إعراب القرآن - ج ٢

الزجّاج

إعراب القرآن - ج ٢

المؤلف:

الزجّاج


المحقق: ابراهيم الأبياري
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب الإسلاميّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٦

وقال الله تعالى : (إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) (١). «هو» على الفصل والوصف.

وقال : (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) (٢).

وقال : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ) (٣). ف «الذي أنزل» بصلته. المفعول الأول ، و «الحق» هو المفعول الثاني ، و «هو» فصل لا غير ، كقوله : (هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ) (٤).

وقال : (وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (٥) ف «هم» فصل.

وقال : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) (٦) ف «هو» فصل ، أو وصف للهاء فى «تجدوه».

وقال الله تعالى : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٧) ، وقال : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ) (٨) فأدخل اللام على الفصل.

وكذلك قوله : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ) (٩) فيمن جعل اللام لام الابتداء في قوله: «لهم المنصورون» وارتفع «هم» بالابتداء.

وقوله : «كأنّهم» مع اسمه وخبره خبر «هم» ، وكأن الوقف على قوله : «ولا تستعجل». ومن جعل اللام جارة من صلة «تستعجل» ، وقف [على] (١٠) «من نهار».

__________________

(١) الأنفال : ٣٢.

(٢) المائدة : ١١٧.

(٣) سبأ : ٦.

(٤) الأنفال : ٣٢.

(٥) الزخرف : ٧٦.

(٦) المزمل : ٢٠.

(٧) الصافات : ٦٠.

(٨) الصافات : ١٧٢.

(٩) الأحقاف : ٣٥.

(١٠) تكملة يقتضيها السياق.

١٤١

والفصل يفارق حكمه حكم ما كان صفة للأول ، ويفارق أيضا حكم ما كان مبتدأ وخبرا في موضع خبر الأول.

فأما مفارقته للصفة ، فإن الصفة إذا كانت ضميرا ، لم يجز أن يوصف به غير المضمر.

تقول : قمت أنت ، ورأيتك أنت ، ومررت بك أنت ؛ ولا يكون صفة للظاهر ، لا تقول : قام زيد هو ، ولا : قام الزيدان هما.

وليس الفصل كذلك ، لأنه يدخل بعد الظاهر ، ومفارقة البدل له أنك إذا أردت البدل قلت : ظننتك أنت خيرا من زيد ؛ وظننته هو خيرا منه.

ومما يفصل بين الفصل والصفة والبدل : أن الفصل يدخل عليه اللام ، ولا يدخل على الصفة والبدل ، كما تقول في الفصل : إن كان كذلك لهو الظريف.

وفي التنزيل : (إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) (١) ، «وإن كنّا لنحن الصّالحين».

فنصب : «الظريف» ، و «الغالبين» ، و «الصالحين».

وقال الله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) (٢) ، (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ) (٣).

__________________

(١) الشعراء : ٤١.

(٢) الحج : ٥٨.

(٣) الصافات : ١٦٥.

١٤٢

ولا يجوز أن تقول : إن كنا لنحن الصالحين ، فى الصفة والبدل ، لأن اللام تفصل بين الصفة والموصوف ، والبدل والمبدل منه.

وأما مفارقته لما كان مبتدأ وخبرا ؛ فإن الفصل لا يغير الإعراب عما كان قبل دخوله والمبتدأ يغير ، تقول إذا أردت الفصل : كان زيدا هو خيرا منك.

/ وإذا جعلت «هو» مبتدأ قلت : كان زيدا هو خير منك. وليس للفصل موضع من الإعراب.

واعلم أنه لا يقع الفصل إلا بين معرفتين ، أو بين معرفة وما قارب منها. ولا يقع بين نكرتين ، ولا بين معرفة ونكرة.

فقوله : (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) (١) «خيرا» مقارب للمعرفة ؛ لأن «خيرا» «أفعل» ، و «أفعل» يستعمل معها «من كذا» ظاهرا أو مضمرا ، فيخصصه ويوضحه.

وأما قوله تعالى : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) (٢) ، ف «هؤلاء» مبتدأ ، و «بناتي» عطف بيان ، و «هنّ» فصل ، و «أطهر لكم» خبر ، و «هؤلاء بناتي» معرفتان جميعا ، و «أطهر لكم» منزلته منزلة المعرفة في باب الفصل ؛ لأنه من باب : زيد هو خير منك.

__________________

(١) المزمل : ٢٠.

(٢) هود : ٧٨.

١٤٣

وقرأ محمد بن مروان من أهل المدينة : «أطهر» بالنصب. وقد روى عن عيسى بن عمر بأسانيد جياد مختلفة أنه قرأها : «هنّ أطهر لكم» بالنصب. فقال : احتبى في لحنه.

وقد روى عن سعيد بن جبير أنه قرأ : «هنّ أطهر لكم» بالنصب.

ومعنى قول أبى عمر (١) : «احتبى في لحنه» : كقولك : اشتمل بالخطأ ، وتمكن في الخطأ ؛ ونحو هذا مما يوجب تثبيت الخطأ عليه ، وإحاطته به.

قال أبو عثمان : وجه النصب فى «أطهر لكم» : أن تجعل «هنّ» أحد جزءى الجملة ، وتجعله خبر «بناتي» كقولك : زيد أخوك هو.

وتجعل «أطهر» حالا من «هنّ» أو من «بناتي» والعامل فيه معنى الإشارة كقولك : هذا زيد هو قائما ، أو جالسا ، أو نحو ذلك.

وإنما لحّن من لحّن ؛ لأنه لم ير قوله «هنّ» تمام الكلام ، وإنما رأى قوله «هنّ» فصلا ، ورأى «أطهر» الخبر. فلم ير ذلك ... (٢) تم به الكلام.

ومن طريف ما ذكرنا :

أن (٣) سيبويه قال : وأما أهل المدينة فينزلون «هو» هاهنا منزلة قوله : ما أظن أحدا هو خيرا منك ، ويجعلونها فصلا في هذا الموضع.

__________________

(١) كنية عيسى بن عمرو الثقفي المتقدم.

(٢) بياض بالأصل.

(٣) الكتاب (١ : ٣٩٧).

١٤٤

وزعم يونس : أن أبا عمرو رواه لحنا وقال : احتبى ابن مروان في ذه (١) ، فى اللحن.

وذلك أنه كان يقرأ : (هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ).

وكان الخليل يقول : والله [إنه ل] عظيم جعلهم «هو» فصلا في المعرفة ، وتصييرهم إياها بمنزلة «ما» إذا كانت «ما» لغوا ؛ لأن «هو» بمنزلة / «أبوه» ، ولكنهم جعلوها في ذلك الموضع لغوا [كما جعلوا «ما» فى بعض المواضع بمنزلة «ليس» ، وإنما قياسها أن تكون بمنزلة «كأنما» و «إنما».

ومما يقوى ترك ذلك في النكرة : أنه لا يستقيم أن تقول : رجل خير منك ، ولا أظن رجلا خيرا منك ، حتى تنفى وتجعله بمنزله «أحد» فلما خالف المعرفة في الواجب الذي هو بمنزلة الابتداء ، وفي الابتداء لم يجر فى النكرة مجراه ، لأنه قبيح في الابتداء ، وفيما أجرى مجراه من الواجب ، فهذا مما يقوّى ترك الفصل] (٢).

وهذه الآية ما وقع «هنّ» فيها بين نكرتين ؛ وليس بحجة لأهل المدينة ؛ ولكنه وقع فى «الكتاب هاهنا موقعه في باب آخر ، وقد بيّنا هذا.

وأما قوله تعالى : (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً) (٣) يرتفع «مولود» بالعطف على «والد» لإعادة العاطف مؤكدا.

__________________

(١) الكتاب (١ : ٣٩٧) : «هذه».

(٢) التكملة من الكتاب.

(٣) لقمان : ٣٣.

١٤٥

ولأن كونه مبتدأ ، ممتنع لتنكيره ، فيستدعى التخصيص بالوصف ، ولو كانت الجملة وصفا ، احتاج إلى الخبر ، ولا خبر هنا ، وهو تأكيد لما فى «مولود» أو مبتدأ ، و «جاز» خبره ، والجملة وصف له ، ولا يكون «هو» فصلا ؛ لأن ما هو بينهما نكرتان.

وأما قوله تعالى : (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) (١) فإن «هو» فصل ، و «يبور» خبر المبتدأ الذي هو «مكر أولئك» ، و «أولئك» جر بالإضافة.

قال أبو عثمان : زيد هو يقول ذاك ، «هو» فصل ، ولا أجيز : زيد هو قال ذاك ؛ لأنى أجيز الفصل بين الأسماء والأفعال (٢).

ولا يجوز في الماضية ، كما جاز في المضارعة ؛ وذلك أن سيبويه قد قال : إنى لأمرّ بالرجل خير منك ؛ وبالرجل يكرمنى ؛ وهما صفة ، على توهم الألف واللام ، فكذلك في الفصل أتوهم الألف واللام في الفعل ، ويكون بمنزلة الغاية بين المعرفتين.

كما أقول : «كان زيد هو خيرا منك» على توهم الألف واللام فى «خير منك».

ولا يجوز : كان زيد هو منطلقا. لأنى أقدر على الألف واللام ، وإنما يجوز هذا فيما لا يقدر فيه على الألف واللام.

__________________

(١) فاطر.

(٢) مقتضى الكلام أن يقول : لأني أجيز الفصل في الفعل المضارع ولا أجيزه في الفصل الماضي ، وبذلك يصح الاستدلال بالمثالين.

١٤٦

وأما قوله تعالى : (أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ) (١) ، فموضع «أربى» رفع ؛ لأن قوله «أمة» اسم «تكون» وهي ابتداء ، و «أربى» خبره ، والجملة خبر «كان» ، ولا يجوز أن تكون «هى» هاهنا فاصلة ؛ لأن أمة» نكرة ، و «أربى» وإن قاربت المعرفة فيستدعى كون معرفة قبلها.

وأما قوله : (قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ) (٢) ، فقوله «جزاؤه» مبتدا. وقوله «من وجد» خبر المبتدأ ، والتقدير : أخذ من وجد ، أي : أخذ الإنسان الذي وجد الصاع في رحله ؛ والمضاف محذوف ، وفى «وجد» ضمير «الصاع» العائد إلى «من» ، الضمير المجرور بالإضافة ، «فهو جزاؤه» ذكرت هذه الجملة تأكيدا للأول ، أي أخذه جزاؤه ، و «من» بمعنى الذي / على هذا ، وإن جعلت «من» شرطا ، و «وجد في رحله» فى موضع الجزم ، والفاء فى قوله «فهو جزاؤه» جواب الشرط ، والشرط والجزاء خبر المبتدا ، جاد وجاز.

وكان (٣) التقدير : جزاؤه إن وجد الصاع في رحل إنسان فهو هو ، لكنه وضع من الجملة إلى المبتدأ عائد ، لأنه إذا كان «من» شرطا ، أو بمعنى «الذي» ، كان ابتداء ثانيا ، ويكون الفاء مع ما بعده خبرا ، وتكون الجملة خبر المبتدأ ، والعائد هو الذي وضع الظاهر موضعه.

__________________

(١) النحل : ٩٢.

(٢) يوسف : ٧٥.

(٣) توجيه هذا الرأي كما ساقه أبو حيان في البحر (٥ : ٣٣١) «جزاؤه من وجد في رحله فهو هو ، فموضع الجزاء موضع هو».

١٤٧

ويجوز أن يكون «جزاؤه» خبرا ، و «هو» فصل.

وأما قوله : (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) (١) لا يجوز الفصل هنا.

فإذا لم يجز الفصل كان «هم» الثانية : إما صفة ، وإما ابتداء ، وجازت الصفة ، لأن الأول مضمر ، فيجوز أن يكون المضمر وصفا له. ونراها أشبه ؛ لأنك إذا جعلته ابتداء ، فصلت بين اسم الفاعل وما يتصل به بمبتدأ ، وهما أذهب في باب كونها أجنبيات من الصفة ؛ لأن الصفة متعلق بالأول ، والمبتدأ أجنبى من اسم الفاعل.

وأما قوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (٢). يحتمل «هم» ثلاثة أضرب :

أحدها ـ أن يكون مرتفعا بمضمر دل عليه «ينتصرون» ؛ لأن هذا الموضع فعل.

ألا ترى أن جواب «إذا» حقه أن يكون فعلا ؛ فإن أظهرت ذلك الفعل كان «ينتصرون» ؛ لأن الضمير حقه أن يتعلق بالفعل ، كما يكون «أنت» ، فانظر في بيت عدى (٣).

__________________

(١) يوسف : ٣٧ ـ هود : ١٩.

(٢) الشورى : ٣٩.

(٣) يريد : عدي بن زيد العبادي ، وبيته هو :

فمتى واغل ينبهم يحيّو

ه تعطف عليه كأس السّاقي

قدم الاسم على الفعل للضرورة مع أنه مجزوم بمتى ، وارتفاع الاسم بعدها بإضمار فعل يفسره الظاهر ، لأن الشرط لا يكون إلا بالفعل (الكتاب ج ١ : ٤٥٨).

١٤٨

ومن أجاز إضمار الفاء واستدل بقوله : (وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١) جاز أن يرتفع «هم» على قوله بالابتداء ، والتقدير : فهم ينتصرون ، إلا أنه حذف الفاء (٢).

وهو على تقدير العربية أن يكون صفة (٣) للضمير المنصوب فى «أصابهم» ، وليس بالقوى في المعنى (٤).

ألا ترى أن البغي إذا أصابهم هم ، أو أصاب أصحابهم ، وجب عليهم الانتصار لهم ، كما يجب انتصارهم لأنفسهم.

وإنما قلنا قياس قول سيبويه رفع قوله «هم» بمضمر ، لأنه قد قال فى قوله «إن يأتنى زيد يضرب» : إنه يرتفع بفعل مضمر يفسره «يضرب» ، ولا فصل بين «إذا» و «إن».

ووصل «الذين» ب «إذا» يدل على صحة ما ذهب إليه من قوله : أزيد إذا أتاك يضرب إذا جعلته جوابا ولم تقدر به التقديم ـ وإن ذلك كان إذا كانت خبر مبتدأ / مضمر يفسره «يضرب» ، ولا فصل بين «إذا» و «إن» ، ووصل «الذين» ب «إذا» يدل على صحة ما ذهب إليه من قوله : أزيد إذا أتاك يضرب ـ إذا جعلته جوابا ولم تقدر به التقديم ، وأن ذلك كان إذا كانت خبر مبتدأ مضمر أو صلة تشبّه ب «إن» ، كما شبهت «إذا» أيضا بها في قول من جازى بها في الشعر.

ولا يجوز ذلك فى «حين» ، ولا في غير الأسماء التي تتضمن معنى الشرط والجزاء.

__________________

(١) الأنعام : ١٢١.

(٢) وهذا هو الوجه الثاني في «هم».

(٣) وهذا هو الوجه الثالث في «هم».

(٤) البحر المحيط (٧ : ٥٢٢) : «توكيدا».

١٤٩

ولا يحمل «إذن» على اسم الزمان في وصل «الذي» بها.

هذا كله ، كما ترى ، درر نظمتها لك ، وفي الكتاب فصل يخالف هذا (١).

قال سيبويه : واعلم أن «هو» تكون فصلا إلا في الفعل ، ولا تكون كذلك إلا في كل فعل الاسم بعده بمنزلته في حال الابتداء ، وذكر باب «حسبت» و «كان» فقط(٢).

قال أبو بكر : ولم يذكر باب «إن» هنا ، ولا باب «الابتداء بإن» قال : فأذكر أنه لا يكون فصلا إلا في الأفعال ، وتأول الآية في حد «إن» على أنها مبتدأة ، وهي قوله: (لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) (٣).

ويدل أيضا على صحة قوله : أن سيبويه لما ذكر في هذا الكتاب ما يكون «هو وأخواتها فيه فصلا» ذكر باب «حسبت وأخواتها» ، و «كان وأخواتها» ولم يذكر «إن».

قال أبو سعيد : ومن مذهبه أنهن يكن فصلا فى «إن» وفي «الابتداء».

وإنما ابتدأ بالفعل وخصه ؛ لأنه لا يتبين الفصل إلا فيه و «إن» و «الابتداء» لا يتبين الفصل بهما في اللفظ ، لأنك إذا قلت : زيد هو خير منك ؛ فما بعد «هو» مرفوع على كل حال ، وإن جعلت «هو» فصلا ، أو جعلته مبتدأ.

__________________

(١) الكتاب (١ : ٤٣١ ـ ٤٥٢).

(٢) الكتاب (١ : ٣٩٤).

(٣) هود : ٢٢.

١٥٠

وإنما يتبين فى «كان ، وأخواتها» ، و «ظننت ، وأخواتها» الفصل من الابتداء ؛ لأن أخبارها منصوبة ، تقول : كان زيد هو أخوك ، إذا جعلت «هو» ابتداء ، و «أخوك خبره ، والجملة خبر زيد» وكذلك : ظننت زيدا هو أخوك ، وإذا كان فصلا قلت : كان زيد هو أخاك ، وظننت زيدا هو أخاك.

١٥١

الثالث والعشرون

هذا باب ما جاء في التنزيل من المضمرين

إلى أي شيء يعود مما قبلهم

وهو كثير في التنزيل ، لكنّا نذكر نبذا منها :

فمن ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (١) قيل : من مثل محمد ـ عليه‌السلام ـ فالهاء تعود إلى «عبدنا».

وقيل : تعود الهاء إلى قوله «ما» ، أي : فأتوا بسورة من مثله / ما نزلناه على عبدنا ـ فيكون «من» زيادة ـ على قول أبى الحسن ـ دليله قوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ).

وقيل : الهاء تعود إلى الأنداد ، كما قال سيبويه في قوله : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ) (٢) وفي الأخرى : (مِمَّا فِي بُطُونِها) (٣) لأن «أفعالا» و «أفعلا» و «أفعلة» و «فعلة» جرت عندهم مجرى الآحاد ؛ لأنهم جمعوها في قولهم : أناعيم ، وأكالب ، وأساق ، وغير ذلك ، وصغروها تصغير الآحاد فى : أنيعام ، وأكيلب. فجاز عودها إلى الأنداد في قوله : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) (٤) ، والمعنى يقتضى الأوجه الثلاثة ، وقرب اللفظ يقتضى عوده إلى «عبدنا».

__________________

(١) البقرة : ٢٣.

(٢) النحل : ٦٦.

(٣) المؤمنون : ٢١.

(٤) البقرة : ٢٢.

١٥٢

ومن ذلك قوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ)(١).

قيل : التقدير : أول كافر بالتّوراة ، وهو مقتضى قوله : (لِما مَعَكُمْ) (٢) فيعود إلى «ما».

وقيل : يعود الهاء إلى قوله (بِما أَنْزَلْتُ) (٣) وهو القرآن. والوجه الأول أقرب.

ويجوز أن تعود الهاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله ـ وذلك مذكور دلالة ، لأن قوله : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) أي : أنزلته على محمد ، عليه‌السلام.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ) (٤).

قيل : الهاء تعود إلى «الصلاة». أي : إن الصلاة لكبيرة ـ أي : لثقيلة ـ إلا على الخاشعين ، كقوله : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) (٥).

وعندى : أن الهاء تعود إلى المصدر ، لأن قوله : «واستعينوا» يدل على الاستعانة ، أي : إن الاستعانة لكبيرة إلا على الخاشعين ، كما قال : من كذب كان شرّا له.

__________________

(١) البقرة : ٤١.

(٢) البقرة : ٤١.

(٣) البقرة : ٤١.

(٤) البقرة : ٤٥.

(٥) البقرة : ١٤٣.

١٥٣

ومن ذلك قوله : (وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) (١).

قيل : يعود إلى ذبح الأبناء ، واستحياء النساء. أي : فى المذكور نقمة من ربكم.

ووحّد «ذا» ولم يقل : «ذينكم» ، لأنه عبّر به عن المذكور المتقدم.

وقيل : يعود «ذلكم» إلى «الإنجاء» من آل فرعون.

ومثل الأول قوله : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) (٢) ، أي: ذلكم المذكور المتقدم.

ومثله : (لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) (٣).

أي : بين المذكور المتقدم ، لأن «بين» يضاف إلى أكثر من واحد ، كقولك : المال بين زيد وعمرو.

ومثله : (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) (٤) ، «هو» عبارة عن المصدر ، / أي. الإخراج محرّم عليكم ، ثم قال : «إخراجهم».

فبيّن ما عاد إليه هو.

وقال : (اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (٥) أي : العدل أقرب للتقوى.

وقد تقدم (هُوَ خَيْراً لَهُمْ) (٦) على معنى : البخل خيرا لهم ؛ لأن «ينجلون» يدل عليه.

__________________

(١) البقرة : ٤٩.

(٢) البقرة : ٥٤.

(٣) البقرة : ٦٨.

(٤) البقرة : ٨٥.

(٥) المائدة : ٨.

(٦) آل عمران : ١٨.

١٥٤

وقال : (إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً) (١) ، أي : إنّ أكله.

وقال : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) (٢) ، أي : إن أكله لفسق.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) (٣).

قيل : التقدير : وما أحد يزحزحه من العذاب تعميره. ف «هو» يعود إلى «أحد» وهو اسم «ما».

وقوله : «بمزحزحه» خبر «ما» والهاء فى «بمزحزحه» يعود إلى «هو».

وقوله : «أن يعمّر» يرتفع «بمزحزحه».

ويجوز أن يكون «وما هو» «هو» ضمير التعمير ، أي : ما التعمير [بمزحزحه] من العذاب. ثم بين فقال : «أن يعمر» ، يعنى : التعمير ، أي : ما التعمير.

وقال الفراء : «هو» ضمير المجهول ، أي : ما الأمر والشأن يزحزح أحدا تعميره من العذاب. وهذا ليس بمستو ، لمكان دخول الباء ، والباء لا تدخل في الواجب ، إلا أن يقول: إن النفي سرى من أول الكلام إلى أوسطه ، فجلب الباء.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) (٤).

قيل : وآتى المال على حب الإعطاء.

[و] قيل : وآتى المال على حب ذوى القربى. فإن صح كان (ذَوِي الْقُرْبى) بدلا من الهاء ـ وفيه نظر.

__________________

(١) النساء : ٢.

(٢) الأنعام : ١٢١.

(٣) البقرة : ٩٦.

(٤) البقرة : ١٧٧.

١٥٥

وقيل : على حب المال ؛ فعلى هذا يكون الجار والمجرور في موضع الحال ، أي : آتاه محبّا له.

وأما قوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) (١). أي : على حب الطعام ، ويكون : على حب الإطعام ، ويكون : على حب الله.

ومن ذلك قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) (٢).

قيل : معناه : فمن عفى عن الاقتصاص منه ، فاتباع بالمعروف ، هو أن يطلب الوليّ الدية بمعروف ، ويؤدّى القاتل الدية بإحسان ـ عن ابن عباس. فالهاء فى «إليه» يعود إلى «من».

وقوله : «فاتّباع بالمعروف ، أي : فعلى الوليّ اتباع بالمعروف ، وعلى القاتل أداء إلى الولىّ بإحسان. فالهاء فى «إليه» على هذا ل «الوليّ».

وقيل : إن معنى قوله (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) (٣) بمعنى : فمن فضل له فضل ـ وهو مروى عن السّدّىّ ، لأنه قال : الآية نزلت فى فريقين كانا على عهد رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله ـ قتل من كلا الفريقين قتلى ، فتقاصّا ديات القتلى بعضهم من بعض ، فمن بقيت له بقية / فليتبعها بالمعروف ، وليؤدّ من عليه الفاضل بإحسان.

ويكون معنى قوله : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) (٤). أي : فمن فضل من قتل أخيه القاتل له شيء.

__________________

(١) الإنسان : ٨.

(٢) البقرة : ١٧٨.

(٣) البقرة : ١٧٨.

١٥٦

ولعل فارس الصناعة (١) أراد هذا حين قال «فمن عفى له» أي : من يسّر من قتل أخيه القاتل شيء فاتباع بالمعروف ، أي ، ليتبعه ولى المقتول ، وليؤد إليه بإحسان ، فلا يمطله ، والأداء في تقدير فعل المفعول ، أي فله : أن يؤدى إليه ، يعنى الميسر له ، ولو قدر تقدير : أن يؤدى القاتل ، جاز ، والباء حال ، ولم يكن من تمام الأداء ليعلق إلى «به».

فمقتضى ما قدمنا في قوله : (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) (٢) قولان :

أحدهما : أنهما عائدان إلى القاتل والمقتول «اتباع بالمعروف» عائد إلى ولىّ المقتول أن يطالب بالدية بمعروف ، والأداء بإحسان عائد إلى القاتل أن يؤدى الدية بإحسان.

والثاني : أنهما عائدان إلى القاتل ، أن يؤدى الدية بمعروف وإحسان فالمعروف أن لا ينقصه ؛ والإحسان أن لا يؤخره.

ففى الآية ثلاث كنايات :

أحدها : الهاء فى «له».

والثاني : الهاء فى «أخيه».

والثالث : الهاء فى «إليه».

فيقال الهاء فى «له» وفى «أخيه» للقاتل الذي عفى له للقصاص ،

__________________

(١) يعني : أبا علي الفارسي.

(٢) البقرة : ١٧٨.

١٥٧

وأخوه ولىّ القتيل. والضمير فى «إليه» أيضا له. أي : يؤدى القاتل الدية إلى الولىّ العافي بإحسان عن غير مطل.

وبين الفريقين في هذه الآية كلام في موجب العمد ، هل هو القود؟ أو أحد الشيئين من القود والدية لا بعينه.

فقال الشافعي في موجبه أحدهما : فإن شاء استوفى القصاص ، وإن شاء أخذ الدية ، فقال في الآية : إن الله شرع القصاص عينا ابتداء ، ثم ألزم القاتل أداء المال إلى الوليّ إذا عفى له ، ولأن قوله : (فَمَنْ) (١) كلمة مبهمة ، وذكرت لبيان تغيّر حكم القصاص بعفو يقع له ؛ فدل ضرورة أن كلمة «من» تنصرف إلى من عليه القصاص ، ليسقط به ، وهي كناية عن الاسم المراد بقوله (فَمَنْ) (٢).

فثبت ضرورة أن الثابت في اسم القاتل ، الذي دل عليه القصاص ، وأن العفو وقع له.

والله تعالى علّق بالعفو وجوب الاتباع والقبول والأداء ، فإن قوله : (فَاتِّباعٌ) (٣) على / سبيل التعليق بالأول. بمنزلة قوله : «فاتبعوا». كقول الله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ)(٤) فى باب الكفّارة.

ثم بيّن أن هذا الحكم من الله تخفيف ورحمة ، فإن الحياة لا عوض لها ، وقد حي بعد الهلاك بالدية.

__________________

(١) البقرة : ١٧٨.

(٢) المجادلة : ٣.

١٥٨

و (عُفِيَ لَهُ) (١) يجئ بمعنى : عفى عنه ، فلما ثبت أن العفو وقع للقاتل علم أن العافي هو الولىّ ضرورة ، وما لأحد غيره حقّ في هذا الباب ، وقد تقدّم الجواب عن هذا الكلام.

ودل قوله «شىء» على التنكير ، فإن الله أوجب القصاص ابتداء ، ثم قال : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) (٢) على سبيل التّنكير ، فينصرف إلى شىء من الواجب عليه ، أي : أي شىء من القصاص.

فإن قيل : تأويله : شىء من العفو بعفو القصاص دون البدل.

قلنا : لما كان «شىء» نكرة من جملة وجب صرفها إلى الجملة المذكورة شائعة ، وهو القصاص ، دون العفو ، الذي لم يذكر ، كما يجب في الكناية والتعريف.

ومن ذلك قوله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) (٣).

فيه قولان :

أحدهما : «الهاء» لنمرود ، لما أوتى الملك ، حاجّ في الله تعالى. عن الحسن.

الثاني : هو لإبرهيم ، لما آتاه الله الملك ، حاجّه نمرود : عن أبى حذيفة. و «الملك» النبوة.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ)(٤).

__________________

(١) البقرة : ١٧٨.

(٢) البقرة : ٢٥٨.

(٣) فاطر : ١١.

١٥٩

فيه قولان :

أحدهما : أنه لا يمد في عمر معمّر حتى يهرم (وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) (١) أي : من عمر آخر ، حتى يموت طفلا (إِلَّا فِي كِتابٍ). (٢).

وقيل : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) (٣) قدّر الله مدة أجله ، إلا كان ما ينقص منه بالأيام الماضية وفي كتاب ، جلّ سبحانه وتعالى ، فالهاء على هذا للمعمّر ، على الأول ، كقولك : عندى درهم ونصفه ، أي ، نصف مثله ، كذلك : لا ينقص من عمر مثل معمّر ، ولا يشبه الآية «درهم ونصفه» ، لأنه ليس المعنى : لا ينقص آخر من عمر ذلك الآخر.

إنما المعنى : ولا ينقص آخر من عمر هذا المعمّر ، أي : لا ينقص بجعله أنقص عمرا منه.

ومن ذلك قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) (٤) فيه ثلاثة أقوال :

أحدها : إلّا ليؤمننّ بالمسيح قبل موت المسيح ، إذا نزل من السماء. عن ابن عباس.

الثاني : إلّا ليؤمننّ بالمسيح قبل موت الكتابي عند المعاينة ، فيؤمن بما أنزل الله من الحق وبالمسيح ـ / عن الحسن ـ فيعود الهاء من «موته» إلى «أحد» المضمر ، لأن التقدير : وإن أحد من أهل الكتاب.

__________________

(١) فاطر : ١١.

(٢) النساء : ١٥٩.

١٦٠