اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وقال الحسن بن الفضل : هو تيسير القرآن ، وتخفيف الشرائع. وقال أبو بكر بن عياش ويمان بن رئاب هو كثرة الأصحاب والأتباع والأمة.

وحكى الماورديّ : أنه رفعة الذكر.

وقيل : [الشفاعة : وقال هلال بن يساف : هو لا إله إلا الله محمد رسول الله.

وقيل : الصلوات الخمس.

وقيل الفقه في الدين.

وقيل غير ذلك](١).

قال القرطبيّ (٢) : وأصح الأقوال : الأول ، والثاني ؛ لأنه ثابت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نصّا في الكوثر.

فصل في الكلام على هذه السورة

قال ابن الخطيب (٣) : هذه السورة كالمقابلة للتي قبلها ، فإنه ذكر في الأول البخل ، وترك الصلاة ، والرياء ، ومنع الماعون ، وذكر هنا في مقابلة البخل : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) وفي مقابلة ترك الصلاة : قوله : «فصلّ» أي : دم على الصلاة ، وفي مقابلة الرياء قوله تعالى : (لِرَبِّكَ) أي : لرضاه خالصا ، وفي مقابلة منع الماعون قوله : «وانحر» ، أي : تصدّق بلحم الأضاحي ، ثم ختم السّورة سبحانه وتعالى بقوله : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ، أي : أنّ المنافق الذي أتى بتلك الأفعال القبيحة سيموت ولا يبقى له أثر ، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل ، وفي الآخرة الثواب الجزيل.

قوله : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ).

قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ : أقم الصلاة المفروضة عليك (٤).

وقال قتادة ، وعطاء ، وعكرمة : فصل لربك صلاة العيد يوم النحر (٥) ، «وانحر» نسكك.

وقال أنس : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينحر ، ثم يصلي ، فأمر أن يصلي ثم ينحر (٦).

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٤٨.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٢ / ١١٠.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٢٢) ، عن مجاهد والضحاك وابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٨٩) ، عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٢٢) ، عن عطاء وعكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٩٠) ، عن عطاء وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

وينظر تفسير الماوردي (٦ / ٣٥٥) ، والقرطبي (٢٠ / ١٤٩).

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٤٨).

٥٢١

قال سعيد بن جبير : نزلت في «الحديبية» حين حصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البيت ، فأمره الله تعالى ، أن يصلي ، وينحر البدن ، وينصرف ، ففعل ذلك (١).

قال ابن العربي : «أما من قال : إن المراد بقوله تعالى : (فَصَلِ) الصلوات الخمس ، فلأنها ركن العبادات ، وقاعدة الإسلام ، وأعظم دعائم الدين.

وأما من قال : إنها صلاة الصبح بالمزدلفة ، فلأنها مقرونة بالنحر ، وهو في ذلك اليوم ، ولا صلاة فيه قبل النحر غيرها ، فخصها بالذكر من جملة الصلوات لاقترانها بالنحر».

قال القرطبي : وأما من قال : إنها صلاة العيد ، فذلك بغير «مكة» ، إذ ليس ب «مكة» صلاة عيد بإجماع ، فيما حكاه أبو بكر رضي الله عنه.

فصل

الفاء في قوله : «فصلّ» للتعقيب والتسبب ، أي : تسبب عن هذه المنة العظيمة وعقبها أمرك بالتخلي لعبادة المنعم عليك ، وقصدك إليه بالنحر لا كما تفعل قريش من صلاتها ، ونحرها لأضيافها ، وأما قوله تعالى : (وَانْحَرْ) ، قال علي ـ رضي الله عنه ـ ومحمد بن كعب القرظي : المعنى ضع اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة.

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره ، وهو مروي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : استقبل القبلة مكة بنحرك (٢) ، وهو قول الفراء ، والكلبي وأبي الأحوص.

قال الفراء : سمعت بعض العرب يقول : منازلنا تتناحر أي تتقابل نحر هذا بنحر هذا.

وقال ابن الأعرابي : هو انتصاب الرجل في الصلاة بإزاء المحراب ، من قولهم : منازلهم تتناحر ، أي : تتقابل.

[وعن عطاء : أنه أمره أن يستوي بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحره.

وقال محمد بن كعب القرظي : يقول : إن ناسا يصلون لغير الله ، وينحرون لغير الله ـ تعالى ـ فقد أعطيناك الكوثر ، فلا تكن صلاتك ولا نحرك إلا لله تعالى.

والنّحر في الإبل بمنزلة الذّبح في البقر والغنم (٣)](٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٢٣) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٨٩) ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٤٩).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) سقط من : ب.

٥٢٢

قوله : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ). يجوز أن يكون «هو» مبتدأ و «الأبتر» خبره ، والجملة خبر «إن» ، وأن يكون فصلا.

وقال أبو البقاء (١) : «أو توكيد» ، وهو غلط ؛ لأن المظهر لا يؤكد بالمضمر.

والأبتر : الذي لا عقب له ، وهو في الأصل : الشيء المقطوع ، من بتره ، أي : قطعه.

وحمار أبتر : لا ذنب له ، ورجل أباتر ـ بضم الهمزة ـ : الذي يقطع رحمه.

قال : [الطويل]

٥٣٢٧ ـ لئيم نزت في أنفه خنزوانة

على قطع ذي القربى أحذّ أباتر (٢)

وبتر ـ بالكسر ـ : انقطع ذنبه.

قال أهل اللغة : الأبتر من الرجال : من لا ولد له ومن الدواب : الذي لا ذنب له.

[وكل من انقطع من الخير أثره ، فهو أبتر. والبتر : القطع بترت الشيء بترا قطعته قبل الإتمام ، والانبتار : الانقطاع ، والباتر : السيف القاطع](٣).

وفي الحديث : «ما هذه البتيراء؟» (٤) لمن أوتر بركعة واحدة ، فأنكر عليه ابن مسعود.

وخطب زياد خطبة بتراء ، لم يذكر الله تعالى ، ولا صلى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم درع يقال لها : «البتراء» سميت بذلك لقصرها وقال ابن السكيت الأبتران : العير والعبد ، سيما بذلك لقلة خيرهما.

[والبتريّة فرقة من الزيدية نسبوا إلى المغيرة بن سعد ، ولقبه الأبتر].

وقرأ العامة : «شانئك» بالألف ، اسم فاعل بمعنى الحال ، أو الاستقبال أو الماضي.

وقرأ ابن عبّاس (٥) : «شنئك» بغير ألف.

فقيل : يجوز أن تكون بناء مبالغة ك «فعال» و «مفعال» ، وقد أثبته سيبويه ؛ وأنشد: [الكامل]

٥٣٢٨ ـ حذر أمورا لا تضير ، وآمن

ما ليس منجيه من الأقدار (٦)

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٩٥.

(٢) البيت لأبي الرئيس المازني ، واسمه عبادة بن طهفة.

ينظر اللسان (بتر) ، والبحر ٨ / ٥٢٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٨.

(٣) سقط من : ب.

(٤) أخرجه ابن ماجه (١ / ٣٧٢) ، كتاب : إقامة الصلاة ، باب : ما جاء في الوتر بركعة حديث (١١٧٦).

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٢١ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٨.

(٦) تقدم.

٥٢٣

وقول زيد الخيل : [الوافر]

٥٣٢٩ ـ أتاني أنّهم مزقون عرضي

جحاش الكرملين لها قديد (١)

[فإن كان بمعنى الحال ، والاستقبال ، فإضافته لمفعوله من نصب ، وإن كان بمعنى المضي فهي لا من نصب.

وقيل : يجوز أن يكون مقصورا من فاعل كقولهم : بر وبار ، وبرد وبارد].

فصل في أقوال العلماء في الآية

اختلف المفسرون [في المراد] بقوله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) فقيل : هو العاص بن وائل ، وكانت العرب تسمي من له بنون ، وبنات ، ثم مات البنون ، وبقي البنات : أبتر.

فقيل : إن العاص وقف مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكلمه ، فقال له جمع من صناديد قريش : مع من كنت واقفا؟ فقال : مع ذلك الأبتر ، وكان قد توفي قبل ذلك عبد الله ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان من خديجة ـ رضي الله عنها ـ فأنزل الله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي : المقطوع ذكره من خير الدنيا ، والآخرة.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : كان أهل الجاهلية ، إذا مات ابن الرجل قالوا : بتر فلان ، فلما توفي إبراهيم ابن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج أبو جهل لأصحابه ، فقال : بتر محمد ، فأنزل الله تعالى إن شانئك هو الأبتر يعني أبا جهل.

وقال شهر بن عطية : هو عقبة بن أبي معيط (٢).

وقال السديّ وابن زيد : إن قريشا كانوا يقولون لمن مات له ذكور ولده : قد بتر فلان ، فلما مات لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم القاسم ب «مكة» ، وإبراهيم ب «المدينة» ، قالوا : بتر محمد ، أي : فليس من يقوم بأمره من بعده ، فنزلت الآية (٣).

وقيل : لما أوحى الله تعالى لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا قريشا إلى الإيمان قالوا : انبتر منا محمد أي خالفنا وانقطع عنا ، فأخبر الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنهم هم المبتورون قاله عكرمة وشهر بن حوشب.

فصل في المعاني التي احتوتها هذه السورة

قال أهل العلم : قد احتوت هذه السورة على كونها أقصر سورة في القرآن على

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه ابن سعد وابن عساكر والزبير بن بكار كما في «الدر المنثور» (٦ / ٦٩٠) ، وينظر تفسير الماوردي (٦ / ٣٥٦).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٩١) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن السدي.

٥٢٤

معان بليغة ، وأساليب بديعة ، منها : دلالة استهلال السورة على أنه ـ تعالى ـ أعطاه كثيرا من كثير.

ومنها : إسناد الفعل للمتكلم المعظم نفسه ، ومنها : إيراده بصيغة الماضي تحقيقا لوقوعه ك (أَتى أَمْرُ اللهِ).

ومنها : تأكيد الجملة ب «إنّ».

ومنها : بناء الفعل على الاسم ليفيد بالإسناد مرتين ، ومنها : الإتيان بصيغة تدل على مبالغة الكثرة ، ومنها حذف الموصوف بالكوثر ؛ لأن في حذفه من فرط الإبهام ما ليس في إثباته.

ومنها : تعريفه ب «أل» الجنسية الدالة على الاستغراق ، ومنها : فاء التعقيب الدالة على التسبب كما تقدم في «الأنعام» سبب الشكر والعبادة.

ومنها : التعريض بمن كانت صلاته ونحره لغير الله تعالى.

ومنها : أن الأمر بالصلاة إشارة إلى الأعمال الدينية التي هي الصلاة وأفضلها كالأمر بالنّحر.

ومنها : حذف متعلق «انحر» إذ التقدير : فصلّ لربّك وانحر له.

ومنها : مراعاة السجع ، فإنه من صناعة البديع العاري عن التكلّف.

ومنها : قوله تعالى : (لِرَبِّكَ) في الإتيان بهذه الصفة دون سائر صفاته الحسنى دلالة على أنه المربّي ، والمصلح بنعمه ، فلا يلتمس كلّ خير إلا منه.

ومنها : الالتفات من ضمير المتكلم إلى الغائب في قوله تعالى : (لِرَبِّكَ).

ومنها : جعل الأمر بترك الاحتمال للاستئناف ، وجعله خاتمة للإعراض عن الشانىء ، ولم يسمه ليشمل كلّ من اتصف ـ والعياذ بالله ـ بهذه الصفة القبيحة ، وإن كان المراد به شخصا معينا ، لعيّنه الله تعالى.

ومنها : التنبيه بذكر هذه الصفة القبيحة ، على أنه لم يتصف إلا بمجرد قيام الصفة به ، من غير أن يؤثر في من شنأه شيئا ـ ألبتة ـ لأن من شنأ شخصا ، قد يؤثر فيه شنؤه.

ومنها تأكيد الجملة ب «إنّ» المؤذنة بتأكيد الخبر ، ولذلك يتلقى بها القسم ، وتقدير القسم يصلح هاهنا.

ومنها : الإتيان بضمير الفصل المؤذن بالاختصاص والتأكيد إن جعلنا «هو» فصلا ، وإن جعلناه مبتدأ فكذلك يفيد التأكيد إذ يصير الإسناد مرتين.

ومنها : تعريف الأبتر ب «أل» المؤذنة بالخصوصية بهذه الصفة ، كأنه قيل : الكامل في هذه الصفة.

٥٢٥

ومنها : إقباله تعالى على رسوله بالخطاب ، من أول السورة إلى آخرها.

روى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) سقاه الله ـ تعالى ـ من أنهار الجنّة ، وأعطي من الأجر عشر حسنات ، بعدد كلّ قربان قرّبه العباد في كلّ عيد أو يقرّبونه» (١).

وعن مكحول ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) كان له ما بين المشرق والمغرب أبعرة ، على كلّ بعير كراريس ، كل كرّاس مثل الدّنيا وما فيها ، كتب بدقة الشّعر ليس فيها إلّا صفة قصوره ، ومنازله في الجنّة».

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٥٢٦

سورة الكافرون

مكية ، في قول ابن مسعود ، والحسن ، وعكرمة ، ومدنية في أحد قولي ابن عبّاس ، وقتادة ، والضحاك (١). وهي ستّ آيات ، وست وعشرون كلمة ، وأربعة وسبعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)(٦)

قال ابن الخطيب (٢) : «هذه السورة تسمى سورة البراءة (٣) وسورة الإخلاص ، والمشفعة».

روى الترمذي من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ : «إنّها تعدل ثلث القرآن» (٤).

وروى ابن الأنباري عن أنس ـ رضي الله عنه ـ : قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قل يا أيها الكافرون تعدل ربع القرآن» (٥).

__________________

(١) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٣٥٧).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٢ / ١٢٧.

(٣) الذي في الرازي : المنابذة.

(٤) أخرجه الترمذي رقم (٢٨٩٥) ، من حديث أنس وقال : هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

وأخرجه أحمد (٣ / ١٤٦ ـ ١٤٧) ، والخطيب (١١ / ٣٨٠).

(٥) له شواهد من حديث ابن عمر وابن عباس وأنس. حديث ابن عمر أخرجه الحاكم (١ / ٥٦٦) ، من طريق غسان عن جعفر بن ميسرة عن أبيه عن نافع عن ابن عمر به. وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورده الذهبي بقوله : قلت : بل جعفر بن ميسرة منكر الحديث جدا قاله أبو حاتم وغسان ضعفه الدارقطني.

حديث ابن عباس أخرجه الترمذي (٢٨٩٦) ، والحاكم (١ / ٥٦٦). وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يمان بن المغيرة. وقال الحاكم : صحيح الإسناد وتعقبه الذهبي فقال : قلت : بل يمان ضعفوه.

حديث أنس ينظر الحديث السابق.

٥٢٧

وخرج الحافظ عبد الغني بن سعيد عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ «صلّى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه في صلاة الفجر في سفر ، فقرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «قرأت عليكم ثلث القرآن وربعه» (١).

[وروى جبير بن مطعم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أتحبّ يا جبير إذا خرجت سفرا أن تكون من أمثل أصحابك هيئة ، وأكثرهم زادا»؟ قلت : نعم ، قال : فاقرأ هذه السّور الخمس من أول: (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) إلى (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) ، وافتتح قراءتك ب «بسم الله الرحمن الرّحيم».

قال :](٢) فوالله ، لقد كنت غير كثير المال ، إذا سافرت أكون أبذّهم هيئة ، وأقلهم مالا ، فمذ قرأتهنّ صرت من أحسنهم هيئة ، وأكثرهم زادا ، حتى أرجع من سفري ذلك (٣).

قال ابن الخطيب (٤) : والوجه في أنها تعدل ربع القرآن ، هو أن القرآن يشتمل على الأمر بالمأمورات ، والنهي عن المحظورات ، وكل واحد منها ينقسم إلى ما يتعلق بالقلوب وإلى ما يتعلق بالجوارح ، وهذه السورة مشتملة على النهي عن المحرمات المتعلقة بأفعال القلوب ، فيكون ربع القرآن.

وخرج ابن الأنباري عن نوفل بن فروة الأشجعي ، قال : جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : أوصني ، قال : «اقرأ عند منامك : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) فإنّها براءة من الشّرك» (٥).

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ليس في القرآن أشدّ غيظا لإبليس ـ لعنه الله ـ من هذه السورة ؛ لأنها توحيد ، وبراءة من الشرك (٦).

وقال الأصمعي : كان يقال ل (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) و (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) : المقشقشتان ، أي : أنهما تبرئان من النفاق.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٩٣) ، وعزاه إلى ابن الضريس والحاكم في «الكنى» وابن مردويه عن ابن عمر.

(٢) سقط من : أ.

(٣) أخرجه أبو يعلى (١٣ / ٤١٤) ، رقم (٧٤١٩) ، من حديث جبير بن مطعم وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ١٣٣ ـ ١٣٤) ، وقال : رواه أبو يعلى وفيه من لم أعرفهم.

وذكره ابن حجر في «المطالب العالية (٣ / ٣٩٨) ، رقم (٣٨٠٩).

(٤) ينظر الفخر الرازي ٣٢ / ١٢٧.

(٥) أخرجه أبو داود (٥٠٥٥) ، والترمذي (٣٩٠٣) ، والدارمي (٢ / ٥٣٨) ، وأحمد (٥ / ٤٥٦) ، والحاكم (١ / ٥٦٥) ، وابن حبان (٢٣٦٣ ـ موارد) ، عن فروة بن نوفل عن أبيه ، وصححه الحاكم.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٩٤) ، وزاد نسبته إلى ابن الأنباري في المصاحف وابن أبي شيبة والبيهقي في الشعب.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٥٣).

٥٢٨

وقال أبو عبيدة ـ رضي الله عنه ـ : كما يقشقش الهناء الجرب فيبرئه (١).

قال ابن السكيت : يقال للقرح والجدري إذا يبس وتقرف ، والجرب في الإبل إذا قفل : قد توسّف جلده ، وتقشّر جلده ، وتقشقش جلده.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : سبب نزولها أن الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن عبد المطلب ، وأمية بن خلف ، لقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالوا : يا محمد ، هلمّ فلنعبد ما تعبد ، ونشترك نحن وأنت في أمرنا كلّه ، فإن كان ما جئت به خيرا مما بأيدينا ، كنّا قد شاركناك فيه ، وأخذنا بحظّنا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيرا مما بيدك ، كنت قد شركتنا في أمرنا ، وأخذت بحظك منه ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، ونزل قوله : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) [الزمر : ٦٤] ، فغدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المسلمين في الحرم ، وفيه الملأ من قريش ، فقام صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقرأها عليهم ، حتى فرغ من السورة ، فأيسوا منه عند ذلك (٢).

وروى أبو صالح عن ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ أنهم قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو استلمت بعض هذه الآلهة لصدقناك ، فنزل جبريل ـ عليه‌السلام ـ بهذه السورة فيئسوا منه وآذوه ، وآذوا أصحابه (٣).

فإن قيل : لم وصفهم في هذه السورة بالكافرين وفي السورة الأخرى بالجاهلين كما تقدم؟.

فالجواب : لأن هذه السورة بتمامها نزلت فيهم ، فتكون المبالغة فيها أشد فبولغ فيها بالوصف الأشنع ، وهو الكفر ، لأنه مذموم مطلقا ، والجهل كالشجرة ، والكفر كالثمرة فقد يذم عند التقييد ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «علم الإنسان علم لا ينفع ، وجهل لا يضرّ».

فإن قيل : قال في سورة التحريم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا) [الآية : ٧] ، بغير «قل» ، وهنا ـ جلّ وعز ـ ذكر «قل» وذكره باسم الفاعل.

فالجواب : أنه في سورة «التحريم» إنما يقال لهم يوم القيامة ، وثمّ لا يكون رسولا إليهم ، فإذا زال الواسطة ، ويكونون في ذلك الوقت مطيعين ، لا كافرين ، فلذلك ذكره بلفظ الماضي.

وأما هاهنا فكانوا موصوفين بالكفر ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رسولا إليهم ، فقال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ).

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٢٧ ـ ٧٢٨) ، عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٩٢) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم والطبراني.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٥٤).

٥٢٩

فإن قيل : هذا خطاب مع الكل ، وكان فيهم من يعبد الله تعالى ، كاليهود ، والنصارى ، فلا يجوز أن يقال لهم : «لا أعبد ما تعبدون» ، ولا يجوز أيضا أن يكون قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) خطابا مع الكل ؛ لأن في الكفار من آمن ، فعبد الله.

فالجواب : أن هذا الخطاب مشافهة مع أقوام مخصوصين ، وهم الذين قالوا : نعبد إلهك سنة وتعبد آلهتنا سنة وأيضا لو حملنا الخطاب على العموم دخله التخصيص ، وإذا حملناه على خطاب المشافهة لم يلزم ذلك.

فصل

قال القرطبي (١) : الألف واللام ترجع إلى معنى المعهود ، وإن كانت للجنس من حيث إنها كانت صفة ل «أي» ، لأنها مخاطبة لمن سبق في علم الله تعالى أنه سيموت على كفره ، فهي من الخصوص الذي جاء بلفظ العموم ؛ ونحوه عن الماوردي : نزلت جوابا وعتابا وعنى بالكافرين قوما معينين ، لا جميع الكافرين ، لأن منهم من آمن ، فعبد الله ، ومنهم من مات ، أو قتل على كفره ، وهم المخاطبون بهذا القول ، وهم المذكورون.

فصل

قال ابن الأنباري : وقرأ من طعن في القرآن (٢) : «قل للذين كفروا ، لا أعبد ما تعبدون» وزعم أن ذلك هو الصواب ، وذلك افتراء على ربّ العالمين ، وتضعيف لمعنى هذه السورة ، وإبطال ما قصده الله من أن يذل نبيه للمشركين ، بخطابه إياهم بهذا الخطاب المزري ، وإلزامهم ما يأنف منه كل ذي لبّ وحجر وذلك أن الذي يدعيه من اللفظ الباطل ، قراءتنا تشتمل عليه في المعنى ، وتزيد تأويلا ليس في باطلهم ، وتحريفهم ، فمعنى قراءتنا : قل للذين كفروا ، يا أيها الكافرون ، دليل صحة هذا : أن العربي إذا قال لمخاطبه : قل لزيد : أقبل إلينا ، فمعناه : قل لزيد يا زيد أقبل إلينا ، فقد وقعت قراءتنا على كل ما عندهم ، وسقط من باطلهم أحسن لفظ ، وأبلغ معنى ، إذ كان الرسول ـ عليه‌السلام ـ يعتمدهم في ناديهم فيقول لهم : (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) وهو يعرف أنهم يغضبون من أن ينسبوا إلى الكفر ، ويدخلوا في جملة أهله ، إلا وهو محروس ممنوع من أن تنبسط عليه منهم يد ، أو تقع به من جهتهم أذية ، فمن لم يقرأ : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ، كما أنزلها الله ، أسقط آية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وسبيل أهل الإسلام ألّا يسارعوا إلى مثلها ، ولا يعتمدوا نبيهم باختزال الفضائل عنه ، التي منحه الله إياها ، وشرفه بها.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٥٤.

(٢) وهذا فيه نظر ، فقد نقل ابن عطية هذه القراءة عن صحابيين كبيرين ، وهما أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود ، ينظر: المحرر الوجيز ٥ / ٥٣١.

٥٣٠

فصل في الكلام على «يا»

قال ابن الخطيب (١) : روي عن عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أن «يا» نداء النفس ، و «أي» نداء القلب و «ها» نداء الروح (٢).

وقيل : «يا» نداء الغائب ، و «أي» للحاضر ، و «ها» للتنبيه ، كأنه ـ عزوجل ـ يقول : أدعوك ثلاثا ، ولا تجبني مرة.

قوله : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ). في «ما» هذه في هذه السورة وجهان :

أحدهما : أن تكون بمعنى «الذي».

والثانية : فالأمر فيها واضح ؛ لأنها غير عقلاء. و «ما» أصلها أن تكون لغير العقلاء ، وإذا أريد بها الباري ـ تعالى ـ كما في الثانية والرابعة ، فاستدلّ به من جوز وقوعها على أولي العلم ، ومن منع جعلها مصدرية ، والتقدير : ولا أنتم عابدون عبادتي ، أي : مثل عبادتي.

وقال أبو مسلم : «ما» في الأوليين بمعنى «الذي» والمقصود : المعبود ، و «ما» في الأخريين مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم المبنية على الشّك وترك النظر ، ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين ، فيحصل من مجموع ذلك ثلاثة أقوال : أنها كلّها بمعنى «الذي» ، أو مصدرية ، أو الأوليان بمعنى الذي ، والثالثة والرابعة مصدرية ، لكان حسنا ، حتى لا يلزم وقوع «ما» على أولي العلم ، وهو مقتضى من يمنع وقوعها على أولي العلم ، كما تقدم.

فصل في التكرار في الآية

اختلفوا في التّكرار ـ هاهنا ـ هل هو للتأكيد ، أم لا؟ وإذا لم يكن للتأكيد فقوله تعالى : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) تأكيد لقوله (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ثانيا تأكيد لقوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أولا.

ومثله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ، و (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) في سورتيهما ، و (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) ، و (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ)، وفي الحديث : «فلا آذن ثمّ لا آذن ، إنّما فاطمة بضعة منّي» (٣) ؛ وقال الشاعر : [مجزوء الكامل]

٥٣٣٠ ـ هلّا سألت جموع كن

دة يوم ولّوا أين أينا (٤)

__________________

(١) الفخر الرازي ٣٢ / ١٣٣.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣٢ / ١٣٣).

(٣) تقدم تخريجه.

(٤) البيت لعبيد بن الأبرص ، ينظر ديوانه (١٣٦) ، وشرح شواهد المغني (٩١) ، والقرطبي ٢٠ / ١٥٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٠.

٥٣١

وقوله : [الرجز]

٥٣٣١ ـ يا علقمه يا علقمه يا علقمه

خير تميم كلّها وأكرمه (١)

وقوله : [الرجز]

٥٣٣٢ ـ يا أقرع بن حابس يا أقرع

إنّك إن يصرع أخوك تصرع (٢)

وقوله : [الطويل]

٥٣٣٣ ـ ألا يا اسلمي ثمّ اسلمي ثمّت اسلمي

ثلاث تحيّات وإن لم تكلّم (٣)

وقوله : [الرجز]

٥٣٣٤ ـ يا جعفر يا جعفر يا جعفر

إن أك دحداحا فأنت أقصر (٤)

وقوله : [المديد]

٥٣٣٥ ـ يا لبكر أنشروا لي كليبا

يا لبكر أين أين الفرار (٥)

قالوا : والقرآن جاء على أساليب كلام العرب ، وفائدة التكرير هنا ، قطع أطماع الكفار ، وتحقيق الإخبار بموافقتهم على الكفر ، وأنهم لا يسلمون أبدا.

وقيل : هذا على مطابقة قولهم : تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ، [ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك ، ثم تعبد آلهتنا ونعبد إلهك](٦) ، فنجري على هذا أبدا سنة وسنة ، فأجيبوا عن كل ما قالوه بضده ، أي : أن هذا لا يكون أبدا.

وقال جماعة : ليس للتأكيد ، فقال الأخفش : «لا أعبد» الساعة «ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون» السنة «ما أعبد» فلا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد ؛ فزال التوكيد إذ قد تقيد كل جملة بزمان مغاير ؛ انتهى.

وفيه نظر ، كيف يقيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفي عبادته لما يعبدون بزمان؟ هذا مما لا يصح ، وفي أسباب النزول أنهم سألوه أن يعبد آلهتهم سنة ، فنزلت ، فكيف يستقيم هذا؟.

وجعل أبو مسلم التغاير بما تقدم عنه ، وهو كون «ما» في الأوليين بمعنى «الذي» ، وفي الأخريين : مصدرية ، وفيه نظر من حيث إن التكرار إنّما هو من حيث المعنى ، وهذا موجود ، كيف قدر «ما».

__________________

(١) ينظر القرطبي ٢٠ / ١٥٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٨١ ، وفتح القدير ٥ / ٥٠٧.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر المفصل ٥ / ٩٣.

(٥) هو للمهلهل بن ربيعة ، ينظر خزانة الأدب ٢ / ١٦٢ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٦٦ ، والكتاب ٢ / ٢١٥ ، واللامات ص ٨٧ ، واللسان (لوم) ، والخصائص ٣ / ٢٢٩ ، والقرطبي ٢٠ / ١٥٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٨١.

(٦) سقط من : أ.

٥٣٢

وقال ابن عطية (١) : لما كان قوله : «لا أعبد» محتملا أن يراد به الآن ، ويبقى المستقبل منتظرا ما يكون فيه جاء البيان بقوله : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أبدا وما حييت ، ثم جاء قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) الثاني حتما عليهم أنهم لا يؤمنون أبدا كالذي كشف الغيب ، كما قيل لنوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] ، فهذا معنى التّرديد في هذه السورة ، وهو بارع الفصاحة ، وليس بتكرار فقط ، بل فيه ما ذكرته انتهى.

وقال الزمخشريّ (٢) : «لا أعبد» أريد به العبادة فيما يستقبل ؛ لأن «لا» لا تدخل إلا على مضارع في معنى الاستقبال ، كما أن «أن» لا تدخل إلّا على مضارع في معنى الحال ، ألا ترى [أنّ «لن» تأكيد فيما تنفيه «لا».

وقال الخليل في «لن» : إن أصله :](٣) «لا أن» والمعنى : لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه مني من عبادة آلهتكم ، ولا أنتم فاعلون فيه ما أطلب منكم من عبادة إلهي (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) أي : ما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه ، يعني : لم تعهد مني عبادة صنم في الجاهلية ، فكيف ترجى مني في الإسلام ؛ (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته.

فإن قلت : فهلّا قيل : ما عبدت كما قيل : ما عبدتم؟.

قلت : لأنهم كانوا يعبدون الأصنام قبل المبعث ، وهو لم يكن ليعبد الله ـ تعالى ـ في ذلك الوقت.

فإن قلت : فلم جاء على «ما» دون «من»؟ قلت : لأن المراد الصفة ، كأنه قال : لا أعبد الباطل ، ولا تعبدون الحق.

وقيل : إن «ما» مصدرية ، أي : لا أعبد عبادتكم ، ولا تعبدون عبادتي انتهى.

[يعني أنه أريد به الصفة ، وقد تقدم تحقيق ذلك في سورة «والشمس وضحاها»].

وناقشه أبو حيّان ، فقال (٤) : أما حصره في قوله : لأن «لا» لا تدخل ، وفي قوله : إنّ «ما» تدخل ، فليس بصحيح ، بل ذلك غالب فيهما ، لا متحتم ، وقد ذكر النحاة دخول «لا» على المضارع يراد به الحال ، ودخول «ما» على المضارع يراد به الاستقبال ، وذلك مذكور في المبسوطات من كتب النحو. ولذلك لم يذكر سيبويه ذلك بأداة الحصر ، إنما قال (٥) : وتكون «لا» نفيا ، لقوله : «نفعل» ولم يقع الفعل ، قال : «وأمّا «ما» فهي نفي ، لقوله : هو يفعل إذا كان في حال الفعل. فذكر الغالب فيهما.

__________________

(١) المحرر الوجيز ٥ / ٥٣١.

(٢) الكشاف ٤ / ٨٠٨.

(٣) سقط من : أ.

(٤) البحر المحيط ٨ / ٥٢٣.

(٥) ينظر : الكتاب ٢ / ٣٠٥ ـ ٣٠٦.

٥٣٣

وأما قوله تعالى : (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) ، أي : وما كنت قط عابدا فيما سلف ما عبدتم فيه ، فلا يستقيم ، لأن «عابد» اسم فاعل قد عمل فيما عبدتم ، فلا يفسر بالماضي ، إنما يعتبر بالحال ، أو الاستقبال ، وليس مذهبه في اسم الفاعل مذهب الكسائي ، وهشام في جواز إعماله ماضيا.

وأما قوله : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ، أي : وما عبدتم في وقت ما أنا على عبادته ف «عابدون» قد أعمله في : «ما أعبد» ، فلا يفسر بالماضي.

وأما قوله : «وهو لم يكن» ، إلى آخره ، فسوء أدب على منصب النبوة ، وغير صحيح ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل موحّدا لله تعالى ، منزّها له عن كل ما لا يليق بجلاله سبحانه مجتنبا لأصنامهم يقف على مشاعر إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويحجّ البيت ، وهذه عبادة ، وأي عبادة أعظم من توحيد الله تعالى ونبذ أصنامهم ، ومعرفة الله ـ تعالى ـ أعظم العبادات.

قال الله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦].

قال المفسرون : أي ليعرفون ، فسمى الله تعالى المعرفة به عبادة انتهى.

قال شهاب الدين (١) : ويجاب عن الأول : أنه بنى أمره على الغالب ، فلذلك أتى بالحصر ، وأما ما حكاه سيبويه ، فظاهر معه ، حتى يقوم دليل على غيره ، وعن إعماله اسم الفاعل مفسرا له بالماضي بأنه على حكاية الحال ، كقوله تعالى : (وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ) [الكهف : ١٨] ، وقوله تعالى : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) [البقرة : ٧٢] ، وأما كونهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يزل منزها موحدا لله تعالى ، فمسلم ذلك. وقوله : «وهذه أعظم العبادات» فمسلم أيضا ، ولكن المراد في الآية عبادة مخصوصة ، وهي الصلاة المخصوصة ؛ لأنها تقابل بها ما كان المشركون يفعلونه من سجودهم لأصنامهم ، وصلاتهم لها ، فقابل هذا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بصلاته لله تبارك وتعالى ، ولكن بقي كلام الزمخشري يفهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يكن متعبدا قبل المبعث ، وهو مذهب ساقط الاعتبار ؛ لأن الأحاديث الصحيحة ترده ، وهي : أنه كان يتحنّث ، كان يتعبد ، كان يصوم ، كان يطوف ، كان يقف ، ولم يقل بخلاف ذلك إلا شذوذ من الناس.

وفي الجملة ، فالمسألة خلافية ، وإذا كان متعبدا فبأي شرع كان يتعبد به؟ فقيل : شريعة نوح عليه الصلاة والسلام.

وقيل : إبراهيم عليه‌السلام.

وقيل : موسى.

وقيل : عيسى ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ ، وذلك مذكور في الأصول.

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٥٨٢.

٥٣٤

ثم قال أبو حيان (١) : والذي أختاره في هذه الجمل أنه نفى عبادته في المستقبل ؛ لأن الغالب في «لا» أن تنفي المستقبل ، ثم عطف عليه (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) نفيا للمستقبل ؛ لأن اسم الفاعل العامل ، الحقيقة فيه : دلالته على الحال ، ثم عطف عليه (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) نفيا للحال على سبيل المقابلة ، فانتظم المعنى ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعبد ما يعبدون حالا ، ولا مستقبلا ، وهم كذلك ، إذ قد حتم الله موافاتهم على الكفر ، ولما قال : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) فأطلق «ما» على الأصنام ، قابل الكلام ب «ما» في قوله : «ما أعبد» وإن كان المراد الله ، لأن المقابلة تسوغ فيها ما لا يسوغ في الانفراد وهذا مذهب من يقول : إن «ما» لا تقع على آحاد أولي العلم ، أما من جوز ذلك ، وهو منسوب إلى سيبويه ، فلا يحتاج إلى استعذار بالتقابل.

قال القرطبيّ (٢) : كانوا يعبدون الأوثان ، فإذا ملّوا وثنا ، وسئموا العبادة له رفضوه ، ثم أخذوا وثنا غيره بشهوة نفوسهم ، فإذا مروا بحجارة تعجبهم ألقوا هذه ، ورفعوا تلك ، فعظموها ، ونصبوها آلهة يعبدونها ، فأمر أن يقول : (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) اليوم من هذه الآلهة التي بين أيديكم ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) انما تعبدون الوثن الذي اتخذتموه ، وهو عندكم الآن ، (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ، فإني أعبد إلهي.

قوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ). أتى بهاتين الجملتين الإثباتيتين بعد جملة منفية لأنه لما ذكر أنّ الأهم انتفاؤه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من دينهم ، بدأ بالنفي في الجمل السابقة بالمنسوب إليه ، فلما تحقق النفي رجع صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى خطابه بقوله : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) مهادنة لهم ، ثم نسخ ذلك الأمر بالقتال.

وفتح الياء في «لي» : نافع وهشام وحفص والبزي بخلاف عنه ، وأسكنها (٣) الباقون.

وحذف «الياء» من «ديني» وقفا ووصلا : السبعة ، وجمهور القراء ، وأثبتها في الحالين سلام ويعقوب ، وقالوا : لأنها اسم مثل الكاف في «دينك» والثاني قد تقدم إيضاحه.

فصل

في الكلام معنى التهديد ، كقوله تعالى : (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) [البقرة : ١٣٩] ، أي : إن رضيتم بدينكم ، فقد رضينا بديننا ، ونسخ هذا الأمر بالقتال.

[وقيل : السورة منسوخة.

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٥٢٣.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٣٢ / ١٥٥.

(٣) ينظر : السبعة ٦٩٩ ، والحجة ٦ / ٤٤٩ ـ ٤٥٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٥٣٩ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٥٣١ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٣.

٥٣٥

وقيل : ما نسخ منها شيء ؛ لأنها خبر ، ومعنى لكم دينكم : أي جزاء دينكم ، ولي دين : أي جزاء ديني ، وسمى دينهم دينا ؛ لأنهم اعتقدوه](١).

وقيل : المعنى : لكم جزاؤكم ولي جزائي ، أي : لأن الدين الجزاء.

وقيل : الدّين العقوبة ، لقوله تعالى : (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ) [النور : ٢] ، والمعنى : لكم العقوبة من ربّي ، ولي العقوبة من أصنامكم ، فأنا لا أخشى عقوبة الأصنام ؛ لأنها جمادات ، وأما أنتم فيحق عليكم أن تخافوا عقوبة جبّار السّماوات والأرض.

وقيل : الدين الدعاء ، لقوله تعالى : (فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [غافر : ١٤] ، وقوله : (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ) [الرعد : ١٤].

وقيل : الدين العادة ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٥٣٣٦ ـ تقول إذا درأت لها وضيني

أهذا دينه أبدا وديني (٢)

والمعنى : لكم عادتكم المأخوذة من أسلافكم ومن الشيطان ، ولي عادتي من ربي.

فصل

قال ابن الخطيب (٣) : «جرت العادة بأن يتمثلوا بهذه الآية عند المناكرة ، وذلك غير جائز ؛ لأن القرآن أنزل ليتدبر فيه ، ويعمل بموجبه ، فلا يتمثّل به». والله أعلم.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) تقدم.

(٣) الفخر الرازي ٣٢ / ١٣٧.

٥٣٦

سورة النصر

مدنية بالإجماع ، وتسمى سورة «التوديع» ، وهي ثلاث آيات ، وست عشرة كلمة ، وتسعة وستون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (٣)

قوله تعالى : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) : عليك وعلى أمتك ، والمقصود : إذا جاء هذان الفعلان من غير نظر إلى متعلقهما ، كقوله تعالى : (أَماتَ وَأَحْيا) [النجم : ٤٤].

«أل» في «الفتح» عوض من الإضافة : أي : وفتحه عند الكوفيين ، والعائد محذوف عند البصريين ، أي : والفتح منه للدلالة على ذلك ، والعامل في «إذا» : «جاء» وهو قول مكي ، وإليه ذهب أبو حيّان (١) وغيره في مواضع وقد تقدم ذلك.

وإما «فسبّح» ، وإليه نحا الزمخشريّ (٢) والحوفي ، والتقدير : فسبح بحمد ربك إذا جاء ، ورده أبو حيّان بأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبلها ، وفيه بحث تقدم بعضه في سورة «الضحى».

فصل في الكلام على «نصر»

النصر : العون ، مأخوذ من قولهم : قد نصر الغيث الأرض ، إذا أعان على إنباتها. قال الشاعر : [الطويل]

٥٣٣٧ ـ إذا انسلخ الشّهر الحرام فودّعي

بلاد تميم وانصري أرض عامر (٣)

ويروى : [الطويل]

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٢٤.

(٢) الكشاف ٤ / ٨١٠.

(٣) البيت للراعي للنميري ينظر ديوانه ص ٢١١ ، والقرطبي ٢٠ / ٢٣٠ ، واللسان (نصر) ،

٥٣٧

٥٣٣٨ ـ إذا دخل الشّهر الحرام فجاوزي

بلاد تميم وانصري أرض عامر (١)

يقال : نصره على عدوه ينصره نصرا : أي : أعانه ، والاسم : النّصرة ، واستنصره على عدوه ، أي : سأله أن ينصره عليه ، وتناصروا : نصر بعضهم بعضا.

وقيل : المراد بهذا النصر : نصر الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ على قريش قاله الطبري(٢).

[وقيل نصره على من قاتله من الكفار وأن عاقبة النصر كانت له وأما الفتح فهو فتح مكة ، قاله الحسن ومجاهد (٣) وغيرهما ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير هو فتح المدائن والقصور (٤) وقيل فتح سائر البلاد ، وقيل ما فتحه عليه من العلوم ، وقيل إذا بمعنى قد جاء نصر الله لأن نزولها بعد الفتح ، ويجوز أن يكون معناه إذا يجيئك](٥).

فصل في الفرق بين النصر والفتح

قال ابن الخطيب (٦) : الفرق بين النصر والفتح ، الفتح هو تحصيل المطلوب الذي كان متعلقا ، والنصر كالسبب للفتح ، فلهذا بدأ بذكر النصر ، وعطف الفتح عليه ، ويقال : النصر كمال الدين والفتح إقبال الدنيا الذي هو تمام النعمة ، كقوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣].

والنّصر : الظّفر في الدنيا ، والفتح : بالجنة.

فصل في المراد بهذا النصر

قال ابن الخطيب (٧) : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان مؤيدا منصورا بالدلائل ، والمعجزات ، فما المعنى بتخصيص لفظ النصر بفتح «مكة»؟.

والجواب : أن المراد من هذا النصر هو النصر الموافق للطبع.

فإن قيل : النصر لا يكون إلا من الله تعالى ، قال تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) [الأنفال : ١٠] فما فائدة التقييد بقوله تعالى : (نَصْرُ اللهِ.

فالجواب : معناه : لا يليق إلا بالله ، كما يقال : هذه صنعة زيد ، إذا كان مشهورا ، فالمراد هذا هو الذي سألتموه.

__________________

(١) ينظر القرطبي ٢٠ / ١٥٧.

(٢) ينظر : جامع البيان (١٢ / ٧٢٩).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٢٩) ، عن مجاهد وابن زيد. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٩٦) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣٦٠) ، والقرطبي (٢٠ / ١٥٧).

(٥) سقط من : ب.

(٦) الفخر الرازي ٣٢ / ١٤٠.

(٧) الفخر الرازي ٣٢ / ١٤٠.

٥٣٨

فإن قيل : لم وصف النصر بالمجيء ، وحقيقته : إذا وقع نصر الله ، فما الفائدة في ترك الحقيقة ، وذكر المجاز؟.

فالجواب : أن الأمور مرتبطة بأوقاتها ، وأنه ـ تعالى ـ قد ربط بحدوث كلّ محدث أسبابا معينة ، وأوقاتا مقدرة يستحيل فيها التقدم ، والتأخر ، والتبدل ، والتغير ، فإذا حضر ذلك الوقت ، وجاء ذلك الزمان حضر ذلك الأثر معه ، وإليه الإشارة بقوله : (وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر : ٢١].

فإن قيل : الذين أعانوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على فتح مكة هم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ ثم إنه تعالى سمى نصرتهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فما السبب في إضافة النصر إليه؟.

فالجواب : أن النصر وإن كان على يد الصحابة لكن لا بدّ لهم من داع وباعث ، وهو من الله تعالى.

فإن قيل : فعلى هذا التقدير الذي ذكرتم يكون فعل العبد متقدما على فعل الله ، وهو خلاف قوله تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ) [محمد : ٧] فجعل نصر العبد مقدما على نصره لنا.

فالجواب : أن لا امتناع في أن يكون فعل العبد سببا لفعل آخر يصدر عن الله ـ تعالى ـ فإن أسباب الحوادث ومسبباتها على ترتيب عجيب تعجز عن إدراكها العقول البشرية.

قوله : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ) ، «رأيت» يحتمل أن يكون معناه : أبصرت ، وأن يكون معناه : علمت ، فإن كان معناه «أبصرت» كان «يدخلون» في محل النصب على الحال ، والتقدير : ورأيت الناس يدخلون حال دخولهم في دين الله أفواجا ، وإن كان معناه : «علمت» كان «يدخلون» مفعولا ثانيا ل «علمت» والتقدير : علمت الناس داخلين في دين الله أفواجا.

وفي عبارة الزمخشري (١) : أنه كان بمعنى «أبصرت» ، أو «عرفت».

وناقشه أبو حيان (٢) : بأن «رأيت» لا يعرف كونها بمعنى «عرفت» قال : «فيحتاج في ذلك إلى استثبات».

وقرأ العامة : «يدخلون» مبنيا للفاعل.

وابن كثير (٣) في رواية : مبنيا للمفعول و «في دين» ظرف مجازي ، وهو مجاز فصيح بليغ هاهنا.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٨١١.

(٢) البحر المحيط ٨ / ٥٢٥.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٢٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٨٤.

٥٣٩

قوله : (أَفْواجاً) حال من فاعل «يدخلون».

قال مكي : «وقياسه : «أفوج» إلا أن الضمة تستثقل في الواو فشبهوا «فعلا» ـ يعني بالسكون ـ ب «فعل ـ يعني بالفتح ـ فجمعوه جمعه» انتهى.

أي : أن «فعلا» بالسكون ، قياسه «أفعل» ك «فلس» و «أفلس» إلا أنه استثقلت الضمة على الواو ، فجمعوه جمع «فعل» بالتحريك نحو : جمل ، وأجمال ، لأن «فعلا» بالسكون على «أفعال» ليس بقياس إذا كان فعلا صحيحا ، نحو : فرخ وأفراخ وزند وأزناد ، ووردت منه ألفاظ كثيرة ، ومع ذلك فلم يقيسوه ، وقد قال الحوفي شيئا من هذا.

فصل في الكلام على لفظ الناس

ظاهر لفظ «النّاس» للعموم ، فيدخل كل النّاس أفواجا ، أي : جماعات ، فوجا بعد فوج ، وذلك لما فتحت «مكة» قالت العرب : أما إذ ظفر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأهل الحرم ، وقد كان الله ـ تعالى ـ أجارهم من أصحاب الفيل ، فليس لكم به يدان ؛ فكانوا يسلمون أفواجا أفواجا أمة بعد أمة.

قال الضحاك : والأمة : أربعون (١) رجلا.

وقال عكرمة ، ومقاتل : أراد بالنّاس أهل «اليمن» (٢) ، وذلك أنه ورد من «اليمن» سبعمائة إنسان مؤمنين طائعين ، بعضهم يؤذنون ، وبعضهم يقرءون القرآن ، وبعضهم يهلّلون ، فسرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبكى عمر وابن عباس. وروى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) وجاء أهل اليمن ، رقيقة أفئدتهم لينة طباعهم ، سخية قلوبهم ، عظيمة خشيتهم ، فدخلوا في دين الله أفواجا (٣).

وروى مسلم عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أتاكم أهل اليمن ، وهم أضعف قلوبا ، وأرقّ أفئدة ، الفقه يمان ، والحكمة يمانية» (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي لأجد نفس ربّكم من قبل اليمن» (٥) وفيه تأويلان :

أحدهما : أنه الفرج ، لتتابع إسلامهم أفواجا.

والثاني : معناه أن الله تعالى نفس الكرب عن نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأهل «اليمن» و [الأنصار](٦).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٥٧).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٣٠).

(٤) أخرجه البخاري ٧ / ٧٠١ ، كتاب المغازي ، باب : قدوم الأشعريين وأهل اليمن (٤٣٨٨ ـ ٤٣٩٠) ، ومسلم ١ / ٧١ كتاب الإيمان ، باب : تفاضل أهل الإيمان (٢٤ ـ ٥٢) ، والترمذي ٥ / ٦٨٣ ، كتاب المناقب ، باب : فضل أهل اليمن (٣٩٣٥).

(٥) ذكره الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» (٤ / ٨١١).

(٦) في أ : الأخبار.

٥٤٠