اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

ضعيفة ، أما هذه الواقعة ، فلا يجري فيها تلك الأعذار ، وليس في شيء من الطّبائع والحيل أن يعهد طير معها حجارة ، فيقصد قوما دون قوم فيقتلهم ، ولا يمكن أن يقال : إنه كسائر الأحاديث الضعيفة ؛ لأنه لم يكن بين عام الفيل ، ومبعث الرسول إلا نيفا وأربعين سنة ، ويوم تلا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية ، كان قد بقي جمع شاهدوا تلك الواقعة ، فلا يجري فيها تلك الأعذار ، ولو كان النقل ضعيفا لكذبوه ، فعلمنا أنه لا سبيل للطّعن فيها.

قوله : (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ) ، «بحجارة» صفة ل «طير» ، وقرأ العامة : «ترميهم» بالتأنيث.

وأبو حنيفة ، وابن يعمر (١) ، وعيسى ، وطلحة : بالياء من أسفل ، وهما واضحتان ، لأن اسم الجمع يذكر ويؤنث.

ومن الثانية قوله : [البسيط]

٥٣١١ ـ ..........

كالطّير ينجو من الشّؤبوب ذي البرد (٢)

وقيل : الضمير لربّك ، أي : يرميهم ربك بحجارة ، و «من سجّيل» صفة ل «حجارة» والسجيل ، قال الجوهري (٣) : قالوا حجارة من طين ، طبخت بنار جهنم ، مكتوب فيها أسماء القوم ، لقوله تعالى : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) [الذاريات : ٣٣].

وقال عبد الرحمن بن أبزى : «من سجّيل» من السماء ، وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط.

وقيل : من الجحيم ، وهي «سجّين» ثم أبدلت اللام نونا ، كما قالوا في أصيلان : أصيلال ، قال ابن مقبل : [البسيط]

٥٣١٢ ـ ..........

ضربا تواصت به الأبطال سجّينا (٤)

إنما هو «سجيلا».

وقال الزجاج : «من سجّيل» ، أي : مما كتب عليهم أن يعذبوا به ، مشتق من السجل وقد تقدم القول في السجيل في سورة «هود».

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥١٢ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٠.

(٢) عجز بيت للنابغة وصدره :

والخيل تمزع رهوا في أعنتها

ينظر ديوانه (١٤) ، والبحر ٨ / ٥١٢ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٠.

(٣) ينظر : الصحاح ٥ / ١٧٢٥.

(٤) عجز بيت وصدره :

ورجلة يضربون البيض من عرض

ينظر مجاز القرآن ٢ / ٣١٢ ، ومعاني القرآن وإعرابه ٥ / ٣٦٤ ، واللسان (سجل) ، (رجل) والقرطبي ٢٠ / ١٣٥ ، والكشاف ٤ / ٩٠.

٥٠١

قال عكرمة : [كانت ترميهم بحجارة معها](١) ، فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري لم ير قبل ذلك اليوم (٢).

وقال ابن عبّاس رضي الله عنه : كان الحجر إذا وقع على أحدهم نفط جلده ، وكان ذلك أول الجدري (٣).

قال يونس وأبو عبيدة : والسجيل عند العرب : الشديد الصلب.

قال بعض المفسرين : إنهما كلمتان بالفارسية جعلتهما العرب كلمة واحدة ، وإنهما : سجّ وجيل ، فالسجّ : الحجر ، والجيل : الطّين ، أي من هذين الجنسين : الحجر والطين.

قال أبو إسحاق : وحدثني يعقوب بن عتبة أنه قال : أول ما دامت الحصبة بأرض العرب ذلك وإنه أول ما رأى بها مرائر الشجر الحرمل والحنظل والعشار ذلك العام.

قوله : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ). «كعصف» هو المفعول الثاني للجعل ، بمعنى التصيير ، وفيه مبالغة حسنة ، وهو أنه لم يكفهم أن جعلهم أهون شيء من الزّرع ، وهو ما لا يجدي طائلا ، حتى جعلهم رجيعا.

والمعنى : جعل الله تعالى أصحاب الفيل كورق الزروع إذا أكله الدواب ، فرمت به من أسفل قاله ابن زيد وغيره ، والعصف جمع واحده عصفة وعصافة ، وأدخل الكاف في «كعصف» للتشبيه مع مثل قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ومعنى مأكول أن المراد به قشر البرّ يعني الغلاف الذي يكون فيه حبة القمح يروى أن الحجر كان يقع على أحدهم فيخرج كل ما في جوفه فيبقى كقشر الحنطة إذا خرجت منه الحبة شبّه تقطّع أوصالهم بتفرّق أجزائه ، روي معناه عن ابن زيد (٤) ، وغيره.

قال ابن إسحاق : لما رد الله الحبشة عن «مكة» ، عظمت العرب قريشا ، وقالوا : أهل الله قاتل عنهم ، وكفاهم مئونة عدوهم ، فكان ذلك نعمة من الله عليهم.

روى الثّعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (الْفِيلِ) عافاه الله تعالى أيام حياته من المسخ ، والعدوّ» (٥). والله أعلم.

__________________

(١) سقط من : أ.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٣٤).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٩٩).

(٥) تقدم تخريجه.

٥٠٢

سورة قريش

مكية في قول الجمهور ، مدنية في قول الضحاك والكلبي (١) ، وهي أربع آيات ، وسبع عشرة كلمة ، وثلاث وسبعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)(٤)

قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) ، في متعلق هذه الآية أوجه :

أحدها : أنه ما في السورة قبلها من قوله تعالى : (فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ).

قال الزمخشري (٢) : هذا بمنزلة التضمين في الشعر ، وهو أن يتعلق معنى البيت بالذي قبله تعلقا لا يصح إلا به ، وهما في مصحف أبيّ سورة واحدة بلا فصل.

وعن عمر أنه قرأهما في الثانية من صلاة المغرب ، وقرأ في الأولى : «والتّين» ، انتهى.

وإلى هذا ذهب الأخفش ، إلا أن الحوفي قال : ورد هذا القول جماعة ، بأنه لو كان كذا ، لكان «لإيلاف» بعض سورة «ألم تر» ، وفي إجماع الجميع على الفصل بينهما ما يدل على عدم ذلك.

الثاني : أنه مضمر تقديره : فعلنا ذلك ، أي : إهلاك أصحاب الفيل (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ)، أي : لتأليف قريش ، أو لتنفق قريش ، أو لكي تأمن قريش ، فتؤلف رحلتيها.

وقيل : تقديره : اعجبوا.

الثالث : أنه قوله تعالى : (فَلْيَعْبُدُوا) لإيلافهم ؛ فإنها أظهر نعمة عليهم.

قاله الزمخشري ؛ وهو قول الخليل من قبله.

وقرأ ابن عامر (٣) : «لإلاف» دون ياء قبل اللام الثانية.

__________________

(١) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٣٤٥).

(٢) الكشاف (٤ / ٨٠١).

(٣) ينظر : السبعة ٦٩٨ ، والحجة ٦ / ٤٤٤ ، وإعراب القراءات ٢ / ٥٣٣ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٥٢٥.

٥٠٣

والباقون : «لإيلاف» بياء قبلها ، وأجمع الكل على إثبات الياء في الثاني ، وهو «إيلافهم». ومن غريب ما اتفق في هذين الحرفين : أن القراء اختلفوا في سقوط الياء وثبوتها في الأول مع اتفاق المصاحف على إثباتها خطّا ، واتفقوا على إثبات الياء في الثاني مع اتفاق المصاحف على سقوطها فيه خطّا ، وهذا دليل على أن القراء يتبعون الأثر والرواية ، لا مجرد الخط.

فأما قراءة ابن عامر ففيها وجهان :

أحدهما : أنه مصدر ل «ألف» ثلاثيا ، يقال : ألف الرجل ، إلفا ، وإلافا ؛ نحو : كتبته كتابا ، ويقال : ألفته إلفا وإلافا.

وقد جمع الشاعر بينهما في قوله : [الوافر]

٥٣١٣ ـ زعمتم أنّ إخوتكم قريش

لهم إلف وليس لكم إلاف (١)

والثاني : أنه مصدر «آلف» رباعيا نحو قاتل قتالا. وقال الزمخشري : لمؤالفة قريش. وأما قراءة الباقين فمصدر آلف رباعيا بزنة «أكرم» يقال : آلفته ، أولفه إيلافا.

قال الشاعر : [الطويل]

٥٣١٤ ـ من المؤلفات الرّمل أدماء حرّة

شعاع الضّحى في متنها يتوضّح (٢)

وقرأ عاصم (٣) في رواية : «إئلافهم» بهمزتين ، الأولى مكسورة ، والثانية ساكنة ، وهي شاذة ؛ لأنه يجب في مثله إبدال الثانية حرفا مجانسا ك «إيمان».

وروي عنه أيضا : بهمزتين مكسورتين ، بعدهما ياء ساكنة.

وخرجت على أنه أشبع كسر همزة الثانية ، فتولد منها ياء ، وهذه أشدّ من الأولى.

ونقل أبو البقاء أشد منها ، فقال (٤) : «بهمزة مكسورة بعدها ياء ساكنة ، بعدها همزة مكسورة». وهو بعيد ، ووجهه : أنه أشبع الكسرة ، فنشأت الياء ، وقصد بذلك الفصل بين الهمزتين كالألف في «أأنذرتهم».

وقرأ أبو جعفر : «لإلف قريش» بهمزة مكسورة ، بزنة : «قرد» ، وقد تقدم أنه مصدر ل «ألف» كقوله : [الوافر]

٥٣١٥ ـ ...........

لهم إلف وليس لكم إلاف (٥)

__________________

(١) البيت لمساور بن هند ، ينظر ديوان الحماسة للتبريزي ٢ / ١٨٦ ، والكشاف ٤ / ٨٠١ ، ومجمع البيان ١٠ / ٨٢٨ ، واللسان (ألف) ، والقرطبي ٢٠ / ١٣٨ ، والبحر ٨ / ٥١٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٧١.

(٢) البيت لذي الرمة ينظر ديوانه (١١١) ، ومجمع البيان ١٠ / ٨٢٨ ، واللسان (ألف) ، والبحر ٨ / ٥١٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٦.

(٣) ينظر : هذه القراءات في المصادر السابقة.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٩٥.

(٥) تقدم.

٥٠٤

وعنه أيضا ، وعن ابن كثير : «إلفهم» ، وهي ساكنة اللام بغير ياء ، وهي قراءة مجاهد وحميد.

وروت أسماء ـ رضي الله عنها ـ أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ : «إلفهم» ، وهو مروي أيضا عن ابن عبّاس وغيره.

وعنه أيضا وعن ابن عامر : «إلافهم» مثل «كتابهم».

وعنه أيضا : «ليلافهم» بياء ساكنة بعد اللام ، وذلك أنه لما أبدل الثانية حذف الأولى على غير قياس.

وقرأ عكرمة (١) : «ليألف قريش» فعلا مضارعا.

وعنه أيضا (٢) : «لتألف قريش» على الأمر واللام مكسورة ، وعنه فتحها مع الأمر وهي لغة.

فصل في اتصال السورة بما قبلها

تقدم أن هذه السورة ، متصلة بما قبلها في المعنى ، أي : أهلكت أصحاب الفيل لإيلاف قريش ، أي : لتأليف قريش ، أو لتنفق قريش ، أو لتأمن قريش فتؤلف رحلتيها.

قال ابن الخطيب (٣) : فإن قيل : إنما كان الإهلاك لكفرهم.

قلنا : جزاء الكفور يكون يوم القيامة ، يجزي كل نفس بما كسبت للأمرين معا ، ولكن لا تكون اللام لام العاقبة ، أو يكون المعنى : «ألم تر كيف فعل ربّك بأصحاب الفيل ؛ لإيلاف قريش» ، أي : كل ما تضمنته السورة «لإيلافهم» ، أو تكون اللّام بمعنى «إلى» ، أي : وجعلنا هذه النعم مضافا إلى قريش.

وقال الكسائي والأخفش : اللام في (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) لام التعجب. أي اعجبوا لإيلاف قريش ، نقله القرطبي (٤).

قال الفراء : هذه السورة متصلة بالسورة الأولى ؛ لأنه ذكر أهل «مكة» عظيم نعمته عليهم فيما صنع بالحبشة ، ثم قال ـ جلا وعلا ـ : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ). أي : فعلنا بأصحاب الفيل نعمة منا على قريش ، وذلك أن قريشا كانت تخرج في تجارتها ، فلا يغار عليها في الجاهلية ، يقولون : هم أهل بيت الله تعالى حتّى جاء صاحب الفيل ليهدم الكعبة فأهلكه الله تعالى ، فذكرهم نعمته ، أي : فجعل الله تعالى ذلك (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) أي :

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٨٠٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٥١٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٢.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥١٥.

(٣) الفخر الرازي ٣٢ / ٩٧.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٣٨.

٥٠٥

ليألفوا الخروج ولا يتجرأ عليهم ، قاله مجاهد وابن عباس في رواية سعيد بن جبير.

قال ابن عباس ، في قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) قال : نعمتي على قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف ، قال : كانوا يشتون ب «مكة» ، ويصيفون ب «الطائف» (١) ، وعلى هذا القول يجوز الوقف على رءوس الآي ، وإن لم يكن الكلام تاما.

قال ابن الخطيب (٢) : والمشهور أنهما سورتان ، ولا يلزم من التعلق الاتحاد ؛ لأن القرآن كسورة واحدة.

وقال الخليل : ليست متصلة ، كأنه قال : ألف الله قريشا إيلافا ، فليعبدوا ربّ هذا البيت [واللام متعلقة بقوله تعالى : فليعبد هؤلاء رب هذا البيت ، لإيلافهم رحلة الشتاء والصيف للامتياز ، ويحمل ما بعد الألف ألفا على ما قبلها ؛ لأنها زائدة غير عاطفة كقولك : زيد فاضرب ، وأما مصحف أبيّ فمعارض بإطباق الكل على الفصل بينهما ، وأما قراءة عمر ـ رضي الله عنه ـ فالإمام قد يقرأ سورتين].

قال ابن العربي : وليست المواقف التي ينتزع بها القراء شرعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مرويا ، وإنما أرادوا به تعليم الطلبة المعاني ، فإذا علموها وقفوا [حيث شاءوا ، فأما الوقف عند انقطاع النفس فلا خلاف فيه ، ولا تعد ما قبله إذا اعتراك ذلك ، ولكن ابدأ من حيث وقف بك نفسك ، هذا رأيي فيه](٣) ، ولا دليل على ما قالوه بحال ، ولكني أعتمد الوقف على التّمام ، كراهية الخروج عنهم.

قال القرطبي (٤) : «وأجمع المسلمون أن الوقف عند قوله : (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) ، ليس بقبيح ، وكيف يقال بقبحه ، وهذه السورة تقرأ في الركعة الأولى ، والتي بعدها في الركعة الثانية ، ولا يمنع الوقف على أعجاز الآيات ، سواء تمّ الكلام أم لا».

فصل في الكلام على قريش

قريش : اسم القبيلة.

قيل : هم ولد النضر بن كنانة ، وكل من ولده النضر فهو قرشي ، وهو الصحيح وقيل : هم ولد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة ، فمن لم يلده فهر فليس بقرشي ، فوقع الوفاق على أن بني فهر قرشيون ، وعلى أن كنانة ليسوا بقرشيين ، ووقع الخلاف في النضر ومالك ، ثم اختلف في اشتقاقه على أوجه :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٠١) ، عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٧٨) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه والضياء في «المختارة».

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣٢ / ٩٨.

(٣) سقط من : أ.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٤١.

٥٠٦

أحدها : أنه من التقرّش ، وهو التجمّع ، سموا بذلك لاجتماعهم بعد تفرق ، قال : [الطويل]

٥٣١٦ ـ أبونا قصيّ كان يدعى مجمّعا

به جمّع الله القبائل من فهر (١)

والثاني : أنه من القرش : وهو الكسب ، كانت قريش تجارا ، يقال : قرش يقرش : أي : اكتسب.

والثالث : أنه من التفتيش ، يقال : قرش يقرش عني أي : فتش ، وكانت قريش يفتشون على ذوي الخلّات ، فيسدون خلّتهم.

قال الشاعر : [الخفيف]

٥٣١٧ ـ أيّها الشّامت المقرّش عنّا

عند عمرو فهل له إبقاء (٢)

والرابع : أن معاوية سأل ابن عباس لم سميت قريش قريشا؟.

فقال : لدابة في البحر يقال لها : القرش من أقوى دوابه ، تأكل ولا تؤكل ، وتعلو ولا تعلى(٣).

وأنشد قول تبع : [الخفيف]

٥٣١٨ ـ وقريش هي الّتي تسكن البح

ر بها سمّيت قريش قريشا

تأكل الرثّ والسّمين ولا تت

رك فيها لذي جناحين ريشا

هكذا في البلاد حيّ قريش

يأكلون البلاد أكلا كميشا

ولهم آخر الزّمان نبيّ

يكثر القتل فيهم والخموشا (٤)

ثم قريش : إما أن يكون مصغرا تصغير ترخيم ، فقيل : الأصل مقرش ، وقيل : قارش ، وإما أن يكون مصغرا من ثلاثي ، نحو : القرش ، وأجمعوا على صرفه هنا مرادا به الحي ، ولو أريد به القبيلة لامتنع من الصّرف ؛ كقوله : [الكامل]

٥٣١٩ ـ غلب المساميح الوليد سماحة

وكفى قريش المعضلات وسادها (٥)

قال سيبويه في معدّ ، وقريش ، وثقيف ، وكينونة : هذه للأحياء أكثر ، وإن جعلتها أسماء للقبائل ، فهو جائز حسن.

__________________

(١) البيت لمطرود الخزاعي ينظر اللسان (جمع) ، والقرطبي ٢٠ / ١٣٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٢.

(٢) البيت للحارث بن حلزة ، ينظر القرطبي ٢٠ / ١٣٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٥١٣ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٢.

(٣) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ١٣٩).

(٤) ينظر الخزانة ١ / ٩٨٠ ، والقرطبي ٢٠ / ٣٩ ، والبحر ٨ / ٢٥١٣ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٣.

(٥) البيت لعدي بن الرقاع ينظر الكتاب ٢ / ١٦ ، والمقتضب ٣ / ٣٦٢ ، واللسان (قرش) ، والإنصاف ٢ / ٥٠٦ ، والبحر ٨ / ٥١٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٣.

٥٠٧

قوله : (إِيلافِهِمْ) مؤكد للأول تأكيدا لفظيّا ، وأعربه أبو البقاء (١) : بدلا.

قوله : «رحلة» مفعول به بالمصدر ، والمصدر مضاف لفاعله ، أي : لأن ألفوا رحلة ، والأصل : رحلتي الشتاء والصيف ، ولكنه أفرد لأمن اللبس ؛ كقوله : [الوافر]

٥٣٢٠ ـ كلوا في بعض بطنكم تعفّوا

 ........... (٢)

قاله الزمخشريّ (٣). وفيه نظر ، لأن سيبويه يجعل هذا ضرورة ، كقوله : [الطويل]

٥٣٢١ ـ حمامة بطن الواديين ترنّمي

 .......... (٤)

قال الليث : الرحلة اسم لارتحال القوم للمسير وقيل : رحلة اسم جنس ، وكانت له أربع رحل ، وجعله بعضهم غلطا ، وليس كذلك.

قال القرطبي (٥) : «رحلة» نصب بالمصدر أي : ارتحالهم رحلة ، أو بوقوع «إيلافهم» عليه ، أو على الظرف ، ولو جعلتها في محل الرفع على معنى هما رحلتا الشتاء ، والصيف ، لجاز.

وقرأ العامة : بكسر الراء ، وهي مصدر.

وأبو السمال (٦) : بضمها ، وهي الجهة التي يرحل إليها ، والشتاء : واد ، شذّوا في النسب إليه ، فقالوا : شتوي ، والقياس : شتائي ، وشتاوي ك «كسائي ، وكساويّ».

فصل في معنى الآية

قال مجاهد في قوله تعالى : (إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) : لا يشق عليهم رحلة شتاء ولا صيف ، منة منه على قريش (٧).

وقال الهروي وغيره : كان أصحاب الإيلاف أربعة إخوة : هاشم ، وعبد شمس ، والمطلب ، ونوفل بنو عبد مناف ، فأما هاشم فإنه كان يؤلف ملك «الشام» ، أي : أخذ منه حبلا وعهدا يأمن به في تجارته إلى «الشام» ، وأخوه عبد شمس كان يؤلف إلى «الحبشة» ، والمطلب إلى «اليمن» ، ونوفل إلى «فارس» ، ومعنى يؤلف : يجير ، فكان هؤلاء الإخوة يسمون المجيرين ، فكان تجّار قريش يختلفون إلى الأمصار ، بحبل هؤلاء الإخوة ، فلا يتعرض لهم.

__________________

(١) ينظر الإملاء ٢ / ٢٩٥.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر الكشاف ٤ / ٨٠٢.

(٤) تقدم.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٤٠.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥١٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٣.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٠١) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٧٨) ، وزاد نسبته إلى الفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٥٠٨

قال الأزهري : الإيلاف : شبه الإجارة بالخفارة ، يقال : آلف يؤلف : إذا أجار الحمائل بالخفارة ، والحمائل : جمع حمولة.

قال : والتأويل : أن قريشا كانوا سكان الحرم ، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع ، وكانوا يميرون في الشتاء ، والصيف آمنين ، والناس يتخطّفون من حولهم ، فكانوا إذا عرض لهم عارض قالوا : نحن أهل حرم الله ، فلا يتعرض الناس لهم ، وكانت إحدى الرحلتين إلى اليمن في الشتاء ، لأنها بلاد حامية ، والرحلة الأخرى في الصيف إلى «الشام» ؛ لأنها بلاد باردة.

وعن ابن عباس ، قال : يشتون ب «مكة» لدفئها ، ويصيفون ب «الطائف» لهوائها ، وهذه من أجل النعم أن يكون للقوم ناحية حر تدفع عنهم برد الشتاء ، وناحية برد تدفع عنهم حر الصيف ، فذكرهم الله تعالى هذه النعمة (١).

فصل في الشتاء والصيف

قال مالك : الشتاء نصف السّنة ، والصيف نصفها.

وقال قوم آخرون : الزمان أربعة أقسام : شتاء ، وربيع ، وصيف ، وخريف.

وقيل : شتاء ، وصيف ، وقيظ ، وخريف.

قال القرطبيّ (٢) : والذي قال مالك أصح ؛ لأن الله قسم الزمان قسمين ، ولم يجعل لهما ثالثا.

قوله : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) ، أمرهم تعالى بعبادته ، وتوحيده لأجل إيلافهم رحلتين ، وتقدم الكلام على الفاء ، والبيت هو الكعبة ، وفي تعريف نفسه بأنه تعالى رب هذا البيت وجهان :

أحدهما : أنها كانت لهم أوثان ، فميز نفسه تعالى عنها.

الثاني : لأنهم شرّفوا بالبيت على سائر العرب ، فذكر لهم ذلك تذكيرا لنعمته. وقيل : المعنى: أن يعبدوا رب هذا البيت ، أي ليألفوا عبادة رب هذا البيت كما كانوا يألفون الرحلتين.

(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) ، أي : من أجل الجوع ، و «آمنهم» من أجل الخوف ، والتنكير للتعظيم أي : من جوع عظيم وخوف عظيم.

وقال أبو البقاء (٣) : ويجوز أن يكون في موضع الحال من مفعول «أطعمهم».

__________________

(١) تقدم تخريجه عن ابن عباس.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٤١.

(٣) الإملاء ٢ / ٢٩٥.

٥٠٩

وأخفى نون «من» في الخاء : نافع في رواية ، وكذلك مع العين ، نحو : «من على» ، وهي لغة حكاها سيبويه (١).

فصل في مكانة قريش

قال ابن عبّاس : وذلك بدعوة إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ حيث قال : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ)(٢) [البقرة : ١٢٦].

وقال ابن زيد : كانت العرب يغير بعضها على بعض ويسبي بعضها من بعض ، فأمنت قريش من ذلك لمكان الحرم (٣).

وقيل : شق عليهم السّفر في الشتاء والصيف ، فألقى الله ـ تعالى ـ في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاما في السّفر ، فخافت قريش منهم وظنّوا أنهم خرجوا لحربهم ، فخرجوا إليهم متحرزين ، فإذا هم قد جلبوا لهم الطعام ، وأعانوهم بالأقوات ، فكان أهل «مكة» يخرجون إلى «جدة» بالإبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين.

وقيل : إن قريشا لما كذبوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دعا عليهم ، فقال : «اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف» فاشتد القحط ، فقالوا : يا محمد ، ادع الله لنا فإنا مؤمنون ، فدعا لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخصبت «تبالة» ، و «جرش» من بلاد «اليمن» ، فحملوا الطعام إلى «مكة» ، وأخصب أهلها.

وقال الضحاك وربيع وشريك وسفيان : وآمنهم من خوف الحبشة مع الفيل.

وقال علي رضي الله عنه : وآمنهم من أن تكون الخلافة إلا فيهم.

وقيل : كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك (٤).

روى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) أعطي من الأجر حسنات بعدد من طاف بالكعبة ، واعتكف بها» (٥). والله أعلم.

__________________

(١) ينظر : الكتاب ٢ / ٤١٣.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٠٣) ، عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٧٨) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٠٤) ، عن ابن زيد.

(٤) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ١٤٢).

(٥) تقدم تخريجه.

٥١٠

سورة «الدين» وتسمى «الماعون»

مكية في قول عطاء ، وجابر ، وأحد قولي ابن عباس (١) ، ومدنية في قول له آخر ، وهو قول قتادة وغيره ، وهي سبع آيات ، وخمس وعشرون كلمة ، ومائة وثلاثة وعشرون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (٣)

قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) ، أي : بالجزاء ، والحساب ، وقرأ الكسائي(٢) : «أريت» بسقوط الهمزة. وتقدم تحقيقه في «الأنعام».

وقال الزمخشري (٣) : وليس بالاختيار ، لأن حذفها مختصّ بالمضارع ، ولم يصح عن العرب: «ريت» ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أول الكلام ، ونحوه : [الخفيف]

٥٣٢٢ ـ صاح ، هل ريت أو سمعت براع

ردّ في الضّرع ما قرى في الحلاب (٤)

وفي «أرأيت» وجهان :

أحدهما : أنها بصرية ، فتتعدّى لواحد ، وهو الموصول كأنه قال : أبصرت المكذب.

والثاني : أنها بمعنى «أخبرني» فتتعدّى لاثنين ، فقدره الحوفي : أليس مستحقّا عذاب الله.

وقدره الزمخشري (٥) : من هو ، ويدل على ذلك قراءة (٦) عبد الله : «أرأيتك» بكاف الخطاب ، والكاف لا تلحق البصرية.

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣٥٠).

(٢) ينظر : إعراب القراءات ٢ / ٥٣٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٤.

(٣) الكشاف ٤ / ٨٠٣.

(٤) نسب البيت لإسماعيل بن يسار ، ينظر الكشاف ٤ / ٨٠٣ ، واللسان (علب). والدر المصون ٦ / ٥٧٤.

(٥) الكشاف ٤ / ٨٠٤.

(٦) ينظر : السابق ، والبحر المحيط ٨ / ٥١٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٤.

٥١١

قال القرطبي (١) : «وفي الكلام حذف والمعنى : أرأيت الذي يكذب بالدين ، أمصيب هو ، أو مخطىء».

فصل فيمن نزلت فيه السورة

نقل أبو صالح عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : نزلت في العاص بن وائل السهمي ، وهو قول الكلبي ومقاتل (٢).

وروى الضحاك عنه قال : نزلت في رجل من المنافقين (٣).

وقال السديّ : نزلت في الوليد بن المغيرة (٤).

[وقيل في أبي جهل.

وقال الضحاك : في عمرو بن عائذ.

وقال ابن جريج : في أبي سفيان ، وكان ينحر في كل أسبوع جزورا ، فطلب منه يتيم شيئا فقرعه بعصاه ، فأنزل الله هذه السورة](٥).

قال ابن الخطيب (٦) : وقيل : إنه عام في كل مكذب بيوم الدين.

قوله : (فَذلِكَ) ، فيه وجهان :

أحدهما : أن الفاء جواب شرط مقدر ، أي : إن طلبت علمه فذلك.

والثاني : أنها عاطفة «فذلك» على «الّذي يكذّب» إما عطف ذات على ذات ، أو صفة على صفة ، ويكون جواب «أرأيت» محذوفا لدلالة ما بعده عليه ، كأنه قيل : أخبرني ، وإما تقول فيمن يكذب بالجزاء ، وفيمن يؤذي اليتيم ، ولا يطعم المسكين أنعم ما يصنع؟.

فعلى الأول يكون اسم الإشارة في محل رفع بالابتداء ، والخبر الموصول بعده ، وإما على أنه خبر لمبتدأ مضمر ، أي : فهو ذلك ، والموصول نعته.

وعلى الثاني : أن يكون منصوبا بالنسق ، على ما هو منصوب ، إلا أن أبا حيان رد الثاني فقال (٧) : جعل «فذلك» في موضع نصب عطفا على المفعول ، وهو تركيب غريب كقولك : «أكرمت الذي يزورنا فذلك الذي يحسن إلينا» فالمتبادر إلى الذهن أن «فذلك»

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٤٣.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣٥٠) ، والقرطبي (٢٠ / ١٤٣).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) سقط من : ب.

(٦) الفخر الرازي ٣٢ / ١٠٥.

(٧) البحر المحيط ٨ / ٥١٨.

٥١٢

مرفوع بالابتداء ، وعلى تقدير النصب يكون التقدير : أكرمت الذي يزورنا ، فأكرمت ذلك الذي يحسن إلينا ، فاسم الإشارة في هذا التقدير غير متمكّن تمكن ما هو فصيح ، إذ لا حاجة إلى أن يشار إلى «الذي يزورنا» ، بل الفصيح : أكرمت الذي يزورنا ، فالذي يحسن إلينا ، أو «أكرمت الذي يزورنا ، فيحسن إلينا» ، وأما قوله : «إما عطف ذات على ذات» ، فلا يصح ؛ لأن «فذلك» إشارة إلى «الّذي يكذّب» فليسا بذاتين ؛ لأن المشار إليه بقوله : «فذلك» ، هو واحد ، وأما قوله : «ويكون جواب أرأيت محذوفا» فلا يسمّى جوابا ، بل هو في موضع المفعول الثاني ل «أرأيت» ، وأما تقديره «أنعم ما يصنع» فهمزة الاستفهام لا نعلم دخولها على «نعم» ، ولا «بئس» ، لأنهما إنشاء ، والاستفهام لا يدخل إلا على الخبر ، انتهى.

[والجواب عن قوله : «فاسم الإشارة غير متمكن» إلى آخره ، أن الفرق بينهما أن في الآية الكريمة استفهاما وهو «أرأيت» فحسن أن يفسر ذلك المستفهم منه بخلاف المثال الذي مثل به ، فمن ثم حسن التركيب المذكور ، وعن قوله : «لأن» فذلك إشارة إلى القائم لا إلى زيد ، وإن كان يجوز أن يكون إشارة إليه ، وعن قوله : «فلا يسمى جوابا» أن النحاة يقولون : جواب الاستفهام ، وهذا قد تقدمه استفهام فحسن ذلك](١) ، وعن قوله :«والاستفهام لا يدخل إلا على الخبر» بالمعارضة بقوله : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) [محمد : ٢٢] فإن «عسى» إنشاء فما كان جوابا له ، فهو جواب لنا.

فصل

قال ابن الخطيب (٢) : هذا اللفظ ، وإن كان في صورة الاستفهام ، لكن الغرض بمثله المبالغة في التعجب كقولك : أرأيت فلانا ماذا ارتكب.

ثم قيل : إنه خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام.

وقيل : خطاب لكل عاقل.

قوله : (يَدُعُّ الْيَتِيمَ) قرأ العامة : بضم الدّال ، وتشديد العين من «دعّه» أي : دفعه ، وأمير المؤمنين والحسن (٣) وأبو رجاء : «يدع» بفتح الدال وتخفيف العين.

فصل

قال الضحاك عن ابن عباس : «فذلك الذي يدعّ اليتيم» ، أي : يدفعه عن حقه (٤) ، قال تعالى : (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) [الطور : ١٣].

__________________

(١) سقط من : أ.

(٢) الفخر الرازي ٣٢ / ١٠٤.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٢٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٥١٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٥.

(٤) وروي من رواية العوفي عنه أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٠٤).

٥١٣

[قال قتادة : يقهره ويظلمه ، وقد تقدم في سورة «النساء» أنهم كانوا لا يورثون النساء ، ولا الصغار ، ويقولون : إنما يجوز المال من يطعن بالسنان ويضرب بالحسام](١).

وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ضمّ يتيما من المسلمين ، حتّى يستغني فقد وجبت له الجنّة»(٢).

قوله : (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) ، أي : لا يأمر به من أجل بخله ، وتكذيبه الجزاء ، والحساب.

وقرأ زيد (٣) بن علي : «ولا يحاضّ» من المحاضة. وقد تقدم في الفجر.

قال القرطبي (٤) : «وليس الذم عامّا حتى يتناول من تركه عجزا ، ولكنهم كانوا يبخلون ويعتذرون لأنفسهم ، ويقولون : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس : ٤٧] فنزلت هذه الآية فيهم ، فيكون معنى الآية : لا يفعلونه إن قدروا ، ولا يحثون عليه إن عسروا».

قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (٧)

قوله : (فَوَيْلٌ) مبتدأ ، ومعناه : عذاب لهم ، وقوله : (لِلْمُصَلِّينَ) خبر ، والفاء للسبب ، أي : تسبب عن هذه الصفات الذّميمة الدعاء عليهم بالويل.

قال الزمخشريّ بعد قوله (٥) : «كأنه قيل : أخبرني» : وما تقول فيمن يكذب بالدين أنعم ما يصنع ، ثم قال الله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) على معنى : فويل لهم ، إلا أنه وضع صفتهم موضع ضميرهم ؛ لأنهم كانوا مع التكذيب وما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين غير مزكين أموالهم.

فإن قلت : كيف جعلت المصلين قائما مقام ضمير (الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) ، وهو واحد؟ قلت : معناه الجمع ؛ لأن المراد الجنس. قال أبو حيان (٦) : وأما وضعه المصلين موضع الضمير ، وأن «المصلّين» جمع ، لأن ضمير «الذي يكذّب» معناه الجمع ، فتكلّف واضح ، ولا ينبغي أن يحمل القرآن إلّا ما عليه الظّاهر ، وعادة هذا الرجل يتكلف أشياء في فهم القرآن ليست بواضحة.

قال شهاب الدين (٧) : وعادة هذا الرجل التّحامل على الزمخشري ، حتى يجعل حسنه قبيحا ، وكيف يرد ما له ، وفيه ارتباط الكلام بعضه ببعض ، وجعله شيئا واحدا ، وما

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) تقدم تخريجه في سورة الضحى.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥١٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٥.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٤٤.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٨٠٤.

(٦) البحر المحيط ٨ / ٥١٨.

(٧) الدر المصون ٦ / ٥٧٥.

٥١٤

تضمنه من المبالغة في الوعيد في إبراز وصفهم الشنيع ، ولا شكّ أن الظاهر من الكلام أن السورة كلها في وصف قوم جمعوا بين هذه الأوصاف كلها من التكذيب بالدين ، ودفع اليتيم ، وعدم الحضّ على طعام المسكين ، والسهو في الصلاة ، والمراءاة ، ومنع الخير.

قوله : (الَّذِينَ هُمْ) ، يجوز أن يكون مرفوع المحل ، وأن يكون منصوبه ، وأن يكون مجروره ، تابعا أو بدلا أو بيانا ، وكذلك الموصول الثاني ، إلّا أنه يحتمل أن يكون تابعا للمصلين ، وأن يكون تابعا للموصول الأول.

وقوله : (يُراؤُنَ) أصله : يرائيون ك «يقاتلون» ، ومعنى المراءاة : أي : أن المرائي يري النّاس عمله ، وهم يرون الثّناء عليه ، فالمفاعلة فيها واضحة. وقد تقدم تحقيقه.

فصل في اتصال هذه الآية بما قبلها

في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه :

الأول : أنه لما كان إيذاء اليتيم ، والمنع من بذل طعام المسكين ، دليلا على النفاق ، كانت هاتين الخصلتين معاملة مع المخلوق.

والثاني : أنه تعالى لما ذكر هاتين الخصلتين مع التكذيب بيوم الدين ، قال : أليس الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر؟ فقال : ويل له من هذه الصلاة ، كيف لا تنهاه عن هذه الأفعال المنكرة.

والثالث : كأنه يقول : إقدامه على إيذاء اليتيم ، وتركه للحث على طعام المسكين تقصير في الشّفقة على خلق الله تعالى ، وسهوه في الصلاة تقصير في التعظيم لأمر الله تعالى ، فلما وقع التقصير في الأمرين كملت شقاوته.

فصل في المراد بالمرائي في الصلاة

قال ابن عباس : هو المصلي ، الذي إذا صلّى لم يرج لها ثوابا ، وإن تركها لم يخش عليها عقابا.

وعنه أيضا : الذين يؤخرونها عن أوقاتها (١).

قال سعد بن أبي وقّاص ـ رضي الله عنه ـ : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) : «الّذين يؤخّرون الصّلاة عن وقتها تهاونا بها»(٢).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٠٦) ، وذكره السيوطي «الدر المنثور» (٦ / ٦٨٣) ، وعزاه إلى الطبري.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٠٦) ، والبزار (٣٩٢ ـ كشف) ، والبيهقي (٢ / ٢١٤) ، مرفوعا.

قال البيهقي : وهذا الحديث إنما يصح موقوفا. والموقوف أخرجه الطبري (١٢ / ٦ ـ ٧) ، والبيهقي ـ

٥١٥

وقيل : لا يتمّون ركوعها ، ولا سجودها.

وقال إبراهيم : هو الذي يلتفت في سجوده. وقال قطرب : هو الذي لا يقرأ ولا يذكر الله ، وفي قراءة عبد الله : «الذين هم عن صلاتهم لاهون» (١).

[وعن ابن عباس أيضا : هم المنافقون يتركون الصلاة سرا ، ويصلونها علانية ، وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى الآية ، وهذا يدل على أنها في المنافقين قوله : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) ،ورواه ابن وهب عن مالك رضي الله عنه](٢).

فصل

قال ابن عبّاس : ولو قال : «في صلاتهم ساهون» لكانت في المؤمنين (٣) ، وقال عطاء : الحمد لله الذي قال : (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ولم يقل : في صلاتهم ، فدل على أن الآية في المنافقين (٤).

قال الزمخشريّ (٥) : فإن قلت : أي فرق بين قوله تعالى : (عَنْ صَلاتِهِمْ) وبين قوله : «في صلاتهم»؟.

قلت : معنى «عن» أنهم ساهون عنها سهو ترك لها ، وقلة التفات إليها ، وذلك فعل المنافقين ، أو الفسقة الشطار من المسلمين ، ومعنى «في» أن السّهو يعتريهم فيها بوسوسة شيطان ، أو حديث نفس ، وذلك لا يكاد يخلو منه إنسان ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقع له السّهو في صلاته فضلا عن غيره.

قال ابن الخطيب (٦) : قال كثير من العلماء : إنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما سها في صلاته لكن أذن الله له في ذلك الفعل بيانا للتشريع في فعل السّاهي ، ثم بتقدير وقوع السهو منه ، فالسهو على أقسام :

__________________

ـ (٢ / ٢١٤) ، وأبو يعلى (٢ / ٦٤) ، عن سعد. وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١ / ٣٢٥) ، وقال : رواه أبو يعلى وإسناده حسن. وذكره مرفوعا (٧ / ١٤٣) ، وقال : رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه عكرمة بن إبراهيم وهو ضعيف جدا.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٨٣) ، مرفوعا وموقوفا. وزاد نسبة المرفوع إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. أما الموقوف فزاد نسبته إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن مردويه.

(١) ينظر المحرر الوجيز ٥ / ٥٢٧.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٤٤).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧٠٨) ، عن عطاء بن يسار وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٨٣) ، وعزاه إلى الطبري.

(٥) الكشاف ٤ / ٨٠٥.

(٦) الفخر الرازي ٣٢ / ١٠٧.

٥١٦

أحدها : سهو الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأصحابه ، وذلك يجبر بالسنن تارة ، وبالسّنن والنوافل تارة.

والثاني : ما يكثر في الصلاة من الغفلة ، وعدم استحضار النّيّة ، وهذا يقع كثيرا.

والثالث : ترك الصّلاة ، لا إلى قضاء الإخراج من الوقت ، ومن ذلك صلاة المنافق ؛ لأنه يستهزىء بالدين ، والفرق بين المنافق والمرائي : أنّ المنافق يبطن الكفر ، ويظهر الإيمان ، والمرائي : إنما يظهر زيادة الخشوع ليعتقد من يراه دينه ، أو يقال : إن المنافق لا يصلي سرا ، والمرائي تكون صلاته عند النّاس.

قال ابن العربي : السّلامة عند السّهو محال.

قوله : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) ، أي : يري الناس أنه يصلي طاعة ، وهو يصلي تقيّة كالفاسق ، يري أنه يصلي عبادة ، وهو يصلي ليقال : إنه يصلي ، وحقيقة الرّياء : طلب ما في الدنيا بالعبادة ، وأصله : طلب المنزلة في قلوب الناس ، وهو من وجوه :

أولها : تحسين السّمت ، يريد بذلك الجاه ، والثناء.

وثانيها : الرياء بالثياب القصار والخشنة ليتشبه بالزهاد.

وثالثها : إظهار السخط على الدنيا ، وإظهار الوعظ ، والتأسّف على فوات الخير والطاعة.

ورابعها : إظهار الصلاة ، والصدقة ، وتحسين الصلاة ، لأجل رؤية الناس ، وغير ذلك مما يطول ذكره.

فصل في الرياء

لا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل المفروض ، لأن حق الفرائض الإعلان وإشهارها لقولهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا غمة في فرائض الله» ، ولأنها أعلام الإسلام وشرائع الدين ، ويستحق تاركها الذم ، والمقت ، فوجب إماطة التّهمة بإظهارها ، وأما التطوع فحقه أن يخفى ؛ لأنه مما لا يلام بتركه ، ولا تهمة فيه ، فإن أظهره قاصدا للاقتداء كان جميلا ، وإن قصد بإظهاره أن الأعين تنظر إليه ، ويثنى عليه بالصّلاح فهو الرياء.

قوله : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ). في «الماعون» أوجه :

أحدها : «فاعول» من المعن ، وهو الشيء القليل ، يقال : ما له معنة ، أي : قليل ، قاله قطرب.

الثاني : أنه اسم مفعول من أعانه يعينه [والأصل : معون ، وكان من حقّه على هذا أن يقال : معون ك «مقول» و «مصون» اسم مفعول من : قال وصان ، ولكن قلبت الكلمة بأن قدمت عينها قبل فائها ، فصار موعون ، ثم قلبت الواو الأولى ألفا كقولهم تاب وصام في توبة وصومة ، فوزنه الآن مفعول ، وفيه شذوذ معان كقام ، وأما مفعول فاسم مفعول الثلاثي.

٥١٧

الثاني : القلب وهو خلاف الأصل.

الثالث : قلب حرف العلة ألفا وإن لم يتحرك ، وقياسه على تابه وصامه بعيد لشذوذ المقيس عليه ، وقد يجاب عن الثالث بأن الواو متحركة في الأصل قبل القلب ، فإنه بزنة معوون الوجه](١).

والثالث : أن أصله «معونة» والألف عوض عن الهاء.

ووزنه «مفعل» ك «ملوم» ، ووزنه بعد الزياة «ما فعل».

فصل في تفسير الماعون

اختلف المفسرون في «الماعون» ، وأحسنها : أنه كل ما يستعان به ، وينتفع به كالفأس والدلو ، والمقدحة.

قال الأعشى : [المتقارب]

٥٣٢٣ ـ بأجود منه بماعونه

إذا ما سماؤهم لم تغم (٢)

ولم يذكر المفعول الأول للمنع ، إما للعلم به ، أي : يمنعون النّاس ، أو الطالبين ، وإما لأن الغرض ذكر ما يمنعونه ، تنبيها لخساستهم ، وضنّهم بالأشياء النافعة المستقبح منها عند كل أحد.

فإن قيل : هذه الآية تدلّ على التهديد العظيم بالسّهو عن الصّلاة ، والرياء ، ومنع الماعون ، وذلك من باب الذنوب ، ولا يصير المرء به منافقا ، فلم حكم الله بمثل هذا الوعيد على هذا الفعل؟ فالجواب من وجوه :

الأول : قال ابن الخطيب (٣) : المراد بالمصلين هنا المنافقون الذين يأتون بهذه الأفعال وعلى هذا التقدير : دلّت الآية على أن الكافر له مزيد عقوبة على فعل محظورات الشرع ، وتركه واجبات الشّرع ، وذلك يدل على أنّ الكفار مخاطبون بفروع الإسلام.

الثاني : قيل لعكرمة : من منع شيئا من المتاع كان له الويل؟ فقال : لا ، ولكن من جمع ثلاثتهن فله الويل ، يعني : ترك الصلاة ، وفعل الرياء ، وترك الماعون.

روى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) غفر الله له إن كان مؤدّيا للزّكاة» (٤). والله تعالى أعلم.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر ديوانه (٢١٧٠) ، والقرطبي ٢٠ / ١٤٥ ، والبحر ٨ / ٥١٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٦.

(٣) الفخر الرازي ٣٢ / ١٠٧.

(٤) تقدم تخريجه مرارا.

٥١٨

سورة الكوثر

مكية ، في قول ابن عبّاس ، والكلبي ، ومقاتل ، ومدنيّة في قول الحسن ، وعكرمة ، ومجاهد ، وقتادة (١) ، وهي ثلاث آيات ، وعشر كلمات ، واثنان وأربعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ)(٣)

قوله : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) ، قرأ الحسن وابن محيصن ، وطلحة ، والزعفراني (٢) : «أنطيناك» بالنون. قال الرازي ، والتبريزي : أبدل من العين نونا.

فإن عنينا البدل الصناعي فليس بمسلّم ، لأن كل مادة مستقلة بنفسها ، بدليل كمال تصريفها ، وإن عنينا بالبدل : أن هذه وقعت موقع هذه لغة ، فقريب ، ولا شكّ أنها لغة ثابتة.

قال التبريزي : هي لغة العرب العاربة من أولى قريش.

وفي الحديث : «اليد العليا المنطية ، واليد السّفلى المنطاة» (٣).

وقال الشاعر وهو الأعشى : [المتقارب]

٥٣٢٤ ـ جيادك خير جياد الملوك

تصان الجلال وتنطى الحلولا (٤)

قال القرطبي (٥) : «وروته أم سلمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قراءة ، وهي لغة في العطاء أنطيته : أعطيته».

__________________

(١) ذكر السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٨٦) ، عن ابن عباس وابن الزبير وعائشة أنها مكية وعزاه إلى ابن مردويه.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٢٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٢٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٧.

(٣) ينظر جامع المسانيد (٢ / ٥٩٨).

(٤) ينظر الديوان ص ٨٨ ، واللسان (جلل) ، والبحر ٨ / ٥٢٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٧.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٤٧.

٥١٩

والكوثر : «فوعل» ، من الكثرة ، وصف مبالغة في المفرط الكثرة ، مثل النوفل من النّفل ، والجوهر من الجهر ، والعرب تسمي كل شيء كثيرا في العدد ، والقدر ، والخطر : كوثرا ؛ قال : [الطويل]

٥٣٢٥ ـ وأنت كثير يا ابن مروان طيّب

وكان أبوك ابن العقائل كوثرا (١)

قيل لعجوز رجع ابنها من السّفر : بم آب ابنك؟.

قالت : آب بكوثر ، أي : بمال كثير.

والكوثر من الغبار الكثير ، وقد تكوثر إذا كثر ؛ وقال الشاعر :

٥٣٢٦ ـ وقد ثار نقع الموت حتّى تكوثرا (٢)

فصل في المراد بالكوثر

اختلفوا في الكوثر الذي أعطيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقيل : نهر في الجنة رواه البخاري وغيره (٣).

وروى الترمذي عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الكوثر : نهر في الجنّة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدّرّ والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل ، وأبيض من الثّلج» (٤).

وقال عطاء : هو حوض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥) في الموقف وفيه أحاديث كثيرة.

وقال عكرمة : الكوثر : النبوة ، والكتاب (٦).

وقال الحسن : هو القرآن (٧). وقال ابن المغيرة : الإسلام.

وقال ابن كيسان : هو الإيثار.

__________________

(١) قائله هو الكميت ، ينظر ديوانه ١ / ٢٧٩ ، والكشاف ٤ / ٨٠٦ ، واللسان (كثر) ، والقرطبي ٢٠ / ١٤٧ ، والبحر ٨ / ٥٢١ ، والدر المصون ٦ / ٥٧٧.

(٢) عجز بيت وصدره :

أبوا أن يبيحوا جارهم لعدوّهم

ينظر ديوان الحماسة للتبريزي ١ / ١٢٥ ، والقرطبي ٢٠ / ١٤٧.

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٦٠٣) ، كتاب : التفسير ، باب : إنا أعطيناك الكوثر حديث (٤٩٦٥) ، من حديث عائشة.

(٤) أخرجه الترمذي (٣٣٥٨) ، وابن ماجه (٤٣٣٤) ، وأحمد (٢ / ١١٢) ، من حديث ابن عمر.

(٥) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٣٥٤) ، والقرطبي (٢٠ / ١٤٨).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧١٨) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٨٨) ، وزاد نسبته إلى هناد وابن أبي حاتم وابن عساكر عن عكرمة.

(٧) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٨٨) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن الحسن.

٥٢٠