفة : يبطل الإقرار رأسا. وقال الشافعى : يصحّ.

ومطلع النظر أنّا لمحنا أنّ الموروث لما علم أنّ هبته لوارثه في هذه الحالة أو وصيّته له لا تجوز ، وقد فاته نفعه في حال الصحة عمد إلى الهبة فألقاها بصورة الإقرار لتجوّزها ؛ ويعضد هذه التهمة صورة القرابة وعادة الناس بقلة الديانة.

ومطلع نظر أبى حنيفة نحو منه ؛ لكنه ربط الأمر بصفة القرابة حين تعذّر عليه الوقوف على التهمة ، كما علقت رخص السفر بصورة السفر حين تعذّر الوقوف على تحرير المشقة ووجودها.

وراعى الشافعىّ في نظره أنّ هذه حالة إخبار عن حقّ واجب مضاف إلى سبب جائز في حالة يؤمن فيها الكافر ، ويتّقى فيها الفاجر ، ويتوب فيها العاصي ، فأمضاه عليهم ، وجوّزه.

فإن قال : الإقرار حجة شرعية فلا يؤثّر فيها المرض.

قلنا : وإن كان الإقرار حجّة شرعية [فإنّ الهبة صلة شرعية] (٢) ، ولكن حجرها المرض.

__________________

(١) حاصوا : اقتسموا حصصا (اللسان).

(٢) ليس في ل.

٣٥١

كذلك تحجر التهمة الإقرار (١) ، وكما ردّت التهمة الشهادة [١٢٤] أيضا.

وأما نظر أبى حنيفة إلى صورة القرابة ففيه إلغاء العلّة في غير محلها وقصر لها على موردها. وينبغي أن تطّرد العلة حيث وجدت ما لم يقف دونها دليل تخصيص ، فعلى هذا إذا وجدنا التهمة في غير القريب من صديق ملاطف حكمنا ببطلان الإقرار ، وكم من صديق ألصق من قريب وأحكم عقدة في المودّة.

(تكملة) ـ لما ذكر الله تعالى في هذه الآية فرائض السهام ، وبقيت بعد ذلك من الأموال بقية مسكوت عنها في كتاب الله عزّ وجلّ بيّنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال في الحديث الصحيح (٢) : ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقته الفرائض فلأولى عصبة ذكر؛ فلأجل ذلك قدم الأقعد في العصبة على الأبعد ، كالأخ من الأب والأم يقدم على الأخ للأب ، وابن الأخ من الأب والأم على ابن الأخ للأب ، ويقدم الأخ للأب على ابن الأخ للأب والأم ، هكذا أبدا.

(تخصيص) ـ قال الله سبحانه (٣) : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) الفرائض إلى آخرها بسهامها ومستحقيها ، ثم ثبت في الصحيح المتفق عليه أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال (٤) : لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم. فخرج من هذا العموم توارث الكفّار والمسلمين ، فلا يرث كافر مسلما ، ولا يحجبه.

وقال ابن مسعود : هو ـ وإن كان لا يرث ـ فإنه يحجب ، وهذا ضعيف ؛ فإنّ المذكور في قوله (٥) : (وَلِأَبَوَيْهِ) هو المذكور في (٦) : (إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) فكما أن قوله : (وَلِأَبَوَيْهِ) لم يدخل فيه الكفار ؛ كذلك قوله : (إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) لا يدخل فيه الكافر.

تحقيقه أنّ الشريعة جعلته في باب الإرث وإن كان موجودا كالمعدوم ، كذلك في باب الحجب فإنه أحد حكمى الميراث ؛ فلا يؤثر فيه الكافر ، أو لا يتعلق بالكافر أصله الميراث ، والتعليل بالحجب معضّد لهذه الأقسام في الأبواب.

قال علماؤنا : الأسباب التي يستحقّ بها الميراث ثلاثة أسباب : نكاح ، ونسب ، وولاء.

فأما النكاح والنسب فهو نصّ القرآن ، وبه قال الشافعى. وقال أبو حنيفة. يستحقّ

__________________

(١) في ل : والإقرار.

(٢) صحيح مسلم : ١٢٣٣

(٣) الآية ١١ من سورة النساء ، وقد تقدمت.

(٤) صحيح مسلم : ١٢٣٤

٣٥٢

الميراث زائدا على هذا بالحلف والمعاقدة والاتحاد في الديوان.

وحقيقة المسألة في المذهب أنّ الميراث عندنا يستحقّ بأربعة معان : نكاح ، ونسب ، وولاء ، وإسلام ، ومعنى قولنا : «وإسلام» أنّ بيت المال عندنا وارث.

وقال أبو حنيفة : ليس بوارث. وقد حقّقناه في مسائل الخلاف ، وعوّل أبو حنيفة على قوله تعالى (١) : (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ) ، وهي آية نبيّنها في موضعها إن شاء الله تعالى.

فصل ـ لما قدر الله سبحانه الفرائض مقاديرها ، وقرّرها مقاريرها ، واستمرت على ذلك زمانا نزلت في خلافة عمر عارضة ، وهي ازدحام أرباب الفرائض على الفرائض ، وزيادة فروضهم على مقدار المال ، مثال ذلك امرأة تركت زوجها وأختها وأمها. قال ابن عباس : فلما ألقيت عند عمر ، وكان امرأ ورعا ، ودفع بعضهم بعضا قال : والله ما أدرى أيكم قدّم الله ولا أيكم أخّر ، فلا أجد ما هو أوسع من أن أقسّم عليكم هذا المال بالحصص ، فأدخل على كل ذي سهم ما دخل عليه من عول.

وقال ابن عباس : سبحان الله العظيم! إنّ الذي أحصى رمل عالج (٢) عددا ما جعل في المال نصفا ونصفا وثلثا ، فهذان النصفان قد ذهبا بالمال ، فأين الثلث؟ فليجيئوا فلنضع أيدينا على الركن فلنبتهل.

قال زفر بن الحارث البصري : يا ابن عباس ؛ وأيهما قدّم الله؟ وأيهما أخّر؟ قال : كلّ فريضة لم يهبطها الله إلّا إلى فريضة ، فهي المقدّم ، وكلّ فرض إذا زال رجع إلى ما بقي فهو المؤخر.

قال القاضي : اجتمعت الأمة على ما قال عمر ، ولم يلتفت أحد إلى ما قال ابن عباس ؛ وذلك أنّ الورثة استووا [١٢٥] في سبب الاستحقاق ، وإن اختلفوا في قدره ، فأعطوا عند التضايق حكم الحصّة ، أصله الغرماء إذا ضاق مال الغريم عن حقوقهم ، فإنهم يتحاصّون بمقدار رءوس أموالهم في رأس مال الغريم.

__________________

(١) سورة النساء ، آية ٣٣

(٢) رملة بالبادية مسماة بهذا الاسم (ياقوت).

٣٥٣

الآية الثانية عشرة ـ قوله تعالى (١) : (وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً).

قال القاضي : هذه معضلة في الآيات لم أجد من يعرفها ، ولعلّ الله أن يعين على علمها ، وفيها ثماني عشرة مسألة :

المسألة الأولى ـ اجتمعت الأمّة على أنّ هذه الآية ليست منسوخة ؛ لأن النسخ إنما يكون في القولين المتعارضين من كل وجه ، اللذين لا يمكن الجمع بينهما بحال ، وأما إذا كان الحكم ممدودا إلى غاية ، ثم وقع بيان الغاية بعد ذلك فليس بنسخ ؛ لأنه كلام منتظم متصل لم يرفع ما بعده ما قبله ، ولا اعتراض عليه.

المسألة الثانية ـ قوله تعالى : (اللَّاتِي) هو جمع التي ؛ كلمة يخبر بها عن المؤنث خاصة ، كما أنّ قوله : «الذي» يخبر به عن المذكر خاصة ، وجمعه الذين ، وقد تحذف التاء فتقى الياء الساكنة فتجرى (٢) بحركتها ، قال سبحانه (٣) : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ) ، فجاء باللغتين في القرآن ، وقد قال الشاعر المخزومي :

من اللّاء لم يحججن يبغين حسبة

ولكن ليقتلن البريء المغفّلا

المسألة الثالثة ـ قوله : (الْفاحِشَةَ) :

هي في اللغة عبارة عن كلّ فعل تعظم كراهيته في النفوس ، ويقبح ذكره في الألسنة حتى يبلغ الغاية في جنسه ، وذلك مخصوص بشهوة الفرج إذا اقتضيت على الوجه الممنوع شرعا أو المجتنب عادة ، وذلك يكون في الزنا إجماعا ، وفي اللواط باختلاف.

والصحيح أنّ اللواط فاحشة ؛ لأنّ الله سبحانه سماه به على ما يأتى ذكره في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى.

المسألة الرابعة ـ قوله تعالى : (يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ) :

يقال : أتيت مقصورا ؛ أى جئت ، وعبّر عن الفعل والعمل بالمجيء ؛ لأن المجيء إليه يكون ، وهذا من بديع الاستعارة.

__________________

(١) الآية الخامسة عشرة.

(٢) في م : فتحرك.

(٣) سورة الطلاق ، آية ٤

٣٥٤

المسألة الخامسة ـ قوله تعالى : (مِنْ نِسائِكُمْ) :

اختلف الناس في ذلك ؛ فقال الأكثر من الصحابة : إنّ المراد بذلك الأزواج. وقال آخرون : المراد به الجنس من النساء ، وتعلّق من قال : إنهن الأزواج بقوله تعالى (١) : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ). وقوله (٢) : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ). وأراد الأزواج في الآيتين ، فكذلك في هذه الآية الثالثة ، وإذا كان إضافة زوجية فلا فائدة فيها إلا اعتبار الثيوبة ؛ قالوا : ولأنّ الله سبحانه ذكر عقوبتين : إحداهما أكبر من الأخرى ، وكانت الأكبر للثيب ، والأصغر للبكر.

والصحيح عندي أنه أراد جميع النساء ؛ لأنه مطلق اللفظ الذي يقتضى ذلك وعمومه ، فأما الذي تعلّقوا به من آية الإيلاء والظهار فإنما أوقفناه على الأزواج ؛ لأن الظّهار والإيلاء من أحكام النكاح ؛ ألا ترى أنّ الإيلاء لما كان مجرّدا عن النكاح بأن يحلف ألّا يطأ امرأة أجنبية فوطئها يحنث إذا وطئها إذا تزوّجها ، وإنما وقف على الأجل في الزوجة رفعا للضرر.

وأما قولهم : إنه ذكر عقوبتين فاقتضى أن يكون الأغلظ للأعظم والأقلّ للأصغر ، بناء منهم على أنّ الآيتين في النساء جميعا : إحداهما في الثيب ، والأخرى في البكر ، وهذا لا يصحّ ، وسيأتى بيانه إن شاء الله تعالى.

وقد قال المحققون من علمائنا : إنّ الحكمة في قوله تعالى : (مِنْ نِسائِكُمْ) بيان حال المؤمنات ، كما قال تعالى (٣) : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) يعنى من المؤمنين.

وقال تعالى (٤) : (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، ويفيد ذلك أنّ الحاكم لا يحدّ الكافرة إذا زنت ، وذلك يأتى بيانه إن شاء الله تعالى [١٢٦].

المسألة السادسة ـ قوله تعالى : (فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ) :

وهذا حكم ثابت بإجماع من الأمة ، قال تعالى (٥) : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ...) الآية.

فشرط غاية الشهادة في غاية المعصية لأعظم الحقوق حرمة ، وتعديد الشهود بأربعة

__________________

(١) سورة البقرة ، آية ٢٢٦

(٢) سورة المجادلة ، آية ٢

(٣) سورة البقرة ، آية ٢٨٢

(٤) سورة الطلاق ، آية ٢

(٥) سورة النور ، آية ٤

٣٥٥

حكم ثابت في التوراة والإنجيل والقرآن ؛ روى أبو داود عن جابر بن عبد الله قال (١) : جاءت اليهود برجل وامرأة قد زنيا ، فقال النبىّ صلّى الله عليه وسلّم : ائتوني بأعلم رجلين منكم ، فأتوه يا بنى صوريا ، فنشدهما الله كيف تجدان أمر هذين في التوراة؟ قالا : نجد في التوراة إذا شهد أربعة أنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة رجما. قال : فما يمنعكا أن ترجموهما؟ قالا : ذهب سلطاننا وكرهنا القتل. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالشهود فجاءوا وشهدوا أنّهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة ، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فرجمهما (٢).

المسألة السابعة ـ ولا بد أن يكون الشهود عدولا ؛ لأنّ الله عزّ وجلّ شرط العدالة في البيوع والرجعة ، فهذا أعظم ، وهو بذلك أولى ، وهو من باب حمل المطلق على المقيّد بالدليل ، حسبما بينّاه في أصول الفقه.

المسألة الثامنة ـ ولا يكونوا ذمة ، وإن كان الحكم على (٣) ذمة ، وسيأتى ذلك في سورة المائدة إن شاء الله تعالى.

المسألة التاسعة ـ فإن قيل : أليس القتل أعظم حرمة من الزنا؟ وقد ثبت في الشرع بشاهدين ، فما هذا؟

قال علماؤنا : في ذلك حكمة بديعة ، وهو أنّ الحكمة الإلهية والإيالة الربانية اقتضت الستر في الزنا بكثرة (٤) الشهود ؛ ليكون أبلغ في الستر ، وجعل ثبوت القتل بشاهدين ، بل بلوث وقسامة (٥) صيانة للدماء.

المسألة العاشرة ـ قوله تعالى : (مِنْكُمْ) : المراد به ها هنا الذكور دون الإناث ، لأنه سبحانه ذكر أولا (مِنْ نِسائِكُمْ) ، ثم قال : (مِنْكُمْ) ، فاقتضى ذلك أن يكون الشاهد غير المشهود عليه ، ولا خلاف في ذلك بين الأمّة.

المسألة الحادية عشرة ـ قوله تعالى : (فَإِنْ شَهِدُوا).

__________________

(١) ابن ماجة : ٨٥٤ ، صحيح مسلم : ١٣٢٦

(٢) في ا : فرجمها.

(٣) في ل : في.

(٤) في ا : بتكثر.

(٥) في النهاية : اللوث : هو أن يشهد شاهد واحد على إقرار المقتول قبل أن يموت ؛ يقول : إن فلانا قتلني أو يشهد شاهدان على عداوة بينهما أو تهديد منه أو نحو ذلك. والقسامة : اليمين كالقسم ، وحقيقتها أن يقسم من أولياء الدم خمسون نفرا على استحقاقهم دم صاحبهم إذا وجدوه قتيلا بين قوم ولم يعرفوا قاتله ، فإن لم يكونوا خمسين أقسم الموجودون خمسين يمينا.

٣٥٦

المعنى فاطلبوا عليهنّ الشهداء ، فإن شهدوا. وليس هذا بأمر وجوب لطلب الشهادة ، وإنما هو أمر تعليم كيف يكون الحكم بالشهادة ، وصفة الشهادة التي يشهد بها الشاهد ما ورد في الحديث (١) من شأن ماعز بن مالك الأسلمى على ما رواه أبو داود والنسائي عن أبى هريرة ـ أنّ رجلا من أسلم جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فشهد على نفسه أنه أصاب امرأة حراما أربع مرات ، كلّ ذلك يعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، فأقبل عليه في الخامسة ، فقال : أسكتها؟ قال نعم. قال : حتى غاب ذلك منك فيها؟ قال : نعم. قال : كما يغيب المرود في المكحلة والرشاء في البئر؟ قال : نعم. قال : هل تدرى ما الزنا؟ قال : نعم. قال : أتيت منها حراما مثل ما يأتى الرجل من أهله حلالا؟ قال : نعم. قال : فما تريد منى بهذا القول؟ قال : أريد أن تطهّرنى ، فأمر به فرجم.

المسألة الثانية عشرة ـ قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ).

أمر الله تعالى بإمساكهنّ في البيوت وحبسهنّ فيها في صدر الإسلام قبل أن تكثر الجناة ، فلما كثر الجناة وخشي فوتهم (٢) اتّخذ لهم سجن.

واختلف في هذا السجن ، هل هو حدّ أو توعّد بالحدّ على قولين :

أحدهما ـ أنه توعّد بالحد. والثاني ـ أنه حد. قال ابن عباس والحسن : زاد ابن زيد أنهم منعوا من النكاح [١٢٧] حتى يموتوا. يعنى عقوبة لهم حيث طلبوا النكاح من غير وجهه. ثم نسخ ذلك بالحدّ.

وقال ابن عباس : أنزل الله سبحانه بعد ذلك (٣) : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) ؛ فمن كان محصنا رجم ، ومن كان بكرا جلد.

والصحيح أنه حدّ جعله الله عقوبة ممدودة إلى غاية مؤذنة (٤) بأخرى هي النهاية.

وإنما قلنا : إنه حدّ ، لأنه إيذاء ، وإيلام ، ومن الناس (٥) من يرى أنه أشدّ من الجلد ، وكلّ إيذاء وإيلام حدّ ، لأنه منع وزجر.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٣٢٢

(٢) في ا : فوتهن.

(٣) سورة النور ، آية ٢

(٤) في ل : مردفة.

(٥) في ل : بل من الناس.

٣٥٧

وإنما قلنا : إنه ممدود إلى غاية إبطالا لقول من رأى من المتقدمين والمتأخرين : إنه نسخ. وقد تقدم بيانه.

المسألة الثالثة عشرة ـ قوله تعالى : (أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً).

روى مسلم وغيره عن عبادة بن الصامت أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم قال (١) : خذوا عنّى ، قد جعل الله لهنّ سبيلا (٢) ، البكر بالبكر جلد مائة ونفى سنة ، والثيب بالثيب جلد مائة والرّجم.

وروى مسلم أنّ النبىّ صلّى الله عليه وسلّم كان إذا أنزل عليه الوحى كرب لذلك واربدّ (٣) ، فأنزل الله عليه ذات يوم فلقى كذلك (٤) ، فلما سرّى عنه قال : قد جعل الله لهنّ سبيلا ، الثيب بالثيب ، والبكر بالبكر ، الثيب جلد مائة ورجم بالحجارة ، والبكر جلد مائة ونفى سنة.

وروى مسلم في بعض طرقه : البكر تجلد وتنفى ، والثيب تجلد وترجم.

فبيّن صلّى الله عليه وسلّم ثلاثة أحوال : بكر تزنى ببكر ، وثيّب تزنى بثيب. الثالث بكر تزنى بثيب ، أو ثيب تزنى ببكر ، لقوله : البكر تجلد وتنفى ، والثيب ترجم.

المسألة الرابعة عشرة ـ البكر يجلد ويغرب ، وبه قال الشافعى وأحمد.

وقال أبو حنيفة وحماد : لا يقضى بالنفي حدّا إلا أن يراه الحاكم [تعزيرا] (٥) ، واحتجّا بقوله تعالى (٦) : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، ولم يذكر تغريبا ، والزيادة على النص نسخ.

قلنا : لا نسلّم أنّ الزيادة على النص نسخ ، وقد بيناه في غير موضع.

جواب ثان : قد رددتم البينة بخبر لا يصحّ على الماء والتراب (٧).

جواب ثالث : وذلك أنّ الله تعالى ذكر الجلد ، ولم يذكر الرّجم ، وهو زيادة عليه.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٣١٦

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً.) فبين النبي أن هذا هو السبيل.

(٣) في صحيح مسلم (١٣١٧) : وتريد وجهه.

(٤) في ا : فلقى ذلك. والمثبت من صحيح مسلم.

(٥) ليس في ل.

(٦) سورة النور ، آية ٢

(٧) هكذا في الأصول.

٣٥٨

جواب رابع : وذلك أنّ الله سبحانه وتعالى لم يذكر الإحصان ولا الحرية ، فتبيّن أنّ المقصود من الآية بيان جنس الحدّ ، والفرق بين المحصن وغير المحصن.

المسألة الخامسة عشرة ـ المرأة لا تغرّب خلافا للشافعي وغيره حين تعلّقوا بعموم الحديث ، والمعنى يخصّه ؛ فإنّ المرأة تحتاج من الصيانة والحفظ والقصر عن الخروج والتبرز اللذين يذهبان بالعفة إلى ما لا يحتاج إليه الرجل.

المسألة السادسة عشرة ـ العبد لا يغرّب خلافا للشافعي حيث يقول بعموم الخبر ، ويخصّه قوله صلّى الله عليه وسلّم (١) : إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ، ثم إن زنت فليجلدها ، ثم قال في الثالثة أو الرابعة فليبعها ، ولو بضفير (٢). فكرّر ذكر الجلد ، ولم يذكر التغريب ، ولو كان واجبا لكرّره أو ذكره.

وأيضا فإنّ المعنى يخصّه ؛ لأنّ المقصود من تغريب الحرّ إيذاؤه بالحيلولة له بينه وبين أهله ، والإهانة له ؛ ولا يتصوّر ذلك في العبد.

المسألة السابعة عشرة ـ في أصل التغريب ، وهو أنه أجمع رأى خيار بنى إسماعيل على أنّ من أحدث في الحرم حدثا غرّب منه ، وكان ذلك مما بيّنه لهم أوّلهم ، فصارت سنّة لهم فيه يدينون بها ، فلأجل ذلك استنّ الناس إذا أحدث أحد حدث غرّب عن بلده ؛ وتمادى ذلك إلى الجاهلية إلى أن جاء الإسلام فأقرّه في الزنا خاصة ؛ لأنّ المظالم يمكن كفّ الظالم عنها جهرا ، فلا يقدر عليها سرّا ، والزنا ليس الكفّ عنه بكامل حتى يغرّب عن موضعه ، فلا تكون [١٢٨] له حيلة في السر يتوصّل بها إلى العودة إليه أو إلى مثله.

المسألة الثامنة عشرة ـ لا يجمع بين الجلد والرّجم خلافا لأحمد وغيره ، ومتعلّقهم بقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وفعل علىّ ذلك (٣) أيام خلافته.

وقولنا أصحّ ؛ لأنّ كلّ من رجمه النبىّ صلّى الله عليه وسلّم لم يجلده ، فتركه له عليه السلام فعلا في كل من رجم ، وقولا في

قوله في حديث العسيف : واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها ـ مسقط (٤) له.

__________________

(١) صحيح مسلم : ١٣٢٩

(٢) الضفير : الحبل (صحيح مسلم).

(٣) في ل : لذلك.

(٤) خبر فتركه.

٣٥٩

الآية الثالثة عشرة ـ قوله تعالى (١) : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً).

فيها أربع مسائل :

المسألة الأولى ـ فيها ثلاثة أقوال :

الأول ـ أن الإذاية في الأبكار (٢) ، قاله قتادة والسدى وابن زيد.

الثاني ـ أنها عامّة في الرجال والنساء.

الثالث ـ أنها عامة في أبكار الرجال وثيّبهم ، قاله مجاهد ؛ واحتجّ بأنّ لفظ الآية الأولى مؤنّث ؛ فاقتضى النساء ؛ وهذا لفظ مذكر ، فاقتضى الرجال.

وردّ عليه الطبري وأبو عبد الله النحوي وغيرهما وقالوا : إنّ لفظ الآية الثانية يصلح للذكر والأنثى.

قال ابن العربي : والصواب مع مجاهد ؛ وبيانه أنّ الآية الأولى نصّ في النساء بمقتضى التأنيث والتصريح باسمهنّ المخصوص لهنّ ، فلا سبيل لدخول الرجال فيه ، ولفظ الثانية يحتمل الرجال والنساء ، وكان يصحّ دخول النساء معهم فيها لو لا أنّ حكم النساء تقدّم ، والآية الثانية لو استقلّت لكانت حكما آخر معارضا له ، فينظر (٣) فيه ، ولكن لما جاءت منوطة بها ، مرتبطة معها ، محالة بالضمير عليها فقال : (يَأْتِيانِها مِنْكُمْ) علم أنه أراد الرجال ضرورة. وإذا ثبت هذا قلنا ـ وهي :

المسألة الثانية ـ إن قوله : (وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما) عامّ في البكر والثيب ، فاقتضى مساق الآيتين أنّ الله تعالى جعل في زنا النساء عقوبة الإمساك في البيوت ، وجعل في زنا الرجال على الإطلاق فيهما جميعا الإيذاء ، فاحتمل وهي :

المسألة الثالثة ـ أن يكون الإيذاء الذي جعل الله عقوبة لهم [عقوبة] (٤) دون الإمساك ، واحتمل الإيذاء والإمساك حملا على النساء ، والأول أظهر. وإذا ثبت هذا فهاهنا نكتة حسنة وهي :

المسألة الرابعة ـ أنّ الجلد بالآية والرّجم بالحديث نسخ هذا الإيذاء في الرجال ؛ لأنه لم

__________________

(١) الآية السادسة عشرة.

(٢) في ا : هي الإنكار ، وهو تحريف.

(٣) في ا : فلينظر.

(٤) من ل.

٣٦٠