اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

والثاني : أن «جمالات» جمع «جمالة». قاله الزمخشري. وهو ظاهر.

وقرأ ابن عبّاس والسلمي (١) وأبو حيوة : «جمالة» بضم الجيم لما قاله الزمخشري آنفا.

وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ أنها قطع النّحاس.

قوله : (صُفْرٌ). صفة ل «جمالات» أو ل «جمالة» لأنه إما جمع أو اسم جمع.

والعامة : على سكون الفاء جمع ، والحسن (٢) بضمها ، كأنه إتباع ، ووقع التشبيه بها في غاية الفصاحة.

قال الزمخشري : وقيل : «صفر» سود تضرب إلى الصفرة ، وفي شعر عمران بن حطّان الخارجيّ : [الطويل]

٥٠٦٢ ـ دعتهم بأعلى صوتها ورمتهم

بمثل الجمال الصّفر نزّاعة الشّوى (٣)

وقال أبو العلاء : [الكامل]

٥٠٦٣ ـ حمراء ساطعة الذّوائب في الدّجى

ترمي بكلّ شرارة كطراف (٤)

فشبهها بالطّراف ، وهو بيت الأدم في العظم والحمرة ، وكأنه قصد بخبثه أن يزيد على تشبيه القرآن ، ولتبجحه بما سوّل له من توهم الزيادة جاء في صدر بيته قوله : حمراء ، توطئة لها ومناداة عليها تنبيها للسّامعين على مكانها ، ولقد عمي ، جمع الله له عمى الدارين عن قوله تعالى : (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) فإنه بمنزلة قوله : كبيت أحمر وعلى أن في التشبيه بالقصر ، وهو الحصن تشبيها من جهتين : من جهة العظم ، ومن جهة الطّول في الهواء. انتهى.

وكان قد قال قبل ذلك بقليل : «شبهت بالقصور ، ثم بالجمال لبيان التشبيه ؛ ألا ترى أنهم يشبهون الإبل بالأفدان والمجادل».

والأفدان : القصور ؛ كأنه يشير إلى قول عنترة : [الكامل]

٥٠٦٤ ـ فوقفت فيها ناقتي وكأنّها

فدن لأقضي حاجة المتلوم (٥)

فصل في المراد بالقصر

قال القرطبي (٦) : القصر : البناء العالي.

__________________

(١) ينظر : السابق.

(٢) ينظر السابق.

(٣) ينظر الكشاف ٤ / ٦٨١ ، والقرطبي ١٩ / ١٠٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٩٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٥٩.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٨١ ، والدر المصون ٦ / ٤٥٩.

(٥) ينظر ديوان عنترة ص ١١٩ ، ومجمع البيان ١ / ٣٦٤ ، والمعلقات للزوزني ١٤٢ ، والبحر ٨ / ٣٩٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٥٩.

(٦) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٠٦.

٨١

وقيل : القصر : جمع قصرة ـ ساكنة الصاد ـ مثل جمر وجمرة ، وتمر وتمرة ، والقصر : الواحدة من جزل الحطب الغليظ.

قال سعيد بن جبير ، والضحاك : هي أصول الشجر والنخل العظام إذا وقع وقطع.

وقيل : أعناقه ، شبّه الشرر بالجمال الصفر ، وهي الإبل السود ، والعرب تسمي السود من الإبل صفرا.

قال الشاعر : [الخفيف]

٥٠٦٥ ـ تلك خيلي منه وتلك ركابي

هنّ صفر أولادها كالزّبيب (١)

أي : هنّ سود ، وإنما سميت السود من الإبل صفرا ؛ لأنه يشوب سوادها شيء من صفرة.

قال الترمذي : وهذا القول ضعيف ، ومحال في اللغة أن يكون من يشوبه شيء قليل فينسب كله إلى ذلك الشائب (٢) ، فالعجب ممن قد قال هذا ، وقد قال تعالى : (جِمالَتٌ صُفْرٌ) فلا نعلم شيئا من هذا في اللغة. والجمالات : الجمال.

وقال الفراء : يجوز أن تكون الجمالات ـ بالضم ـ من الشي المجمل ، يقال : أجملت الحساب ، وجاء القوم جملة ، أي مجتمعين.

والمعنى : أن هذا الشرر يرتفع كأنه شيء مجموع غليظ أصفر.

قيل : شبهها بالجمالات لسرعة سيرها.

وقيل : لمتابعة بعضها بعضا.

قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (٣٥) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (٣٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣٧)

قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) العامة على رفع «يوم» خبرا ل «هذا» ، أي تقول الملائكة : هذا يوم لا ينطقون.

ويجوز أن يكون قوله «انطلقوا» من قول الملائكة ثم يقول الله لأوليائه : هذا يوم لا ينطق الكافر ، ومعنى اليوم السّاعة والوقت.

وزيد بن علي ، والأعرج ، والأعمش ، وأبو حيوة ، وعاصم (٣) في بعض طرقه : بالفتح ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن الفتحة فتحة بناء ، وهو خبر ل «هذا» كما تقدم.

__________________

(١) تقدم.

(٢) في ب : الشيء.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٢٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٩٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٥٩.

٨٢

والثاني : أنه منصوب على الظرف واقعا خبرا ل «هذا» على أن يشار به لما تقدم من الوعيد ، كأنه قيل : هذا العقاب المذكور كائن يوم لا ينطقون وقد تقدم آخر المائدة ما يشبه هذا في قوله تعالى : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) إلا أن النصب هناك متواتر.

قوله : (وَلا يُؤْذَنُ) العامة : على عدم تسمية الفاعل. وحكى الأهوازي عن زيد بن (١) علي : «ولا يأذن» سمى الفاعل ، وهو الله تعالى.

وقوله : فيعتذرون». في رفعه وجهان :

أحدهما : أنه مستأنف ، أي فهم يعتذرون.

قال أبو البقاء : ويكون المعنى : أنهم لا ينطقون نطقا ينفعهم ، أو ينطقون نطقا في بعض المواقف ولا ينطقون في بعضها.

والثاني : أنه معطوف على «يؤذن» فيكون منفيا ، ولو نصب لكان متسببا عنه.

وقال ابن عطيّة : «ولم ينصب في جواب النّفي لتشابه (٢) رءوس الآي ، والوجهان جائزان».

فظهر من كلامه أنهما بمعنى واحد ، وليس كذلك بل المرفوع له معنى غير معنى المنصوب ، وإلى هذا ذهب الأعلم إلى أن الفعل قد يرتفع ويكون معناه النصب ، ورد عليه ابن عصفور.

قال الفرّاء في قوله (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) : الفاء نسق ، أي عطف على «يؤذن» ، وأجيز ذلك ، لأن آخر الكلام بالنون ، ولو قال : فيعتذروا ، لم يوافق الآيات ، وقد قال : (لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [فاطر : ٣٦] ، بالنصب ، وكل صواب ، ومثله : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ) [البقرة : ٢٤٥] ، بالرفع والنصب.

فصل في تخويف الكفار

هذا نوع آخر من أنواع تخويف الكفار ، لأن الله ـ تعالى ـ بين أنه ليس لهم عذر ولا حجة فيما أتوا به من القبائح ، ولا لهم قدرة على رفع العذاب عن أنفسهم ، واعلم أن يوم القيامة له مواطن ومواقيت ، فهذا من المواقيت التي لا يتكلمون فيها ولا يعتذرون.

روى عكرمة : أن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ سأله ابن الأزرق عن قوله تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) و (فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) [طه : ١٠٨] ، وقد قال تعالى : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) [الطور : ٢٥]. فقال له : إن الله ـ تعالى ـ يقول: (وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٩٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٠.

(٢) في ب : لمناسبة.

٨٣

كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) [الحج : ٤٧] فإن لكل مقدار من هذه الأيام لونا من هذه الألوان(١).

وقال الحسن : فيه إضمار ، أي هذا يوم لا ينطقون فيه بحجة نافعة ، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد ، فكأنه ما نطق ، كما يقال لمن ذكر كلاما غير مفيد : ما قلت شيئا (٢) ، وقيل : إن هذا وقت جوابهم : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) [المؤمنون : ١٠٨].

قال الفراء : أراد بقوله : «لا ينطقون» تلك الساعة ، وذلك القدر من الوقت الذي لا ينطقون فيه ، كما تقول : آتيك يوم يقدم فلان ، والمعنى : ساعة يقدم ، وليس باليوم كله ؛ لأن القدوم إنما يكون في وقت يسير ولا يمتد في كل اليوم.

وأجاب ابن الخطيب (٣) : بأن قوله تعالى (لا يَنْطِقُونَ) لفظ مطلق ، والمطلق لا يفيد العموم لا في الأنواع ، ولا في الأوقات ، بدليل أنك تقول : فلان لا ينطق بالشر ولكنه ينطق بالخير ، وتارة تقول : فلان لا ينطق شيئا ألبتة ، فهذا يدل على أن مفهوم «لا ينطق» مشترك بين الدائم والمؤقت ، وإذا كان كذلك فمفهوم «لا ينطق» يكفي في صدقه عدم النطق ببعض الأشياء ، وفي بعض الأوقات ، وذلك لا ينافي حصول النطق بشيء آخر في وقت آخر ، فيكتفى في صدق قوله : «لا ينطقون» أنهم لا ينطقون بعذر وعلة في وقت واحد ، وهو وقت السؤال.

فإن قيل : لو حلف لا ينطق في هذا اليوم حنث في قطعه في جزء منه. قلنا : ذلك لعرف الإيمان وبحثنا في عرف اللفظ من حيث هو.

قال ابن الخطيب (٤) : فإن قيل : قوله : (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) يوهم أن لهم عذرا ، وقد منعوا من ذكره ، وهذا لا يليق بالحكمة؟.

فالجواب : أن ليس لهم عذر في الحقيقة ، ولكن ربما تخيلوا خيالا فاسدا أن لهم فيه عذرا ، فهم لا يؤذن لهم في ذكر ذلك العذر الفاسد.

قوله تعالى : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (٣٨) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (٣٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ)(٤٠)

قوله تعالى : (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ). هذا نوع آخر من أنواع تهديد الكفار وتخويفهم ، أي : يقال لهم : هذا اليوم الذي يفصل فيه بين الخلائق ، فيتبين المحق من المبطل.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٠٨) عن الحسن.

(٢) ينظر التخريج السابق.

(٣) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٢٤٦.

(٤) ينظر الفخر الرازي ٣ / ٢٤٧.

٨٤

(جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ).

قال ابن عباس : جمع الذين كذبوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين كذبوا النبيين من قبله.

(فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) أي : حيلة في الخلاص من العذاب «فكيدون» أي : فاحتالوا لأنفسكم وفاء ، ولن تجدوا ذلك (١).

وقيل : فإن كان لكم كيد أي إن قدرتم على حرب «فكيدون» أي : حاربوني رواه الضحاك عن ابن عباس أيضا ، قال : يريد كنتم في الدنيا تحاربون محمدا وتحاربوني ، فاليوم حاربوني.

وقيل : إنكم كنتم في الدنيا تعملون المعاصي ، وقد عجزتم الآن عنها ، وعن الدفع عن أنفسكم.

وقيل : إنه من قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيكون كقول هود ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ) [هود : ٥٥].

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (٤١) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٤٢) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٤٤) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٥) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (٤٦) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٧) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (٤٨) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠)

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ).

قال مقاتل والكلبي : المراد (٢) بالمتقين : الذين يتقون الشرك بالله تعالى ؛ لأن السورة من أولها إلى آخرها في تقريع الكفار على كفرهم وتخويفهم (٣).

قال ابن الخطيب (٤) : فيجب أن تكون هذه الآية مذكورة لهذا الغرض ، وإلا لتفككت السورة في نظمها وترتيبها ، وإنما يتم النظم بأن يكون الوعد للمؤمنين بسبب إيمانهم ، فأما من جعله بسبب الطاعة فلا يليق بالنظم ، وأيضا فإن المتقي للشرك يصدق عليه أنه متّق ؛ لأن غاية هذا أنه عام مخصوص ، فتبقى حجّة فيما عدا محل التخصيص ، وأيضا فأن يحمل اللفظ على المعنى الكامل أولى وأكمل أنواع التقوى تقوى الشرك ، فالحمل عليه أولى.

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٠٨) عن الحسن.

(٢) في أ : أراد.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣٠ / ٢٤٨) عن مقاتل والكلبي.

(٤) الفخر الرازي ٣٠ / ٢٤٩.

٨٥

وقال بعضهم : هذه الآية أيضا من جملة التهديد ، فإن الكفار في الدنيا يكون الموت عليهم أسهل من أن يكون للمؤمنين دولة ، فإذا رأوا عاقبة الفريقين في الآخرة تضاعف خسرانهم وندمهم ، ولما أوعد الكفار بظل ذي ثلاث شعب ، وعد المؤمنين بظلال وعيون وفواكه.

قوله : (فِي ظُلَلٍ). هذه قراءة العامة.

والأعمش والزهري وطلحة (١) والأعرج : «ظلل» جمع ظلة ، يعني في الجنة. وتقدم في «يونس» (٢) مثل لها.

قوله : (كُلُوا). معمولا لقول ذلك المنصوب على الحال من الضمير المستكن في الظرف ، أي كائنين في ظلال مقولا لهم : وكذلك كلوا وتمتعوا قليلا ، فإن كان ذلك مقولا لهم في الدنيا فواضح ، وإن كان مقولا في الآخرة فيكون تذكيرا بحالهم ، أي حقا بأن يقال لهم في دنياهم كذا ؛ ومثله قوله : [المديد]

٥٠٦٦ ـ إخوتي لا تبعدوا أبدا

وبلى ، والله قد بعدوا (٣)

أي هم أهل إن دعا لهم بذلك.

قوله (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). أي : نثيب الذين أحسنوا في تصديقهم بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأعمالهم في الدنيا.

فصل في الكلام على الآية

اختلفوا في قوله (كُلُوا وَاشْرَبُوا) هل هو أمر أو إذن؟.

فقال أبو هاشم : هو أمر ، وأراد الله تعالى منهم الأكل والشرب لأن سرورهم يعظم بذلك إذا علموا أن الله تعالى أراده منهم جزاء على عملهم ، فكما يريد إجلالهم وإعظامهم بذلك ، فكذلك يريد نفس الأكل والشرب منهم. وقال أبو علي : ليس بأمر وإنما يقوله على وجه الإكرام ، والأمر والنهي إنما يحصلان في زمان التكليف لا في الآخرة.

فصل فيمن قال : العمل يوجب الثواب

تمسّك من قال : العمل يوجب الثواب بالباء في قوله : (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

قال ابن الخطيب (٤) : وهذا ضعيف ؛ لأن الباء للإلصاق ، ولمّا جعل هذا العمل

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٢٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٠.

(٢) آية ٥٦.

(٣) البيت لفاطمة بنت الأحجم الخزاعية. ينظر الحماسة ١ / ٣٨٣ ، والمغني ١ / ٢١٠ ، والكشاف ٤ / ٦٨٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٠.

(٤) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٢٤٩.

٨٦

علامة لهذا الثواب كان الإتيان بذلك كالآلة والصلة إلى تحصيل ذلك الثواب ، وقوله تعالى : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) المقصود منه تذكير الكفار بما فاتهم من النعيم العظيم ليعلموا أنهم لو كانوا من المتقين المحسنين لفازوا بمثل تلك الخيرات ، فلما لم يفعلوا وقعوا فيما وقعوا فيه.

قوله تعالى : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) هذا مردود إلى ما تقدم قبل المتقين وهو وعيد وتهديد ، وهو حال من المكذبين ، أي : الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم : (كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ) أي كافرون.

وقيل : مكتسبون فعلا يضركم في الآخرة من الشرك ، فكأنه ـ تعالى ـ يقول للكافر : إنك في الدنيا عرضت نفسك لهذه الآفات التي وصفناها لمحبتك الدنيا ، ورغبتك في طيباتها ، إلا أن طيباتها قليلة بالنسبة إلى تلك الآفات العظيمة ، فالمشتغل بتعظيمها يجري مجرى لقمة واحدة من الحلوى ، وفيها السم المهلك ، فإنه يقال لآكلها تذكيرا له ونصحا : كل هذا ، وويل لك منه بعد ؛ فإنك من الهالكين بسببه ، فهذا وإن كان في اللفظ أمر إلا أنه في المعنى نهي بليغ وزجر عظيم.

قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) وهذا نوع آخر من أنواع تخويف الكفار ، أي : إذا قيل لهؤلاء المشركين : «اركعوا» أي : صلوا «لا يركعون» أي : لا يصلون. قاله مجاهد (١).

قال مقاتل : نزلت في ثقيف ، حين امتنعوا من الصلاة فنزلت فيهم (٢).

قال مقاتل : قال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أسلموا وأمرهم بالصلاة ، فقالوا : لا ننحني ، فإنها مسبّة علينا فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا خير في دين ليس فيه ركوع ولا سجود» (٣).

وقال ابن عباس : إنما يقال لهم هذا في الآخرة حين يدعون إلى السجود (٤) فلا يستطيعون.

وقال قتادة : هذا في الدنيا (٥).

فصل في وجوب الركوع

قال ابن العربي : هذه الآية تدلّ على وجوب الركوع ، وكونه ركنا في الصلاة ، وقد انعقد الإجماع عليه.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٩٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٧) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٠٩).

(٣) أخرجه أبو داود (٢ / ١٧٨) كتاب الخراج والفيء والإمارة : باب ما جاء في خبر مكة رقم (٣٠٢٦) عن عثمان بن أبي العاص.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٠٩ ـ ١١٠).

(٥) ينظر المصدر السابق.

٨٧

وقال قوم : إن هذا إنما يكون في الآخرة ، وليست بدار تكليف فيتوجه فيها أمر يكون عليه ويل وعقاب ، وإنما يدعون إلى السجود كشفا لحال الناس في الدنيا ، فمن كان يسجد لله تمكن من السجود ، ومن كان يسجد رياء لغيره صار ظهره طبقا واحدا.

وقيل : إذا قيل لهم : اخضعوا للحق لا يخضعون ، فهي عامّة في الصلاة وغيرها ، وإنما ذكر الصلاة لأنها أصل الشرائع بعد التوحيد ، والأمر بالصلاة أمر بالإيمان لا يصح من غير إيمان.

فصل في المراد بالآية

حكى ابن الخطيب (١) عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن المراد بقوله : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) هو الصلوات ، قال : وهذا ظاهر ، لأن الركوع من أركانها فبين أن هؤلاء الكفار من صفتهم أنهم إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون ، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة (٢) ، وأنهم حال كفرهم يستحقّون الذم والعقاب بترك الصلاة ، لأن الله ـ تعالى ـ ذمهم حال كفرهم على ترك الصلاة.

فصل في أن الأمر للوجوب

استدلوا بهذه الآية على أن الأمر للوجوب ، لأن الله ـ تعالى ـ ذمهم بمحمود ترك المأمور به ، وهذا يدل على أن مجرد الأمر للوجوب.

فإن قيل : إنما ذمهم لكفرهم.

فالجواب : أنه ـ تعالى ـ ذمهم على كفرهم من وجوه ، إلا أنه ـ تعالى ـ إنما ذمهم في هذه الآية لترك المأمور به ؛ فدل على أن ترك المأمور به غير جائز.

قوله : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ). متعلق بقوله : (يُؤْمِنُونَ).

والعامة : على الغيبة ، وقرأ ابن عامر في رواية ويعقوب (٣) : بالخطاب على الالتفات ، أو على الانفصال.

فصل في الكلام على الآية

قال ابن الخطيب (٤) : اعلم أنه تعالى لما بالغ في زجر الكفار من أول هذه السورة إلى اخرها في الوجوه العشرة المذكورة ، وحثّ على التمسّك بالنظر والاستدلال ، والانقياد للدين الحق ، ختم السورة بالتعجّب من الكفار ، وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بهذه

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٢٥٠.

(٢) في أ : الشرائع.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٢٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٠.

(٤) الفخر الرازي ٣٠ / ٢٥٠.

٨٨

الدلائل العقلية (١) بعد تجليتها ووضوحها ، (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ).

قال القاضي : هذه الآية تدلّ على أن القرآن محدث ؛ لأن الله ـ تعالى ـ وصفه بأنه حديث ، والحديث ضد القديم ، والضدان لا يجتمعان ، فإذا كان حديثا وجب ألّا يكون قديما.

وأجيب : بأن المراد منه هذه الألفاظ ، ولا نزاع في أنها محدثة.

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة «المرسلات» كتب أنّه ليس من المشركين» (٢).

__________________

(١) في أ : اللطيفة.

(٢) تقدم تخريجه.

٨٩

سورة النبأ

مكية ، وهي أربعون أو إحدى وأربعون آية ، ومائة وثلاثة وسبعون كلمة ، وسبعمائة وسبعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ (١) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (٢) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)(٣)

قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) قد تقدم أن البزي يدخل هاء (١) السكت عوضا من ألف «ما» الاستفهامية في الوقف.

ونقل عن ابن كثير (٢) أنه يقرأ «عمه» ـ بالهاء ـ وصلا ، أجرى الوصل مجرى الوقف.

وقرأ عبد الله ، وأبي ، وعكرمة وعيسى (٣) : «عمّا» بإثبات الألف ، وقد تقدم أنه يجوز ضرورة وفي قليل من الكلام ؛ ومنه قوله : [الوافر]

٥٠٦٧ ـ على ما قام يشتمني لئيم

كخنزير تمرّغ في رماد (٤)

وتقدم أن الزمخشري جعل منه (بِما غَفَرَ لِي رَبِّي) [يس : ٢٧] في «يس» ، و «عم» فيه قولان :

أظهرهما (٥) : أنه متعلق ب «يتساءلون».

قال أبو إسحاق : الكلام تام في قوله : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) ، ثم كان مقتضى القول أن يجيب مجيب ، فيقول : يتساءلون عن النبأ العظيم فاقتضى إيجاز القرآن ، وبلاغته أن يبادر المحتجّ بالجواب الذي يقتضيه الحال والمجاورة اقتضاء بالحجة ، وإسراعا إلى موضع قطعهم.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٢٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٦١.

(٢) ينظر : السابق ، والكشاف ٤ / ٦٨٤.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٢٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٦١.

(٤) تقدم.

(٥) في أ : أحدهما.

٩٠

والثاني : أنه متعلق بفعل مقدر ، ويتعلق (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) بهذا الفعل الظاهر.

قال الزمخشري : «وعن ابن كثير : أنه قرأ «عمّه» بهاء السكت ، ولا يخلو إما أن يجري الوصل مجرى الوقف ، وإما أن يقف ، ويبتدىء ب (يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) على أن يضمر «يتساءلون» ؛ لأن ما بعده يفسره كشيء مبهم ثم يفسر».

فصل في لفظ عم

قال ابن الخطيب (١) : «عم» أصله : «عن ما» ؛ لأنه حرف جر دخل على «ما» الاستفهامية.

قال حسان بن ثابت : [الوافر]

٥٠٦٨ ـ على ما قام يشتمني لئيم

 .......... (٢)

والاستعمال الكثير على الحذف ، وعلى الأصل قليل ، وذكروا في سبب الحذف وجوها :

أحدها : قال الزجاج : لأن الميم تشرك النون في الغنّة في الأنف فصارا كالحرفين المتماثلين.

وثانيها : قال الجرجاني : أنهم إذا وضعوها في استفهام حذفوا ألفها تفرقة بينها وبين أن يكون اسما ، كقولهم : فيم ولم وبم وحتام.

وثالثها : قالوا : حذفت الألف لاتصال «ما» بحرف الجر حتى صارت كالجزء منه لينبىء عن شدة الاتصال.

ورابعها : حذف للتخفيف في الكلام ، فإنه لفظ كثير التّرداد على اللسان.

فصل في أن السائل والمجيب هو الله تعالى

قال ابن الخطيب (٣) : قوله تعالى (عَمَّ يَتَساءَلُونَ) سؤال ، وقوله : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) جواب ، والسائل والمجيب هو الله تعالى ، وذلك يدلّ على علمه بالغيب ، بل بجميع المعلومات ، وفائدة ذكره في معرض السؤال والجواب ؛ لأنه أقرب إلى التفهيم والإيضاح ، ونظيره قوله تعالى : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) [غافر : ١٦].

فصل في لفظ ما

«ما» لفظة وضعت لطلب ماهيّات الأشياء ، وحقائقها ، تقول : ما الملك؟ وما

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٣.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ٣.

٩١

الروح؟ وما الجن؟ والمراد طلب ماهياتها ، وشرح حقائقها ، وذلك يقتضي كون ذلك المطلوب مجهولا ، ثم إنّ الشيء العظيم الذي يكون لفظه مزيّة يعجز العقل عن أن يحيط بكنهه كأنه مجهول ، فحصل بين الشيء المطلوب ، وبين الشيء العظيم مشابهة من هذا الوجه ، فلذلك سئل عنه بما استعارة ، وكأنه مجهول ، ومنه (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ، ٢] ، (وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ) [المطففين : ٨] ، و (مَا الْعَقَبَةُ) [البلد : ١٢] وشبهه.

فصل

قال الفراء : السؤال هو أن يسأل بعضهم بعضا كالتقابل ، وقد يستعمل أيضا في أن يتحدثوا به ، وإن لم يكن بينهم سؤال ، قال تعالى : (فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ) [الصافات : ٥٠ ، ٥١] الآية ، وهذا يدل على التحدث.

فصل في نزول الآية

والضمير في (يَتَساءَلُونَ) ل «قريش».

روى أبو صالح عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : كانت قريش تجلس لمّا نزل القرآن ، فتتحدث فيما بينهم ، فمنهم المصدق ، ومنهم المكذب به ، فنزلت (عَمَّ يَتَساءَلُونَ)(١).

وقيل : «عم» قسم ، فشدد المشركون أين يختصمون ، بدليل قوله تعالى : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) وهذا تهديد ، والتهديد لا يليق إلا بالكفار.

فإن قيل : فما تصنع بقوله : (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) مع أنّ الكفّار كانوا متفقين في إنكار الحشر؟ فالجواب : لا نسلم اتفاقهم في إنكار الحشر ؛ لأن منهم من كان يثبت المعاد الروحاني ، وهم جمهور النصارى ، وأما المعاد الجسماني ، فمنهم من كان شاكّا فيه لقوله : (وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً) [فصلت : ٥٠] (وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى) [فصلت : ٥٠].

ومنهم من ينكره ، ويقول : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ) [الأنعام : ٢٩].

ومنهم من يقرّ به لكنه ينكر نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد حصل اختلافهم.

وأيضا فهب أنّهم كانوا منكرين له ، لكن لعل اختلافهم في كيفية إنكاره ، فمنهم من أنكر ؛ لإنكاره الصانع المختار ، ومنهم من ينكره ؛ لاعتقاده أنّ إعادة المعدوم ممتنعة لذاتها ، والقادر المختار إنما يكون قادرا على الممكن في نفسه.

وقيل : الضمير في «يتساءلون» هم الكفّار والمؤمنون كانوا جميعا يتساءلون عنه ،

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١١١) من طريق أبي صالح عن ابن عباس.

٩٢

فأما المسلم فيزداد يقينا وبصيرة في دينه ، وأمّا الكافر فاستهزاء وسخرية ، وعلى سبيل إيراد الشكوك ، والشّبهات.

قال ابن الخطيب (١) : ويحتمل أنهم يسألون الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقولون : ما هذا الذي تعدنا به من أمر الآخرة؟.

قوله : (عَنِ النَّبَإِ) يجوز فيه ما جاء في قوله تعالى : (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) في البدليّة ، والتعلّق بفعل مقدر ، ويزيد عليه هاهنا أنّه يتعلق بالفعل الظاهر ، ويتعلق ما قبله بمضمر كما تقدم عن الزمخشري.

وقال ابن عطية : قال أكثر النحاة : (عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) يتعلق ب «يتساءلون» الظاهر كأنه قال : لم يتساءلون عن النبأ ، وقوله : «عمّ» هو استفهام توبيخ وتعظيم.

وقال المهدوي : «عن» ليس تتعلق ب «يتساءلون» الذي في التلاوة ؛ لأنه كان يلزم دخول حرف الاستفهام ، فيكون «أعن النبأ العظيم»؟ كقولك : كم مالك أثلاثون أم أربعون؟ فوجب لما ذكرنا امتناع تعلقه ب «يتساءلون» الذي في التلاوة ، وإنما يتعلق ب «يتساءلون» آخر مضمر ، وحسن ذلك لتقدم «يتساءلون».

قال القرطبي (٢) : «وذكر بعضهم أن الاستفهام في قوله : «عن» مكرر إلا أنّه مضمر كأنه قال : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ) ، فعلى هذا يكون متصلا بالآية الأولى ، والنبأ العظيم ، أي : الخبر الكبير ، (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) أي : يخالف فيه بعضهم بعضا فيصدق واحد ويكذب آخر».

قوله : (مُخْتَلِفُونَ) خبر «هم» والجار متعلق ب «هم» ، والموصول يحتمل الحركات الثلاث إتباعا وقطعا رفعا ونصبا.

فصل في المراد بهذا النبأ

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ «النّبأ» هو القرآن (٣) ، قال تعالى : (قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ) ، فالقرآن نبأ وخبر وقصص ، وهو نبأ عظيم ، وكانوا يختلفون فيه ، فجعله بعضهم سحرا ، وبعضهم شعرا ، وبعضهم قال : أساطير الأولين.

وقال قتادة : هو البعث بعد الموت اختلفوا فيه ، فمصدّق ومكذّب ، ويدل عليه قوله تعالى: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً)(٤) [النبأ : ١٧].

__________________

(١) الفخر الرازي : ٣١ / ٤.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١١١.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٨) ، وعزاه إلى ابن مردويه عن ابن عباس.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٩٦) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٨) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

٩٣

وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه لما بعث سأله اليهود عن أشياء كثيرة ، فأخبره الله باختلافهم ، وأيضا فجعل الكفار يتساءلون فيما بينهم ، ما هذا الذي حدث؟ فأنزل الله ـ تعالى ـ «عمّ يتساءلون» وذلك أنّهم عجبوا من إرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال تعالى : (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) [ق : ٢] ، وعجبوا أن جاءهم بالتوحيد أيضا كما قال تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥] ، فحكى الله ـ تعالى ـ عن مسألة بعضهم بعضا على سبيل التعجب بقوله : «عم يتساءلون».

قوله تعالى : (كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٤) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (٥) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (٨) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (٩) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (١٠) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (١١) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (١٢) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (١٣) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (١٤) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (١٥) وَجَنَّاتٍ أَلْفافا)(١٦)

قوله : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) ؛ التكرار للتوكيد.

وزعم ابن مالك : أنّه من باب التوكيد اللفظي ، ولا يضر توسّط حرف العطف ، والنحويون يأبون هذا ، ولا يسمونه إلا عطفا وإن أفاد التأكيد ، والعامة : على الغيبة في الفعلين.

والحسن وابن دينار (١) وابن عامر بخلاف عنه بتاء الخطاب فيهما.

والضحاك (٢) : قرأ الأول كالحسن ، والثاني كالعامة. والغيبة والخطاب واضحان.

فصل في لفظ كلا

قال القفال (٣) : «كلا» لفظة وضعت للردع ، والمعنى : ليس الأمر كما يقوله هؤلاء في النبأ العظيم ، إنه باطل ، وإنه لا يكون.

وقيل : معناه : حقّا ، ثم إنه ـ تعالى ـ كرر ذلك الردع والتهديد ، فقال سبحانه (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) وهو وعيد بأنهم سوف يعلمون أنّ ما يتساءلون عنه ويضحكون منه حق لا دافع له ، وأما تكرير الردع ، فقيل : للتأكيد ، ومعنى «ثمّ» الإشعار بأن الوعيد الثاني أبلغ من الوعيد الأول وأشد.

وقيل : ليس بتكرير.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٢٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٢ ، وينظر الحجة ٦ / ٤٦٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٠٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٢.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٥.

٩٤

قال الضحاك : الأولى للكفار ، والثانية للمؤمنين أي : سيعلم الكفار عاقبة تكذيبهم ، وسيعلم المؤمنون عاقبة تصديقهم (١).

وقال القاضي : يحتمل أن يريد بالأول سيعلمون معنى العذاب إذا شاهدوه ، وبالثاني : سيعلمون العذاب.

وقيل : (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) ما الله فاعل بهم يوم القيامة (ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) أنّ الأمر ليس كما كانوا يتوهّمون من أن الله غير باعث لهم.

قوله : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) لمّا حكى الله ـ تعالى ـ عنهم إنكار البعث والحشر ، وأراد إقامة الدلائل على صحة الحشر قدم لذلك مقدمة في بيان كونه ـ تعالى ـ قادرا على جميع الممكنات عالما بجميع المعلومات ؛ لأنه إذا ثبت هذان الأصلان ثبت القول بصحة البعث ، فأثبت هذين الأصلين بأن عدّد أنواعا من مخلوقاته المتقنة المحكمة ؛ فإنّ هذه الأشياء من جهة حدوثها تدل على القدرة ، ومن جهة إحكامها وإتقانها تدل على العلم ، وإذا ثبت هذان الأصلان ، وثبت أن الأجسام متساوية في قبول الصفات والأعراض ثبت لا محالة كونه قادرا على تخريب الدنيا بسمواتها وكواكبها وأرضها ، وعلى إيجاد عالم الآخرة ، فهذا وجه النظم.

قوله : «مهادا». مفعول ثان ؛ لأنّ الجعل بمعنى التصيير ، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق ، فتكون «مهادا» حالا مقدرة.

وقرأ العامة : «مهادا».

ومجاهد وعيسى (٢) وبعض الكوفين «مهدا» ، وتقدمت هاتان القراءتان في سورة «طه» ، وأن الكوفيين قرأوا «مهدا» في «طه» و «الزخرف» فقط ، وتقدم الفرق بينهما ثمّة.

قوله تعالى : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) ، والكلام عليها كالكلام في «مهادا» في المفعوليّة والحاليّة ، ولا بدّ من تأويلها بمشتق أيضا ، أي مثبتات.

والمهاد : الوطاء ، وهو الفراش ، لقوله تعالى : (جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) [البقرة : ٢٢] ، ومعنى «مهدا» أي : كمهد الصّبي ، وهو ما يمهد للصبي فينوّم عليه ، و «أوتادا» أي: لتسكن ولا تميل بأهلها.

قوله : (وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً). أي : أصنافا ، ذكرا وأنثى.

وقيل : ألوانا.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٩٧) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٩) ، عن الضحاك.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٢٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٢.

٩٥

وقيل : يدخل كل زوج بهيج ، وقبيح ، وحسن ، وطويل وقصير ، لتختلف الأحوال ، فيقع الاعتبار.

قوله : (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) الظاهر أنّه مفعول ثان ، ومعناه : راحة لأبدانكم ، ومنه السبت أي : يوم الراحة ، أي : قيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم ، ولا تعملوا فيه شيئا.

وأنكر ابن الأنباري هذا ، وقال : لا يقال للراحة : سباتا.

وقيل : أصله التمدّد ، يقال : سبتت المرأة شعرها : إذا حلّته وأرسلته ، فالسّبات كالمد ، ورجل مسبوت الخلق : أي ممدود ، وإذا أراد الرجل أن يستريح تمدد ، فسميت الراحة سبتا.

وقيل : أصله القطع ، يقال : سبت شعره سبتا ، أي : حلقه ، وكأنه إذا نام انقطع عن الناس ، وعن الاشتغال ، فالسّبات يشبه الموت ، إلا أنه لم تفارقه الروح ، ويقال : سير سبت ، أي سهل ليّن.

قوله : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً). فيه استعارة حسنة ؛ وعليه قول المتنبي : [الطويل]

٥٠٦٩ ـ وكم لظلام اللّيل عندك من يد

تخبّر أنّ المانويّة تكذب (١)

والمعنى : يلبسكم ظلمته وتغشاكم. قاله الطبري ، قال القفال (٢) : أصل اللباس هو الشيء الذي يلبسه الإنسان ، ويتغطّى به ، فيكون ذلك مغطّيا ، فلمّا كان الليل يغشى الناس بظلمته جعل لباسا لهم ، فهلذا سمي الليل لباسا على وجه المجاز ، ووجه النعمة في ذلك هو أنّ ظلمة الليل تستر الإنسان عن العيون إذا أراد هربا من عدو ، أو إخفاء ما لا يجب اطّلاع غيره عليه.

وقال ابن جبير والسدي : أي : أسكنّاكم.

قوله : (وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً). فيه إضمار ، أي : وقت معاش ، فيكون مفعولا ، وظرفا للتبعيض ، أي : منصرفا لطلب المعاش ، وهو كل ما يعاش به من المطعم ، والمشرب وغير ذلك ، ف «معاشا» على هذا اسم زمان ليكون الثاني هو الأول ، ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى العيش على تقدير حذف مضاف ، يقال : عاش يعيش عيشا ومعاشا ومعيشة ، ومعنى كون النهار معيشة أن الخلق إنما يمكنهم التقلب في حوائجهم ومكاسبهم في النهار.

قوله تعالى : (وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً). أي : سبع سماوات محكمات ، أي : محكمة الخلق وثيقة البنيان.

__________________

(١) ينظر ديوانه ٢ / ٢٢٩ ، والكشاف ٤ / ٦٨٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٢.

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ٧.

٩٦

وشدادا : جمع شديدة ، أي : قوية لا يؤثّر فيها مرور الأزمان (١) لا فطور فيها ولا فروج ، ونظيره قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) [الأنبياء : ٣٢].

قوله تعالى : (وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً). أي : وقّادا ، وهو الشمس ، و «جعل» هنا بمعنى «خلق» ؛ لأنها تعدت لمفعول واحد ، والوهّاج : المضيء المتلألىء ، من قولهم : وهج الجوهر أي : تلألأ.

وقيل : الوهّاج : الذي له وهج ، يقال : وهج يوهج ، ك «وحل يوحل» ، «ووهج يهج» ك «وعد يعد» وهجا.

قال ابن عباس : وهّاجا : منيرا أي : متلألئا (٢).

قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ). يجوز في «من» أن تكون على بابها من ابتداء الغاية ، وأن تكون للسببية ، وتدل عليه قراءة عبد الله (٣) بن زيد وعكرمة وقتادة : «بالمعصرات» بالباء بدل «من» ، وهذا على الخلاف في «المعصرات» ما المراد بها ، فعن ابن عباس : أنها السّحاب ، وهو قول سفيان والربيع وأبي العالية والضحاك ، أي : السحاب التي تنعصر بالماء ، ولم تمطر بعد كالمرأة المعصر التي قد دنا حيضها ولم تحض ، يقال : أعصرت السّحاب ، أي : جاء وقت أن يعصرها الرياح فتمطر ، كقولك : أجز الزرع ، إذا جاز له أن يجز ؛ وأنشد ابن قتيبة لأبي النّجم : [الرجز]

٥٠٧٠ ـ تمشي الهوينى مائلا خمارها

قد أعصرت وقد دنا إعصارها (٤)

ولو لا تأويل «أعصرت» بذلك لكان ينبغي أن تكون «المعصرات» ـ بفتح الصّاد ـ اسم مفعول ؛ لأن الرياح تعصرها.

وقال الزمخشري : «وقرأ عكرمة : «بالمعصرات».

وفيه وجهان :

أحدهما : أن تراد الرياح التي حان لها أن تعصر السحاب ، وأن تراد السحائب ؛ لأنه إذا كان الإنزال منها ، فهو بها كما تقول : أعطى من يده درهما ، وأعطى بيده.

وعن ابن عباس ومجاهد : «المعصرات» الرياح ذوات الأعاصير كأنها تعصر السحاب.

__________________

(١) في ب : الزمان.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٩٨) ، عن ابن عباس بمعناه وعن مجاهد مثله.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٩٩) ، وعزاه إلى أبي الشيخ في «العظمة».

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٨٦ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٢٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٤.

(٤) يروى : «ساقطا خمارها» مكان «مائلا خمارها».

وقد نسب البيت إلى منظور بن مرثد الأسدي. ينظر ديوان الحماسة للمرزوقي ٣ / ١٧٢ ، وسمط اللآلىء ٢ / ٦٨٤ ، واللسان (عصر) ، والدر المصون ٦ / ٤٦٢ ، والقرطبي ١٩ / ١١٣.

٩٧

وعن الحسن وقتادة : هي السماوات وتأويله : أن الماء ينزل من السماء إلى السّحاب ، وكأنّ السماوات يعصرن ، أي : يحملن على العصر ، ويمكن منه.

فإن قلت : فما وجه من قرأ «من المعصرات» وفسرها بالرياح ذوات الأعاصير ، والمطر لا ينزل من الرياح؟.

قلت : الرياح هي التي تنشىء السّحاب ، وتدرّ أخلافه ، فصحّ أن تجعل مبدأ للإنزال ، وقد جاء : إنّ الله تبارك وتعالى يبعث الرّياح فتحمل الماء من السّماء إلى السّحاب.

فإن صحّ ذلك فالإنزال منها ظاهر.

فإن قلت : ذكر ابن كيسان أنه جعل «المعصرات» بمعنى المغيثات ، والعاصر المغيث لا المعصر ، يقال : عصره فاعتصر.

قلت : وجهه أن يريد اللاتي أعصرت ، أي : حان لها أن تعصر ، أي : تغيث.

يعني أن «عصر» بمعنى الإغاثة : ثلاثي ، فكيف قال هنا : «معصرات» بهذا المعنى وهو من الرباعي؟.

فأجابه عنه بما تقدم ، يعني : أن الهمزة بمعنى الدخول في الشيء.

قال القرطبي (١) : «ويجوز أن تكون الأقوال واحدة ، ويكون المعنى : وأنزلنا من ذوات الرياح المعصرات (ماءً ثَجَّاجاً) ، وأصح الأقوال أن المعصرات : السحاب ، كذا المعروف أن الغيث منها ، ولو كان «بالمعصرات» لكان الريح أولى».

وفي «الصّحاح» (٢) : والمعصرات : السحائب تعصر بالمطر ، وأعصر القوم أي : مطروا ، ومنه قراءة بعضهم : «وفيه تعصرون» [يوسف : ٤٩] ، والمعصر : الجارية التي فربت سنّ البلوغ ، والمعصر : السحابة التي حان لها أن تمطر ، فقد أعصرت ، ومنه «العصر» ـ بالتحريك ـ للملجأ الذي يلجأ إليه ، والعصر ـ بالضم ـ أيضا : الملجأ ؛ وأنشد أبو زيد : [الخفيف]

٥٠٧١ ـ صاديا يستغيث غير مغاث

ولقد كان عصرة المنجود (٣)

قوله : (ماءً ثَجَّاجاً). الثّجّ : الانصباب بكثرة وبشدة.

وفي الحديث : «أحبّ العمل إلى الله العجّ والثّجّ» (٤).

فالعجّ : رفع الصوت بالتلبية.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١١٣.

(٢) ينظر : الصحاح ٢ / ٧٥٠.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

٩٨

والثّجّ : إراقة دماء حجج الهدي ، يقال : ثجّ الماء بنفسه ، أي : انصبّ ، وثججته أنا : أي : صببته ثجّا وثجوجا ، فيكون لازما ومتعديا ؛ وقال الشاعر : [الطويل]

٥٠٧٢ ـ إذا رجفت فيها رحا مرجحنّة

تبعّق ثجّاجا غزير الحوافل (١)

وقرأ الأعمش (٢) : «ثجّاحا» ـ بالحاء المهملة ـ أخيرا.

قال الزمخشريّ : «ومثاجح الماء : مصابّه ، والماء يثجح في الوادي».

وكان ابن عبّاس مثجّا ، يعني : يثج الكلام ثجّا في خطبته.

قوله تعالى : (لِنُخْرِجَ بِهِ) أي : بذلك الماء «حبّا» كالحنطة والشعير وغير ذلك.

«ونباتا» من الإنبات ، وهو ما تأكله الدواب من الحشيش.

«وجنّات» أي : بساتين «ألفافا» أي : ملتفّا بعضها ببعض كتشعيب أعضائها.

وفي الألفاف وجوه :

أحدها : أنه لا واحد له.

قال الزمخشريّ : «ألفافا» : ملتفّة ، ولا واحد له ك «الأوزاع» والأخياف.

والثاني : أنّه جمع «لفّ» ـ بكسر اللام ـ فيكون نحو : «سرّ وأسرار» ؛ وأنشد أبو عليّ الطوسيّ : [الرمل]

٥٠٧٣ ـ جنّة لفّ وعيش مغدق

وندامى كلّهم بيض زهر (٣)

وهذا قول أكثر أهل اللغة ، ذكره الكسائي.

الثالث : أنه جمع «لفيف». قاله الكسائي ، وأبو عبيدة ك «شريف» و «أشراف» ، و «شهيد» و «أشهاد» ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٥٠٧٤ ـ أحابيش ألفاف تباين فرعهم

وحزمهم عن نسبة المتعرف (٤)

الرابع : أنّه جمع الجمع ، وذلك أنّ الأصل : «لفّ» في المذكر ، و «لفّاء» في المؤنث ك «أحمر

وحمراء» ، ثمّ جمع «لف» على «ألفاف» إذ صار «لف» زنة «فعل» جمع جمعه قاله ابن قتيبة.

إلا أنّ الزمخشري قال : وما أظنه واجدا له نظيرا من نحو : «خضر وأخضار ، وحمر وأحمار».

__________________

(١) ينظر اللسان (وجف) ، (رجحن) ، و(حول) ، والبحر ٨ / ٤٠٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٣.

(٢) وقرأ بها الأعرج ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٠٤ ، والكشاف ٤ / ٦٨٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٣.

(٣) ينظر الكشاف ٤ / ٦٨٧ ، والقرطبي ١٩ / ١١٤ ، والبحر ٨ / ٤٠٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٣.

(٤) ينظر الدر المصون ٦ / ٤٦٣.

٩٩

قال شهاب الدين (١) : كأنه يستبعد هذا القول من حيث إنّ نظائره لا تجمع على «أفعال» إذ لا يقال : «خضر ولا حمر» ، وإن كانا جمعين ل «أحمر وحمراء ، وأخضر وخضراء» ، وهذا غير لازم ؛ لأن جمع الجمع لا ينقاس ، ويكفي أن يكون له نظير في المفردات ، كما رأيت من أن «لفّاء» صار يضارع «فعلاء» ، ولهذا امتنعوا من تكسير «مفاعل ومفاعيل» لعدم نظيره في المفردات يحملان عليه.

الخامس : قال الزمخشريّ : «ولو قيل : هو جمع : «ملتفّة» بتقدير حذف الزوائد لكان قولا وجيها».

وهذا تكلّف لا حاجة إليه.

وأيضا : فغالب عبارات النحاة في حذف الزوائد إنما هو في التصغير ، يقولون : تصغير الترخيم بحذف الزوائد ، وفي المصادر يقولون : هذا المصدر على حذف الزوائد.

قال القرطبي (٢) : ويقال : شجرة لفّاء ، وشجر لفّ ، وامرأة لفّاء : أي : غليظة السّاق مجتمعة اللحم.

وقيل : التقدير : ونخرج به جنّات ألفافا ، ثم حذف لدلالة الكلام عليه.

قوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (١٧) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (١٨) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (١٩) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً)(٢٠)

قوله تعالى : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً). أي : وقتا ومجمعا وميعادا للأولين والآخرين ؛ لما وعد الله الجزاء والثواب ، وسمّي يوم الفصل ؛ لأنّ الله ـ تعالى ـ يفصل فيه بين خلقه.

قوله : (يَوْمَ يُنْفَخُ). يجوز أن يكون بدلا من «يوم الفصل» ، أو عطف بيان له ، أو منصوبا بإضمار «أعني».

و «أفواجا» حال من فاعل «تأتون».

وقرأ أبو عياض (٣) : «في الصّور» بفتح الواو وتقدم مثله.

فصل في النفخة الآخرة

هذا النفخ هو النفخة الأخيرة التي عندها يكون الحشر ، وهذا هو النفخ للأرواح.

وقيل : هو قرن ينفخ فيه للبعث.

__________________

(١) ينظر الدر المصون ٦ / ٤٦٣.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١١٤.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٢٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٠٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٦٤.

١٠٠