إعراب القرآن - ج ٢

الزجّاج

إعراب القرآن - ج ٢

المؤلف:

الزجّاج


المحقق: ابراهيم الأبياري
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

وأما قوله : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) (١) فيمن رفع «العين». وجوّز فيه أبو علىّ : أن يكون «العين» مرفوعا على الابتداء والجارّ خبر ، وجوّز أن يكون محمولا على موضع «أن» ، وجوّز أن يكون رفعا عطفا على الضمير الذي في الظرف ، وإن لم يؤكد.

كما جاء (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (٢) فعطف «آباؤنا» على الضمير الذي في «أشركنا» ، قال : ولم يؤكده ؛ فكذا هاهنا.

فإن قلت : إن «لا» يقوم مقام التأكيد ، فقد قال في الجواب : إنما يقوم «لا» مقام التأكيد / إن كانت قبل الواو ؛ فأما إذا جاءت بعد الواو ، لم تقم مقام التأكيد ، ألا ترى أن التأكيد في الآي التي تلونا قبل الواو ، نحو : (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ) (٣) ، وقوله: (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٤).

وهذا من أبى علىّ استدراك على البصريين قاطبة ؛ لا سيما وسيبويه قال فى الآية الأولى :

إن قوله : «ولا آباؤنا» بمنزلة : قمت أنت وزيد ؛ فلا يرى العطف على المضمر إلا بعد التأكيد ؛ والتأكيد بأنت ، وأنا ، أو ما يقوم مقامهما من المفعول وغيره.

ولم يروا التأكيد بقولهم «نفس» فلم يجيزوا : قمت نفسك وزيد ؛ كما أجازوا : قمت أنت وزيد ، وقمتم أجمعون وزيد.

قالوا : لأن «النفس» اسم منصرف ، تدخلها العوامل بخلاف : أنت ، وأجمعين.

__________________

(١) المائدة : ٤٥.

(٢) الأنعام : ١٤٨.

(٣) البقرة : ٣٥.

(٤) هود : ١١٢.

٢٠١

وقد يقع في التأكيد بها ليس في بعض كلامهم ؛ كقولهم : هند خرجت نفسها ؛ فيكون كقولك : خرجت هي نفسها ـ فيكون تأكيدا ل «هى» ويقال : هند خرجت نفسها ؛ فتكون الفاعلة ، كما تقول : خرجت جاريتها ؛ والمعنيان مختلفان ؛ فلم يجر مجرى «أجمعين».

ومن هنا قال أبو علىّ : لو قلت جاءونى أنفسهم ؛ لم يحسن حتى تؤكد ، فتقول : جاءونى هم أنفسهم ؛ لما ذكرنا.

فلم يحسن لذلك أن تحمله على الضمير حتى تؤكد ؛ يعنى حتى تقول : قمت أنت نفسك وزيد.

ولو قلت : مررت بك نفسك ؛ جاز تأكيد الكاف بالنفس ؛ لأنك كأنك قلت : مررت بنفسك ـ ولم تذكر المؤكد بخلاف العطف ؛ إذ لا يجوز : مررت بك وزيد.

وإن قلت : جاءونى أنفسهم ، لا يجوز ؛ لأن المضمر المتصل في غاية الضعف ، والمؤكد متبوع ، فيكون أقوى من التأكيد ، وهنا «النفس» أقوى من المضمر ؛ فلا يكون تابعا له ؛ فإذا انفصل المضمر جاز أن تكون «النفس» تابعا له ؛ بمنزلة الأسماء الأجنبية ، أو بقيت بعدها بمنزلة أخرى ، بخلاف المتصل ؛ إذ ليس بعدها بمنزلة أخرى.

وقد ذكر سيبويه امتناع تأكيد المضمر ب «النفس» فى ثلاثة مواضع : فى حد أسماء الأفعال (١).

__________________

(١) الكتاب (١ : ١٢٤ ـ ١٢٥).

٢٠٢

وفي حد الأحرف الخمسة (١).

وفي حد علامات المضمرين (٢).

ومن ذلك قوله تعالى : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ) ، (٣) ف «من» رفع عطف على «التاء».

ومنه : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ) (٤) رفع عطف على الضمير فى «تقوم».

ومن ذلك قوله : (لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) (٥) ، «أخى» عطف على الضمير فى «لا أملك».

وإن شئت كان مبتدأ ، والتقدير : وأخى كذلك ؛ فحذف الخبر ؛ ولا يكون جرا بالعطف على الياء ؛ لأنه مضمر مجرور.

__________________

(١) الكتاب (١ : ٢٧٩).

(٢) الكتاب (١ : ٣٩٠).

(٣) آل عمران : ٢٠.

(٤) المزمل : ٢٠.

(٥) المائدة : ٢٥.

٢٠٣

السابع والعشرون

هذا باب ما جاء في التنزيل ، لحقت «إن»

التي للشرط «ما» ، ولحقت النون فعل الشرط

فمن ذلك قوله تعالى : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) (١).

وقال : (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (٤١) أَوْ نُرِيَنَّكَ) (٢)

وقال : (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) (٣).

وقال : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) (٤) فى السورتين.

قال أبو إسحاق : إعراب «إما» فى هذا الموضع إعراب حرف الشرط والجزاء ؛ لأن الجزاء إذا جاء في الفعل ، معه النون الثقيلة والخفيفة ، لزمه «ما» ، وفتح ما قبل النون فى «يأتينكم» لسكون الياء وسكون النون الأولى.

قال أبو علّى : ليس الشرط والجزاء من مواضع النونين ؛ إنما يدخلان على الأمر والنهى ، وما أشبههما من غير الواجب. وفي قوله «لأن الجزاء إذا جاء في الفعل معه النون الثقيلة والخفيفة» ما يوهم أنه من مواضعهما فى الكلام ، وأن لدخولها مساغا فيه ؛ وإنما يلحق الشرط في ضرورة الشعر ، كقوله :

من يثقفن منهم فليس بآيب

أبدا وقتل بنى قتيبة شافى (٥)

__________________

(١) البقرة : ٣٨.

(٢) الزخرف : ٤١ و ٤٢.

(٣) غافر : ٧٧.

(٤) يونس : ٤٦ ، الرعد : ٤٠.

(٥) الكتاب (٢ : ١٥٢). والبيت لم ينسبه سيبويه لقائل.

٢٠٤

وكذلك الجزاء كقوله (١) :

و مهما تشأ منه فزارة يمنعا (٢)

وهذا كقوله :

يحسبه الجاهل ما لم يعلما (٣)

و «إن» فى الجزاء أمثل ؛ لأنه بغير الواجب أشبه ، ألا ترى أنه خبر غير مبتّ كسائر الأخبار.

وفي هذا الكلام شيء آخر : وهو أن قوله : الجزاء إذا جاء فى الفعل معه النون الخفيفة والثقيلة ؛ لزمه ما يوهم أن «ما» لزمت لدخول النون ؛ وأن لحاق النون سبب لحاق «ما» ؛ والأمر بعكس ذلك وخلافه ؛ لأن السبب الذي له دخلت النون الشرط في قوله : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) (٤) ، (فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) (٥) ، (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ) (٦) ، ونحو ذلك عند النحويين ، إنما هو لحاق «ما» أول الفعل بعد «إن» ، فلذلك صار موضعا للتنوين بعد أن لم يكن لهما موضع.

وإنما كان كذلك عند سيبويه وأصحابه ، لمشابهة فعل الشرط بلحاق «ما» به بعد «إن» دون أخواتها الفعل المقسم عليه ، ولمشابهة كل واحد

__________________

(١) عجز بيت لابن الخرع ، وصدره :

فمهما تشأ منه فزارة تعطكم

(الكتاب ٢ : ١٥٢).

(٢) الكتاب : «تمنعا».

(٣) صدر بيت لم ينسبه سيبويه ، وعجزه :

شيخا على كرسيه معمما

(الكتاب ٢ : ١٥٢).

(٤) البقرة : ٣٨.

(٥) مريم : ٢٦.

(٦) الإسراء : ٢٨.

٢٠٥

منهما صاحبه في معنى التوكيد بهما ، فسبب لحاق النون دخول «ما» ، على ما يذهب إليه النحويون ، وكان لزوم النون فعل الشرط الوجه لدخول الحرف قبله ، إذا كان في خبر غير مبتّ.

فإن قيل : لم لزمت النون فعل الشرط مع «إن» إذا لحقتها «ما» دون سائر أخواتها؟

وهلّا لزمت سائر أفعال الشرط ؛ إذا دخلت على حرف المجازاة «ما» كما لزمته مع «إن» ، إذ ما ذكروه من الشبه ب «ليفعلن» موجود في سائر الحروف ، وقد جاء : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ) (١) ، و (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ) (٢) ، و (أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) (٣) ، وكل ذلك لا نون فيه :

الجواب في ذلك : أن النون لم تلحق الشرط مع سائر حروف الجزاء ، كما لحقت مع «إن» لاختلاف موضعى «ما» المؤكدة؟

وذلك أنه قد استقبح أن يؤكّد الحرف ولا يؤكد الفعل ، وله من الرّتبة والمزية على الحرف ما للاسم على الفعل ؛ فلما أكد الحرف ، والفعل أشد تمكنا منه ، قبح ترك تأكيده مع تأكيد الحرف ، وليس سائر حروف الجزاء مثل «إن» فى هذا الموضع ؛ لأنها أسماء ، وهي حرف ، فلا تنكر أن تؤكد هى دون شروطها

__________________

(١) النساء : ٧٨.

(٢) البقرة : ١٤٨.

(٣) الإسراء : ١١٠.

٢٠٦

ألا ترى أن للاسم من القدمة على الفعل ما للفعل على الحرف ؛ فيقبح لذلك ترك توكيد الفعل مع الاسم ، كما قبح ترك توكيده مع الحرف.

فإن قلت : فما الذي يدل على أن التوكيد لا حق للحرف؟ وما ننكر أن يكون لحاقه للفعل دون الجزاء ، فيكون الفعل مؤكدا من أوله إلى آخره مثل «ليفعلن»؟

فالذى يدل على لحاقه حرف الجزاء دون الشرط أن الوقف عليه ؛ وأن أحدا لم يقف على «إن» وحدها في نحو : (وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً) (١) فيستأنفوا «ما» مع الفعل ؛ كما استأنفوا ب «لا» مع الفعل ، كقوله : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (٢).

ويدل أيضا على لحاقها للحرف دون الفعل : أنها قد لحقت الحروف أيضا في نحو :

ألا ليتما هذا الحمام لنا (٣)

وفي الإدغام أيضا تقوية ؛ لأن الكلمة لو نوى بها الانفصال جاز فيها الإظهار كما جاز فى «من ما» وما أشبهه.

وكل هذا يدل على أن التأكيد لاحق للحرف ، وإذا أكد الحرف الذي لا يستقل إلا بالفعل بعد «إن» لا يؤكّد الفعل ؛ فافترق فعل شرط «إن» وفعل شرط سائر الحروف في لزوم النون لها مع «ما» لاقترانهما فيما ذكرنا.

__________________

(١) الأنفال : ٥٨.

(٢) القيامة : ١.

(٣) جزء من بيت للنابغة ، والبيت هو :

قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا أو نصفه فقد

٢٠٧

فهذا الذي ذكرناه يصلح أن يحتج به من زعم أن النون لازمة للشرط إذا لحقت «ما» «إن» الجزاء.

وقد قال ذلك أبو العباس ، وخالفه في ذلك سيبويه ، فقال : إن «ما» إذا لحقت «إن» الجزاء تبعه الفعل منونا بإحدى النونين ، وغير منوّن بهما ، كما أن سائر الحروف كذلك.

وإذا لم يلزم النون مع «إن» كما لم يلزم في الحروف الأخر نحو : (أَيْنَ ما تَكُونُوا)(١) لم يلزم على قوله الفصل بينهما ؛ كما لزم في قول من زعم أن النون لازمة.

وقد استقصينا الخلاف في هذا ، والله أعلم.

__________________

(١) البقرة : ١٤٨.

٢٠٨

الثامن والعشرون

هذا باب ما جاء في التنزيل عقيب اسمين كنى عن أحدهما

اكتفاء بذكره عن صاحبه

وقد ذكر ذلك سيبويه فى «الكتاب» (١) ، واحتج بأبيات ، وربما أسوقها لك بعد البداية بآى التنزيل.

فمن ذلك قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) (٢) ، ولم يقل : وإنهما ـ اكتفاء بذكر «الصلاة» عن ذكر «الصبر» ، وقد ذكرنا أنهم قالوا : إن الهاء للاستعانة.

ومن ذلك قوله : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ) (٣).

وقال : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً) (٤) ، فهذا على القياس المستمر ، لأن التقدير : وإن كان أحد هذين ؛ و : من يكسب أحد هذين ، لأن «أو» لأحد الشيئين.

ولو صرح بهذا لصح وجاد : «له» و «به».

فكذلك إذا قال بلفظة : أو ما.

__________________

(١) الكتاب (١ : ٣٧).

(٢) البقرة : ٤٥.

(٣) النساء : ١٢.

(٤) النساء : ١١٢.

٢٠٩

فأما قوله : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) (١).

وقوله : (أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالُوا إِنَّ اللهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ) (٢).

فهذا على قياس الآيتين المتقدمتين ، حقّهما : فالله أولى به ، وحرّمه ؛ ولكنه جاء على قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين ؛ على معنى أنه يجوز له مجالستهما.

ومثل هذا قد جاء في الشعر ، أنشدوا لرجل من هذيل (٣) :

/ وكان سيّان ألّا يسرحوا نعما

أو يسرحوه بها واغبرّت السّوح (٤)

وأنت تقول : سيان زيد وعمرو ، ولكنه قال : أو يسرحوه ، على ما ذكرنا.

ومن ذلك قوله : (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها) (٥) ولم يقل : ينفقونهما.

وقال : (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ) (٦) ، ولم يقل : أكلهما.

وقال : (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) (٧) ، والتقدير : والله أحق أن يرضوه ، ورسوله أحق أن يرضوه.

__________________

(١) النساء : ١٣٥.

(٢) الأعراف : ٥٠.

(٣) هو أبو ذؤيب. (المغني ١ ـ : ٦٠).

(٤) الضمير في «بها» يعود للسنة المجدية. والسوح : جمع ساحة.

(٥) التوبة : ٣٤.

(٦) الأنعام : ١٤١.

(٧) التوبة : ٦٢.

٢١٠

وقال : (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ) (١) فيمن قرأ بالتاء. ولم يقل : يخيلان.

وقال : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها) (٢) ولم يقل : إليهما.

وأنشد للأنصارى :

نحن بما عندنا وأنت بما

عندك راض والرّأى مختلف (٣)

ولم يقل : بما عندنا راضون ؛ اكتفاء بالثاني عن الأول.

وقال :

رمانى بأمر كنت منه ووالدي

بريئا ومن أجل الطّوىّ رمانى (٤)

وقال :

... وكان وأنت غير غدور (٥)

فأحفظها.

__________________

(١) طه : ٦٦.

(٢) الجمعة : ١١.

(٣) البيت لقيس بن الخطيم. (الكتاب ١ : ٣٨).

(٤) البيت لابن أحمر. (المصدر السابق).

(٥) جزء من بيت للفرزدق ، وهو براية سيبويه (الكتاب ١ : ٣٨) :

إني ضمنت لمن أتاني ما جنى

و أبي فكان وكنت غير غدور

قال الأعلم : هذه الأبيات المتقدمة في حذف خبر الأول لدلالة الثاني عليه.

٢١١

التاسع والعشرون

هذا باب ما جاء في التنزيل صار الفصل فيه عوضا

عن نقصان لحق الكلمة

وذلك إنما يجئ في أكثر الأحوال في باب المؤنث ، فيقولون : قامت هند ، فإذا فصلوا بينهما قالوا : قام اليوم هند.

فمن ذلك قراءة أكثرهم : (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) (١) ، قالوا : إن التذكير أحسن لمكان الفصل ، وقد قرئ أيضا بالتاء ، ولم يعتدّ بالفصل.

كما قال : (وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) (٢).

وقال : (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (٣).

وقال : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) (٤).

وقال : (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ) (٥) فيمن قرأ بالتاء.

__________________

(١) البقرة : ٤٨.

(٢) إبراهيم : ٥٠.

(٣) هود : ٩٤.

(٤) الأعراف : ٧٨ و ٩١.

(٥) الكهف : ٤٣.

٢١٢

وقال : (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ) (١) فيمن قرأ بالتاء ؛ وهم الأئمة السبعة ، إلا حمّادا رواه عن عاصم بالياء.

وقال : (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) (٢).

وقال : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) (٣).

وقال : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) (٤).

وقال : (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ) (٥) فيمن قرأ بالتاء.

هذه الآي ونحوها لم يعتد فيها بالفصل ، كما اعتد به في قوله : (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) (٦) فى «هود».

وقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ) (٧) فى آي كثيرة اعتد / فيها بالفصل.

ومما اعتد فيه بالفصل قوله تعالى : (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (٨) ، لم تدخل النون هنا ؛ لأنها إنما تدخل فتفصل هذه من لام الابتداء.

قال أبو علىّ في قوله : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) (٩) ، وهو يبطل

__________________

(١) يونس : ٧٨.

(٢) الأعراف : ٧٨ و ٩١.

(٣) الحج : ٤٦.

(٤) طه : ١٣٣.

(٥) الأحزاب : ٥٢.

(٦) هود : ٦٧.

(٧) الممتحنة : ١٢.

(٨) آل عمران : ١٥٨.

(٩) ص : ١.

٢١٣

قول الفراء : إن قوله (كَمْ أَهْلَكْنا) (١) جواب القسم ، وإن التقدير : لكم أهلكنا ؛ قال : هذا لا يجوز ؛ لأن اللام على هذا داخلة على الفضلة.

ثم قال : فإن قال قائل : ما ننكر أن تكون اللام التي دخلت على الأفعال مرادة فى «كم» محذوفة لطول الكلام ؛ وأن دخولها فى «كم» العامل فيه «أهلكنا» بمنزلة دخولها على «إلى» المتعلقة بالفعل المنتصبة الموضع به فى قوله : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (٢).

وكما جاز دخولها على الجارّ المنتصب الموضع كذلك يجوز دخولها على «كم» المنتصبة الموضع.

ثم قال : الجواب عندى أن التقدير بهذه اللام في قوله : (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (٣). ألا ترى أن القسم إنما وقع على «أنهم يحشرون» لا على الجار والمجرور ، والمقسم عليه بالفعل ، وهو المؤكد باللام ، والملقى المقسم به.

وإنما دخلت اللام على الحرف الجار لتقدّمه عليه ، ولم تدخل إحدى النونين على الفعل ، لوقوعه على الحرف ، وجاز دخولها على الحرف في كلا الموضعين ؛ إذ المراد به التأخير ، كما جاز دخول لام الابتداء في مثل : إن زيدا لطعامك آكل ؛ إذ المراد به التأخير إلى الخبر.

__________________

(١) ص : ٣.

(٢) آل عمران : ١٥٨.

٢١٤

فإذا كان التقدير ما ذكرنا لم يجز أن يكون (كَمْ أَهْلَكْنا) (١) بمنزلة (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (٢) في جواز دخول اللام عليها كدخولها فى «كم» ، إذا كان دخولها في قوله (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) (٣) بمنزلة دخولها على الفعل ، وعلى حسب ما تكون عليه هذه اللام في سائر مواضعها ومتصرفاتها ، فليس يسوغ تقدير دخولها على الفعل في «كم» والفصل الذي وقع بين اللام وبين (تُحْشَرُونَ) صار عوضا عن دخول النون.

ومما يجرى مجرى الفصل : المفعول الواقع بين المعطوف والمعطوف عليه فى نحو قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) (٤) ، وقوله : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) (٥).

صار المفعول هنا عوضا عن إبراز الضمير في نحو قوله : / (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ)(٦)، وهكذا قال : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) (٧).

__________________

(١) ص : ٣.

(٢) آل عمران : ١٥٨.

(٣) آل عمران : ١٥٨.

(٤) هود : ١١٢.

(٥) يونس : ٧١.

(٦) المائدة : ٢٤.

(٧) الأنعام : ١٤٨.

٢١٥

المتم الثلاثين

هذا باب ما جاء في التنزيل وقد حمل فيه اللفظ على المعنى وحكم

عليه بما يحكم على معناه لا على اللفظ

وقد ذكر ذلك سيبويه في غير موضع ، وأنشد فيها أبياتا ، ربما نسوقها لك بعد البداية بالآى.

فمن ذلك قوله تعالى :

(إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (١).

من وقف على قوله «فاقع» وجعل «فاقعا» تابعا ل «صفراء» ابتدأ «لونها» ورفعها بالابتداء ، وجعل قوله «تسرّ النّاظرين» خبرا عنها.

وإنما قال «تسر» ولم يقل : يسر ؛ حملا على المعنى ؛ لأن قوله «لونها» : صفرتها ؛ فكأنه قال : صفرتها تسر الناظرين.

ومثله قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) (٢). فعدّى «رفثا» ب «إلى» حملا على الإفضاء ، وكما قال : (أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) (٣) كذا قال: (الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) (٤).

__________________

(١) البقرة : ٦٩.

(٢) البقرة : ١٨٧.

(٣) النساء : ٢١.

٢١٦

ومثل ذلك قول أبى علىّ في قوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) (١). ثم قال : (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) (٢) فقال : هذا محمول على المعنى ؛ لأنه لما قال : (وَلا تُؤْمِنُوا) (٣) كأنه قال : أجحدوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم؟

ومثله : (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) (٤) فعدّاه ب «من». كأنه قال : ونجيناه من القوم الّذين كذّبوا.

وقال : (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) (٥) ، كأنه قال : من يعصمنا من بأس الله إن جاءنا؟

وقال : (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) (٦) ، فحمله على الإحسان ، كأنه قال : وتحسنوا إليهم.

ومن هذا الباب قوله تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) (٧) إلى قوله (وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ) (٨). «فى الرقاب» لم يعطف على «الفقراء» ؛ لأن المكاتب لا يملك شيئا ، وإنما ذكر لتعريف الموضع ، و «الغارمين» عطف على «الفقراء» إذ لا يملكون ، «وفي سبيل الله» مثل قوله «وفي الرقاب» لأن ما يخرج في سبيل الله يكون فيه

__________________

(١) آل عمران : ٧٣.

(٢) آل عمران : ٧٣.

(٣) آل عمران : ٧٣.

(٤) الأنبياء : ٧٧.

(٥) غافر : ٢٩.

(٦) الممتحنة : ٨.

(٧) التوبة : ٦٠.

٢١٧

ما لا يملك المخرج فيه ، مثل بناء القناطر ، وعقد الجسور ، وسد الثغور ، وقوله : «وابن السبيل» عطف على اللام في «الغارمين» أو في «ابن السبيل» لم يكن سهلا. والمكاتب عبد ؛ لقوله : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) (١).

ومن هذا الباب / قوله تعالى : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) (٢) فيمن رفع قوله «غيره».

وكذلك (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) (٣) فيمن رفع.

وكذلك قوله : (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) (٤) فيمن رفع. كان ذلك كله محمولا على المعنى ؛ إذ المعنى : ما لكم إله غيره ، وهل خالق غير الله ، وما يعزب عن ربك مثقال ذرة.

ومثله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (٥). ثم قال : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) (٦) ، لأن معنى قوله : أخذ الله ميثاق بنى إسرائيل ، وأخذ الله ميثاقا من بنى إسرائيل ، واحد ؛ فجاء قوله «ومن الذين قالوا» على المعنى ، لا على اللفظ.

__________________

(١) الروم : ٢٨.

(٢) الأعراف : ٥٩.

(٣) فاطر : ٣.

(٤) يونس : ٦١.

(٥) المائدة : ١٢.

(٦) المائدة : ١٤.

٢١٨

ومن ذلك قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) (١) ، أي : هذا الشخص ؛ أو : هذا المرئىّ.

وكذلك قوله تعالى : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) (٢) ، لأن الوعظ والموعظة ، واحد.

وقالوا في قوله تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٣) : إنه أراد ب «الرحمة» هنا : المطر ، ويجوز أن يكون التذكير هنا إنما هو لأجل «فعيل» ، على قوله :

بأعين أعداء وهنّ صديق (٤)

وقوله :

... لا عفراء منك قريب (٥)

وأما قوله تعالى : (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ) (٦) ، فإنه حمله على «النفس» لأن «الإنسان» و «النفس» واحد ، وقيل : بل التاء للمبالغة ، وقيل : بل التقدير : عين بصيرة ؛ فحذف الموصوف.

وقال مجاهد : بل الإنسان على نفسه شاهد : عينه ويداه ورجلاه ، فيكون «الإنسان» مبتدأ ، والظرف فيما ارتفع به خبر ، والهاء العائد من الجملة إلى المبتدأ ، وهو المجرور بالإضافة ، كما تقول : زيد في داره عمرو.

وعكس الأول قول الحطيئة :

ثلاثة أنفس وثلاث ذود

لقد جار الزّمان على عيالى

__________________

(١) الأنعام : ٧٨.

(٢) البقرة : ٢٧٥.

(٣) الأعراف : ٥٦.

(٤) عجز بيت لجرير ، صدره :

نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا

(اللسان : صدق).

(٥) جزء من بيت ، والبيت بتمامه :

ليالي لا عفراء منك بعيدة

فتسلى ولا عفراء منك قريب

(اللسان : قرب).

(٦) القيامة : ١٤.

٢١٩

حمل «الأنفس» على «الأشخص» ؛ كأنه قال : ثلاثة أشخص.

ومنه قوله تعالى : (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) (١) ، أنّث «العشر» لما كان «الأمثال» بمعنى : الحسنات ، حمل الكلام على المعنى.

ومن ذلك قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) (٢) ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ)(٣) ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ) (٤) ، (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) (٥) ، / عدّى «ترى» ب «إلى» حملا على النظر ؛ كأنه قال : ألم تنظر.

وإن شئت كان المعنى : ألم ينته علمك إلى كذا؟.

وعكس هذا قوله : (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٦) ولم يقل : إلى ملكوت ، لأن المعنى : أو لم يتفكروا في ملكوت السموات.

ومن الحمل على المعنى قوله : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) (٧) بعد قوله : (إِلَى الَّذِي حَاجَّ) (٨) كأنه قال : أرأيت كالذى حاجّ إبراهيم في ربه ، أو كالذى مر على قرية ؛ فجاء بالثاني على أن الأول كأنه قد سيق كذلك.

ومنه قوله تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) (٩) إلى قوله : (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) (١٠) ، لأن معناه : إن يؤخرنى أصدّق وأكن ، فحمل «أكن» على موضع «فأصدق» لأنه في موضع الجزم لما كان جواب «لو لا».

__________________

(١) الأنعام : ١٦٠.

(٢) البقرة : ٢٤٣.

(٣) البقرة : ٢٤٦.

(٤) البقرة : ٢٥٨.

(٥) الفرقان : ٤٥.

(٦) الأعراف : ١٨٥.

(٧) البقرة : ٢٥٩.

(٨) البقرة : ٢٥٨.

(٩) المنافقون : ١٠.

(١٠) المنافقون : ١٠.

٢٢٠