اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

والباقون مبنيا للفاعل ، جعلوه غير منقول ، فتعدى لواحد فقط ، فإن الرؤية بصرية.

وأمير المؤمنين ، وعاصم ، وابن كثير (١) في رواية عنهم : بالفتح في الأول ، والضم في الثاني ، يعني : لترونها.

ومجاهد ، وابن أبي عبلة ، وأشهب (٢) : بضمها فيهما.

والعامة على أن الواوين لا يهمزان ؛ لأن حركتهما عارضة.

وقد نصّ مكي ، وأبو البقاء على عدم جوازه ، وعللا بعروض الحركة.

وقرأ الحسن وأبو عمرو (٣) بخلاف عنهما : بهمز الواوين استثقالا لضمة الواو.

قال الزمخشري (٤) : «هي مستكرهة» ، يعني لعروض الحركة عليها ، إلا أنهم قد همزوا ما هو أولى لعدم الهمز من هذه الواو ، نحو : (اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ) [البقرة : ١٦] همزوا واو «اشترؤا» مع أنها حركة عارضة ، وتزول في الوقف ، وحركة هذه الواو ، وإن كانت عارضة ، إلا أنّها غير زائلة في الوقف ، فهو أولى بهمزها.

قوله : (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) هذا مصدر مؤكد ، كأنه قيل : رؤية اليقين نفيا لتوهم المجاز في الرؤية الأولى.

وقال أبو البقاء (٥) : لأن «رأى» ، و «عاين» بمعنى.

فصل في معنى الآية

معنى الكلام : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) بأبصاركم على البعد «ثمّ لترونّها عين اليقين» أي : مشاهدة.

وقيل : (لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) ، معناه : «لو تعلمون» اليوم في الدنيا (عِلْمَ الْيَقِينِ) بما أمامكم مما وصفت (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) بعيون قلوبكم ، فإن علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك ، وهو أن يصور لك نار القيامة (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) ، أي : عند المعاينة بعين الرأس ، فتراها يقينا ، لا تغيب عن عينك ، (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) في موقف السؤال والعرض.

قال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار ، لأن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ لما نزلت هذه الآية ، قال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم بن

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥١٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٥.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٠٦ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٥.

(٣) ينظر السابق.

(٤) الكشاف ٤ / ٧٩٢.

(٥) الإملاء ٢ / ٢٩٣.

٤٨١

التيهان من خبز شعير ، ولحم ، وبسر ، وماء عذب ، أتخاف علينا أن يكون هذا من النعيم الذي يسأل عنه؟.

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ «إنما ذلك للكفّار» ، ثم قرأ : (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ)(١) [سبأ : ١٧] ؛ ولأن ظاهر الآية يدل على ذلك لأن الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا ، والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله ، والاشتغال بذكر الله تعالى ، يسألهم عنها يوم القيامة ، حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه لسعادتهم كان من أعظم الأسباب لشقاوتهم.

وقيل : السؤال عام في حق المؤمن ، والكافر لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أوّل ما يسأل العبد يوم القيامة عن النّعيم ، فيقال له : ألم نصحح جسمك؟ ألم نروك من الماء البارد»؟.

وقيل : الزائد عما لا بد منه.

وقيل غير ذلك.

قال ابن الخطيب (٢) : والأولى على جميع النعيم ، لأن الألف واللام تفيد الاستغراق ، وليس صرف اللفظ إلى بعض أولى من غيرها إلى الباقي ، فيسأل عنها ، هل شكرها أم كفرها؟ وإذا قيل : هذا السؤال للكفار.

فقيل : السؤال في موقف الحساب.

وقيل : بعد دخول النار ، يقال لهم : إنّما حل بكم هذا العذاب لاشتغالكم في الدنيا بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم ، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة. والله أعلم.

__________________

(١) ينظر تفسير الرازي (٣٢ / ٧٧).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٢ / ٧٨.

٤٨٢

سورة العصر

مكية ، وروى ابن عباس وقتادة : أنها مدنية (١) ، وهي ثلاث آيات. [وأربع عشرة كلمة وستون حرفا](٢).

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣)

قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ). قرأ العامة : بسكون الصاد ، وسلام : «والعصر» بكسرها ، و «الصّبر» بكسر الباء.

قال ابن عطية (٣) : «وهذا لا يجوز ، إلا في الوقف على نقل الحركة».

وروي (٤) عن أبي عمرو : «بالصبر» بسكون الباء إشماما ، وهذا أيضا لا يجوز إلا في الوقف انتهى.

ونقل هذه القراءة جماعة كالهذلي ، وأبي الفضل الرازي ، وابن خالويه.

قال الهذلي : «والعصر ، والصبر ، والفجر ، والوتر ، بكسر ما قبل الساكن في هذه كلها : هارون ، وابن موسى عن أبي عمرو ، والباقون : بالإسكان ، كالجماعة» انتهى.

فهذا إطلاق منه لهذه القراءة في حالتي الوقف والوصل.

قال ابن خالويه : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) بنقل الحركة عن أبي عمرو.

قال ابن خالويه [وقال صاحب «اللوامح» : وعيسى البصرة :](٥) «بالصبر» بنقل حركة الراء إلى الباء ، لئلا يحتاج أن يأتي ببعض الحركة في الوقف ، ولا إلى أن يسكن ،

__________________

(١) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٣٣٣).

(٢) سقط من : ب.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٥٠٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٧.

(٤) المحرر الوجيز ٥ / ٥٢٠.

(٥) ينظر : الحجة ٦ / ٤٣٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٥٢٦ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٥٢٠.

٤٨٣

فيجمع بين ساكنين ، وذلك لغة شائعة ، وليست بشاذة بل مستفيضة ، وذلك دلالة على الإعراب ، وانفصال عن التقاء الساكنين ، وتأدية حق الموقوف عليه من السكون انتهى ، فهذا يؤذن بما ذكر ابن عطية ، أنه كان ينبغي ذلك.

وأنشدوا على ذلك : [الرجز]

٥٢٩٦ ـ واعتقالا بالرّجل (١)

يريد : بالرّجل.

وقال آخر : [الرجز]

٥٢٩٧ ـ أنا جرير كنيتي أبو عمر

أضرب بالسّيف وسعد بالقصر (٢)

والنقل جائز في الضم كقوله شعر :

إذ جد النّقر (٣)

وله شروط : «والعقد» الليلة واليوم قال : [الطويل]

٥٢٩٨ ـ ولن يلبث العقدان : يوم وليلة

إذا طلبا أن يدركا ما تيمّما (٤)

قال ابن عباس وغيره : «والعصر» أي : الدهر ، ومنه قول الشاعر : [الطويل]

٥٢٩٩ ـ سيل الهوى وعر وبحر الهوى غمر

ويوم الهوى شهر وشهر الهوى دهر (٥)

أقسم الله ـ تعالى ـ بالعصر لما فيه من الاعتبار للناظر بتصرف الأحوال وبتبدلها وما فيها من الأدلة على الصانع ، والعصران أيضا الغداة والعشي قال : [الطويل]

٥٣٠٠ ـ وأمطله العصرين حتّى يملّني

ويرضى بنصف الدّين والأنف راغم (٦)

يقول : إذا جاءني أول النهار وعدته آخره.

__________________

(١) سقط من : أ.

(٢) تمام الرجز :

علمنا إخواننا بنو عجل

شرب النبيذ واصطفافا بالرّجل

ينظر الأشباه والنظائر ٣ / ٧٣ ، والإنصاف ٢ / ٧٣٤ ، والخصائص ٢ / ٣٣٥ ، وشرح الأشموني ٣ / ٧٨٤ ، والخصائص ٢ / ٣٣٥ ، وشرح الأشموني ٣ / ٧٨٤ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٢٦١ ، واللسان (مسك) ، و(عجل) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٦٧ ، ونوادر أبي زيد ص ٣٠.

(٣) ينظر الإنصاف ٢ / ٧٣٣ ، والبحر ٨ / ٥٠٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٧.

(٤) البيت لحميد بن ثور في ديوانه ص ٨ ، وإصلاح المنطق ص ٣٩٤ ، ولسان العرب ٤ / ٥٧٦ (عصر) ، والقرطبي ٢٠ / ١٢٢ ، وشرح عمدة الحافظ ص ٥٨١.

والشاهد فيه قوله : «ولن يلبث القصران يوم وليلة» حيث أبدل النكرة من المعرفة مع اختلاف اللفظين.

(٥) ينظر القرطبي ٢٠ / ١٢٢.

(٦) ينظر اللسان (عصر) والقرطبي ٢٠ / ١٢٢.

٤٨٤

وقيل : إنه العشي ، وهو ما بين الزوال والغروب. قاله الحسن وقتادة.

[وقال الشاعر] :

٥٣٠١ ـ تروّح بنا يا عمرو قد قصر العصر

وفي الرّوحة الأولى الغنيمة والأجر (١)

وعن قتادة : هو آخر ساعة من النهار ، فأقسم سبحانه بأحد طرفي النهار كما أقسم بالضحى ، وهو أحد طرفي النّهار (٢) ، قاله أبو مسلم.

وقيل : هو قسم بصلاة العصر ، وهي الوسطى ؛ لأنها أفضل الصلوات ، قاله مقاتل.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الصّلاة الوسطى ، صلاة العصر» (٣).

وقيل : أقسم بعصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لفضله بتجديد النبوة فيه.

وقيل : معناه وربّ العصر.

فصل

قال مالك ـ رضي الله عنه ـ من حلف ألّا يكلم رجلا عصرا ، لم يكلمه سنة. قال ابن العربي : [إنما حمل مالك يمين الحالف ألا يكلم امرءا عصرا على السنة ، لأنه أكثر ما قيل فيه ، وذلك على أصله في تغليظ](٤) المعنى في الأيمان.

وقال الشافعي : يبر بساعة إلا أن تكون له نيّة ، وبه أقول ، إلا أن يكون الحالف عربيا ، فيقال له : ما أردت؟ فإذا فسره بما يحتمله قبل منه إلا أن يكون الأقل ، ويجيء على مذهب مالك أن يحمل على ما يفسر.

قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ، هذا جواب القسم ، والمراد به العموم بدليل الاستثناء منه ، وهو من جملة أدلة العموم.

وقال ابن عباس في رواية أبي صالح : المراد به الكافر.

وقال في رواية الضحاك (٥) : يريد جماعة من المشركين الوليد بن المغيرة والعاص ابن وائل والأسود بن عبد المطلب بن أسد بن عبد العزى والأسود بن عبد يغوث. وقوله تعالى : (لَفِي خُسْرٍ) أي : لفي غبن.

وقال الأخفش : لفي هلكة.

وقال الفراء : لفي عقوبة ، ومنه قوله : (وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً) [الطلاق : ٩] ، وقال الفراء : لفي شرّ.

__________________

(١) ينظر اللسان (عصر) ، والقرطبي ٢٠ / ١٢٢.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٨٤) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٦٧) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) تقدم تخريجه في سورة البقرة.

(٤) سقط من : ب.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٢٣).

٤٨٥

وقيل : لفي نقص ، والمعنى متقارب.

وقرأ العامة : «لفي خسر» بسكون السين ، وزيد بن علي ، وابن هرمز ، وعاصم في رواية أبي بكر ، وزاد القرطبيّ : الأعرج ، وطلحة ، وعيسى الثقفي (١) : بضمها. وهي كالعسر واليسر ، وقد تقدم في البقرة ، والوجه فيها الإتباع ، ويقال : خسر وخسر مثل عسر وعسر.

وقرأ علي بن أبي طالب (٢) : «والعصر» : ونوائب الدهر ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ)؛ وإنه فيه إلى آخر الدهر.

قال إبراهيم : إن الإنسان إذا عمّر في الدنيا وهرم لفي نقص ، وضعف ، وتراجع إلا المؤمنين ، فإنهم يكتب لهم أجورهم التي كانوا يعملونها في حال شبابهم ، ونظيره قوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) [التين : ٤ ، ٥]. قال : وقراءتنا : «والعصر إنّ الإنسان لفي خسر فإنه في آخر الدهر». والصحيح ما عليه الأمّة والمصاحف.

[وقيل : المعنى أن الإنسان لا ينفك عن تضييع عمره ؛ لأن كل ساعة تمر بالإنسان ، فإن كان في المعصية ، فالخسر ظاهر ، وكذلك إن مرت في مباح ، وإن مرت في طاعة فكان يمكن أن يأتي بها على وجه أكمل أي من الخشوع ، والإخلاص ، وترك الأعلى ، والإتيان بالأدنى نوع خسران ، والخسر والخسران مصدران ، وتنكير الخسران إما للتعظيم ، وإما للتحقير بالنسبة إلى خسر الشياطين ، والأول أظهر ، وأفرد الخسر مع كثرة أنواعه ؛ لأن الخسر الحقيقي هو حرمان عن خدمة ربه سبحانه ، وما عدا ذلك فالكعدم ، وفيه مبالغات ، ودخول «إن ، واللام» ، وإحاطة الخسر به ، أي : هو في طريق خسر وسبب خسر](٣).

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا). استثناء من الإنسان ؛ إذ المراد به الجنس على الصحيح (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ، أي : أدوا الفرائض المفترضة عليهم ، وهم أصحاب الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم قال أبي بن كعب : قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «والعصر» ثم قلت : ما تفسيرها يا نبي الله؟.

قال : «والعصر : أقسم ربكم بآخر النهار ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) ؛ أبو جهل (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أبو بكر ، (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عمر ، (وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ) : عثمان ، (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) : عليّ» (٤) رضي الله عنهم أجمعين.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٢٠ ، والقرطبي ٢٠ / ١٢٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٠٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٧.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٢٣.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٢٣).

٤٨٦

وهكذا خطب ابن عباس على المنبر ، موقوفا عليه.

ومعنى تواصوا أي تحاثوا أوصى بعضهم بعضا وحث بعضهم بعضا بالحق أي بالتوحيد وكذا روى الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما وقال قتادة بالحق أي بالقرآن وقال السدي الحق هنا الله تعالى وتواصوا بالصبر على طاعة الله والصبر عن المعاصي.

روى الثعلبي ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (وَالْعَصْرِ) ختم الله له بالصّبر ، وكان مع أصحاب رسول الله يوم القيامة» (١). والله أعلم.

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٤٨٧

سورة الهمزة

مكية ، وهي تسع آيات ، وثلاث وثلاثون كلمة ، ومائة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ)(٣)

قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) ، «الويل» لفظ الذم والسّخط ، وهي كلمة كل مكروب ، وقد تقدم الكلام في الويل ، ومعناه : الخزي ، والعذاب ، والهلكة.

وقيل : واد في جهنم.

(لِكُلِّ هُمَزَةٍ) ، أي : كثير الهمز ، وكذلك «اللّمزة» ، أي : الكثير اللّمز. وتقدم معنى الهمز في سورة «ن» واللمز في سورة «براءة».

والعامة : على فتح ميمها ، على أن المراد الشخص الذي كثر منه ذلك الفعل.

قال زياد الأعجم : [البسيط]

٥٣٠٢ ـ تدلي بودّي إذا لاقيتني كذبا

وإن أغيّب فأنت الهامز اللّمزه (١)

وقرأ أبو جعفر (٢) والأعرج : بالسكون ، وهو الذي يهمز ويلمز أي يأتي بما يلمز به واللمزة كالضحكة [لمن يكثر ضحكه ، والضحكة : بما يأتي لمن يضحك منه وهو مطرد ، يعني أن «فعلة» بفتح العين ، لمن يكثر من الفعل ، وبسكونها لمن الفعل بسببه].

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وهم المشّاءون بالنميمة ، المفرقون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العيب (٣) ، فعلى هذا هما بمعنى ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «شرار عباد الله تعالى :

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٧٩٥ ، والقرطبي ٢٠ / ١٢٤ ، والبحر ٨ / ٥١٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٨.

(٢) ينظر الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٢٤.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٨٦) ، عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٦٩) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي الدنيا في «ذم الغيبة» وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه من طرق عن ابن عباس.

٤٨٨

المشّاءون بالنّميمة المفسدون بين الأحبّة ، الباغون للبرآء العيب» (١).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن الهمزة : القتّات ، واللّمزة : المغتاب ، والقتّات : هو النمام (٢) ، يقال : قتّ الحديث يقتّه : إذا زوره وهيّأه وسواه.

[وقيل : النّمام الذي يكون مع القوم يتحدثون لينمّ عليهم ، والقتّات الذي يتسمع على القوم وهم لا يعلمون ، ثم ينم ، والقتات الذي يسأل عن الأخبار ، ثم ينميها نقله ابن الأثير.

وقال أبو العالية ، والحسن ، ومجاهد ، وعطاء بن أبي رباح : الهمزة : الذي يغتاب ويطعن في وجه الرجل ، واللّمزة : الذي يعيب به من خلفه ، وهذا اختيار النحاس.

قال : ومنه قوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) [التوبة : ٥٨].

وقال مقاتل هنا هذا القول : إن الهمزة : الذي يغتاب بالغيبة ، واللمزة الذي يغتاب في الوجه.

وقال قتادة ، ومجاهد : الهمزة : الطّعّان في أنسابهم ، وقال ابن زيد : الهامز : الذي يهمز الناس بيده ويضربهم ، واللامز : الذي يلمزهم بلسانه ويلمز بعينه].

وقال ابن كيسان : الهمزة : الذي يؤذي جلساءه بسوء اللفظ ، واللّمزة : الذي يكسر عينه على جليسه ، ويشير بعينه ، ورأسه ، وبحاجبيه.

وقرأ عبد الله بن مسعود ، وأبو وائل ، والنخعي ، والأعمش (٣) : «ويل للهمزة اللمزة».

وأصل الهمز : الكسر ، والعض على الشيء بعنف ، ومنه همز الحرف ، ويقال : همزت رأسه ، وهمزت الجوز بكفي : كسرته.

وقيل : أصل الهمز ، واللمز : الدفع والضرب لمزه يلمزه لمزا ، إذا ضربه ، ودفعه ، وكذلك همزه : أي : دفعه ، وضربه ؛ قال الراجز : [الرجز]

٥٣٠٣ ـ ومن همزنا عزّه تبركعا

على استه زوبعة أو زوبعا (٤)

__________________

(١) أخرجه أحمد (٦ / ٤٥٩) ، من حديث أسماء بنت يزيد وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٨ / ٩٦) ، وقال : رواه أحمد وفيه شهر بن حوشب وقد وثقه غير واحد وبقية رجال أحمد أسانيده رجال الصحيح.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٨٧).

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٢١ ، والقرطبي ٢٠ / ١٢٥.

(٤) ينظر ديوان رؤبة ص ٩٣ ، وسمط اللآلىء ١ / ٣٢١ ، والأمالي للقالي ١ / ١٣٧ ، واللسان (همز) ، والقرطبي ٢٠ / ١٢٥.

٤٨٩

البركعة : القيام على أربع ، وبركعه فتبركع ، أي : صرعه ، فوقع على استه ، قاله في «الصحاح» (١).

فصل فيمن نزلت فيه السورة

روى الضحاك عن ابن عبّاس : أنها نزلت في الأخنس بن شريق ، كان يلمز الناس ، ويعيبهم مقبلين ، ومدبرين (٢).

وقال ابن جريج : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يغتاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ورائه ، ويقدح فيه في وجهه (٣).

وقيل : إنها نزلت في أبي بن خلف.

وقيل : في جميل بن عامر الثقفي.

وقيل : إنها عامة من غير تخصيص ، وهو قول الأكثرين.

قال مجاهد : ليست بخاصة لأحد ، بل لكل من كانت هذه صفته (٤).

وقال الفراء : يجوز أن يذكر الشيء العام ، ويقصد به الخاص ، قصد الواحد إذا قال : أزورك أبدا ، فتقول : من لم يزرني فلست بزائره ، تعني ذلك القائل.

فصل في نظم الآية

قال ابن الخطيب (٥) : فإن قيل : لم قال : «ويل» منكرا ، وفي موضع آخر : «ولكم الويل» معرفا؟.

فالجواب : لأن ثمة قالوا : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) [الأنبياء : ٤٠] ، فقال : «ولكم الويل» ، وهاهنا نكر ، حتى لا يعلم كنهه إلا الله تعالى.

قيل في «ويل» إنها كلمة تقبيح ، و «ويس» استصغار ، «ويح» ترحم ، فنبه بهذا على قبيح هذا الفعل.

قوله : (الَّذِي جَمَعَ) قرأ ابن عامر (٦) والأخوان : بتشديد الميم ، على المبالغة ، والتكثير.

والباقون : مخففا ، وهي محتملة للتكثير وعدمه.

__________________

(١) ينظر الصحاح ٣ / ١١٨٥.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٢٥).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٨٨) ، عن مجاهد.

(٥) الفخر الرازي ٣٢ / ٨٦.

(٦) ينظر : السبعة ٦٩٧ ، والحجة ٦ / ٤٤١ ، وإعراب القراءات ٢ / ٥٢٩ ، وحجة القراءات ٧٧٢.

٤٩٠

وقوله تعالى : (وَعَدَّدَهُ) ، العامة : على تثقيل الدّال الأولى ، وهي أيضا للمبالغة.

وقرأ الحسن والكلبي (١) : بتخفيفها ، وفيه أوجه :

أحدها : أن المعنى جمع مالا ، وعدد ذلك المال ، أي : وجمع عدده ، أي : أحصاه.

والثاني : أن المعنى وجمع عدد نفسه من عشيرته ، وأقاربه وعدده ، وعلى هذين التأويلين اسم معطوف على «مالا» ، أي : وجمع عدد المال ، وعدد نفسه.

والثالث : أن عدده فعل ماض بمعنى عده ، إلا أنه شذّ في إظهاره كما شذّ في قوله : [البسيط]

٥٢٩٣ ـ ..........

إنّي أجود لأقوام وإن ضننوا (٢)

أي : ضنوا وبخلوا ، فأظهر التضعيف.

و «الذي» بدل من كل أو نصب على الذم ، وإنما وصفه تعالى بهذا الوصف ، لأنه يجري مجرى المسبب والعلة في الهمز واللمز وهو إعجابه بما جمع من المال ، وظنه أن الفضل فيه لأجل ذلك فيستنقص غيره.

فصل في معنى جمع المال

قال المفسرون : «جمع مالا وعدّده» ، أي : أعده لنوائب الدهر ، مثل : كرم ، وأكرم.

وقيل : أحصى عدده. قاله السدي (٣).

وقال الضحاك : أي : أعد ماله (٤) لمن يرثه من أولاده.

وقيل : تفاخر بعدده ، وكثرته ، والمقصود : الذم على إمساك المال على سبيل الطاعة ، كقوله : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) [ق : ٢٥].

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٢١ ، والبحر المحيط ٨ / ٥١٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٨.

(٢) عجز بيت لقعنب ابن أمّ صاحب وصدره :

مهلا أعاذل قد جربت من خلقي

ينظر الخصائص ١ / ١٦٠ ، ٢٥٧ ، وسمط اللآلىء ص ٥٧٦ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣١٨ ، والكتاب ٢٩٨ ، ٣ / ٥٣٥ ، ولسان العرب (ظلل) ، و(ضنن) ، والمنصف ١ / ٣٣٩ ، ٢ / ٣٠٣ ، ونوادر أبي زيد ص ٤٤ ، وخزانة الأدب ١ / ١٥٠ ، ٢٤٥ ، وشرح شافية ابن الحاجب ٣ / ٢٤١ ، وشرح المفصل ٢ / ١٣ ، والمقتضب ١ / ١٤٢ ، ٢٥٣ ، ٣ / ٣٥٤.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٧٠) ، عن السدي وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣٣٦) ، والقرطبي (٢٠ / ١٢٥).

٤٩١

قوله : (يَحْسَبُ) ، يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون حالا من فاعل «جمع» ، و «أخلده» بمعنى : «يخلده» وأوقع الماضي موقع المضارع.

وقيل : هو على الأصل ، أي : أطال عمره.

قال السديّ : «يظن أن ماله أخلده ، أي : يبقيه حيا لا يموت» (١).

وقال عكرمة : أي : يزيد في عمره (٢) وقيل : أحياه فيما مضى.

وهو ماض بمعنى المستقبل ، وقالوا : هلك والله فلان ، ودخل النار. أي : يدخل النار.

قوله تعالى : (كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(٩)

قوله : (كَلَّا) ، رد لما توهمه الكفار ، أي : لا يخلد ولا يبقى له مال.

وقيل : حقا لينبذن.

قوله : (لَيُنْبَذَنَّ) ، جواب قسم مقدر ، وقرأ علي والحسن ـ رضي الله عنهما ـ بخلاف عنه ، ومحمد بن كعب ، ونصر بن عاصم ، وحميد ، وابن محيصن ، وأبو عمرو في رواية(٣): «لينبذانّ» بألف التثنية ، لينبذان أي : هو وماله.

وعن الحسن أيضا (٤) : «لينبذنّ» بضم الذال ، وهو مسند لضمير الجماعة ، أي : ليطرحن الهمزة ، وأنصاره واللمزة ، والمال ، وجامعه معا.

وقرأ الحسن (٥) أيضا : «لينبذنّه» على معنى لينبذن ماله.

وعنه أيضا : بالنون «لننبذنّه» على إخبار الله ـ تعالى ـ عن نفسه ، وأنه ينبذ صاحب المال. (فِي الْحُطَمَةِ) وهي نار الله ، سميت بذلك ؛ لأنها تكسر كل ما يلقى فيها وتحطمه ، وتهشمه ، والحطمة : الكثير الحطم ، يقال : رجل حطمة : أي أكول ، وحطمته : كسرته ، قال : [الرجز]

__________________

(١) ذكره القرطبي (٢٠ / ١٢٧) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٧٠) ، عنه بمعناه وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) ينظر : إعراب القراءات ٢ / ٥٣٠ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٥٢٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٥١٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٩.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٢٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٥١٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٩.

(٥) ينظر : السابق.

٤٩٢

٥٣٠٤ ـ ..........

قد لفّها اللّيل بسوّاق حطم (١)

وقال آخر : [الرجز]

٥٣٠٥ ـ إنّا حطمنا بالقضيب مصعبا

يوم كسرنا أنفه ليغضبا (٢)

حكى الماوردي عن الكلبي : أن الحطمة ، هي الطبقة السادسة من طبقات جهنم ، وحكي القشيريّ عنه : «الحطمة» الدرجة الثانية من درج النار (٣).

وقال الضحاك : وهي الدرك الرابع (٤).

وقال ابن زيد : اسم من أسماء جهنم (٥).

قوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) ، على التعظيم لشأنها ، والتفخيم لأمرها ، ثم فسرها ما هي فقال : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) ، أي : هي نار الله التي أوقد عليها ألف عام ، حتى احمرت ، وألف عام حتى اسودّت ، وألف عام حتى ابيضّت.

قوله : (الَّتِي تَطَّلِعُ) يجوز أن تكون تابعة ل «نار الله» ، وأن تكون مقطوعة.

قال محمد بن كعب : تأكل النار جميع ما في أجسادهم ، حتى إذا بلغت إلى الفؤاد ، خلقوا خلقا جديدا ، فرجعت تأكلهم ، وكذلك روى خالد بن أبي عمران عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ النار تأكل أهلها ، حتى إذا طلعت على أفئدتهم انتهت ، ثمّ إذا صدروا تعود ، فذلك قوله تعالى : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ)(٦). وخص الأفئدة ؛ لأن الألم إذا صار إلى الفؤاد مات صاحبه ، أي : أنه في حال من يموت ، وهم لا يموتون ، كما قال تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) [طه : ٧٤] فهم إذا أحياء ، في معنى الأموات.

وقيل : معنى (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي : تعلم مقدار ما يستحقه كل واحد منهم من العذاب ، وكذلك بما استبقاه الله ـ تعالى ـ من الأمارة الدّالة عليه ، ويقال : اطّلع فلان على كذا : أي : علمه ، [وقد قال تعالى : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) [المعارج : ١٧].

__________________

(١) نسب البيت إلى رشيد بن رميض ، وللأغلب العجلي ، وللحطم القيسي ، ولأبي زغيبة الأنصاري ، ولأبي زغبة الخزرجي.

ينظر الأغاني ١٥ / ١٩٩ ، ٢٠٠ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٣٥٥ ، والحماسة الشجرية ١ / ١٤٤ ، وشرح المفصل ١ / ٩٢ ، والكتاب ٣ / ٢٢٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٢٨٦ ، واللسان (حطم) ، و(خفق) وأساس البلاغة ص ٨٨ (حطم) ، وجمهرة اللغة ص ٨٣ ، وسمط اللآلىء ص ٥٩ ، وشرح المفصل ٦ / ١١٢ ، وما ينصرف وما لا ينصرف ص ٣٩ ، والمقتضب ١ / ٥٥ ، ٣ / ٣٢٣.

(٢) ينظر القرطبي ٢ / ١٢٦ ، والبحر ٨ / ٥٠٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٦٩. وفتح القدير ٥ / ٤٩٤.

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣٣٦) ، وينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ١٢٦).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٢٦).

٤٩٣

وقال تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً)](١) [الفرقان : ١٢].

قوله تعالى : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ). أي : مطبقة عليهم ، قاله الحسن والضحاك (٢) وقد تقدم في سورة البلد.

وقيل : مغلقة بلغة قريش ، يقولون : أصدت الباب : إذا أغلقته. قاله مجاهد (٣).

ومنه قول عبيد الله بن قيس الرقيات : [الخفيف]

٥٣٠٦ ـ إنّ في القصر لو دخلنا غزالا

مصفقا موصدا عليه الحجاب (٤)

قوله : (عَمَدٍ). قرأ (٥) الأخوان وأبو بكر : بضمتين ، جمع عمود ، نحو رسول ورسل.

وقيل : جمع عماد ، نحو : كتاب وكتب.

وروي عن أبي عمرو : الضم ، والسكون ، وهو تخفيف لهذه القراءة.

والباقون : «عمد» بفتحتين ، فقيل : بل هو اسم جمع ل «عمود».

وقيل : بل هو جمع له.

قال الفراء : ك «أديم وأدم».

وقال أبو عبيدة : هو جمع عماد.

و «في عمد» يجوز أن يكون حالا من الضمير في «عليهم» ، أي : موثقين ، وأن يكون خبرا لمبتدأ مضمر ، أي : هم في عمد ، وأن يكون صفة ل «مؤصدة» ، قاله أبو البقاء(٦). يعني : فتكون النّار داخل العمد.

وقال القرطبي (٧) : «الفاء بمعنى الباء ، أي : موصدة بعمد ممددة». قاله ابن مسعود ، وهي في قراءته : «بعمد ممددة».

قال الجوهريّ (٨) : العمود : عمود البيت ، وجمع القلّة : أعمدة ، وجمع الكثرة : عمد وعمد ، وقرىء بهما في قوله تعالى : (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ).

__________________

(١) سقط من : أ.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٨٩) ، عن ابن عباس وعطية والحسن والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٧٠) ، عن ابن عباس وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٨٩) ، عن ابن زيد. وينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ١٣٧).

(٤) ينظر ديوانه ٨٤ ، والقرطبي ٢٠ / ١٢٧.

(٥) ينظر : السبعة ٦٩٧ ، والحجة ٦ / ٤٤٢ ـ ٤٤٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٥٣٠ ، وحجة القراءات ٧٧٣.

(٦) ينظر الإملاء ٢ / ٢٩٤.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٢٧.

(٨) الصحاح ٢ / ٥١١.

٤٩٤

وقال أبو عبيدة : العمود : كل مستطيل من خشب ، أو حديد ، وهو أصل للبناء مثل العماد. عمدت الشيء فانعمد أي : أقمته بعماد يعتمد عليه ، وأعمدته أي جعلت تحته عمادا.

فصل في معنى الآية

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ الله تبارك وتعالى يبعث عليهم ملائكة بأطباق من نار ، ومسامير من نار ، وعمد من نار ، فتطبق عليهم بتلك الأطباق ، وتسدّ بتلك المسامير ، وتمدّ بتلك العمد ، فلا يبقى فيها خلل يدخل منه روح ولا يخرج منه غمّ ، فيكون فيها زفير وشهيق ، فذلك قوله تعالى (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ)(١).

وقال قتادة : عمد يعذبون بها (٢) ، واختاره الطّبري (٣).

وقال ابن عبّاس : إن العمد الممددة أغلال في أعناقهم (٤).

وقال أبو صالح : قيود في أرجلهم.

وقال القشيري : العمد : أوتاد الأطباق.

وقيل : المعنى ، في دهور ممدودة ، لا انقطاع لها.

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ) أعطي من الأجر عشر حسنات ، وبعدد من استهزأ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٥).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٧١) ، وعزاه إلى الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» عن أبي هريرة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٩٠) ، عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٧٠) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) ينظر جامع البيان ١٢ / ٦٩٠.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٩٢) ، والبيهقي في «دلائل النبوة» (١ / ١٢٢) ، من طريق محمد بن سيرين عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٧٤) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٩٣) ، والبيهقي في «الدلائل» (١ / ١٢٣) ، عن عكرمة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٧٥) ، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم.

٤٩٥

سورة الفيل

مكية ، وهي خمس آيات ، وعشرون كلمة ، وستة وتسعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(٥)

قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ) ، هذه قراءة الجمهور ، أعني : فتح الراء وحذف الألف للجزم.

وقرأ السلمي (١) : «تر» بسكون الراء ، كأنه لم يعتمد بحذف الألف.

وقرأ أيضا (٢) : «ترأ» بسكون الراء وهمزة مفتوحة ، وهو الأصل ، و «كيف» معلقة للرؤية ، وهي منصوبة بفعل بعدها ، لأن (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ) من معنى الاستفهام.

فصل في معنى الآية

المعنى : ألم تخبر.

وقيل : ألم تعلم.

وقال ابن عباس : ألم تسمع (٣)؟ واللفظ استفهام والمعنى تقرير ، والخطاب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولكنه عام ، أي : ألم تروا ما فعلت بأصحاب الفيل؟ أي : قد رأيتم ذلك ، وعرفتم موضع منتي عليكم ، فما لكم لا تؤمنون؟.

فصل في لفظ «الفيل»

الفيل معروف ، والجمع : أفيال ، وفيول ، وفيلة.

قال ابن السكيت : ولا يقال : «أفيلة» والأنثى فيلة ، وصاحبه : فيال.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٢٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٥١٢.

(٢) ينظر : السابق ، والدر المصون ٦ / ٥٧١.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٣٤).

٤٩٦

قال سيبويه : يجوز أن يكون أصل «فيل» : «فعلا» فكسر من أجل الياء ، كما قالوا : أبيض وبيض.

وقال الأخفش : هذا لا يكون في الواحد ، إنما يكون في الجمع ، ورجل فيل الرأي ، أي : ضعيف الرأي والجمع : أفيال ، ورجل فال : أي : ضعيف الرأي ، مخطىء الفراسة ، وقد فال الرأي ، يفيل ، فيولة ، وفيّل رأيه تفييلا : أي : ضعفه ، فهو فيّل الرأي.

فصل في نزول السورة

روي أن أبرهة بن الصباح الأشرم ـ ملك «اليمن» ـ بنى كنيسة ب «صنعاء» لم ير مثلها ، وسمّاها القليس ، وأراد أن يصرف إليها الحاج ، فخرج رجل من بني كنانة مختفيا ، وجعل يبول ويتغوط في تلك الكنيسة ليلا ، فأغضبه ذلك.

وقيل : أجج نارا فحملتها ريح فأحرقتها ، فقال : من صنع هذا؟ فقيل له : رجل من أهل البيت الذي يحج العرب إليه ، فحلف ليهدمنّ الكعبة ، فخرج بجيشه ومعه فيل اسمه محمود ، وكان قويّا عظيما وثمانية أخرى. وقيل : اثنا عشر. وقيل : ألف ، وبعث رجلا إلى بني كنانة يدعوهم إلى حج تلك الكنيسة فقتلت بنو كنانة ذلك الرجل ، فزاد ذلك أبرهة غضبا وحنقا ، فسار ليهدم الكعبة ، فلما بلغ قريبا من «مكة» خرج إليه عبد المطلب ، وعرض عليه ثلث أموال «تهامة» ، ليرجع فأبى ، وقدم الفيل ، فكانوا كلما وجهوه إلى الحرم برك ، وإذا وجهوه إلى «اليمن» ، أو إلى سائر الجهات هرول ، ثم إن أبرهة أخذ لعبد المطلب مائتي بعير ، فخرج إليهم بسببها ، فلما رآه أبرهة عظم في عينه ، وكان رجلا جسيما وقيل له : هذا أسد قريش ، وصاحب عير «مكة» ، فنزل أبرهة عن سريره ، وجلس معه على بساطه ، ثم قال لترجمانه : قل له حاجتك ، فلما ذكر حاجته قال له : سقطت من عيني جئت لأهدم البيت الذي هو دينك ، ودين آبائك ، لا تكلمني فيه ، وألهاك عنه ذود لم أحسبها لك ، فقال عبد المطلب : أنا ربّ الإبل ، وإنّ للبيت ربّا سيمنعه ، ثم رجع وأتى البيت ، فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقام معه نفر من قريش يدعون الله تعالى ، ويستنصرونه على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب : [مجزوء الكامل]

٥٣٠٧ ـ لاهمّ إنّ العبد يم

نع رحله فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم عدوا محالك

إن يدخلوا البلد الحرا

م فأمر ما بدا لك (١)

وقال آخر : [الرجز]

٥٣٠٨ يا ربّ لا أرجو لهم سواكا

يا ربّ فامنع منهم حماكا

__________________

(١) ينظر الطبري ٣٠ / ١٩٥ ، والكشاف ٤ / ٧٩٨ ، ومجمع البيان ١٠ / ٨٢٢ ، والقرطبي ٢٠ / ١٣٠.

٤٩٧

إنّ عدوّ البيت من عاداكا

إنّهم لن يقهروا قواكا (١)

فالتفت ، وهو يدعو ، فإذا هو بطير من ناحية «اليمن» ، فقال : والله إنها لطير غريبة ، ما هي بنجدية ولا تهامية ، وكان مع كل طائر حجر في منقاره ، وحجران في رجليه أكبر من العدسة ، وأصغر من الحمصة.

قال الراوي : فأرسل عبد المطلب حلقة الكعبة ثم انطلق هو ومن معه من قريش إلى شعب الجبال ، فتحرّزوا فيها ينظرون ما يفعل أبرهة إذا دخل «مكة» ، فأرسل الله عليهم طيرا من البحر [أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار فكان الحجر يقع](٢) على رأس الرجل فيخرج من دبره ، وعلى كل حجر اسم من يقع عليه ، فهلكوا في كل طريق ، ومنهل.

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه رأى من تلك الأحجار عند أم هانىء نحو قفيز مخططة بحمرة كالجزع الظفاري (٣).

قال الراوي : وليس كلهم أصابت ، وخرجوا هاربين يبتدرون إلى الطّريق التي منها جاءوا.

وروي أن أبرهة تساقطت أنامله ، وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ، وانقلب هو ووزيره أبو يكسوم ، وطائر يحلق فوقه حتى قدموا «صنعاء» وهو مثل فرخ الطائر.

وقيل : قدموا على النجاشي ، فقصّ عليه القصة فلما تممها وقع عليه الحجر فخرّ ميتا بين يديه.

فصل في ميلاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

حكى الماوردي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ولدت عام الفيل» (٤).

وقال في كتاب «أعلام النبوة» : ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول ، وكان بعد الفيل بخمسين يوما ، ووافق من شهور الروم العشرين من أشباط ، في السّنة الثانية عشرة من ملك هرمز بن أنوشروان.

قال : وحكى أبو جعفر الطبري : أن مولده صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان لاثنتين وأربعين سنة من ملك أنوشروان.

__________________

(١) الأبيات لعبد المطلب بن هاشم قالها وهو واقف بباب الكعبة عندما أراد الأحباش هدمها.

ينظر الطبري ٣٠ / ١٩٥ ، والكشاف ٤ / ٧٩٩ ، ومجمع البيان ١٠ / ٨٢٣ ، والقرطبي ٢٠ / ١٣٠.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٣٣٩ ـ ٣٤٠) ، والقرطبي (٢٠ / ١٢٩ ـ ١٣٤) ، والدر المنثور (٦ / ٦٧٢ ـ ٦٧٣).

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣٣٨).

٤٩٨

وقيل : إنه ـ عليه‌السلام ـ حملت به أمه آمنة في يوم عاشوراء من المحرم حكاه ابن شاهين أبو حفص في فضائل يوم عاشوراء ، وولد يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ، فكانت مدة الحمل ثمانية أشهر كملا ويومين من التاسع.

وقال ابن العربي : قال ابن وهب عن مالك : ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفيل [قال] قيس بن مخرمة : ولدت أنا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفيل.

وقال عبد الملك بن مروان لعتّاب بن أسيد : أنت أكبر أم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقال : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أكبر مني وأنا أسنّ منه ، ولد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عام الفيل ، وأنا أدركت سائسه وقائده أعميين مقعدين يستطعمان الناس.

فصل في أن قصة الفيل من معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

قال بعض العلماء : كانت قصة الفيل فيما بعد من معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن كانت قبله ، وقبل التحدي ، لأنها كانت توكيدا لأمره ، وتمهيدا لشأنه ، ولما تلا عليهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه السورة كان بمكة عدد كثير ممن شهد تلك الواقعة ، ولهذا قال : «ألم تر» ولم يكن ب «مكة» أحد إلّا وقد رأى قائد الفيل ، وسائقه أعميين [يتكففان](١) الناس.

قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ مع حداثة سنّها : «لقد رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان النّاس» (٢).

قوله : (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) ، أي : في إبطال ، وتضييع ؛ لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشا بالقتل ، والسبي ، والبيت بالتخريب ، والهدم.

قالت المعتزلة (٣) : إضافة الكيد إليهم دليل على أنه ـ تعالى ـ لا يرضى بالقبيح ، إذ لو رضي لأضافه إلى ذاته.

قوله : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ).

قال النحاة : «أبابيل» نعت ل «طير» لأنه اسم جمع.

وأبابيل : قيل : لا واحد له ، كأساطير وعناديد.

وقيل : واحده : «إبّول» ك «عجّول».

وقيل : «إبّال» ، وقيل : «إبّيل» مثل سكين.

وحكى الرقاشيّ : «أبابيل» جمع «إبّالة» بالتشديد.

__________________

(١) في ب : يستطعمان.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٣٣) ، وقد أخرجه البيهقي في «الدلائل» (١ / ١٢٥).

(٣) ينظر الرازي ٣٢ / ٩٢ ـ ٩٣.

٤٩٩

وحكى الفرّاء : «إبالة» مخففة.

فصل في لفظ «أبابيل»

الأبابيل : الجماعات شيئا بعد شيء ؛ قال : [الطويل]

٥٣٠٩ ـ طريق وجبّار رواء أصوله

عليه أبابيل من الطّير تنعب (١)

وقال آخر : [البسيط]

٥٣١٠ ـ كادت تهدّ من الأصوات راحلتي

إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل (٢)

قال أبو عبيدة : أبابيل : جماعات في تفرقة ، يقال : جاءت الطير أبابيل من هاهنا ، وهاهنا.

قال سعيد بن جبير : كانت طيرا من السّماء لم ير مثلها (٣).

وروى الضحاك عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّها طير بين السّماء والأرض تعشّش وتفرّخ» (٤).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ كان لها خراطيم كخراطيم الفيلة ، وأكفّ كأكفّ الكلاب (٥).

وقال عكرمة : كانت طيرا خضرا خرجت من البحر ، لها رءوس كرءوس السّباع ، ولم تر قبل ذلك ، ولا بعده (٦).

وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : هي أشبه شيء بالخطاطيف (٧).

[وقيل : إنها أشبه بالوطاويط].

وقيل : إنها العنقاء التي يضرب بها الأمثال.

قال النحاس : وهذه الأقوال متفقة المعنى ، وحقيقة المعنى : أنها جماعات عظام ، يقال : فلان يؤبل على فلان ، أي : يعظم عليه ويكثر ، وهو مشتقّ من الإبل.

قال ابن الخطيب (٨) : هذه الآية ردّ على الملحدين جدّا ، لأنهم ذكروا في الزّلازل ، والرياح والصواعق ، والخسف ، وسائر الأشياء التي عذب الله ـ تعالى ـ بها الأمم أعذارا

__________________

(١) البيت للأعشى ، ينظر ديوانه ١١ ، والقرطبي ٢٠ / ١٣٤ ، ومجمع البيان ١٠ / ٨٢٥ ، والبحر ٨ / ٥١١ ، والدر المصون ٦ / ١٣٤.

(٢) ينظر القرطبي ٢٠ / ١٣٤ ، والبحر ٨ / ٥١١ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٠.

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣٤٢) ، والقرطبي (٢٠ / ١٣٤).

(٤) ينظر المصدر السابق وقد ذكراه من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر المصدر السابق.

(٧) سقط من : ب.

(٨) الفخر الرازي ٣٢ / ٩٢ ـ ٩٣.

٥٠٠