اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

٥٣٥٥ ـ علوته بحسام ثمّ قلت له

خذها حذيف فأنت السيّد الصّمد (١)

وقيل : الصمد : المصمت الذي لا جوف له.

ومنه قوله : [الطويل]

٥٣٥٦ ـ شهاب حروب لا تزال جياده

عوابس يعلكن الشّكيم المصمّدا (٢)

وقال أبيّ بن كعب رضي الله عنه : تفسيره ، من قوله تعالى : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) وهذا يشبه ما قالوه من تفسير الهلوع ، والأحسن في هذه الجملة أن تكون مستقلة بفائدة هذا الخبر ، ويجوز أن يكون «الصّمد» صفة ، والخبر في الجملة بعده ، كذا قيل ، وهو ضعيف من حيث السّياق ، فإن السياق يقتضي الاستقلال بأخبار عن كل جملة (٣).

قال القرطبي (٤) : [«لأنه ليس شيء إلا سيموت](٥) ، وليس شيء يموت إلا يورث».

قيل : الصمد : الدائم الباقي الذي لم يزل ، ولا يزال.

وقال أبو هريرة : إنه المستغني عن كل أحد ، والمحتاج إليه كل أحد (٦).

وقال السديّ : إنه المقصود في الرغائب ، والمستعان به في المصائب (٧).

[وقال الحسن بن الفضل : إنه الذي يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

وقال مقاتل : إنه الكامل الذي لا عيب فيه](٨).

قال القرطبيّ (٩) : والصحيح من هذه الأقوال ما شهد له الاشتقاق ، وهو القول الأول ، ذكره الخطابي.

فصل في لفظ أحد

قال ابن الخطيب (١٠) : ونكر لفظ أحد ، لأن الذي يعرفه الخلق من الموجودات محسوس ، وكل محسوس منقسم ، فأما ما لا ينقسم فلا يعرف ، وعرّف الصمد ؛ لأنه الذي يقصد إليه في الحوائج ، وذلك معلوم عند الخلق ، وقدم (لَمْ يَلِدْ) وإن كان العرف سبق ؛ لأنه الأهم ، وقوله تعالى : (وَلَمْ يُولَدْ) كالحجة على أنه لم يلد ، وجاء هنا (لَمْ يَلِدْ) ، وفي سورة «الإسراء» : (لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً) [الإسراء : ١١١] ، لأن من

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٢٠ / ١٦٧.

(٢) ينظر القرطبي ٢٠ / ١٦٨ ، والبحر ٨ / ٥٢٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٩.

(٣) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ١٦٧).

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٦٨.

(٥) في أ : كل شي يولد يموت.

(٦) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣٧٢) ، والقرطبي (٢٠ / ١٦٧).

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) سقط من : ب.

(٩) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٦٨.

(١٠) ينظر : الفخر الرازي ٣٢ / ١٦٧.

٥٦١

النصارى من يقول : عيسى ولد الله حقيقة ، ومنهم من يقول : إن الله اتخذه ولدا تشريفا ، فنفى الأمرين.

فصل في الرد على من أسقط «قل هو»

قال القرطبي (١) : وقد أسقط من هذه السورة من أبعده الله وأخزاه ، وجعل النار مقامه ومثواه ، وقرأ : «الله الواحد الصمد» والناس يستمعون ، فأسقط «قل هو» وزعم أنه ليس من القرآن ، وغير لفظ «أحد» ، وادّعى أن هذا هو الصواب ، والذي عليه الناس هو الباطل ، فأبطل معنى الآية ، لأن أهل التفسير قالوا : نزلت الآية جوابا لأهل الشرك ، لما قالوا لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : صف لنا ربّك أمن ذهب هو أم من نحاس أم من [صفر](٢)؟.

فقال الله تعالى ردا عليهم : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، ففي «هو» دلالة على موضع الرد ، ومكان الجواب ، فإذا سقط بطل معنى الآية ، وصح الافتراء على الله ـ عزوجل ـ والتكذيب لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وروى الترمذي عن أبيّ بن كعب : أن المشركين قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «انسب لنا ربك» فأنزل الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ)(٣) ، والصمد : الذي لم يلد ، ولم يولد ؛ لأنه ليس شيء يولد إلا سيموت ، وليس شيء يموت إلا سيورث ، وإن الله تعالى لا يموت ، ولا يورث.

وروى أبو العالية : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر آلهتهم ، فقالوا : انسب لنا ربك ، قال : فأتاه جبريل بهذه السورة : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ)(٤).

قال الترمذي : وهذا أصحّ.

قال القرطبيّ (٥) : «ففي هذا الحديث إثبات لفظ ، (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، وعن عكرمة نحوه» (٦).

وقال ابن عباس : «لم يلد» كما ولدت مريم ، و «لم يولد» كما ولد عيسى ، وعزيز ، وهو رد على النصارى ، وعلى من قال : عزيز ابن الله ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) فقدم خبر كان على اسمها ، لينساق أواخر الآي على نظم واحد (٧).

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٦٨.

(٢) في أ : حديد.

(٣) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٢١) ، كتاب التفسير ، باب : سورة الإخلاص حديث (٣٣٦٤) ، من طريق أبي سعد عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب به.

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٢١) ، رقم (٣٣٦٤) ، من طريق عبيد الله بن موسى عن أبي جعفر الرازي عن الربيع عن أبي العالية به ، قال الترمذي وهذا أصح.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٦٨.

(٦) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ١٦٨).

(٧) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣٧٢) ، والقرطبي (٢٠ / ١٦٧).

٥٦٢

فصل في الكلام على الآية

قال ابن الخطيب (١) : دل العقل على استحالة كونه تعالى ولدا ووالدا ، والأحديّة والصّمديّة يوجبان نفي كونه تعالى والدا ، أو مولودا ، وذكر بعدهما كما ذكر النتيجة بعد الدليل.

قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ). في نصب «كفوا» وجهان :

أحدهما : أنه خبر «يكون» و «أحد» اسمها و «له» متعلق بالخبر ، أي : ولم يكن كفوا له كما تقدم وقد رد المبرد على سيبويه بهذه الآية من حيث إنه يزعم أنه إذا تقدم الظّرف كان هو الخبر ، وهنا لم يجعله خبرا مع تقدمه.

وقد رد على المبرّد بوجهين :

أحدهما : أن سيبويه لم يحتم ذلك بل جوزه.

والثاني : أنا لا نسلم أنّ الظرف هنا ليس بخبر ، بل هو خبر ، ونصب «كفوا» على الحال ، على ما سيأتي بيانه.

وقال الزمخشري (٢) : الكلام العربي الفصيح ، أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم ، وقد نص سيبويه في كتابه على ذلك ، فما باله مقدما في أفصح كلام وأعربه؟

قلت : هذا الكلام إنما سيق لنفي المكافأة عن ذات الباري سبحانه ، وهذا المعنى مصبّه ومركزه هو هذا الظرف ، فكان لذلك أهم شيء وأعناه ، وأحقه بالتقديم وأحراه.

والثاني : أن ينصب على الحال من «أحد» ؛ لأنه كان صفة ، فلما تقدم عليه نصب حالا و «له» هو الخبر. قاله مكي ، وأبو البقاء (٣) ، وغيرهما.

ويجوز أن يكون حالا من الضمير المستكن في الجار لوقوعه خبرا.

قال أبو حيان بعد أن حكى كلام الزمخشري ومكي (٤) : وهذه الجملة ليست من هذا الباب ، وذلك أن قوله : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ليس الجار والمجرور فيه تامّا ، إنما هو ناقص ، لا يصلح أن يكون خبرا ل «كان» بل متعلق ب «كفوا» ، وتقدم على «كفوا» للاهتمام به ، إذ فيه ضمير الباري تعالى ، وتوسط الخبر وإن كان الأصل التأخير ؛ لأن تأخير الاسم هو فاصلة ، فحسن ذلك ، وعلى هذا الذي قررناه يبطل إعراب مكي وغيره ، أن «له» الخبر ، و «كفوا» حال من «أحد» لأنه ظرف ناقص ، ولا يصلح أن يكون خبرا ، وبذلك يبطل سؤال الزمخشري وجوابه ، وسيبويه إنما تكلم في الظرف الذي يصلح أن يكون خبرا ، ويصلح أن يكون غير خبر.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٢ / ١٦٨ ـ ١٦٩.

(٢) الكشاف ٤ / ٨١٨.

(٣) الإملاء ٢ / ٣٩٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٣٠.

٥٦٣

قال سيبويه : وتقول : ما كان فيها أحد خير منك ، وما كان أحد مثلك فيها ، وليس أحد فيها خير منك ، إذا جعلت «فيها» مستقرا ، ولم تجعله على قولك : فيها زيد قائم ، ثم أجريت الصفة على الاسم ، فإن جعلته على قولك : فيها زيد قائم ، نصبت ، تقول : ما كان فيها أحد خيرا منك ، وما كان أحد خيرا منك فيها ، إلا أنك إذا أردت الإلغاء ، فكلما أخرت الذي تلغيه كان أحسن ، وإذا أردت أن يكون مستقرا ، تكتفي به ، فكلما قدمته كان أحسن ، والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير ، قال تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

وقال الشاعر : [الرجز]

٥٣٥٧ ـ ما دام فيهنّ فصيل حيّا (١)

انتهى كلام سيبويه.

قال أبو حيّان (٢) : فأنت ترى كلامه ، وتمثيله بالظرف الذي لا يصلح أن يكون خبرا ، ومعنى قوله : «مستقرّا» أي : خبرا للمبتدأ ، ول «كان».

فإن قلت : قد مثل بالآية الكريمة.

قلت : هذا الذي أوقع مكيا والزمخشري وغيرهما فيما وقعوا فيه ، وإنما أراد سيبويه أن الظرف التام ، وهو في قوله : [الرجز]

٥٣٥٨ ـ ما دام فيهنّ فصيل حيّا (٣)

أجري فضلة ، لا خبرا ، كما أن «له» في الآية أجري فضلة ، فجعل الظرف القابل أن يكون خبرا كالظرف الناقص في كونه لم يستعمل خبرا ، ولا يشك من له ذهن صحيح أنه لا ينعقد كلام من قوله : «ولم يكن له أحد» بل لو تأخر «كفوا» وارتفع على الصفة وجعل «له» خبرا لم ينعقد منه كلام ، بل أنت ترى أن النفي لم يتسلط إلا على الخبر الذي هو «كفوا» و «له» متعلق به ، والمعنى : لم يكن له أحد مكافئه انتهى ما قاله أبو حيّان.

قال شهاب الدين (٤) : قوله : «ولا يشك» إلى آخره ، تهويل على الناظر ، وإلا

__________________

(١) البيت لابن ميادة وهو أحد ثلاثة أبيات هي :

لتقربنّ قربا جلذيّا

ما دام فيهنّ فصيل حيّا

فقد دجا الليل فهيا هيّا

ينظر ديوانه ص ٢٣٧ ، وخزانة الأدب ٤ / ٥٩ ، ٩ / ٢٧٢ ، ٢٧٣ ، ٢٧٤ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٦٦ ، وشرح المفصل ٤ / ٣٣ ، واللسان (جلذ) ، وسمط اللآلىء ص ٥٠١ ، والكتاب ١ / ٥٦ ، والمقتضب ٤ / ٩١ ، والدر المصون ٦ / ٥٩٠.

(٢) ينظر البحر المحيط ٨ / ٥٣١.

(٣) تقدم.

(٤) الدر المصون ٦ / ٥٩٠.

٥٦٤

فقوله : «هذا الظرف ناقص» ممنوع ، لأن الظرف الناقص عبارة عما لم يكن في الإخبار به فائدة كالمقطوع عن الإضافة ونحوه ، وقد نقل سيبويه الأمثلة المتقدمة ، نحو : «ما كان فيها أحد خيرا منك» وما الفرق بين هذا ، وبين الآية الكريمة ، وكيف يقول هذا ، وقد قال سيبويه في آخر كلامه : «والتقديم والتأخير ، والإلغاء ، والاستقرار عربي جيد كثير».

فصل

قرأ العامة : «كفوا» بضم الكاف والفاء ، وقد سهل الهمزة الأعرج (١) ونافع في رواية ، وسكن الفاء حمزة وأبدل الهمزة واوا وقفا خاصة ، وأبدلها حفص واوا مطلقا ، والباقون بالهمزة مطلقا.

قال القرطبي : وتقدم في البقرة أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ، فإنه يجوز في عينه الضم والإسكان إلا قوله تعالى (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً)(٢).

وقرأ سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس (٣) رضي الله عنهم «كفاء» بالكسر والمد أي لا مثل له ، وأنشد للنابغة : [البسيط]

٥٣٥٩ ـ لا تقذفنّي بركن لا كفاء له

 .......... (٤)

وقرأ نافع في رواية : كفا بالكسر وفتح الفاء من غير مد كأنه نقل حركة الهمزة وحذفها.

والكفو النظير كقوله : هذا كفؤ لك : أي نظيرك ، والاسم الكفاءة بالفتح.

قال ابن الخطيب (٥) : والتحقيق أنه تعالى لما أثبت الأحديّة ، والصمديّة ، ونفى الوالدية ، والمولودية ختم السورة بأن شيئا من الموجودات يمتنع أن يساويه في شيء من صفات الجلال ، والعظمة لانفراده سبحانه ، وتعالى بوجوب الوجود لذاته.

فصل

روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يقول الله تعالى : كذّبني

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٣٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٣٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٩٠.

(٢) الذي في القرطبي ٢٠ / ١٦٨ : قوله تعالى : وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً [الزخرف : ١٥].

(٣) ينظر السابق.

(٤) صدر بيت وعجزه :

وإن تأثّفك الأعداء بالرّفد

ينظر الديوان ص ٢٦ ، والطبري ٣٠ / ٢٢٤ ، وإعراب القرآن ٥ / ٣١١ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٣٠ ، وفتح القدير ٥ / ٥٧٧.

(٥) ينظر الفخر الرازي ٣٢ / ١٦٩.

٥٦٥

ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس بأوّل الخلق وليس بأهون عليّ من إعادته ، وأمّا شتمه إيّاي ، فقوله : اتخذ الله ولدا ، وأنا الأحد الصّمد ، لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد» (١).

فصل في فضائل هذه السورة

روى البخاري عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا سمع رجلا يقرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) يرددها ، فلما أصبح جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكر ذلك له ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والّذي نفسي بيده ، إنّها لتعدل ثلث القرآن» (٢) لأن القرآن أنزل ثلاثا ؛ ثلثا : أحكام. وثلثا : وعد ووعيد. وثلثا : أسماء وصفات ، وجمعت هذه السورة أحد الأثلاث ، وهو الأسماء والصفات.

وروى مسلم عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث رجلا على سرية فكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم ، فيختم ب (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ، فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : «سلوه لأيّ شيء يصنع ذلك»؟ فسألوه : فقال : لأنّها صفة الرّحمن ، فأنا أحبّ أن أقرأ بها ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أخبروه أنّ الله تعالى يحبّه» (٣).

وروى الترمذي عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمع رجلا يقول : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وجبت» ، قلت : وما وجبت؟ قال : «الجنّة»(٤).

وروى أنس عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «من قرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) خمسين مرّة غفرت ذنوبه» (٥).

وروى سعيد بن المسيب ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) أحد عشرة مرّة بنى الله له قصرا في الجنّة ، ومن قرأها عشرين مرّة بنى الله له قصرين في الجنّة ، ومن قرأها ثلاثين مرّة ، بنى له بها ثلاثة قصور في الجنّة» ، فقال عمر بن الخطاب : والله يا رسول الله إذا لنكثّرنّ قصورنا ، فقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «الله أوسع من ذلك»(٦).

__________________

(١) تقدم تخريجه.

(٢) أخرجه البخاري ٨ / ٦٧٦ ، في فضائل القرآن : باب فضل «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» (٥٠١٣) ، (٦٦٤٣ ، ٧٣٧٤) ، وأخرجه مسلم ١ / ٥٥٦ ، في صلاة المسافرين : باب فضل «قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ» (٢٥٩ / ٨١١ ، ٨١٢).

(٣) أخرجه البخاري ٨ / ٦٧٨ ، في كتاب فضائل القرآن ، باب : فضل المعوذات (٥٠١٧).

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ١٥٤) ، كتاب فضائل القرآن ، باب : ما جاء في سورة الإخلاص رقم (٢٨٩٧) ، من حديث أبي هريرة وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

(٥) أخرجه الدارمي (٢ / ٤٦١) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧٠٦) ، وعزاه إلى أبي يعلى ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧٠٩) ، وعزاه إلى أبي الشيخ عن ابن عمر وله شاهد من ـ

٥٦٦

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) في مرضه الّذي يموت فيه لم يفتن في قبره ، وأمن من ضغطة القبر ، وحملته الملائكة يوم القيامة بأكفّها ، حتّى يجيز الصّراط إلى الجنّة»(١).

فصل في أسماء هذه السورة

في أسمائها : قال ابن الخطيب (٢) : سورة التفريد ، وسورة التجريد ، وسورة التوحيد ، وسورة الإخلاص ، وسورة النجاة ، وسورة الولاية ، وسورة النسبة ، لقولهم : انسب لنا ربّك ، وسورة المعرفة ، وسورة الجمال ، وسورة البراءة ؛ لأنها تبرىء من النفاق ، وسورة الأساس ، وسورة المحضر ؛ لأن الملائكة تحضر لسماعها ، وسورة المانعة ، والمنفرة ؛ لأنها تنفر الشيطان ، وسورة النور ، لأنها تنور القلب ، والله نور السموات والأرض. والله أعلم.

__________________

ـ حديث معاذ بن أنس ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٤٨) ، وقال : رواه الطبراني وأحمد وفي إسنادهما رشدين بن سعد وزبان وكلاهما ضعيف وفيهما توثيق لين.

(١) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٢ / ٢١٣) ، والطبراني في الأوسط كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٤٨ ـ ١٤٩). وقال الهيثمي : وفيه نصر بن حماد الوراق وهو متروك.

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣٢ / ١٦١.

٥٦٧

سورة الفلق

مكية في قول الحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، وجابر (١) ، ومدنية في قول ابن عبّاس ، وقتادة(٢) ، وهي خمس آيات ، وثلاث وعشرون كلمة ، وأربعة وسبعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ)(٥)

قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ). هذه السورة ، وسورة «النّاس» ، و «الإخلاص» نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين سحرته اليهود ، وزعم ابن مسعود أنهما دعاء ، وليستا من القرآن ، وخالف به الإجماع من الصحابة ، وأهل البيت.

قال ابن قتيبة : لم يكتب عبد الله بن مسعود في مصحفه المعوّذتين ؛ لأنه كان يسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعوذ الحسن والحسين بهما ، فقدر أنهما بمنزلة : «أعوذ بكلمات الله التّامّات من كلّ شيطان وهامّة ، ومن كلّ عين لامّة».

قال ابن الأنباري : وهذا مردود على ابن قتيبة ؛ لأن المعوذتين من كلام ربّ العالمين ؛ المعجز لجميع المخلوقين ، و «أعيذكما بكلمات الله التّامة» من قول البشر ، وكلام الخالق الذي هو آية ، وحجة لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على جميع الكافرين ، لا يلتبس بكلام الآدميين على مثل عبد الله بن مسعود ، الفصيح اللسان ، العالم باللغة العارف بأجناس الكلام.

وقال بعض الناس : لم يكتب عبد الله المعوذتين ؛ لأنه أمن عليهما من النسيان ، فأسقطهما وهو يحفظهما كما أسقط فاتحة الكتاب من مصحفه ، وما يشك في إتقانه ، وحفظه لهما ، ورد هذا القول على قائله ، واحتج عليه بأنه قد كتب : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) و (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وهن يجرين مجرى المعوذتين في أنهن غير طوال ، والحفظ إليهن أسرع ، والنسيان مأمون ، وكلهن يخالف فاتحة الكتاب ؛ إذ

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣٧٣).

(٢) ينظر المصدر السابق.

٥٦٨

الصلاة لا تتم إلا بقراءتها ، وسبيل كل ركعة أن تكون المقدمة فيها قبل ما يقرأ من بعدها ، فإسقاط فاتحة الكتاب من المصحف على معنى الثقة ببقاء حفظها ، والأمن من نسيانها ، صحيح ، وليس من السور في هذا المعنى مجراها ، ولا يسلك به طريقها.

فصل في تفسير السورة

تقدم الكلام على الاستعاذة ، و «الفلق» : هو الصبح ، وهو فعل بمعنى مفعول ، أي : مفلوق ، وفي الحديث : «الرّؤيا مثل فلق الصّبح».

قال الشاعر : [البسيط]

٥٣٦٠ ـ يا ليلة لم أنمها بتّ مرتفقا

أرعى النّجوم إلى أن نوّر الفلق (١)

وقال ذو الرمة يصف الثور الوحشي : [البسيط]

٥٣٦١ ـ حتّى إذا ما انجلى عن وجهه فلق

هاديه في أخريات اللّيل منتصب (٢)

يعني بالفلق هنا : الصبح بعينه.

وقيل : الفلق : الجبال ، والصخور ، تنفلق بالمياه ، أي : تتشقق وقيل : هو التفليق بين الجبال ، لأنها تنشق من خوف الله تعالى.

قال زهير : [البسيط]

٥٣٦٢ ـ ما زلت أرمقهم حتّى إذا هبطت

أيدي الرّكاب بهم من راكس فلقا (٣)

والراكس : بطن الوادي.

وكذلك هو في قول النابغة : [الطويل]

٥٣٦٣ ـ ..........

أتاني ودوني راكس فالضّواجع (٤)

والراكس أيضا : الهادي ، وهو الثور وسط البيدر تدور عليه الثيران في الدّياسة.

وقيل : الرحم تنفلق بالحيوان.

وقيل : إنه كل ما انفلق عن جميع ما خلق من الحيوان ، والصبح ، والحب ، والنوى وكل شيء من نبات وغيره. قاله الحسن وغيره.

__________________

(١) ينظر القرطبي ٢٠ / ١٧٤ ، والبحر ٨ / ٥٩١ ، والدر المصون ٦ / ٥٩١ ، وفتح القدير ٨ / ٥٣٢.

(٢) ينظر ديوان ذي الرمة ص ٩٢ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٤٠ ، واللسان (فرق) ، والقرطبي ٢٠ / ١٧٤ ، والبحر ٨ / ٥٣٣ ، والدر المصون ٦ / ١٧٤.

(٣) ينظر ديوانه ص ٣٧ ، ومعجم ما استعجم ١ / ٤٧ ، والقرطبي ٢٠ / ١٧٤.

(٤) عجز بيت وصدره :

وعيد أبي قابوس في غير كنهه

ينظر ديوان النابغة ص ٣٢ ، وسمط اللآلىء ١ / ٤٨٩ ، واللسان (ركس) ، والقرطبي ٢٠ / ١٧٤.

٥٦٩

قال الضحاك : الفلق : الخلق كله ، قال : [الرجز]

٥٣٦٤ ـ وسوس يدعو مخلصا ربّ الفلق

سرّا وقد أوّن تأوين العقق (١)

قال القرطبيّ (٢) : «وهذا القول يشهد له الاشتقاق ، فإن الفلق : الشّق ، يقال : فلقت الشيء فلقا ، أي : شققته ، والتفليق مثله ، يقال : فلقته فانفلق وتفلق ، فكل ما انفلق عن شيء من حيوان وصبح وحب ونوى وماء فهو فلق : قال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ) [الأنعام : ٩٦] ، وقال ـ عزوجل ـ : (فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى) [الأنعام : ٩].

[والفلق مقطرة السمّان ، فأما الفلق بالكسر فهو الداهية ، والأمر العجيب يقال منه : أفلق الرجل وافتلق ، وشاعر مفلق ، وقد جاء بالفلق ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٥٣٦٥ ـ واعجبا لهذه الفليقه

هل يذهبنّ القوباء الريقه

والفلق أيضا : القضيب يشق باثنين ، فيعمل منه قوسان ، يقال لكل منهما : فلق ، وقولهم: جاء بعلق فلق وهي الداهية ، يقال منه أعلقت وأفلقت. أي جئت بعلق فلق ، ومر يفتلق في عدوه أي بالعجب من شدته](٣).

قوله : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) ، متعلق ب «أعوذ» ، والعامة : على إضافة «شرّ» إلى «ما» ، وقرأ (٤) عمرو بن فايد : «من شرّ» بالتنوين.

وقال ابن عطية (٥) : وقرأ عمرو بن عبيد وبعض المعتزلة الذين يرون أن الله لم يخلق الشّر : «من شرّ» بالتنوين ، «ما خلق» على النفي وهي قراءة مردودة مبنية على مذهب باطل انتهى.

ولا يتعين أن تكون «ما» نافية ، بل يجوز أن تكون موصولة بدلا من «شرّ» على حذف مضاف ، أي : من شر شر ما خلق ، عمم أولا ، ثم خصص ثانيا.

وقال أبو البقاء (٦) : و «ما» على هذا بدل من «شر» ، أو زائدة ، ولا يجوز أن تكون نافية ؛ لأن النافية لا يتقدم عليها ما في حيزها ، فلذلك لم يجز أن يكون التقدير : ما خلق من شر ، ثم هو فاسد في المعنى. وهو رد حسن صناعي ، ولا يقال : إن «من شرّ» متعلق ب «أعوذ» وقد أنحى مكي على هذا القائل ، ورده بما تقدم.

و «ما» مصدرية ، أو بمعنى «الذي».

فصل في المقصود بشر ما خلق

روى عطاء عن ابن عباس : يريد إبليس خاصة ؛ لأن الله تعالى لم يخلق أشرّ منه ،

__________________

(١) البيتان لرؤبة بن العجاج. ينظر اللسان (أون) والقرطبي ٢٠ / ١٧٤.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٧٤.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٣٣ ، والدر المصون ٦ / ٥٩١.

(٥) المحرر الوجيز ٥ / ٥٣٨.

(٦) الإملاء ٢ / ٢٩٧.

٥٧٠

وأن السورة (١) إنما نزلت في الاستعاذة من السّحر ، وذلك إنّما يتم بإبليس وجنوده ، لعنهم الله (٢) ، وقيل : جهنم وما خلق فيها.

وقيل : عام ؛ أي من شر كل ما خلقه الله وقيل : ما خلق الله من الأمراض ، والأسقام [والقحط](٣) وأنواع المحن.

قال الجبائي والقاضي (٤) : هذا التقييد باطل ؛ لأن فعل الله ـ تعالى ـ لا يجوز أن يوصف بأنه شر ؛ لأن الذي أمر بالتعوذ منه هو الذي أمر به ، وذلك متناقض ؛ لأن أفعاله ـ تعالى ـ كلها حكمة وصواب ، فلا يجوز أن يقال : شرّ.

وأيضا : فلأن فعل الله لو كان شرّا ؛ لوصف فاعله بأنه شر ، وتعالى الله عن ذلك.

والجواب عن الأول : أنه لا امتناع في قوله : أعوذ بك منك ، كما رد عن الثاني أن الإنسان لما تألم وصف بالألم كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) [الشورى : ٤٠] ، وقوله تعالى : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) [البقرة : ١٩٤].

وعن الثالث : أن أسماء الله توقيفية لا اصطلاحية ، ومما يدل على جواز تسمية الأمراض والأسقام بأنها شرور قوله تعالى : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً) [المعارج : ٢٠].

قوله : (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) ، «إذا» منصوب ب «أعوذ» أي : أعوذ بالله من هذا في وقت كذا ، وكذا.

والغسق : هو أول ظلمة الليل ، يقال منه : غسق الليل يغسق ، أي : يظلم.

قال ابن قيس الرقيّات : [المديد]

٥٣٦٦ ـ إنّ هذا اللّيل قد غسقا

واشتكيت الهمّ والأرقا (٥)

وهذا قول ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم ، ووقب على هذا : أظلم (٦).

وقيل : نزل ، قال : وقب العذاب على الكافرين : نزل.

قال : [الكامل]

٥٣٦٧ ـ وقب العذاب عليهم فكأنّهم

لحقتهم نار السّموم فأحصدوا (٧)

__________________

(١) في أ : الآية.

(٢) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ١٧٥).

(٣) سقط من : ب.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣٢ / ١٧٧.

(٥) ينظر ذيل ديوان ابن الرقيّات ص ١٨٧ ، ومجاز القرآن ١ / ٣٩٨ ، واللسان (غسق) ، والقرطبي ٢٠ / ١٧٥).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٤٨ ، ـ ٧٤٩) ، عن ابن عباس والحسن.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧١٨) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٧) ينظر القرطبي ٢ / ١٧٥ ، والبحر ٨ / ٥٣٢ ، والدر المصون ٦ / ٥٩١ ، وفتح القدير ٥ / ٥٢٠.

٥٧١

وقال الزجاج : قيل لليل غاسق ، لأنه أبرد من النّهار ، والغاسق : البارد ، والغسق : البرد ، ولأنّ في الليل تخرج السّباع من آجامها ، والهوام من أماكنها ، وينبعث أهل الشرّ على العبث ، والفساد ، فاستعير من الليل.

قال الشاعر : [البسيط]

٥٣٦٨ ـ يا طيف هند لقد أبقيت لي أرقا

إذ جئتنا طارقا والليل قد غسقا (١)

أي : أظلم واعتكر ، وقيل : الغاسق : الثّريّا ، لأنها إذا سقطت كثرت الأسقام والطواعين ، وإذا طلعت ارتفع ذلك. قاله عبد الرحمن بن زيد.

وقال القتبي : القمر إذا وقب إذا دخل في ساهوره كالغلاف إذا خسف وكل شيء أسود فهو غسق.

وقال قتادة : «إذا وقب» : إذا غاب (٢).

قال القرطبي (٣) : وهو أصح ، لما روى الترمذي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم نظر إلى القمر ، فقال : «يا عائشة ، استعيذي بالله من شرّ هذا ، فإنّ هذا هو الغاسق إذا وقب» (٤) ، قال : هذا حديث حسن صحيح.

[وقيل : الغاسق : الحيّة إذا لدغت ، وكأن الغاسق نابها لأن السم يغسق منه أي : يسيل ، يقال : غسقت العين تغسق غسقا ، إذا سالت بالماء ، وسمي الليل غاسقا ، لانصباب ظلامه على الأرض ، ووقب نابها إذا قامت باللدغ](٥).

وقيل : الغاسق : كل هاجم يضر ، كائنا ما كان ، من قولهم : غسقت القرحة ، إذا جرى صديدها.

قال ابن الخطيب (٦) : وعندي فيه وجه آخر ، لو أنه صح ، أن [القمر في جرمه غير مستنير ، بل هو مظلم ، فهذا هو المراد من كونه غاسقا ، وأما وقوبه فهو انمحاء نوره في آخر] الشهر والمنجمون يقولون : إنه في آخر الشهر منحوس ، قليل القوة ؛ لأنه لا يزال نوره بسبب ذلك تزداد نحوسته ، فإن السحرة إنما يشتغلون في السحر الموروث ، للتمريض في هذا الوقت ، وهذا مناسب لسبب نزول السورة ، فإنها نزلت ؛ لأجل أنهم سحروا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأجل التمريض.

__________________

(١) ينظر القرطبي ٢٠ / ١٧٥ ، والبحر ٨ / ٥٣٣ ، والدر ٦ / ٥٩٢.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٧٥).

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٤٢١ ـ ٤٢٢) ، كتاب : التفسير ، باب : المعوذتين حديث (٣٣٦٦) ، من حديث عائشة. وقال الترمذي : حسن صحيح.

(٥) سقط من : ب.

(٦) الفخر الرازي ٣٢ / ١٧٨.

٥٧٢

قوله : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) ، النّفّاثات : جمع نفاثة ، مثال مبالغة من نفث ، أي : نفخ ، واختلف فيه.

فقال أبو الفضل : شبه النفخ من الفم بالرقية ، ولا شيء معه.

قال عنترة : [الوافر]

٥٣٦٩ ـ فإن يبرأ فلم أنفث عليه

وإن يفقد فحقّ له الفقود (١)

وقال الزمخشري (٢) : «النفخ مع ريق».

وقرأ الحسن (٣) : «النّفّاثات» بضم النون ، وهو اسم كالنفاثة. ويعقوب وعبد الرحمن بن سابط وعيسى بن عمر وعبد الله بن القاسم : «النافثات» ، وهي محتملة لقراءة العامة.

والحسن (٤) وأبو الربيع : «النفثات» دون ألف كحاذر وحذر ، ونكّر غاسقا وحاسدا ؛ لأنه قد يتخلف الضرر فيهما ؛ فإن التنكير للتبعيض ، وعرف النفاثات إما للعهد كما يروى في التفسير ، وإما للمبالغة في الشّر.

فصل في معنى النّفّاثات

قال المفسرون : يعني السّاحرات اللائي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين عليها.

قال أبو عبيدة : النفاثات هي بنات لبيد بن أعصم اليهودي سحرن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الشاعر : [المتقارب]

٥٣٧٠ ـ أعوذ بربّي من النّافثا

ت في عضه العاضه المعضه (٥)

وقال متمم بن نويرة : [السريع]

٥٣٧١ ـ نفثت في الخيط شبيه الرّقى

من خشية الجنّة والحاسد (٦)

فصل

روى النسائي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من عقد عقدة ثمّ نفث فيها ، فقد سحر ، ومن سحر فقد أشرك ، ومن تعلّق شيئا وكل إليه» (٧).

__________________

(١) ينظر ديوان عنترة (٤٢) ، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي ١ / ١٦٢ ، ومجاز القرآن والقرطبي ٢٠ / ١٧٦ ، والبحر ٨ / ٥٣٢ ، والدر المصون ٦ / ٥٩٢.

(٢) الكشاف ٤ / ٨٢١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٣٣ ، والدر المصون ٦ / ٥٩٢.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٣٣ ، والدر المصون ٦ / ٥٩٢.

(٥) ينظر القرطبي ٢٠ / ١٧٦.

(٦) ينظر القرطبي ٢٠ / ١٧٦.

(٧) أخرجه النسائي (٧ / ١١٢) ، من حديث أبي هريرة.

٥٧٣

واختلف في النّفث عند الرقى : فمنعه قوم ، وأجازه آخرون.

قال عكرمة : لا ينبغي للراقي أن ينفث ، ولا يمسح ، ولا يعقد (١).

قال إبراهيم : كانوا يكرهون النفث من الراقي ، والصحيح الجواز ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ينفث في الرقية.

وروي محمد بن حاطب أن يده احترقت ، فأثبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فجعل ينفث عليها ، ويتكلم بكلام ، وزعم أنه لم يحفظه.

وروي أن قوما لدغ فيهم رجل ، فأتوا أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : هل فيكم من راق؟ فقالوا : لا حتى تجعلوا لنا شيئا ، فجعلوا لهم قطيعا من الغنم ، فجعل رجل منهم يقرأ فاتحة الكتاب ويرقى ويتفل حتى برىء ، فأخذوها ، فلما رجعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكروا ذلك له ، فقال : وما يدريكم أنها رقية؟ خذوا واضربوا لي معكم سهما.

وأما ما روي عن عكرمة فكأنه ذهب فيه إلى أن النفث في العقد مما يستعاذ به بخلاف النفث بلا عقد.

قال ابن الخطيب (٢) : هذه الصناعة إنما تعرف بالنّساء ، لأنهن يعقدن في الخيط ، وينفثن ، وذلك لأن الأصل الأعظم فيه ربط القلب بذلك الأمر ، وإحكام الهمّة والوهم فيه ، وذلك إنما يتأتّى من النساء لقلة عملهن ، وشدة شهوتهن ، فلا جرم كان هذا العمل منهن أقوى.

قوله : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) ، الحسد : هو تمني زوال نعمة المحسود ، وإن لم يصر للحاسد مثلها ، والمنافسة : هي تمنّي مثلها وإن لم تزل من المحسود ، وهي الغبطة ، فالحسد : شر مذموم ، والمنافسة مباحة.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «المؤمن يغبط والمنافق يحسد» وقال : «لا حسد إلّا في اثنتين» (٣). يريد الغبطة.

قال ابن عباس وعائشة ـ رضي الله عنهما ـ : لما كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قربت إليه اليهود ، فلم يزالوا حتى أخذوا مشاطة من أثر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعدة من أسنان مشطه ، فأعطاه اليهود ؛ ليسحروه بها صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتولى ذلك ابن الأعصم ، رجل من اليهود (٤).

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ١٧٦).

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣٢ / ١٧٩.

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) أخرجه الثعلبي من طريق أبي عصمة نوح بن أبي مريم عن زيد العمي عن أبي نضرة عن ابن عباس عن أبيّ بن كعب به كما في «تخريج الكشاف» للزيلعي (٤ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨).

وأخرجه أيضا ابن مردويه والواحدي في الوسيط من طريق نوح ونوح بن أبي مريم وضاع مشهور.

٥٧٤

فصل في أن الله خلق الخير والشر

هذه السورة دالة على أن الله خلق كل شر ، وأمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتعوذ من جميع الشرور ، فقال ـ عزوجل ـ : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) وذلك خاتمة ذلك الحسد تنبيها على عظمته ، وكثرة ضرره ، والحاسد عدو نعمة الله تعالى.

قال بعض الحكماء : الحاسد بارز ربّه من خمسة أوجه :

أحدها : أنه أبغض كل نعمة ظهرت على غيره.

وثانيها : أنه ساخط لقسمة ربه ، كأنه يقول : لم قسمت إلي هذه القسمة.

وثالثها : أنه ضاد الله ، أي : أن فضل الله يؤتيه من يشاء ، وهو يبخل بفضل الله.

ورابعها : أنه خذل أولياء الله ، أو يريد خذلانهم ، وزوال النعمة عنهم.

وخامسها : أنه أعان عدوه إبليس.

وقيل : الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة ، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضاء ، ولا ينال في الخلوة إلا جزعا ، وغمّا ، ولا ينال في الآخرة إلا حزنا ، واحتراقا ، ولا ينال من الله إلا بعدا ومقتا.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ثلاثة لا يستجاب دعاؤهم : آكل الحرام ، ومكثر الغيبة ، ومن كان في قلبه غلّ أو حسد للمسلمين» (١).

روى [الثعلبي عن أبيّ](٢) ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ المعوذتين فكأنما قرأ الكتب التي أنزلها الله تعالى كلها». وعن عقبة بن عامر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ألا أخبرك بأفضل ما تعوّذ به المتعوّذون؟» قلت : بلى يا رسول الله ، قال : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)(٣). والله أعلم.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٧٧).

(٢) في ب : عقبة بن عامر.

(٣) تقدم تخريجه.

٥٧٥

سورة الناس

مكية ، وهي ست آيات ، وعشرون كلمة ، وتسعة وتسعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ)(٦)

قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ). قرىء (١) : «قل عوذ» بحذف الهمزة ، ونقل حركتها إلى اللام ، ونظيره : (فَخُذْ أَرْبَعَةً) [البقرة : ٢٦٠].

وأجمع القراء على تلك الإمالة في «النّاس» إذا كان في موضع الخفض.

ومعنى «ربّ الناس» مالكهم ، ومصلح أمورهم ، وإنما ذكر أنه «ربّ الناس» ، وإن كان ربا لجميع الخلق لأمرين :

أحدهما : لأن الناس معظمون ، فأعلم بذكرهم أنه ربّ لهم وإن عظموا.

والثاني : لأنه أمر بالاستعاذة من شرّهم ، فأعلم بذكرهم أنه هو الذي يعيذ منهم ، وإنما قال: (مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ) لأن في الناس ملوكا فذكر أنه ملكهم ، وفي الناس من يعبد غيره ، فذكر أنه إلههم ، ومعبودهم ، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به ، ويلجأ إليه دون الملوك ، والعظماء.

قوله : (مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ). يجوز أن يكونا وصفين ل «ربّ الناس» وأن يكونا بدلين ، وأن يكونا عطف بيان.

قال الزمخشريّ (٢) : فإن قلت : «ملك الناس ، إله الناس»؟ ما هما من «رب الناس»؟

قلت : هما عطف بيان ، كقولك : سيرة أبي حفص عمر الفاروق ، بين ب (مَلِكِ النَّاسِ) ثم زيد بيانا ب (إِلهِ النَّاسِ) ؛ لأنه قد يقال لغيره : «رب النّاس» ، كقوله : (اتَّخَذُوا

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٨٢٣ ، والفخر الرازي ٣٢ / ١٨١.

(٢) الكشاف ٤ / ٨٢٣.

٥٧٦

أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) [التوبة : ٣١] ، وقد يقال : «ملك النّاس» ، وأما «إله النّاس» فخاص لا شركة فيه ، فجعل غاية للبيان.

واعترض أبو حيّان (١) : بأن البيان يكون بالجوامد ، ويجاب عنه بأن هذا جار مجرى الجوامد وقد تقدم تقريره في «الرحمن الرحيم» أول الفاتحة.

وقال الزمخشري (٢) : فإن قلت : لم قيل : «بربّ النّاس» مضافا إليهم خاصة؟.

قلت : لأن الاستعاذة وقعت من شر الوسواس في صدور الناس ، فكأنه قيل : أعوذ من شر الموسوس إلى الناس بربهم الذي يملك عليهم أمورهم.

قال الزمخشري : «فإن قلت : فهلّا اكتفي بإظهار المضاف إليه الذي هو النّاس مرة واحدة؟ قلت : لأن عطف البيان للبيان ، فكان مظنة للإظهار دون الإضمار».

وكرر لفظ «النّاس» ؛ لأن عطف البيان يحتاج إلى مزيد الإظهار ، ولأن التكرار يقتضي مزيد شرف الناس ، وأنهم أشرف مخلوقاته.

قال ابن الخطيب (٣) : وإنما بدأ بذكر الرب تعالى ، وهم اسم لمن قام بتدبيره ، وإصلاحه من أوائل نعمه إلى أن رباه ، وأعطاه العقل ، فحينئذ عرف بالدليل أنه مملوك وأنه ملك ، فثنى بذكر الملك ، ثم لما علم أن العبادة لازمة له ، وعرف أنه معبود مستحق للعبادة وعرفه أنه إله فلهذا ختم به.

قال ابن الخطيب (٤) : ولم يقرأ في المشهورة هنا «مالك» بالألف ، كما قرىء به في الفاتحة ، لأن معنى المالك هو الربّ ، فيلزم التكرار.

وقرىء به في الفاتحة ، لاختلاف المضافين ، فلا تكرار.

قوله : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ).

قال الزمخشري (٥) : «اسم بمعنى الوسوسة ، كالزلزال بمعنى الزلزلة ، وأما المصدر : فوسواس ـ بالكسر ـ «كزلزال» ، والمراد به الشيطان ، سمي بالمصدر كأنه وسوسة في نفسه ، لأنها صنعته ، وشغله الذي هو عاكف عليه ، وأريد ذو الوسواس». انتهى ، وقد مر الكلام معه أن المكسور مصدر ، والمفتوح اسم في «الزلزلة» ؛ فليراجع.

والوسوسة : حديث النفس ، يقال : وسوست إليه نفسه وسوسة ووسوسة ـ بكسر الواو ـ قاله القرطبي (٦).

ويقال لهمس الصائد ، والكلاب ، وأصوات الحليّ : وسواس.

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٥٣٥.

(٢) الكشاف ٤ / ٨٢٣.

(٣) الفخر الرازي ٣٢ / ١٨٠.

(٤) السابق ٣٢ / ١٨١.

(٥) الكشاف ٤ / ٨٢٣.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٧٨.

٥٧٧

قال ذو الرمة : [البسيط]

٥٣٧٢ ـ فبات يشئزه ثأد ويسهره

تذؤّب الرّيح والوسواس والهضب (١)

وقال الأعشى : [البسيط]

٥٣٧٣ ـ تسمع للحلي وسواسا إذا انصرفت

كما استعان بريح عشرق زجل (٢)

قوله : «الخنّاس» أي : الرجّاع ؛ لأنه إذا ذكر الله ـ تعالى ـ خنس ، وهو مثال مبالغة من الخنوس.

يقال : خنس أي تأخر ، يقال : خنسته فخنس ، أي أخرته فتأخر ، وأخنسته أيضا. وتقدم الكلام على هذه المادة في سورة : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ).

(الَّذِي يُوَسْوِسُ) : يجوز جره نعتا وبدلا [وبيانا لجريانه مجرى] الجوامد ، ونصبه ورفعه على القطع.

قال القرطبي (٣) : «ووصف بالخناس ؛ لأنه كثير الاختفاء ، ومنه قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ) [التكوير : ١٥] يعني النجوم لاختفائها بعد ظهورها».

فصل في الكلام على الشيطان

قال مقاتل : إن الشيطان في سورة خنزير ، يجري من ابن آدم مجرى الدم في عروقه ، سلّطه الله على ذلك ، فذلك قوله تعالى : (الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ)(٤) ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم» (٥) رواه البخاري ومسلم.

قال القرطبي (٦) : «ووسوسته : هو الدعاء إلى طاعته ، حتى يصل به إلى القلب ، من غير صوت».

قوله : (مِنَ الْجِنَّةِ). فيه أوجه :

أحدها : أنه بدل من «شرّ» بإعادة العامل ، أي : من شر الجنة.

الثاني : أنه بدل من ذي الوسواس ؛ لأن الموسوس من الجن والإنس.

الثالث : أنه حال من الضمير في «يوسوس» حال كونه من هذين الجنسين.

الرابع : أنه بدل من «النّاس» وجعل «من» تبيينا ، وأطلق على الجن اسم النّاس ؛

__________________

(١) ينظر ديوانه ١٤٤ ، واللسان (دسس) ، والقرطبي ٢٠ / ١٧٨.

(٢) ينظر الديوان ص ١٤٤ ، واللسان (عشرق) ، ومجمع البيان ١٠ / ٨٦٨ ، والقرطبي ٢٠ / ١٧٩.

(٣) القرطبي : ٢٠ / ١٧٩.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٧٩ ـ ١٨٠) ، عن مقاتل.

(٥) تقدم تخريجه.

(٦) ينظر الجامع لأحكام القرآن (٢٠ / ١٧٩).

٥٧٨

لأنهم يتحركون في مراداتهم. قاله أبو البقاء (١) ، إلا أنّ الزمخشري أبطله ، فقال بعد أن حكاه (٢) : «واستدلوا بنفر ورجال في سورة «الجنّ» ، وما أحقه لأن الجنّ سموا جنّا لاجتنانهم ، والناس ناسا لظهورهم من الإيناس ، وهو الإبصار ، كما سموا بشرا ، ولو كان يقع الناس على القبيلين ، وصح ذلك ، وثبت لم يكن مناسبا لفصاحة القرآن ، وبعده عن التصنّع ، وأجود منه أن يراد بالنّاس : الناسي ، كقوله : (يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ) [القمر : ٦] ، ثم يبين بالجنة والناس ؛ لأن الثقلين هما النوعان الموصفان بنسيان حق الله عزوجل».

الخامس : أنه بيان ل (الَّذِي يُوَسْوِسُ) على أنّ الشيطان ضربان : جني ، وإنسي ، كما قال : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] ، وعن أبي ذر ، أنه قال لرجل : هلّا استعذت من شياطين الإنس.

السادس : أن يتعلق ب «وسوس» ، و «من» لابتداء الغاية ، أي : يوسوس في صدورهم من جهة الإنس ، ومن جهة الجن.

السابع : أن «الناس» عطف على «الوسواس» ، أي : من شر الوسواس والناس ، ولا يجوز عطفه على «الجنّة» ؛ لأن النّاس لا يوسوسون في صدور النّاس ، إنما يوسوس الجن ، فلما استحال المعنى حمل على العطف على الوسواس ، قاله مكي.

الثامن : أن «من الجنّة» ، حال من «النّاس» ، أي : كائنين من القبيلين ، قاله أبو البقاء (٣) ، ولم يبين أي الناس المتقدم أنه صاحب الحال ، وعلى كل تقدير فلا يصح معنى الحالية في شيء منها ، لا الأول ، ولا ما بعده ، ثم قال : «وقيل : هو معطوف على الجنة» ، يريد : «والنّاس» الأخير معطوف على الجنة ، وهذا الكلام يستدعي تقدير شيء قبله وهو أن يكون الناس عطفا على غير الجنة ؛ وفي الجملة فهو كلام يتسامح فيه.

فصل في شياطين الإنس والجن

قال الحسن : هما شيطانان لنا : أما شيطان الجن ، فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية (٤).

وقال قتادة : إن من الجن شياطين ، وإنّ من الإنس شياطين فتعوذ بالله من شياطين الجن والإنس (٥).

وعن أبي ذر : أنه قال لرجل : هل تعوّذت بالله من شياطين الإنس؟.

__________________

(١) الإملاء ٢ / ٢٩٨.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٨٢٤.

(٣) الإملاء : ٢ / ٢٩٨.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٨٠).

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧٢٢) ، وعزاه إلى عبد الرزاق وابن المنذر.

٥٧٩

قال : أو من الإنس شياطين؟ قال : نعم ، لقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ)(١) [الأنعام : ١١٢].

وذهب قوم : أنّ المراد بالناس هنا الجن ، سموا بذلك ناسا كما سموا رجالا في قوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) [الجن : ٦] ، وكما سموا نفرا في قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) [الأحقاف : ٢٩].

فعلى هذا يكون «والنّاس» عطفا على «الجنّة» ، ويكون التكرير لاختلاف اللفظين.

وقيل : معنى : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ) ، أي : الوسوسة التي تكون من الجنة والناس ، وهو حديث النفس.

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ الله ـ عزوجل ـ تجاوز لأمّتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلّم به» (٢). والله أعلم.

[تمّ]

__________________

(١) تقدم في سورة الأنعام.

(٢) تقدم تخريجه.

٥٨٠