اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وروى جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ النّاس دخلوا في دين الله أفواجا ، وسيخرجون منه أفواجا» (١) ذكره الماوردي.

قال ابن الخطيب (٢) : كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون واحدا واحدا ، واثنين اثنين.

فصل في المراد بدين الله

ودين الله ، هو الإسلام ، لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ، وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) [آل عمران : ٨٥] ، وإضافة الدين إلى الاسم الدال على الإلهية ، إشارة إلى أنه يجب أن يعبد لكونه إلها ، وللدين أسماء أخر ، قال تعالى : (فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات : ٣٥ ، ٣٦].

ومنها : الصراط ، قال تعالى : (صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٥٣].

ومنها : كلمة الله ، ومنها النور : (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) [الصف : ٨].

ومنها الهدى ، قال تعالى : (ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [الأنعام: ٨٨].

ومنها العروة الوثقى (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ) [البقرة : ٢٥٦].

ومنها : الحبل المتين : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) [آل عمران : ١٠٣].

ومنها : حنيفية الله ، وفطرة الله.

فصل في إيمان المقلد

قال جمهور الفقهاء والمتكلمين : إيمان المقلد صحيح ، واحتجوا بهذه الآية ، قالوا : إنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج ، وجعله من أعظم المنن على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولو لم يكن إيمانهم صحيحا ، لما ذكره في هذا المعرض ، ثم إنا نعلم قطعا أنهم ما كانوا يعرفون حدوث الأجسام بالدليل ، وإثبات كونه تعالى منزّها عن الجسمية ، والمكان والحيز ، وإثبات كونه تعالى عالما بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ، ولا إثبات الصفات ، والتنزيه بالدليل ، والعلم بأن أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري ، فعلمنا أن إيمان المقلد صحيح ، لا يقال : إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه

__________________

(١) حديث جابر أخرجه أحمد ٣ / ٣٤٣) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٩٩) ، وعزاه إلى ابن مردويه. وله شاهد من حديث أبي هريرة بلفظ : ليخرجن منه أفواجا كما دخلوا فيه أفواجا. أخرجه الحاكم (٤ / ٤٩٦) ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣٢ / ١٤٥.

٥٤١

المسائل ؛ لأن أصول هذه الدلائل ظاهرة ، بل كانوا جاهلين بالتفاضل ؛ لأنا نقول : إن الدليل لا يقبل الزّيادة والنّقصان ، فإن الدليل إذا كان مركبا من عشر مقدمات ، فمن علم تسعة منها ، وكان في المقدمة العاشرة مقلدا ، كان في النتيجة مقلدا لا محالة.

قوله : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ، بِحَمْدِ رَبِّكَ) حال ، أي : ملتبسا بحمده.

قال ابن الخطيب (١) : إنه ـ تعالى ـ أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالتسبيح ، ثم بالحمد ، ثم بالاستغفار ، والفائدة فيه أن تأخير النصر سنين ، مع أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان على الحقّ ، مما يثقل على القلب ، ويقع في القلب أني إذا كنت على الحق فلم لا ينصرني ، ولو سلطت على هؤلاء الكفار. فلأجل الاعتذار عن هذا الخاطر ، أمر بالتسبيح أما على قولنا : فالمراد من هذا التنزيه ، أنه تعالى منزّه عن أن يستحق عليه أحد شيئا [بل كل ما يفعله فإنما يفعله بحكم المشيئة الإلهية ، فله أن يفعل ما شاء كما يشاء ، ففائدة التسبيح : تنزيه الله تعالى عن أن يستحق عليه أحد شيئا](٢).

وأما على قول المعتزلة ، ففائدة التنزيه : هو أن يعلم العبد أن تنزيه الله تعالى عما لا يليق ولا ينبغي بسبب المصلحة ، لا بسبب ترجيح الباطل على الحق ، ثم إذا فرغ العبد من تنزيه الله ، فحينئذ يشتغل بحمده على ما أعطاه من الإحسان ، والبر ، ثم حينئذ بالاستغفار لذنوب نفسه.

فصل في معنى الآية

قال المفسرون : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) أي : إذا صليت ، فأكثر من ذلك.

وقيل : معنى «سبّح» : صلّ ، قاله ابن عبّاس رضي الله عنهما (٣).

[وقوله : (بِحَمْدِ رَبِّكَ) حامدا له على ما آتاك من الظفر ، والفتح ، واستغفره أي : سلوا الله الغفران.

وقيل : فسبح أي : المراد به التنزيه ، أي : نزهه عما لا يجوز عليه ، مع شكرك له ، وبالاستغفار ، ومداومة الذكر].

وروي في «الصحيحين» عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : ما صلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة بعد أن نزلت سورة (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) إلا يقول فيها : سبحانك اللهمّ وبحمدك اللهمّ اغفر لي (٤).

وقالت أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آخر أمره (٥) لا يقوم ، ولا يقعد ،

__________________

(١) الفخر الرازي ٣٢ / ١٤٦.

(٢) سقط من : أ.

(٣) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ١٥٨).

(٤) أخرجه البخاري (٨ / ٦٠٥) ، كتاب التفسير ، باب : إذا جاء نصر الله والفتح حديث (٤٩٦٨).

(٥) في أ : عمره.

٥٤٢

ولا يجيء ، ولا يذهب إلّا قال : «سبحان الله وبحمده ، أستغفر الله ، وأتوب إليه» ، قال : «فإنّي أمرت بها» ، ثم قرأ : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ)(١) إلى آخرها.

وقال عكرمة : لم يكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قط أشدّ اجتهادا في أمور الآخرة ما كان عند نزولها.

وقال مقاتل : لما نزلت ، فقرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أصحابه ، ومنهم أبو بكر وعمر وسعد ابن أبي وقاص ، ففرحوا ، واستبشروا ، وبكى العباس ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما يبكيك يا عمّ».

قال : نعيت إليك نفسك ، قال : «إنّه لكما تقول» ، فعاش بعدها ستين يوما ، ما رئي فيها إلّا ضاحكا مستبشرا (٢).

وقيل : نزلت في «منى» بعد أيام التشريق ، في حجّة الوداع ، فبكى عمر والعباس فقيل لهما : إن هذا يوم فرح ، فقال : لا بل فيه نعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «صدقتما ، نعيت إليّ نفسي».

وروى البخاري ، وغيره عن ابن عبّاس ، قال : كان عمر بن الخطّاب يأذن لأهل بدر ، ويأذن لي معهم ، قال : فوجد بعضهم من ذلك ، فقالوا : يأذن لهذا الفتى معنا ، ومن أبنائنا من هو مثله ، فقال لهم عمر : إنه من قد علمتم ، قال : فأذن لهم ذات يوم ، وأذن لي معهم ، فسألهم عن هذه السورة : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ، فقالوا : أمر الله ـ جلّ وعزّ ـ نبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا فتح عليه أن يستغفره ، وأن يتوب إليه ، فقال : ما تقول يا ابن عباس؟.

قلت : ليس كذلك ولكن أخبر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحضور أجله ، فقال : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) ، فذلك علامة موتك ، (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) ، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ : تلومونني عليه؟ وفي رواية : قال عمر : «ما أعلم منها إلا ما تقول»(٣).

فصل

فإن قيل : فماذا يغفر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يؤمر بالاستغفار؟.

فالجواب : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في دعائه : «ربّ اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي في أمري كلّه ، وما أنت أعلم به منّي ، اللهمّ اغفر لي خطيئتي ، وعمدي ، وجهلي وهزلي ، وكل ذلك عندي اللهمّ اغفر لي ما قدّمت وما أخّرت ، وما أعلنت ، وما أسررت ، أنت المقدّم ، وأنت المؤخّر ، إنّك على كلّ شيء قدير».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٣١) ، عن أم سلمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٩٩) ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

(٢) ينظر تفسيره القرطبي (٢٠ / ١٥٨).

(٣) أخرجه البخاري في «صحيحه» (٨ / ٦٠٦) ، كتاب التفسير ، باب قوله : فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً رقم (٤٩٧٠) ، من حديث ابن عباس.

٥٤٣

[وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستغفر لنفسه لعظيم ما أنعم الله عليه ، ويرى قصوره عن القيام بحقّ ذلك.

وقيل : حسنات الأبرار سيئات المقربين.

وقيل : يحتمل أن يكون المعنى كن متعلقا به سائلا راغبا متضرعا على رؤية التقصير في أداء الحقوق.

وقيل : الاستغفار نفسه يجب إتيانه لا للمغفرة بل تعبدا.

وقيل : واستغفر أي : استغفر لأمتك إنه كان توابا على المسبحين والمستغفرين ، يتوب عليهم ويرحمهم ، ويقبل توبتهم ، وإذا كان عليه‌السلام وهو معصوم يؤمر بالاستغفار فماذا يظنّ بغيره](١).

فصل في تفسير الآية

قد مرّ تفسير الحمد ، وأما تفسير قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ففيه وجوه :

الأول : قال الزمخشري (٢) : قل : سبحان الله ، والحمد لله ، تعجبا مما أراك الله من عجيب إنعامه ، أي : اجمع بينهما ، كقولك : الماء باللبن ، أي : اجمع بينهما خلطا ، وشربا.

الثاني : أنّ التسبيح داخل في الحمد ؛ لأنك إذا حمدت الله تعالى ، فقد سبّحته بواسطته ، لأن الثناء عليه ، والشكر له يتضمن تنزيهه عن النقائص ، ولذلك جعل الحمد مفتاح القرآن ، فمعنى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ، أي : سبحه بواسطته ، أن تحمده ، وأن تسبحه بهذا الطريق.

الثالث : أن يكون حالا ، أي : سبحه مقدرا أن تحمد بعد التسبيح ، كأنك تقول : لا يتأتى لك الجمع بينهما لفظا ، فاجمعهما نية كما تنوي الصلاة يوم النحر مقدرا أنك تنحر بعدها ، فيجتمع لك الثواب في تلك الحالة.

الرابع : أن هذه الباء كهي في قولك : فعلت هذه بفضل الله ، أي : بحمده ، أي : أنه الذي هداك لرشدك لا تجد غيره ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الحمد لله على الحمد».

الخامس : قال السديّ : «بحمد ربّك» أي : بأمر ربك (٣).

السادس : أن تكون الباء زائدة ، والتقدير : سبح حمد ربك ، أي : طهر محامد ربك عن الرياء ، والسمعة ، أو اختر له أطهر المحامد ، وأذكاها وأحسنها أو ائت بالتسبيح والتنزيه بدلا عن الحمد.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) الكشاف ٤ / ٨١١.

(٣) ذكره الرازي في تفسيره ٣٢ / ١٤٨.

٥٤٤

السابع : فيه إشارة إلى أن التسبيح والحمد لا يتأخر أحدهما عن الآخر ، ولا يمكن أن يؤتى بهما معا ، ونظيره : من ثبت له حق الشفعة ، وحق الرد بالعيب وجب أن يقول : اخترت الشفعة بردي ذلك المبيع ، كذا هاهنا ، قال : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ليقع معا ، فيصير مسبحا حامدا في وقت واحد معا.

[فإن قيل : التوبة مقدمة على جميع الطّاعات ، ثم الحمد مقدم على التسبيح ؛ لأن الحمد على النعم ، والنعم سابقة أيضا ، والاستغفار سابق ، ثم التسبيح؟ فالجواب لعله بدأ بالأشرف تنبيها على أن النزول من الخالق إلى الخلق أشرف من الصعود من الخلق إلى الخالق ، أو نبّه بذلك على أن التسبيح والحمد الصادرين من العبد ، إذا قابلا جلال الحقّ وعزته استوجبا الاستغفار ، ولأن التسبيح والحمد إشارة إلى تعظيم أمر الله ، والاستغفار إشارة إلى الشفقة على خلق الله ، فالأول كالصلاة ، والثاني كالزكاة فكما أن الصلاة مقدمة على الزكاة ، فكذا هاهنا](١).

فإن قيل : قوله تعالى : (كانَ تَوَّاباً) بدل من الماضي ، وحاجتنا إلى قبوله في المستقبل وأيضا : هلا قال سبحانه : (غَفَّاراً) [نوح : ١٠] ، كما قال تعالى في سورة نوح عليه الصلاة والسلام.

وأيضا قال تعالى : (نَصْرُ اللهِ) ، وقال : (فِي دِينِ اللهِ) وقال : (بِحَمْدِ رَبِّكَ) ولم يقل : بحمد الله.

فالجواب عن الأول : أن هذا أبلغ كأنه يقول : إني أثنيت على من هو أقبح فعلا منهم كاليهود ، فإنهم بعد ظهور المعجزات الظاهرة العظيمة ، كفلق البحر ، ونتق الجبل ونزول المنّ والسلوى عصوا ربّهم ، وأتوا بالقبائح ، ولما تابوا قبلت توبتهم ، فإذا كنت قابلا لتوبة أولئك ، وهم دونكم ، أفلا أقبل توبتكم ، وأنتم خير أمة أخرجت للنّاس؟ أو لأني شرعت في توبة العصاة ، والشروع ملزم أو هو إشارة إلى تخفيف جنايتهم ، أي : لستم أول من جنى ، والمصيبة إذا عمت خفت ؛ أو كما قيل : [المتقارب]

٥٣٣٩ ـ كما أحسن الله فيما مضى

كذلك يحسن فيما بقي (٢)

والجواب عن الثاني : لعله خص هذه الأمة بمزيد الشرف ، لأنه لا يقال في صفات العبد : غفار أو يقال : توابا ، ويقال إذا كان آتيا بالتوبة ، فكأنه تعالى يقول : كنت لي سميا من أول الأمر ، أنت مؤمن ، وأنا مؤمن ، وإن اختلف المعنى فتب حتى صرت سميا في آخر الأمر ، فأنت تواب ، وأنا تواب ، ثم التواب في حق الله تعالى أنه يقبل التوبة كثيرا ، فيجب على العبد أن يكون إتيانه بالتوبة كثيرا.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣٢ / ١٦٣.

٥٤٥

[وأنه إنما قال : توابا ، لأن القائل قد يقول : أستغفر الله ، وليس بتائب كقول المستغفر بلسانه المصر بقلبه ، كالمستهزىء.

فإن قيل قد يقول : أتوب ، وليس بتائب.

قلنا : فإذن يكون كاذبا ، فإن التوبة اسم للرجوع ، أو الندم بخلاف الاستغفار ، فإنه لا يكون كاذبا فيه ، فيكون تقدير الكلام : وأستغفر الله بالتوبة ، وفيه تنبيه على خواتم الأعمال].

والجواب عن الثالث : أنه راعى العدل ، فذكر اسم الذّات مرتين ، وذكر اسم الفعل مرتين ؛ أحدهما : الرب والثاني : التواب ، فلما كانت التربية تحصل أولا ، والتوبة آخرا ، لا جرم ذكر اسم الرب أولا ، واسم التوبة آخرا.

فصل في نزول السورة

قال ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ نزلت هذه السورة ب «منى» في حجة الوداع ثمّ نزلت : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) فعاشصلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها خمسين يوما ، ثم نزل : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) [التوبة : ١٢٨] فعاش بعدها صلى‌الله‌عليه‌وسلم خمسة وثلاثين يوما ، ثم نزلت : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] فعاش بعدها صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحدا وعشرين يوما (١).

وقال مقاتل : سبعة أيام (٢).

وقيل غير ذلك.

فصل

قال ابن الخطيب (٣) : اتفق الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على أن هذه السورة دلت على نعي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فإن قيل : كيف دلت السورة على هذا المعنى؟.

فالجواب من وجوه :

أحدها : قال بعضهم : إنما عرفوا ذلك لما روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطب عقيب السورة ، وذكر التخيير.

وثانيا : أنه لما ذكر حصول النّصر ، ودخول النّاس في دين الله أفواجا ، دل ذلك على حصول التمام ، والكمال ، وذلك يستعقبه الزّوال ؛ كما قيل : [المتقارب]

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٥٩).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : الرازي ٣٢ / ١٥١.

٥٤٦

٥٣٤٠ ـ إذا تمّ شيء بدا نقصه

توقّع زوالا ، إذا قيل : تم (١)

وثالثها : أنه جل ذكره أمر بالتسبيح ، والحمد ، والاستغفار مطلقا ، واشتغالهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك يمنعه من الاشتغال بأمر الأمة ، فكان هذا كالتنبيه على أنّ التبليغ قد تم وكمل ، وذلك يوجب الموت ، لأنه لو بقي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك ، لكان كالمعزول عن الرسالة ، وهذا غير جائز.

ورابعها : قوله : «واستغفره» تنبيه على قرب الأجل ، كأنه يقول : قرب الأجل ودنا الرحيل فتأهّب للأمر. ونبه به على أن سبيل العاقل إذا قرب أجله يستكثر من التوبة.

وخامسها : كأنه قيل : كان منتهى مطلوبك في الدنيا هذا الذي وجدته ، وهو النصر والفتح ، والله تعالى وعدك بقوله : (وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) [الضحى : ٤] فلما وجدت أقصى مرادك في الدنيا ، فانتقل إلى الآخرة لتفوز بتلك السعادة العالية.

روى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة : «النصر» فكأنّما شهد مع محمّد عليه الصّلاة والسّلام فتح مكّة» (٢).

__________________

(١) ينظر سمط اللآلىء ١ / ١٠٥ ، ومجمع البيان ١٠ / ٨٤٤ ، والفخر الرازي ٣٢ / ١٦٤.

(٢) تقدم تخريجه.

٥٤٧

سورة تبت

مكية ، وهي خمس آيات ، وثلاث وعشرون كلمة ، وسبعة وسبعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)(٥)

قوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) ، أي : خسرت. وتقدم تفسير هذه المادة في سورة غافر عند قوله : (إِلَّا فِي تَبابٍ)(١) ، وأسند الفعل إلى اليدين مجازا ؛ لأن أكثر الأفعال تزاول بهما ، وإن كان المراد جملة المدعو عليه.

وقوله : (تَبَّتْ) دعاء ، (وَتَبَ) إخبار ، أي : قد وقع ما دعي به عليه ؛ كقول الشاعر : [الطويل]

٥٣٤١ ـ جزاني ، جزاه الله شرّ جزائه

جزاء الكلاب العاويات وقد فعل (٢)

ويؤيده قراءة (٣) عبد الله : «وقد تبّ» ، والظّاهر أنّ كليهما دعاء ، ويكون في هذا شبه من مجيء العام بعد الخاص ؛ لأن اليدين بعض ، وإن كان حقيقة اليدين غير مراد.

وقيل : كلاهما إخبار ، أراد بالأول : هلاك عمله ، وبالثاني : هلاك نفسه ، وإنما عبر باليدين ؛ لأن الأعمال غالبا تزاول بهما.

وقيل : المراد باليدين نفسه وقد يعبر باليد عن النفس ، كقوله تعالى : (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) [الحج : ١٠] ، أي نفسك ، وهذا شائع في كلام العرب يعبّرون ببعض الشيء عن كله ، يقولون : أصابه يد الدهر ، ويد المنايا ، والرزايا ، أي : أصابه كل ذلك.

__________________

(١) آية ٣٧.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٨١٤ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٥٣٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٢٦ ، والدر المصون ٦ / ٨٥.

٥٤٨

قال الشاعر : [مخلع البسيط]

٥٣٤٢ ـ لمّا أكبّت يد الرّزايا

عليه نادى ألّا مجير (١)

وقال ابن الخطيب (٢) : وعبر باليدين ، إما لأنه كان يرمي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجارة ، وقيل : المراد دينه ، ودنياه وأولاده ، وعقباه ، أو المراد بأحدهما جر المنفعة ، وبالأخرى : دفع المضرة ، أو لأن اليمين سلاح ، والأخرى جنّة.

وقيل : بمعنى ماله ، وبنيه ، «وتبّ» هو نفسه وقيل : «تبّ» يعني ولده وعقبه ، وهو الذي دعا عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «اللهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك» لشدة عداوته ، فافترسه الأسد.

وقرأ العامة : «لهب» بفتح الهاء ، وابن كثير (٣) : بإسكانها.

فقيل : هما لغتان بمعنى نحو : النّهر والنّهر ، والشّعر والشّعر ، والبعر والبعر ، والضّجر والضّجر.

وقال الزمخشري (٤) : «وهو من تغيير الأعلام ، كقوله : شمس بن مالك ، بالضم» ، يعني أن الأصل : بفتح الشين فغيرت إلى الضم.

ويشير بذلك لقول الشاعر : [الطويل]

٥٣٤٣ ـ وإنّي لمهد من ثنائي فعاهد

به لابن عمّ الصّدق شمس بن مالك (٥)

وجوز أبو حيان (٦) في «شمس» أن يكون منقولا من «شمس» الجمع ، كما جاء «أذناب خيل شمس» ، فلا يكون من التغيير في شيء.

وكني بذلك أبو لهب : إما لالتهاب وجنتيه ، وكان مشرق الوجه ، أحمره ، وإما لما يئول إليه من لهب جهنم ، كقولهم : أبو الخير ، وأبو الشر ، لصدورهما منه ، وإما لأن الكنية أغلب من الاسم ، أو لأنها أنقص منه ، ولذلك ذكر الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بأسمائهم دون كناهم ، أو لقبح اسمه ؛ لأن اسمه عبد العزّى ، فعدل عنه إلى الكنية ؛ لأن الله لم يضف العبودية في كتابه إلى صنم.

وقيل : اسمه أبو لهب ، كما سمي أبو سفيان ، وأبو طالب.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ٢٠ / ١٦١.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٢ / ١٥٣.

(٣) ينظر : السبعة ٧٠٠ ، والحجة ٦ / ٤٥١ ، وإعراب القراءات ٢ / ٥٤٢ ، وحجة القراءات ٦٧٦.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٨١٤.

(٥) البيت لتأبط شرّا ؛ ينظر ديوان الحماسة ١ / ٣١ ، والخزانة ١ / ٢٠٠ ، والبحر ٨ / ٥٢٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٥.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٢٧.

٥٤٩

وقال الزمخشريّ (١) : فإن قلت : لم أكناه ، والكنية تكرمة؟.

ثم ذكر ثلاثة أجوبة : إما لشهرته بكنيته ، وإما لقبح اسمه كما تقدم ، وإما لتجانس قوله : «نارا ذات لهب» لأن مآله إلى لهب جهنم. انتهى.

وهذا يقتضي أن الكنية أشرف ، وأكمل لا أنقص ، وهو عكس القول الذي تقدم آنفا.

وقرىء (٢) : «يدا أبو لهب» بالواو مكان الجر.

قال الزمخشري (٣) : «كما قيل : علي بن أبو طالب ، ومعاوية بن أبو سفيان ، لئلّا يغير منه شيء ، فيشكل على السامع ، ولفليتة بن قاسم أمير «مكة» ابنان : أحدهما : «عبد الله» بالجر ، والآخر «عبد الله» بالنصب».

ولم يختلف القراء في قوله : «ذات لهب» أنها بالفتح. والفرق أنها فاصلة ، فلو سكنت زال التشاكل.

[قال قتادة : تبت خسرت (٤).

وقال ابن عباس : خابت (٥).

وقال عطاء : ضلت (٦).

وقال ابن جبير : هلكت (٧). وقال يمان بن رئاب : صفرت من كل خير](٨)

فصل في نزول الآية

حكى الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء ، أنه لما قتل عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ سمع الناس هاتفا يقول : [مجزوء الوافر]

٥٣٤٤ ـ لقد خلّوك وانصرفوا

فما آبوا ولا رجعوا

ولم يوفوا بنذرهم

فيا تبّا لما صنعوا (٩)

فصل في نزول السورة

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : لما نزلت : (وَأَنْذِرْ

__________________

(١) الكشاف ٤ / ٨١٤.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٥٨٥.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٨١٤.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٣٣) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧٠٢) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر.

(٥) ذكره الماوردي (٦ / ٣٦٤) ، والقرطبي (١٦١).

(٦) ينظر المصدر السابق.

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) سقط من : ب.

(٩) ينظر القرطبي ٢٠ / ١٩١.

٥٥٠

عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) [الشعراء : ٢١٤] خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى صعد الصّفا ، فهتف : يا صباحاه فقالوا : من هذا الذي يهتف؟.

قالوا : محمد ، فاجتمعوا إليه ، فقال : «يا بني فلان يا بني فلان ، يا بني عبد مناف ، يا بني عبد المطّلب» ، فاجتمعوا إليه ، فقال : «أرأيتم لو أخبرتكم أنّ خيلا تخرج بسفح هذا الجبل ، أكنتم مصدّقيّ»؟.

قالوا : ما جرّبنا عليك كذبا ، قال : «فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد» ، فقال أبو لهب : تبّا لك ، أما جمعتنا إلا لهذا؟ ثم قام فنزلت هذه السورة (١).

وفي رواية : لما سمعت امرأته ما نزل في زوجها وفيها من القرآن ، أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو جالس في المسجد عند الكعبة ، ومعه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وفي يدها فهر من حجارة ، فلما وقفت عليه أخذ الله بصرها عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا ترى إلا أبا بكر ، فقالت : يا أبا بكر ، إن صاحبك قد بلغني أنه يهجوني ، والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه ؛ والله إني لشاعرة : [منهوك الرجز]

٥٣٢٥ ـ مذمّما عصينا

وأمره أبينا

ودينه قلينا (٢)

ثم انصرفت ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ، أما تراها رأتك؟ قال : «ما رأتني ، لقد أخذ الله بصرها عنّي».

وكانت قريش تسمي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مذمما ، ثم يسبونه ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ألا تعجبون لما صرف الله تعالى عني من أذى كفار قريش يسبون ويهجون مذمما وأنا محمد رسول الله».

وحكى أبو عبد الرحمن بن زيد : أن أبا لهب أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : ماذا أعطى إن آمنت بك يا محمد؟ قال : «كما يعطى المسلمون» ، قال : ما لي عليهم فضل؟.

قال : وأيّ شيء تبغي؟ قال : تبّا لهذا من دين ، أن أكون أنا وهؤلاء سواء. فأنزل الله تعالى فيه : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ)(٣).

وحكى عبد الرحمن بن كيسان قال : كان إذا وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفد ، انطلق إليهم أبو لهب ، فيسألونه عن رسول الله ويقولون له : أنت أعلم به منا ، فيقول لهم أبو لهب : إنه كذاب ساحر ، فيرجعون عنه ، ولا يلقونه فأتى وفد ، ففعل معهم مثل ذلك ، فقالوا : لا

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٦٠٩) ، كتاب : التفسير ، باب : سورة تبت يدا أبي لهب وتب ، رقم (٤٩٧١) ، ومسلم (١ / ١٩٤) ، والطبري (١٢ / ٧٣٤) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧٠١) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي كلاهما في «الدلائل».

(٢) ينظر : القرطبي ٢٠ / ١٦٠.

(٣) تقدم تخريجه.

٥٥١

ننصرف حتى نراه ، ونسمع كلامه ، فقال لهم أبو لهب : إنا لم نزل نعالجه ، فتبّا له وتعسا ، فأخبر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاكتأب لذلك ، فأنزل الله : «تبّت يدا أبي لهب».

وقيل : إن أبا لهب أراد أن يرمي النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحجر ، فمنعه الله تعالى من ذلك ، فنزلت : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) للمنع الذي وقع به.

فصل في تفسير التّبّ

قال ابن الخطيب (١) : من فسر التبّ بالهلاك ، فلقوله تعالى : (وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ) [غافر : ٣٧] ، أي : في هلاك ، ومن فسّره بالخسران ، فلقوله تعالى : (وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ) [هود : ١١١] ، أي : تخسير ، ومن فسره بالخيبة ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : لأنه كان يدفع القوم عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنه ساحر ، فينصرفون عنه قبل لقائه ؛ لأنه كان شيخ القبيلة ـ لعنه الله ـ فكان لا يأتيهم ، فلما نزلت هذه السورة ، وسمع بها غضب ، وأظهر العداوة الشديدة ، وصار متّهما ، فلما قال في الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ بعد ذلك ، فكأنه قد خاب لسعيه ، ولعله إنما ذكر التب ؛ لأنه إنما كان يضرب بيده على يد الوافد عليه ، فيقول : انصرف راشدا فإنه مجنون ، فإن المعتاد أن من يصرف إنسانا يضع بيده على كتفه ، ويدفعه عن ذلك الموضع.

ومن فسر التبّ بقوله : ضلت ، فلأنه كان يعتقد أن يده العليا ، وأنه يخرجه من «مكّة» ، ويذلّه ، ومن فسره : ب «صفرت» فلأن يده خلت من كل خير.

فصل في ترجمة أبي لهب

أبو لهب : اسمه عبد العزّى بن عبد المطلب عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وامرأته : العوراء أم جميل أخت أبي سفيان بن حرب ، وكلاهما كان شديد العداوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال طارق بن عبد الله المحاربي : إني بسوق ذي المجاز ، إذ أنا بإنسان يقول : «يا أيّها النّاس ، قولوا : لا إله إلّا الله تفلحوا» وإذا رجل خلفه يرميه ، قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ، ويقول : يا أيها الناس ، إنه كذاب ساحر ، فلا تصدقوه ، فقلت : من هذا؟.

فقالوا : محمد ، يزعم أنه نبيّ ، وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب.

وروى عطاء عن ابن عباس قال : قال أبو لهب : سحركم محمد ، إن أحدنا ليأكل الجذعة ، ويشرب العسّ من اللبن ، فلا يشبع ، وإن محمدا قد أشبعكم من فخذ شاة ، وأرواكم من عسّ لبن (٢).

قوله : (ما أَغْنى). يجوز في «ما» النّفي ، والاستفهام ، فعلى الاستفهام يكون

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٢ / ١٥٣.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٦١).

٥٥٢

منصوب المحل بما بعدها ، التقدير : أي شيء أغنى المال ، وقد لكونه له صدر الكلام.

وقوله : (وَما كَسَبَ) : يجوز في «ما» هذه أن تكون بمعنى «الّذي» ، والعائد محذوف ، وأن تكون مصدرية ، أي : وكسبه ، وأن تكون استفهامية : بمعنى وأي شيء كسب ؛ أي : لم يكن يكسب شيئا ، قاله أبو حيان (١) ، فجعل الاستفهام بمعنى النفي ، فعلى هذا يجوز أن تكون نافية ، ويكون المعنى على ما ذكر ، وهو غير ظاهر.

وقرأ ابن مسعود (٢) والأعمش : «وما اكتسب».

فصل في معنى الآية

المعنى : ما دفع عنه عذاب الله ما جمع من المال ، ولا ما كسب من الجاه. وقال مجاهد : وما كسب من مال ، وولد الرجل من كسبه.

وقال أبو الطفيل : جاء بنو أبي لهب يختصمون عند ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ فاقتتلوا ، فقام يحجز بينهم ، فدفعه بعضهم فوقع على الفراش ، فغضب ابن عباس ، وقال : أخرجوا عنّي الكسب الخبيث ، يعني ولد أبي لهب (٣).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أطيب ما أكل الرجل من كسبه» (٤).

وقال ابن عباس : لما أنذر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشيرته بالنّار ، قال أبو لهب : إن كان ما يقول ابن أخي حقّا فإني أفدي نفسي بمالي وولدي ، فنزل : (ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ)(٥).

قال الضحاك : ما أغنى عنه ماله ما ينفعه ماله ، وعمله الخبيث : يعني كيده ، وعداوة رسول الله.

قوله : (سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ).

قرأ العامة : «سيصلى» بفتح الياء ، وإسكان الصاد ، وتخفيف اللام ، أي : يصلى هو بنفسه.

وقرأ أبو حيوة (٦) ، وابن مقسم ، وعياش في اختياره ؛ قال القرطبي (٧) : والأشهب العقيلي ، وأبو سمال العدوي ، ومحمد بن السميفع : «سيصلّى» بضم الياء ، وفتح الصاد ، وتشديد اللام ، ومعناه سيصليه الله.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٢٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٣٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٢٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٦.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٣٥).

(٤) تقدم.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣٢ / ١٧٠).

(٦) ينظر البحر المحيط ٨ / ٥٢٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٦.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٦٣.

٥٥٣

وقرأ الحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبو رجاء ، والأعمش ، ورواها محبوب عن إسماعيل عن ابن كثير عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ ، وحسين عن أبي بكر عن عاصم (١) : بضم الياء.

ومعنى ذات لهب أي ذات اشتعال وتلهب ، وقد تقدم القول فيه في سورة المرسلات.

قوله : (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ).

قرأ العامة : بالرفع ، على أنها جملة من مبتدأ وخبر ، سيقت للإخبار بذلك.

قيل : وامرأته : عطف على الضمير في «سيصلى» سوغه الفصل بالمفعول ، و (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) على هذا فيها أوجه : كونها نعتا ل «امرأته» ، وجاز ذلك لأن إضافته حقيقية ، إذ المراد المعنى ، وكونها : بيانا أو بدلا ، لأنها أقرب من الجوامد لتمحض إضافتها ، أو كونها خبرا لمبتدأ مضمر أي : هي حمالة.

وقرأ ابن عباس (٢) ـ رضي الله عنهما ـ : ومريئته حمالة الحطب.

وعنه أيضا : «ومريته» على التصغير ، إلا أنه أقر الهمزة تارة ، وأبدلها ياء ، وأدغم فيها أخرى.

وقرأ العامة : «حمّالة» بالرفع ، وعاصم (٣) : بالنصب على الشّتم. وقد أتى بجميل من سبّ أم جميل.

قال الزمخشريّ (٤) : وكانت تكنى أم جميل ، لعنها الله.

وقيل : نصب على الحال من «امرأته» إذا جعلناها مرفوعة بالعطف على الضمير.

ويضعف جعلها حالا عند الجمهور من الضمير في الجار بعدها إذا جعلناها ل «امرأته» لتقدمها على العامل المعنوي ، واستشكل بعضهم الحالية ـ لما تقدم ـ من أن المراد به المعنى ، فتتعرف بالإضافة ، فكيف يكون حالا عند الجمهور؟.

ثم أجاب بأن المراد الاستقبال ؛ لأنه ورد أنها تحمل يوم القيامة حزمة من حطب النار ، كما كانت تحمل الحطب في الدنيا.

وفي قوله تعالى : (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) قولان :

أحدهما : هو حقيقة.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٣٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٢٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٦ ، والقرطبي ٢٠ / ١٦٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٢٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٦.

(٣) ينظر : السبعة ٧٠٠ ، والحجة ٦ / ٤٥١ ، وإعراب القراءات ٢ / ٥٤٢ ، وحجة القراءات ٧٧٦.

(٤) الكشاف ٤ / ٨١٥.

٥٥٤

قال قتادة : كانت تعير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر ، ثم كانت مع كثرة مالها تحمل الحطب على ظهرها لشدة بخلها ، فعيرت بالبخل (١).

وقال ابن زيد والضحاك : كانت تحمل العضاه ، والشّوك ، فتطرحه بالليل على طريق النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يطؤه كما يطأ الحرير (٢).

وقال مرّة الهمذاني : كانت أم جميل ـ لعنها بالله ـ تأتي كل يوم بإبالة من الحسك فتطرحها على طريق المسلمين ، فبينما هي حاملة ذات يوم حزمة أعيت فقعدت على حجر لتستريح ، فجذبها الملك من خلفها فأهلكها.

القول الثاني : أنه مجاز عن المشي بالنميمة ، ورمي الفتن بين الناس ؛ قال : [الرجز]

٥٣٤٦ ـ إنّ بني الأدرم حمّالو الحطب

هم الوشاة في الرّضا وفي الغضب

عليهم اللّعنة تترى والحرب (٣)

وقال آخر : [الطويل]

٥٣٤٧ ـ من البيض لم تصطد على ظهر لأمة

لم تمش بين الحيّ بالحطب الرّطب (٤)

وجعله رطبا تنبيها على تدخينه ، وهو غريب من ترشيح المجاز ، يعني لم تمش بالنمام.

وقال سعيد بن جبير : حمالة الخطايا ، والذنوب ، من قولهم : فلان يحتطب على ظهره(٥).

قال تعالى : (يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ) [الأنعام : ٣١].

وقرأ أبو قلابة (٦) : «حاملة الحطب» على وزن «فاعلة» ، وهي محتملة لقراءة العامة ، وقرأ عياض (٧) : «حمالة للحطب» بالتنوين وجر المفعول بلام زائدة تقوية للعامل كقوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦] ، وأبو عمرو في رواية : «وامرأته» باختلاس الهاء دون إشباع

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٦٣) ، وأخرجه الطبري (١٢ / ٧٣٦).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٣٦) ، عن الضحاك وابن زيد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧٠٢) ، عن ابن زيد وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٣) ينظر القرطبي ٢٠ / ١٦٣ ، والبحر ٨ / ٥٢٨.

(٤) البيت ليعقوب ينظر الكشاف ٤ / ٨١٥ ، والقرطبي ٢٠ / ١٦٣ ، والبحر ٨ / ٥٢٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٦.

(٥) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٣٦٧) ، والقرطبي (٢٠ / ١٦٤).

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٣٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٦.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٥٨٦.

٥٥٥

قوله : (فِي جِيدِها حَبْلٌ) يجوز أن يكون «في جيدها» خبرا ل «امرأته» ، و «حبل» فاعلا به وأن يكون حالا من امرأته على كونها فاعلة ، و «حبل» مرفوع به أيضا ، وأن يكون خبرا مقدما و «حبل» مبتدأ مؤخر ، والجملة حالية أو خبر ثان.

والجيد : العنق.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

٥٣٤٨ ـ وجيد كجيد الرّئم ليس بفاحش

إذا هي نصّته ولا بمعطّل (١)

و «من مسد» صفة ل «حبل» ، والمسد : ليف المقل.

وقيل : الليف مطلقا.

قال النابغة : [البسيط]

٥٣٤٩ ـ مقذوفة بدخيس النّحض بازلها

له صريف صريف القعو بالمسد (٢)

وقد يكون من جلود الإبل وأوبارها ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٥٣٥٠ ـ ومسد أمرّ من أيانق

ليس بأنياب ولا حقائق (٣)

وجمع المسد : أمساد.

وقال أبو عبيدة : هو حبل يكون من صوف.

وقال الحسن : هي حبال من شجر ينبت ب «اليمن» يسمى المسد وكانت تفتل.

فصل

قال الضحاك وغيره : هذا في الدنيا ، وكانت تعير النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالفقر ، وهي تحتطب في حبل تجعله في عنقها من ليف ، فخنقها الله ـ عزوجل ـ به فأهلكها ، وهو في الآخرة حبل من نار (٤) يلف على عنقها وعن ابن عباس : حبل من مسد قال : سلسلة ذرعها سبعون ذراعا ، وهو قول مجاهد وعروة بن الزبير ، يدخل في فيها ، ويخرج من أسفلها ، ويلوى سائرها على عنقها ، وقال قتادة : «حبل من مسد» حبل من ودع.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر ديوانه ص ١٦ ، وجمهرة اللغة ص ٥٧٨ ، ٧٤١ ، ٩٤٤ ، والدرر ٣ / ٧٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣١ ، وشرح الأشموني ٢ / ٥٧ ، والكتاب ١ / ٣٥٥ ، واللسان (صرف) ، (قذف) ، (بزل) ، (قعا) ، (دخس) ، ومجالس ثعلب ص ٣٤٠ ، وهمع الهوامع ١ / ١٩٣.

(٣) البيتان لعمارة بن طارق ، ونسبا إلى عقبة الهجيمي.

ينظر اللسان (مسد) ، ومجاز القرآن ٢ / ٣١٥ ، والكشاف ٤ / ٨١٦ ، والقرطبي ٢٠ / ١٦٤ ، ومجمع البيان ١٠ / ٨٥١ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٧.

(٤) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٣٦٧) ، والقرطبي (٢٠ / ١٦٤).

٥٥٦

وقال الحسن : إنما كان حرزا في عنقها.

وقال سعيد بن المسيب : كانت قلادة واحدة من جوهر ، فقالت : واللات والعزى لأنفقها في عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويكون عذابا في جيدها يوم القيامة.

وقيل : إن ذلك إشارة إلى الخذلان يعني أنها مربوطة عن الإيمان بما سبق لها من الشقاء كالمربوط في جيدها بحبل من مسد.

والمسد : الفتل ، يقال : مسد حبله يمسده مسدا ، أي : أجاد فتله.

قال : [الرجز]

٥٣٥١ ـ يمسد أعلى لحمه ويأرمه (١)

يقول : إن البقل يقوي ظهر هذا الحمار.

وقال ابن الخطيب (٢) : وقيل : المسد يكون من الحديد ، وظنّ من ظنّ أن المسد لا يكون من الحديد خطأ ، لأن المسد هو المفتول سواء كان من الحديد ، أو من غيره ، ورجل ممسود : أي : مجدول الخلق وجارية حسنة المسد ، والعصب ، والجدل ، والأرم ، وهي ممسودة ، ومعصوبة ، ومجدولة ، ومأرومة ؛ والمساد : على «فعال» : لغة في المساب ، وهي نحي السمن ، وسقاء العسل ، قال كل ذلك الجوهري (٣).

[فإن قيل : إن كان هذا الحبل كيف يبقى أبدا في النار؟.

قلنا : كما يبقى الجلد واللحم والعظم أبدا في النار].

فصل في الإخبار عن الغيب

تضمنت هذه الآيات الإخبار عن الغيب من ثلاثة أوجه :

أولها : الإخبار عنه بالتباب ، والخسار ، وقد كان ذلك.

وثانيها : الإخبار عنه بعدم الانتفاع بماله وولده ، وقد كان ذلك.

وثالثها : الإخبار بأنه من أهل النّار ، وقد كان ذلك ، لأنه مات على الكفر ، هو وامرأته ، ففي ذلك معجزة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فامرأته خنقها الله ـ تعالى ـ بحبلها ، لعنها الله تعالى ، وأبو لهب رماه الله بالعدسة ، بعد وقعة بدر بسبع ليال ، فمات ، وأقام ثلاثة أيام ، ولم يدفن حتى أنتن ، ثم إن ولده غسلوه بالماء قذفا من بعيد مخافة عدوى العدسة ، وكانت قريش تتقيها كما يتقى الطاعون ، ثم احتملوه إلى أعلى «مكة» ، وأسندوه إلى جدار ، ثم صمّوا عليه الحجارة.

__________________

(١) ينظر اللسان (مسد) والقرطبي ٢٠ / ١٦٥.

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣٢ / ١٥٩.

(٣) ينظر : الصحاح ٢ / ٥٣٨ ، ٥٣٩.

٥٥٧

فصل في جواز تكليف ما لا يطاق

احتج أهل السنة على جواز تكليف ما لا يطاق بأنه تعالى كلف أبا لهب بالإيمان مع تصديق الله تعالى في كل ما أخبر عنه ، ومما أخبر عنه أنه لا يؤمن وأنه من أهل النار ، فقد صار مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن ، وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين ، وهو محال وذلك مذكور في أصول الفقه.

ذكر الثعلبيّ عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (تَبَّتْ) رجوت أن لا يجمع الله تعالى بينه وبين أبي لهب في دار واحدة» (١).

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٥٥٨

سورة الإخلاص

مكية في قول ابن مسعود ، والحسن وعطاء وعكرمة وجابر ، ومدنية في أحد قولي ابن عبّاس وقتادة والضحاك ، والسدي ، وهي أربع آيات (١) ، وخمس عشرة كلمة ، وسبعة وأربعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤)

قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ). في «هو» وجهان :

أحدهما : أنه ضمير عائد على ما يفهم من السياق ، فإنه يروى في سبب النزول أنهم قالوا : صف لنا ربّك وانسبه.

وقيل : قالوا له : أنحاس هو أم حديد؟ فنزلت.

وحينئذ يجوز أن يكون «الله» مبتدأ ، و «أحد» خبره ، والجملة خبر الأول ، ويجوز أن يكون «الله» بدلا ، و «أحد» الخبر ، ويجوز أن يكون «الله» خبرا أولا ، و «أحد» خبرا ثانيا ، ويجوز أن يكون «أحد» خبرا لمبتدأ محذوف ، أي «هو أحد» ، والثاني : ضمير الشأن ؛ لأنه موضع تعظيم ، والجملة بعد خبره مفسرة.

وهمزة «أحد» بدل من واو ؛ لأنه من الوحدة ، وإبدال الهمزة من الواو المفتوحة قليل ، منه : امرأة أناة من الونى ، وهو الفتور ، وتقدم الفرق بين «أحد» هذا ، و «أحد» المراد به العموم ، فإن همزة ذاك أصل بنفسها.

ونقل أبو البقاء (٢) : أن همزة «أحد» هذا غير مقلوبة ، بل أصلها بنفسها ، فالمراد به العموم. والأول هو المعروف.

وفرق ثعلب بين «أحد» و «واحد» بأنّ الواحد يدخله العدد والجمع والاثنان

__________________

(١) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٣٦٩).

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٩٧.

٥٥٩

و «أحد» لا يدخله ذلك ، ويقال : الله أحد ، ولا يقال : زيد أحد ؛ لأن لله تعالى هذه الخصوصية ، وزيد له حالات شتى. ورد عليه أبو حيّان بأنه يقال (١) : أحد وعشرون ، ونحوه ، فقد دخله العدد انتهى.

وقال مكيّ : إن أصله : «واحد» فأبدلت الواو همزة ، فاجتمع ألفان ؛ لأن الهمزة تشبه الألف ، فحذفت إحداهما تخفيفا.

وقرأ عبد الله وأبيّ (٢) : الله أحد دون «قل».

وقرأ النبي (٣) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الله أحدبغير (قُلْ هُوَ).

وقرأ الأعمش (٤) : «قل هو الله الواحد».

وقرأ العامة : بتنوين «أحد» وهو الأصل.

وزيد بن علي وأبان بن عثمان ، وابن أبي إسحاق (٥) والحسن ، وأبو السمال ، وأبو عمرو في رواية ، في عدد كثير : بحذف التنوين للخفة ، ولالتقاء الساكنين ، كقوله : [الكامل]

٥٣٥٢ ـ عمرو الذي هشم الثّريد لقومه

ورجال مكّة مسنتون عجاف (٦)

وقوله : [المتقارب]

٥٣٥٣ ـ ..........

ولا ذاكر الله إلّا قليلا (٧)

فصل

والصمد : الذي يصمد إليه في الحاجات ، ولا يقدر على قضائها إلا هو.

قال : [الطويل]

٥٣٥٤ ـ ألا بكّر النّاعي بخير بني أسد

بعمرو بن مسعود وبالسّيّد الصّمد (٨)

وقال آخر : [البسيط]

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٢٩.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٨١٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٨.

(٣) ينظر السابق.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٥٨٨.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٤٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٢٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٨.

(٦) تقدم.

(٧) تقدم.

(٨) قائله هو سبرة بن عمرو الأسدي ينظر الاقتضاب ص ٢٨٩ ، وسمط اللآلىء ٢ / ٣٩٢ ، ومجاز القرآن ٢ / ٣١٦ ، وإصلاح المنطق ص ٥٨ ، ومعاني القرآن للفراء ٣ / ٢٦٨ ، والأمالي ٢ / ٣٢٠ ، والطبري ٣٠ / ٢٢٤ ، ومجمع البيان ١٠ / ٧٥٧ ، والقرطبي ٢٠ / ١٦٧ ، واللسان (صمد) ، والدر المصون ٦ / ٥٨٩.

٥٦٠