أحكام القرآن - ج ١-٢

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]

أحكام القرآن - ج ١-٢

المؤلف:

عماد الدين بن محمد الطبري [ الكيا الهرّاسي ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٦٧
الجزء ١-٢ الجزء ٣-٤

وإذا لم يكن في ميراثهم تحديد ، فالذي يصل إليهم هو تمام حقهم قل أو كثر ، وذلك يقتضي تقديم أصحاب الفرائض ، فإنه لو لم يفعل ذلك لم يكمل لهم حقهم ، وإذا قدم وفضل شيء ، فقد استوفى العصبة تمام حقه ، فهذا وجه البداية بأصحاب الفروض.

قوله تعالى : (فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ) (١١) :

ولم يبين حكم الاثنتين ، فنقل عن ابن عباس أن الآية نص قاطع في أن لا يزاد منه بسبب الثلثين شيء (١) ، فإن قوله : (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) تقييد نصا ، ونفي لما دون هذا العدد.

قال قائلون من العلماء : إن بيان الاثنتين كان ظاهرا في كتاب الله تعالى ، وإنما احتاج إلى بيان أن الثنتين فصاعدا لا يزيد حقهم على الثلثين ، فكان قوله : (فَوْقَ اثْنَتَيْنِ) لنفي المزيد.

ووجه دلالة الآية على بيان حكم الاثنتين ، أن الله تعالى لما أوجب للبنت الواحدة مع الابن الثلث ، فإذا كان لها مع الذكر الثلث ، فلأن لا تنقص من الثلث مع البنت أولى ، ولو جعلنا للبنتين النصف ، نقصت حصة الواحدة من الثلث.

ويمكن أن يعترض على هذا فيقال : إنما استحقت الثلث مع الذكر ، لا لأن المأخوذ ثلث التركة التامة ، بل لأنها عصبة بأخيها ، والمال بينهما أثلاث ، ولا يأخذان إلا ما بقي في حالة ، وكل المال في حالة .. أما البنت فتأخذ مقدارا من جملة التركة من غير نقصان من نصف الجملة ، وذلك مقيد بشرط ، فإذا لم يوجد الشرط لم يثبت القدر.

__________________

(١) أي لا يزاد من التركة في نصيبها عن النصف.

٣٤١

ويدل عليه أنه لو قال قائل : الابن ربما أخذ أقل من نصف التركة ، والبنت لا تأخذ أقل من نصف جميع التركة ، فيقال : لأن الابن عصبة فيأخذ ما بقي ، والبنت صاحبة الفرض ، وهذا بيّن.

ومما ذكره العلماء في ذلك ، أن الله تعالى قال : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) فلو ترك بنتا وابنا ، كان للابن سهمان ثلثا المال ، وهو حظ الأنثيين ، وهذا مثل الأول.

والاعتراض عليه كما مضى ، فإن الابن لا يستحق ثلثي جميع التركة ، بل يستحق بالعصوبة أي قدر ، وتلك العصوبة تشمل الذكر والأنثى ، والمال بينهما على نسبة التفاوت.

وأقوى ما قيل فيه ، أن الله تعالى جعل للأختين الثلثين في نص الكتاب فقال : (فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ)(١) ، ومعلوم أن أولاد الميت أولى من أولاد أب الميت ، فدل أن بيان الاثنتين مقدر في كتاب الله تعالى.

واحتيج إلى بيان نفي المزيد على الثلثين عند زيادة عدد البنات ، ولم يتعرض لهذا المعنى في ميراث الأخوات ، لأن فيما ذكر من ميراث البنات بيان ذلك ، ولم يذكر بيان البنتين في ميراث البنات ، لأن فيما ذكر من ميراث الأخوات بيان ذلك ، فاشتملت الآيتان على بيان نفي المزيد عند زيادة العدد ، وعلى بيان ميراث البنتين ، وهذا غاية البيان (٢).

واستدلوا أيضا على ذلك بما روي عن ابن مسعود ، أن النبي صلّى الله عليه وسلم

__________________

(١) سورة النساء آية ١٧٦.

(٢) قال الجصاص : ويدل على أن للبنتين الثلثين ، أن الله تعالى أجرى الاخوة والأخوات مجرى البنات ، وأجرى الأخت الواحدة مجرى البنت الواحدة.

٣٤٢

قضى في بنت ، وبنت ابن ، وأخت ، بأن للبنت النصف ، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين ، والباقي للأخت ، فإذا كان للبنت مع ابنة الابن من التركة الثلثان ، فالبنتان أحق بذلك وأقرب ، لأنهما أقرب من بنت الابن ، وإن أمكن أن يعترض على هذا ، فإن الذي لبنت الابن فرض آخر ، وليس من ميراث البنت في شيء ، وإنما الكلام في أن النصف إذا كان للواحد ، فهل يزداد ذلك لسبب وجود بنت أخرى ، أو يتقاسمان ذلك النصف ، فأما السدس فلا تعلق له بفريضة البنت أصلا ، وإنما اتفق أن المبلغين صارا إلى مقدار الثلثين.

وقضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم في تركة سعد بن الربيع ، للبنتين الثلثين ، وللزوجة الثمن ، والباقي لأخته (١).

وقضى بذلك في ابنتي ثابت بن قيس بن شماس (٢).

والآية ليست نصا في نفي ما دون الثلثين عما دون الثلاث من البنات ، بل محتملة ما ذكرناه (٣).

وقد قيل : قوله «فوق» صلة وتأكيد ، كأنه قال : «فإن كنّ نساء اثنتين» ومثله: (فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ)(٤) ، وهذا تأويل بعيد ، وما ذكرناه أولا هو الصحيح ، ومما دلت الآية عليه أنه لما لم يبين مقدار ميراث البنتين ، عرفنا من قوله تعالى في حق الأخ (وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ)(٥) ، أن الأخ لما جعل عصبة حائزا للميراث مطلقا ، فالابن بذلك أولى.

__________________

(١) رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة.

(٢) وقد سبق تضعيف ذلك لأن ثابت بن قيس لم يستشهد الا بعد وفاة الرسول صلّى الله عليه وسلم.

(٣) وبين ابن العربي ذلك فقال : ان النصف سهم لم يجعل فيه اشتراك ، بل شرع مخلصا للواحدة بخلاف الثلثين ، فانه سهم الاشتراك ، بدليل دخول الثلاث فيه فما فوقهن ، فدخلت فيه الاثنتان مع الثلاث دخول الثلاث مع ما فوقهن.

(٤) سورة الأنفال آية ١٢.

(٥) سورة النساء آية ١٧٦.

٣٤٣

وجملة القول فيه أن الله تعالى لما بين كيف يقتسم الذكور والإناث ، لم يحد ميراثهم بحد ، لأنهم يرثون المال مرة جميعه ، ومرة ما فضل عن فرض ذوي السهام ، ولو حد لهم حدا ، لضاربو ذوي السهام إذا ضاق المال عن حمل السهام ، ولأزيدوا عليه إذا انفردوا ، وتحرجوا عن حكم من يرث بالتعصيب إلى حكم من يرث بالفرض ، فهذا بيان معنى التعصيب في ميراث (١).

قوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ)(٢)(لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ) (١١) :

فظاهره يقتضي أن يكون لكل واحد منهما السدس مع الولد ، ذكرا كان أو أنثى ، فيقتضي ذلك إلى (٣) إنه إذا كان الولد بنتا فلها النصف ، ولا تستحق أكثر من النصف لقوله : (وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ).

فوجب بحكم الظاهر أن يعطي الأب السدس لقوله : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) ، ويبقى السدس يستحقه الأب بحكم التعصيب.

__________________

(١) الإرث بالتعصيب هو ما ليس فيه نصيب مقدر ، ومعنى العصبة في اللغة أقارب الرجل لأبيه لإحاطتهم به ، وعند الفقهاء : العصبة من يأخذ التركة كلها إذ انفرد ، أو ما بقي بعد أصحاب الفروض أن كان معه صاحب فرض وبقي شيء ، وان لم يبق شيء فلا شيء له.

والعاصب من جهة النسب ثلاثة أقسام :

عاصب بنفسه ، وعاصب بغيره ، وعاصب مع غيره ، (راجع المواريث دائرة معارف الشعب).

(٢) ولأبويه أي الأب ، والام ، فغلب جانب الأب لشرفه ، والضمير في أبويه يعود الى الى الميت المعلوم من سياق الكلام في الميراث.

(٣) كذا بالأصل ، ولعل «الى» زائدة ، أو أن «يقتضى» محرفة عن يفضى.

٣٤٤

فاجتمع للأب الاستحقاق من جهتين : التعصيب والفرض.

وإن كان الولد ذكرا ، فللأبوين السدسان بحكم النص ، والباقي للابن لأنه أقرب العصبات من الأب ، فخرجت منه مسألة البنت والأبوين ، وما ذكره الفرضيون من الجمع للأب بين الفرض والتعصيب.

وقال عز وجل : (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) ، ولم يذكر نصيب الأب ، فاقتضى ظاهر اللفظ أن للأب الثلثين ، إذ ليس هناك مستحق غيره ، وقد أثبت لهما أولا ، فاقتضى ظاهر اللفظ المساواة لو اقتصر على قوله : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ) ، دون تفصيل نصيب الأم ، فلما ذكر نصيب الأم (١) ، دل على أن للأب الثلثين ، وهو الباقي بحكم العصوبة ، وبين الله تعالى ميراث الأم مع الأب ، وفرض لغيرها من الورثة عند الانفراد مثل البنت والأخت وغيرهما من أصحاب الفروض ، كالزوج والزوجة.

والحكمة فيه : أنه عز وجل أراد أن يبين حجبها بمن لا يرث في قوله : (وَلِأَبَوَيْهِ) إلى قوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ، فلو ذكر ميراثها؟؟؟ منفردة ، لاحتمل أنها لا يحجبها من لا يرث مثل الأخوة مع الأب ، فأزال هذا الإشكال ، وأفاد هذه الفائدة ، حتى لا يتوهم أن الذي لا يرث (٢) بحاجب الأشخاص ، كالأخوة الذين يحجبون بالأوصاف مثل القتل والرق والكفر ، فهذا بيان هذا المعنى.

ثم قال تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ، وقد حجبها

__________________

(١) أي وقصره على الثلث.

(٢) الأولى : أن الذي لا يرث ليس بحاجب ، لأن الأب والأم والأخوة يكون ميراث الأم السدس والباقي للأب ولا شيء للاخوة ، هذا والراجح أن الأخ الكافر أو القاتل والرقيق لا يحجب أمه الى السدس.

٣٤٥

جماهير العلماء بأخوين ، وانفرد ابن عباس ، فاعتبر في حجبها من الثلث إلى السدس (١) ، ولا شك أن ظاهر قوله : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ) ، يقتضي أن ما دون ذلك وضعت العرب له اسم التثنية ، وقد غايرت العرب بين المنزلتين ، أعني منزلة التثنية والجمع في ظاهر إطلاق اللفظ.

وليس الكلام في أن معنى الجمع هل يتحقق في الإثنين أم لا ، فإن المعنى بذلك أن لفظ الجمع المركب من الجيم والميم والعين حقيقة في الإثنين ، فإنه مشتق من الاجتماع والضم ، ويتحقق ذلك في الاثنتين تحققه في الثلاثة ، وإنما الكلام في لفظ الأخوة هل يظهر إطلاقه على موضع الأخوان؟

ويجوز أن تفترق منازل الجموع في إطلاق ألفاظ ، مثل قول القائل عشرة دراهم ومائة درهم ، وقد لا تفترق ، فيكون التعبير عن الإثنين مثل التعبير عن الثلاثة ، من غير أن ترتيب المنازل من التثنية والواحد أن الجمع مثل قولك : قمنا لنفسه وأخرى معه ، ولنفسه وآخرين معه من غير فصل.

فإذا تقرر ذلك ، فليس في قول القائل إن لفظ الجمع حقيقة في الاثنين أخذا من موضع الاشتقاق وهو الجمع ، جواب عن احتجاج ابن عباس بظاهر كتاب الله عز وجل في إطلاق الأخوة في موضع الأخوين ، وهذا بيّن (٢).

نعم ، قد يطلق لفظ الأخوة على الأخوين معدولا به عن الأصل ، كما يطلق لفظ الجمع في موضع الواحد ، ويعبر عن الواحد بلفظ الاثنين

__________________

(١) أي اعتبر ظاهر اللفظ (فان كان له اخوة) ، وفي الجصاص : قال ابن عباس : للام الثلث ، وكان لا يحجبها الا بثلاثة من الأخوة والأخوات.

(٢) والقائل بذلك الجصاص في تفسير الآية ، ففيه : والحجة للقول الأول (الحجب بأخوين) أن اسم الأخوة قد يقع على الاثنين.

٣٤٦

مثل قوله : (نَحْنُ قَسَمْنا)(١) ، والتعبير عن الواحد بلفظ الاثنين كقوله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ)(٢) وهو يريد الواحد ، إلا أن كل ذلك خلاف الأصل والوضع ، وليس الكلام فيه.

وليس يبقى بعد النزول عن الظاهر إلا أن يقال : النص وإن ورد في الثلاث ، فلا يمتنع الاثنتين به بطريق الاعتبار.

ووجه الاعتبار أن الله تعالى الحق الاثنين بالثلاث فيما يتعلق بميراث الأخوة في استحقاق الثلثين ، وفيما يتعلق بميراث البنات ، وغاير بين الواحدة والثنتين ، فيدل ذلك على أن حكم الاثنتين أقرب إلى الثلاث منه إلى الواحد.

ولابن عباس أن يعترض على هذا الكلام من أوجه :

أن الله تعالى شرط في حجب الأمهات عددا فقال : (إن كان له إخوة) ، وذلك يقتضي التقييد الذي لا يجوز تركه وإلغاؤه ، فإذا حصل بالثنين بطل فحوى الكلام في التقييد.

ولو قال للواحد : فإن كان له أربعة إخوة فلأمه السدس ، كان الكلام ركيكا ، وأن عدد الأربعة لا يتعلق به حكم ، فالتقييد بالثلاث مثل ذلك على رأي من لا يجعل لهذا القيد أثرا.

الوجه الثاني : أن الأصل في حق كل مستحق للميراث ، أن لا يسقط ولا ينتقض إلا بتوقيف قاطع ، والأم مستحقة بقرابتها ، فما لم يثبت قاطع في حجبها لا يسقط حقها ، فإذا شهد الظاهر للثلاثة وجب الرجوع إلى الأصل ، فكان الذي لا يحجب الأم بالاثنتين متعلق بالظاهر ، ومتعلق بالأصل في ميراث الأم.

__________________

(١) سورة الزخرف آية ٣٢.

(٢) سورة ق آية ٢٤.

٣٤٧

الوجه الثالث : أن مساواة الأخوين للثلاث في حكم من أحكام الميراث ، لا يقتضي مساواتهما لهم في كل حكم ، فإن الزوجة الواحدة تساوي للعدد في الميراث ، والجدة الواحدة تساوي الجدات في نصيب الجدات ، وبنت الابن مع البنت الواحدة حكمها حكم الجماعة ، فإنه لا يفرق بين بنت الابن الواحدة وبين الجماعة من بنات الابن ، وكذلك في الأخوات من الأب مع الأخت من الأب والأم ، فليس لذلك قانون مطرد.

وغاية الأمر فيه أن يقال في حق الأخوة والأخوات وما في منزلتهم الأمر كذلك.

وإذا لم يختلف مقدار ميراثهم في الاثنتين والجماعة ، لم يختلف مقدار قولهم في الحجب في حق الاثنتين والعدد ، وفي حق الزوجان لا يختلف ميراثهن بالواحدة والعدد ، إلا أنه لا يظهر حكم ميراثهن في حجب حرمان أو إسقاط ، فكأن الشرع يقول لنا ، كمال قوة الأخوة في الميراث ، يقتضي حجب الأم ، الثلث إلى السدس ، وكمال قوتهم بكمال حقوقهم في الميراث ، وفي ذلك يستوي الاثنان والجماعة.

ولما كانت قوة قرابة أولاد الميت وأولاد أولاده ، أو في من قوة قرابة أولاد أب الميت ، لا جرم أصل ميراث الأولاد دون كماله كان كافيا في حجب الأم ، مثل البنت الواحدة وبنت الابن الواحدة ، وإن كان ميراث الثنتين أوفى.

وإنما يظهر أثر ذلك في معنى آخر ، وهو أن قوة قرابتي الأولاد (١) إذا لم تكف في حرمان أولاد الابن ، فكمال قوة بنات الصلب في الميراث تكفي في إسقاط أولاد الابن.

__________________

(١) انظر صحيح البخاري ، باب ميراث ابن الابن.

٣٤٨

وكذلك كمال ميراث الأخوات من الأب والأم كاف في إسقاط أولاد الأب فقط ، فإذا قلنا لا يقع حجب الأم بالأخت الواحدة ، وإنما يقع بكمال قوتهم من الميراث ، فذلك يقتضي التسوية بين الاثنين والثلاث ، وهذا بيّن ظاهر ، وهو نظر دقيق في نصرة قول جماهير العلماء (١).

ويمكن أن يقال إن العدد الكثير من الصحابة لم يتفقوا على مخالفة الظاهر إلا بتوقيف.

أما هذا المعنى الذي قلناه فدقيق ، لبعد اجتماع الجم الغفير على ذلك ، وترك الظاهر بسببه ، فيظهر تقدير توقيف ، وإن لم ينقل ، يعلم أنهم به تركوا الظاهر ، والعلم عند الله.

فهذا وجه منقول عن كافة الصحابة في مخالفة الظاهر.

الوجه الآخر : ما نقل عن قتادة أنه قال : إنما يحجب الأخوة الأم من غير أن يرثوا مع الأب ، لأنه يقوم بنكاحهم ، ويلزمه المؤن بسببهم لتحقيق إربهم ، فأما الأخوة من الأم ، فخارجون عن ذلك ولا يحجبون مع الأب ، فخالف به مطلق قوله تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ).

وليس لقوله هذا وجه ، فإن الذي يلتزم من المؤن ليس يلتزمه عوضا عن الميراث ، بل يلتزمه بحكم الأبوة ، ولا تعلق لذلك بالميراث ، فلو

__________________

(١) ومما نحب التعريف به هنا أن استحقاق الميراث بالعصوبة يراعى فيه التقديم بالقرب ، فيقدم الأقرب فالأقرب ، ولا ينظر الى نوع العصوبة.

٣٤٩

كان الإبن كافرا ، فعلى الأب نفقته أيضا ولا يحجب الأم (١).

الوجه الثالث في مخالفة الظاهر : ما نقل عن ابن عباس ، أن الأخوة مع الأب لا يحجبون الأم ، إلا عن قدر يأخذونه هم ، فإذا فرضنا أخوين وأبوين ، فللأم السدس ، وللأخوين السدس الذي حجبت عنه الأم ، والباقي للأب ، وذلك خلاف الظاهر ، فإنه تعالى قال : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ).

وتقديره : فإن كان له إخوة مع الأب ، ويبعد أن يكون للأخوين مع الأب ميراث.

وهو يقول : ليس ذلك ميراثا من الأخ ، وإنما الأم قد حجبت بالأخوة ، فيرجع إليهم لا إلى الأب ، فيقال : فإذا حجبوا بالأب ، فليس لهم من الميراث شيء ، ولا لها الثلث ، فيقول الأب : أنا أسقطهم من الميراث ، وهم أسقطوا ، فيجعل كأن السدس لم يكن لك ، فأنا المستحق لذلك بحكم العصوبة ، وهذا في غاية الوضوح ، فهذه هي المذاهب المنتزعة من الظاهر.

وصار بعض الناس إلى أن الأخوات لا يحجبن الأم من الثلث إلى السدس ، لأن كتاب الله في الأخوة ، وليست قوة ميراث الإناث مثل قوة ميراث الذكور حتى تقتضي العبرة الإلحاق.

ومقتضى أقوالهم أن لا يدخلن مع الأخوة في لفظ الأخوة ، فإن لفظ

__________________

(١) روى ابن أبي حاتم بسنده عن قتادة قال ، (فان كان له اخوة فلامه السدس) : أضروا بالأم ولا يرثون ، ولا يحجبها الأخ الواحد من الثلث ، ويحجبها ما فوق ذلك ، وكان أهل العلم يرون أنهم حجبوا أمهم من الثلث أن أباهم يلي أنكاحهم ، ونفقته عليهم دون أمهم.

٣٥٠

الأخوة بمطلقه لا يتناول الأخوات (مع البنات (١)) كما أن لفظ البنين لا يتناول البنات ، وذلك يقتضي أن لا تحجب الأم بالأخ (٢) والأخت من الثلث إلى السدس ، وهو خلاف إجماع المسلمين ، وإذا كن مرادات بالآية مع الأخوة ، كن مرادات على الانفراد.

ولو كان ذلك لقوة الذكورة ، لاستوى الأخ الواحد والعدد ، لأن ميراث الأخوة يستوي فيه الواحد والعدد ، فهذا تمام المذاهب في الأوجه المنتزعة من الآية.

بقيت ها هنا مسألة واحدة دقيقة ، وهي أنه إذا كان في الفريضة زوج وأم ، وأخ وأخت لأم ، فلا خلاف بين الصحابة أن للزوج النصف ، وللأم السدس ، وللأخ وللأخت من الأم الثلث ، وقد تمت الفريضة.

أما عامة الصحابة ، فلأنهم حجبوا الأم بالأخ والأخت من الثلث إلى السدس ، فاستقام لهم ذلك ها هنا.

وأما ابن عباس ، فلأنه لا يرى العول ، ولو جعل للأم الثلث لعالت المسألة ، وهو لا يرى ذلك ، وإذا قيل له : فلم كانت الأم بالنقصان أولى من الأخوين؟ لم يجد كلاما ظاهرا عليه.

وفيه دليل ظاهر على ما قاله أهل الإجماع من العلماء ، وتخطئة ابن عباس في قوله.

ثم أبان الله تعالى ميراث الزوج والزوجة وحجبها بالولد من الربع إلى الثمن ، ومن النصف إلى الربع ، وميراثهما على نسبة ميراث العصبات :

__________________

(١) كذا بالأصل والأولى أن ما بين الفاصلين زائد كما في القرطبي.

(٢) أي الأخ الواحد كما في القرطبي.

٣٥١

(لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، إلا أن ميراث العصبات لا يتعذر ، وهذا مقدر ، وميراث العصبات يشترك فيه الذكور والإناث ، وها هنا لا يتصور الشركة.

إذا عرفنا ذلك ، فأعلم أن كل من يحجبه الإبن يحجبه ابن الابن بالإجماع من الزوج والزوجة والإخوة ، وذلك إما أن يدل على أن اسم الولد يتناول ابن الابن ، أو يتلقى من الإجماع.

وإذا تبين ذلك ، فقول الله عز وجل في ميراث الأزواج والأمهات (إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ)(١) مطلق ، ولكن جمهور العلماء خصوا الحجب بمن يرث ، فأما من لا يرث كالكافر والمملوك ، فلا يحجب ولا يرث.

وصار ابن مسعود أن من لا يرث من هؤلاء يحجب حجب النقصان ، ولا يحجب حجب الحرمان ، وذكرنا فرقة بين الحجبين في مسائل الروايا (٢) ، وهو فرق حسن ، وصورته أن الأب الكافر لا يحجب عنده ابن نفسه عن ميراث جده. وأنه بمنزلة المعدوم في ذلك ، فأعتبر أصحابنا حجب النقصان به ، وذكرنا فرقة بينهما.

وكافة العلماء يقولون إن الله تعالى إنما شرع الحجب لأن الذي ينقص من نصيبه يرجع إلى الحاجب في الأغلب ، فقوة ميراثه تقتضي ذلك ، وأما الكافر فلا يتصور هذا في حقه ، فكان كالمعدوم ، وسره يرجع إلى أن الوراثة خلافة ، إلا أن بعض الخلفاء أولى ببعض ، فمن حجب حجب

__________________

(١) سورة النساء آية ١٢.

(٢) ويحسن هنا أن نعرف بالحجب وأنواعه والفرق بينهما باختصار :

الحجب لغة المنع ، وعند الفقهاء : منع من قام به سبب الإرث من الإرث كله أو من بعضه ، وهو نوعان : حجب النقصان وحجب الحرمان راجع دائرة معارف الشعب ، المواريث).

٣٥٢

الحرمان ، أخذ نصيب المحروم ، ومن حجب حجب النقصان ، أخذ نصيبه غالبا ، وهذا بيّن.

لما ذكر الله الولد ، وأجمع العلماء على أن ابن الإبن مثل الإبن ، فعرفنا به أن المعتبر الميراث لا اسم الولد ، وإذا تبين ذلك ، فلا خلاف في الإبن والبنت وابن الابن وبنت الإبن ، أن الميراث بينهم (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) لا بحكم الظاهر ، فإن مطلق لفظ أولاده لا يتناول أولاد أولاده ، وولد ولده ليس ولده تحقيقا ، فإنه لو كان اسم الولد حقيقة فيه بالإضافة إلى الجد ، ما كان حقيقة بالإضافة إلى الأب ، فإن الجهة الواحدة إذا كان الإسم حقيقة فيها ، لم يكن حقيقة في جهة أخرى تغايرها من طريق العموم ، وإنما يكون على وجه الاستقراء بذلك الاشتراك ، وذلك يقتضي الإجمال عند الإطلاق ، وإذ تبين ذلك وعرف ، لم يدخل ولد الإبن إلا بطريق الإجماع ، فإذا ثبت ذلك ، فإذا ترك بنتا وابنة ابن ، فللبنت النصف بالتسمية ، ولابنة الإبن السدس ، وما بقي للعصبة ، فاستحقاق ابنة الابن للسدس ليس مأخوذا من التسمية ، وإنما أخذ من الإجماع.

فإذا ترك اثنتين وابنة ابن وابن ابن ابن فكمثل.

وقال ابن مسعود : إذا أخذ البنات الثلثين ، فليس لبنات الإبن شيء ، وإن كان معهن ذكر ، وكذلك في الأخوات من الأب ذكر ، درجتهن بعد فرض الأخوات من الأب والأم الثلثين ، وأنه لو كان بدلهن عم وابن عم ، كان لا تأخذ ابنة الابن شيئا ، فكذلك مع الولد الذكر.

وأما جماهير العلماء فإنهم يقولون إن بنات الإبن لا يأخذن فرض البنات ، وإنما يأخذن بجهة أخرى وهي جهة العصب ، وإنما كان يمتنع

٣٥٣

ذلك لو أخذن في هذا الوقت بذلك الفرض الذي أخذ به غيرهن من البنات ، فأما إذا أخذن بوجه غير ذلك ، فليس هو من أولئك في شيء ، فيجعل ما بقي من المال بعد الثلثين كأنه جملة مال لا فريضة فيه مسماة لأحد ، فيكون للذكر مثل حظ الأنثيين.

ونشأ منه أنا إذا جعلنا هذا المال كأنه لا فريضة فيه لأحد أصلا ، فإذا كان في الفريضة بنات ابن وذكر أسفل منهن ، فلا بد وأن يعصبهن ، فإنه لو لم يعصبهن أخذن بالفرض ، ونحن قدرنا المال كأن لا فرض فيه أصلا بحال ، فإذا قدرنا ذلك ، فلو فضلت العليا من بنات البنين على من هو أسفل منها من بني البنين في الثلث الذي يبقى ، لم تكن الفريضة قد مضت.

فإن قيل : كيف جاز أن ترث بنت الابن بسبب ابن الابن ، ولو لا مكانه لم يرث شيئا؟ قيل : كما أنا إذا فرضنا ابنا وعشر بنات أخذن أكثر من الثلثين ، ولو كن منفردات لم يأخذن ، فصار لهن بسبب التعصيب أكثر مما لهن عند الانفراد ، وربما كان التعصيب سببا للسقوط في بعض المواضع.

فإن قيل : فإذا فرض اثنتين وبنت ابن وأخت فلم لا يجعل الثلث الباقي بعد فرض البنتين لبنت الابن ، وتجعل عصبة كما جعلتم الأخت عصبة ، فإن بنوة الميت أولى بالميراث من بني أبي الميت ، وعندكم أن الباقي بعد فرض البنتين للأخت ، ولم لا يجعل لها العصوبة ها هنا على قياس حالها عند الانفراد كما جعل للأخت المعصوبة؟

ووجه الجواب عنه أنا بإعطائنا بنات الصلب الثلثين ، قضينا حق الإناث من أولاد الصلب من الميراث ، فلو أخذت بنت الإبن لأخذت ببنوة الميت.

٣٥٤

فإن قلتم : الذي أخذ به البنات بالفرض ، فهلا أثبتم العصوبة ها هنا وهي جهة أخرى؟

فالجواب عنه أن العصوبة إنما تثبت إذا كانت الجهة في الأصل مخالفة لجهة ميراث البنت ، فيعدل من الفرض إلى العصوبة لغرض حفظ الجهة ، أما إذا كانت الجهة واحدة وقد قضى من الميراث حقها ، فلا وجه لإثبات الميراث لها ثابتا بجهة العصوبة.

نعم إذا كان هناك ابن ابن فليس ميراث الذكر من جنس ميراث الإناث ، وكذلك لو كانت ابنة وابن ابن ، فالباقي لابن الابن ، لا بطريق أنه تكملة الثلثين ، ولو كان يدل ذلك ابنة ابن ، فلها تكملة الثلثين ، فيدل ذلك على اختلاف الجهة.

ويدل على ذلك أنا إذا فرضنا أختا لأب وأم وأختا لأب ، فلولد الأب السدس تكملة الثلثين ، ولو كان أولاد الأب والأم اثنتين ، فلا شيء لأولاد الأب إلا أن يكون معهن ذكر يعصب ، وهو نظير مسألتنا ، سوى أن الأسفل في الدرجة لا يعصب الأخوات للأم لوجه آخر ، فهذا تمام البيان في ذلك.

وقال ابن مسعود : في البنت وبنت الإبن وابن الإبن ، أن للبنت النصف ، والباقي بين الذكر والأنثى على التفاوت ، كفرائض أولاد الصلب ، إلا أنه قال : ما لم يزد نصيب بنات الابن على السدس ، فلا نعطيهن أكثر من السدس ، وجعل لهن الأضر من المقاسمة ، أو سدس جميع المال.

فلم يعتبر الفرض على حدة هذه الحالة ، ولا التعصيب على حدة ، لكنه اعتبر القسمة في منع الزيادة على القسمة ، فاعتبر المقاسمة في النقصان ، وهو بعيد لا وجه له.

٣٥٥

وإذا نحن بينا ميراث الأمهات والزوجات والأزواج ومن يحجبهن فيتعلق بما إليه ، انتهى الكلام أن الله تعالى قال : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) ، فاقتضى ذلك أن للأم الثلث والباقي للأب ، إذا لم يكن ثم إخوة ولا أولاد ميت ، فعلى هذا قال ابن عباس في زوج وأبوين : إن للأم الثلث الكامل ، فيكون ميراثها ، زائدا على ميراث الأب.

وكذلك قال في زوجة وأبوين.

وتابعه ابن سيرين في المرأة والأبوين وخالفه في الزوج والأبوين ، لئلا يكون تفضيلا للأم على الأب.

واعلم أن الاستدلال بالقرآن في مخالفة ابن عباس ممكن هين ، وذلك أن الله تعالى جعل الميراث بين الأبوين أثلاثا ، مثل ما بين الإبن والبنت في قوله : (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، وجعل بين الأخ والأخت أثلاثا ، فإذا سمى للزوج والزوجة ما سمى لهما ، وأخذا نصيبهما ، كان الباقي بين الإبن والبنتين على ما كان قبل دخولهما ، وكذلك بين الأخ والأخت ، يجب أن يكون على هذه النسبة ، فاعلم أن ذلك إنما يكون إذا كان الابن يأخذ بالعصوبة ، فأما إذا كان يأخذ بالفرض فهو والأم سواء ، فإنه إذا كان في الفرض أبوان وابن ، فللأبوين السدسان والباقي للابن ، لأنه لا عصوبة للأب أصلا مع الابن ، وإنما يأخذ بالفرض ، فكان الذكر والأنثى في هذا المعنى سواء كأولاد الأم.

وهذا يرد عليه الزوج والزوجة ، لأنه جعل بينهما على نسبة التفاوت ، مع أنهما يأخذان بالفرض المحض ، وعلى أن الأب إذا كان يأخذ بالتعصيب في زوج وأبوين ، فالعصب مانع ، فلا نظر إلى التفصيل ،

٣٥٦

وغاية ما يقال فيه أن عصوبة الأب غير متمحضة ، بل هي عصوبة مشوبة بجهة الولادة ، ولذلك يجمع له بين الفرض والتعصيب ، فيجوز أن يكون جهة العصوبة بالابن الذي هو أولى العصبات ، وأما تعطيل جهة الولادة فلا ، وإذا لم يعطل جهة الولادة حال كونه عصبة ، ولم تتمحض عصوبته ، تعلق به على كل حال أن لا تفضل الأم على الأب مع تساويهما في الولاية ، بل يراعى في حق الأب جهة الولادة وجهة العصوبة جميعا ، وذلك يقتضي تفضيله عليها ، فهذا منتهى الممكن في نصرة مذهب جماهير العلماء.

ونظر ابن عباس جلي جدا ، وينشأ منه أن الجم الغفير إذا خالفوا النظر الجلي فلا يخالفون إلا بالتوقيف.

ويمكن أن يقال في مقابلته : وابن عباس إذ أظهر الخلاف ، كان من الواجب أن يحتج عليه بذلك التوقيف ، ولم يثبت ذلك ، فهو مشكل والعلم عند الله تعالى.

وحاصل نظر الجمهور يرجع إلى أنه إذا وجب أن يبدأ بالزوجة أو الزوج ، ويعطي كل واحد منهما نصيبه ، فزال الفرض المنصوص لهما بالزوج والزوجة ، لأن المنصوص لهما إذا لم يكن زوج ولا زوجة ، فإذا أعطيناهما حقهما نظرنا إلى ما يبقى بعد ذلك ، فيجعل بمنزلة جملة المال الذي لا فرض فيه لأحد الأبوين ، فيقسم بينهما ، فيعطي الأم ثلثه ، ويعطي الأب ما بقي ، لأن النقيصة لما دخلت عليهما من قبل الزوج أو الزوجة ، وجب أن تكون داخلة عليهما على قدر حصصهما إذا لم يكن الأب في هذا الموضع بمنزلة العصبة الذين تبدأ بأهل الفرض ، ثم يعطون ما بقي لأن أولئك غير مسمين ، والأبوان إذا كانا هما الوارثان ففرض كل واحد منهما معلوم ، فلما دخل عليهما فرض الزوج والزوجة دخل على كل واحد منهما بقدر حصته.

٣٥٧

قوله تعالى : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ)(١) (١٢) :

قرئ : يورث بفتح الراء والتخفيف على ما لم يسم فاعله.

وقرئ : بكسر الراء والتخفيف وقد سمي فاعله.

فمن كسر ، نصب كلالة على المفعول به ، وجعلها اسما للورثة ، وجعل الفاعل للتوريث هو الرجل الميت ، وجعل كان يعني وقع وحدث ، فلا يحتاج إلى خبر.

ومن قرأ بفتح الراء ، نصب كلالة على الحال من الضمير في يورث ، وهو ضمير الرجل ، وجعل الكلالة اسما للميت ، وجعل كان يعني حدث.

ويحتمل أن يجعل كلالة خبرا لكان.

فلم يختلف العلماء في أن الكلالة اسم لمن لا ولد له ، واختلفوا في أنه هل هو اسم لمن لا والد له؟ فقال قائلون : هو اسم لمن لا ولد له ، فبنوا عليه أن أولاد الأم لا يرثون مع الأب ، لأن الكلالة اسم لمن لا ولد له ، فأما من له والد ، فليس خارجا من الكلالة.

واعلم أن هذا يتصل به مسألة أخرى ، وهو أن الله تعالى يقول : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)(٢) الآية. فجعل للأخوات من الأب والأم الثلثين ، وللواحدة النصف ، وذلك لا يتصور مع البنت والأب ، وسمى الله تعالى ذلك كلالة فقال : (يَسْتَفْتُونَكَ

__________________

(١) قال النيسابوري : واعلم ان الوارث اما ان يكون متصلا بالميت بغير واسطة او بواسطة.

(٢) سورة النساء آية ١٧٦.

٣٥٨

قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) ، فأطلق اسم الكلالة ، ولا بد وأن يكون المعنى ها هنا : ليس له ولد ولا والد ، فإن المذكور من الميراث لا يتصور إلا عند فقد الوالد والولد ، ويدل على أن الكلالة اسم لمن لا والد له ولا ولد.

قوله تعالى : (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ) ، يقتضي أن يكون ذلك الباقي للأب ، ثم قال : (فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ، فلم يجعل للإخوة ميراثا مع الأب ، فخرج الولد من الكلالة والوالد جميعا ، لأنه لم يورثهم مع الأب ، كما لم يورثهم مع الإبن ، والإبنة أيضا ليست بكلالة كالابن ، فلا جرم أولاد الأم يسقطن بها ، لأنه تعالى شرط في توريث أولاد الأم أن يكون الميت كلالة ، أو الوارث كلالة ، فإن ترك بنتا أو ابنتين وإخوة وأخوات لأم فالبنت ليست بكلالة ، فلا يستحق الأخوات الثلث.

واختلف أهل اللغة في اشتقاق الكلالة :

فمنهم من قال : هو من قوله : كلت الرحم إذا تباعدت ، ولحت إذا قربت ، يقال هو ابن عمي لحا ، أي هو ابن أخي (١) ، وهو ابن عمي كلالة ، أي من عشيرتي. قال الشاعر :

ورثتم قناة الملك لا عن كلالة

عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

يعني ورثتموها بالآباء لا بالإخوة والعمومة.

__________________

(١) لعلها ابن أخ أبي ، وفي القاموس : وهو ابن عمي لحا ، وابن عم لح لاصق النسب ، ولحت القرابة بيننا لحا ، فان لم يكن لحا وكان رجلا من العشيرة قلت ابن عم الكلالة وابن عم كلالة.

٣٥٩

ويمكن أن يكون مأخوذا من الكلال وهو الإعياء ، ومنه قولهم : مشى حتى كل : أي بعدت المسافة فطال سيره حتى كل. وكلّ البعير إذا طال الطريق حتى أعيا ، وكلّ السيف إذا طال الضرب به ، وكلت الرحم إذا ضعفت فطال نسبه ، فتكون الكلالة من بعد النسب وبعد القرابة.

وقيل : أخذ من الإكليل المحيط بالرأس.

وروي عن عمر في الكلالة بعد النسب وبعد القرابة روايتان مختلفتان ، فتارة لا يجعل الوالد كلالة ، وتارة كان يجعله كلالة.

وردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم على عمر لما سأله عن الكلالة إلى آية الصيف(١).

ولا شك أن عمر لا يخفى عليه معنى الكلالة من جهة اللغة ، وذلك يدل على أن معنى الكلالة شرعا غير مفهوم من الإسم لغة ، ولذلك لم يجب رسول الله صلّى الله عليه وسلم عمر عن سؤاله في معنى الكلالة ، ووكله إلى استنباطه.

وفي ذلك دليل على جواز تفويض الإجماع إلى آراء المستنبطين ، كما فوضها رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى رأي عمر.

وفيه دلالة على بطلان قول من يقول : لا يجوز استنباط معاني القرآن ، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال : «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ (٢)» ،

__________________

(١) أخرج مالك ومسلم وابن جرير والبيهقي عن عمر قال : ما سألت النبي صلّى الله عليه وسلم عن شيء أكثر ما سألته عن الكلالة حتى طعن بإصبعه في صدري وقال : تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء ..

راجع الدر المنثور فيما ورد من الروايات في ذلك.

(٢) رواه أبو داود والترمذي والنسائي وحسنه السيوطي لاعتضاده.

٣٦٠