اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)(٨)

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) كما مرّ في أول السورة ، وقوله تعالى : (فِي نارِ) هذا هو الخبر ، و (خالِدِينَ) حال من الضمير المستكن في الخبر.

قوله : (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ).

وقرأ نافع وابن ذكوان (١) : «البريئة» بالهمز في الحرفين ، والباقون : بياء مشددة.

واختلف في ذلك الهمز ، فقيل : هو الأصل من برأ الله الخلق : ابتدأه واخترعه ، قال تعالى: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢] ، فهي فعيلة بمعنى مفعولة ، وإنما خففت والتزم تخفيفها عند عامة العرب.

وقد تقدم أن العرب التزمت غالبا تخفيف ألفاظ منها : النبي ، والجاثية ، والذرية.

قال القرطبي (٢) : «وتشديد الياء عوض من الهمزة».

وقيل : «البريّة» دون همز مشتقة من «البرى» وهو التراب ، فهي أصل بنفسها ، والقراءتان مختلفتا الأصل متّفقتا المعنى. إلا أن عطية ضعف هذا ، فقال (٣) : «وهذا الاشتقاق يجعل الهمز خطأ ، وهو اشتقاق غير مرض» انتهى.

يعني أنه إذا قيل : إنها مشتقة من «البرى» وهو التراب ، فمن أين تجيء الهمزة في القراءة الأخرى.

قال شهاب الدين (٤) : «هذا غير لازم ، لأنهما قراءتان مشتقتان ، لكل منهما أصل مستقل ، فتلك من «برأ» ، أي : خلق ، وهذه من «البرى» لأنهم خلقوا منه ، والمعني بالقراءتين شيء واحد وهو جميع الخلق ، ولا يلتفت إلى من ضعف الهمز من النحاة لثبوته متواترا».

قال القشيريّ : «ومن قال : البرية من البرى ، وهو التراب ، قال : لا تدخل الملائكة تحت هذه اللفظة».

وقيل : البرية : من بريت القلم ، أي قدرته ، فتدخل فيه الملائكة ، ولكنه قول ضعيف ؛ لأنه يجب فيه تخطئة من همز.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٩٣ ، والحجة ٦ / ٤٢٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٥١٣ ، وحجة القراءات ٧٦٩.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٩٨.

(٣) المحرر الوجيز ٥ / ٥٠٨.

(٤) الدر المصون ٦ / ٥٥٣.

٤٤١

وقوله : (هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) ، أي : شر الخليقة ، فقيل : يحتمل أن يكون على التعميم.

وقال قوم : أي هم شرّ البرية الذين كانوا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كقوله تعالى : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) [البقرة : ٤٧] ، أي : على عالمي زمانكم ، ولا يبعد أن يكون في كفار الأمم قبل هذا من هو شرّ منهم ، مثل : فرعون ، وعاقر ناقة صالح ، وكذا قوله : (خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) إما على التعميم ، أو خير برية عصرهم ، وقد استدل بقراءة الهمزة من فضل بني آدم على الملائكة.

وقال أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ : المؤمن أكرم على الله ـ عزوجل ـ من بعض الملائكة الذين عنده (١).

وقرأ العامة : (خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) مقابلا ل «شرّ».

وقرأ عامر بن (٢) عبد الواحد : «خيار البريّة» وهو جمع «خير» نحو : جياد ، وطياب ، في جمع جيد وطيب ؛ قاله الزمخشريّ (٣). قال ابن الخطيب (٤) : وقدم الوعيد على الوعد ، لأنه كالداء ، والوعد : كالغذاء والدّواء ، فإذا بقي البدن استعمل الغذاء ، فينتفع به البدن ، لأن الإنسان إذا وقع في شدة رجع إلى الله تعالى ، فإذا نال الدنيا أعرض.

قوله : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ). أي : ثوابهم عند خالقهم ومالكهم (جَنَّاتُ عَدْنٍ).

قال ابن الخطيب (٥) : قال بعض الفقهاء : من قال : لا شيء لي على فلان انتفى الدين ، وله أن يدعي الوديعة ، وإن قال : لا شيء لي عنده انصرف إلى الوديعة دون الدين ، وإن قال : لا شيء لي قبله انصرف إليهما معا ، فقوله تعالى : (عِنْدَ رَبِّهِمْ) يفيد أنها أعيان مودعة عنده ، والعين أشرف من الدين ، والضمان إنما يرغب فيه خوف الهلاك ، وهو محال في حقه تعالى. وتقدم الكلام على نظيره.

قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، الجنات : البساتين ، والعدن : الإقامة ، يقال : عدن بالمكان يعدن عدنا وعدونا ، أي : أقام. ومعدن الشيء : مركزه ومستقره ، وقيل : «عدن»: بطنان الجنة ووسطها.

قوله : (خالِدِينَ فِيها) ، حال عامله محذوف ، تقديره : ادخلوها خالدين ، أو أعطوها ، ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير المجرور في «جزاؤهم» لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي ، على أنّ بعضهم : أجازه من «هم» واعتذر هنا بأن المصدر غير مقدر بحرف مصدري.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٤٢) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٩٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٣.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٨٣.

(٤) الفخر الرازي ٣٢ / ٤٨.

(٥) ينظر السابق ٣٢ / ٥١.

٤٤٢

قال أبو البقاء (١) : وهو بعيد ، وأما «عند ربّهم» فيجوز أن يكون حالا من «جزاؤهم» ، وأن يكون ظرفا له ، و «أبدا» ظرف مكان منصوب ب «خالدين». أي لا يظعنون ولا يموتون.

قوله : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) ، يجوز أن يكون دعاء مستأنفا ، وأن يكون خبرا ثانيا ، وأن يكون حالا ثانيا بإضمار «قد» عند من يلزم ذلك.

قال ابن عباس : «رضي الله عنهم ورضوا عنه» أي : رضوا بثواب الله تعالى (٢).

قوله : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي : ذلك المذكور من استقرار الجنة مع الخلود.

أي : خاف ربه ، فتناهى عن المعاصي.

روى أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لأبيّ بن كعب : إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، قال : وسمّاني لك؟ قال ـ عليه الصّلاة والسلام ـ : «نعم» ، فبكى. خرجه البخاري ومسلم (٣).

قال القرطبيّ (٤) : «من الفقه قراءة العالم على المتعلم».

قال بعضهم : إنما قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبيّ ، ليعلم الناس التواضع لئلا يأنف أحد من التعلم والقراءة على من دونه في المنزلة.

وقيل : إن أبيا كان أسرع أخذا لألفاظ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويعلم غيره ، فأراد بقراءته عليه أن يأخذ ألفاظه ويقرأ كما سمع منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وفيه فضيلة عظيمة لأبيّ رضي الله عنه وعن بقية الصحابة أجمعين إذ أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقرأ عليه. والله أعلم.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٩١.

(٢) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ٩٩).

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٥٩٧) ، كتاب : التفسير ، باب : سورة لم يكن (٤٩٦٠) ، ومسلم (٤ / ١٩١٥) ، كتاب : فضائل الصحابة ، باب : من فضائل أبيّ بن كعب رقم (١٢٢ / ٧٩٩) ، من حديث أنس بن مالك.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٩٤.

٤٤٣

سورة الزلزلة

مدنية (١) في قول ابن عباس وقتادة ، ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر (٢) ، وهي ثمان آيات ، وخمس وثلاثون كلمة ، ومائة وتسع وأربعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها)(٥)

قوله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها). «إذا» شرط ، وجوابه «تحدّث» ، وهو النّاصب لها عند الجمهور.

وجوّز أبو البقاء (٣) أن يكون العامل فيها مصدرا.

وغيره يجعل العامل فيها ما بعدها ، وإن كان معمولا لها بالإضافة تقديرا ، واختاره مكي ، وجعل ذلك نظير «من وما» ، يعني أنهما يعملان فيما بعدهما الجزم ، وما بعدهما يعمل فيهما النصب ، ولو مثل ب «أي» لكان أوضح.

وقيل : العامل فيها مقدر ، أي : يحشرون.

وقيل : اذكر ، وحينئذ يخرج عن الظرفية والشرط.

فصل في المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السورة المتقدمة

وجه المناسبة بين أول هذه السّورة وآخر السورة المتقدمة ، أنه تعالى لما قال : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) فكأن المكلف قال : ومتى يكون ذلك؟.

فقيل له : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) فالعاملون كلهم يكونون في الخوف ، وأنت في ذلك الوقت تنال جزاءك ، وتكون آمنا ، لقوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) [النمل : ٨٩].

وقيل : لما ذكر في السّورة المتقدمة وعيد الكافر ووعد المؤمن أراد أن يزيد في

__________________

(١) في أ : مكية.

(٢) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٣١٨).

(٣) ينظر الإملاء ٢ / ٢٩٢.

٤٤٤

وعيد الكافر ، فقال : أجازيه ، حتى يقول الكافر السابق ذكره : ما للأرض تزلزلت ، نظيره (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] ، فذكر سبحانه الطائفتين ، وذكر ما لكل طائفة ، ثم جمع بينهما في آخر السورة بذكر الذرة من الخير ، فإن قيل : «إذا» للوقت ، فكيف وجه البداية بها في السورة؟ الجواب : أنهم كانوا يسألونه عن الساعة ، فقال تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) فإنه تعالى يقول : لا سبيل إلى تعيينها بحسب وقتها ، ولكن أعينه بحسب علاماته ، أو أنه تعالى أراد أن يخبر المكلف أن الأرض تتحدث وتشهد يوم القيامة مع أنها في هذه الساعة جماد ، فكأنه لما قيل : متى يكون ذلك؟ قال تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ).

فصل في معنى الزلزلة

روى عكرمة عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان يقول : النفخة الأولى تزلزلها (١) ، وهو قول مجاهد ، لقوله تعالى : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) [النازعات : ٦ ، ٧] ، ثم تزلزل ثانية ، فتخرج موتاها ، وهي الأثقال ، وذكر المصدر للتأكيد ، ثم أضيف إلى الأرض ، كقولك : لأعطينّك عطيتك ، أي : عطيتي لك ، وحسن ذلك لموافقة رءوس الآي بعدها.

وهو مصدر مضاف لفاعله ، والمعنى زلزالها الذي تستحق ويقتضيه عظمها.

قال الزمخشري (٢) : «ونحوه قولك : أكرم التقي إكرامه ، وأهن الفاسق إهانته».

قرأ الجمهور : «زلزالها» بكسر الزاي ، والجحدري وعيسى (٣) : بفتحها.

قيل : هما مصدران بمعنى.

وقيل : المكسور مصدر ، والمفتوح اسم ، قاله الزمخشري (٤). وليس في الأبنية «فعلال» يعني غالبا ، وإلا فقد ورد : ناقة جزعال.

قال القرطبيّ (٥) : «والزّلزال ـ بالفتح ـ مصدر ، كالوسواس ، والقلقال والجرجار».

قوله : (وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها).

قال أبو عبيدة والأخفش : إذا كان الميت في بطن الأرض ، فهو ثقل لها ، وإذا كان فوقها ، فهو ثقل عليها.

وقال ابن عباس ومجاهد : «أثقالها» موتاها ، تخرجهم في النفخة الثانية (٦).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٠٠).

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٨٣.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥١٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٩٦ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٤.

(٤) ينظر الكشاف ٤ / ٧٨٣.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٠٠.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٥٩) ، عن ابن عباس ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» ـ

٤٤٥

ومنه قيل للجن والإنس : الثقلان ، وقيل : «أثقالها» : كنوزها ، ومنه الحديث : «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الإسطوان من الذهب والفضة» (١).

قوله : (وَقالَ الْإِنْسانُ) ، أي ابن آدم ، الكافر.

وقال ابن عباس : هو الأسود بن عبد الأسد.

وقيل : أراد كلّ إنسان يشاهد ذلك عند قيام الساعة في النفخة الأولى من مؤمن وكافر ، وقوله : (ما لَها) ابتداء وخبر ، وهذا يرد قول من قال : إن الحال في نحو قوله تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر : ٤٩] لازمة لئلا يصير الكلام غير مفيد ، فإنه لا حال هنا ، ومعنى : (ما لَها) أي : ما لها زلزلت ، وقيل : ما لها أخرجت أثقالها! وهي كلمة تعجب ، أي : لأي شيء زلزلت؟! ويجوز أن يحيي الله الموتى بعد وقوع النفخة الأولى ، ثم تتحرك الأرض ، فتخرج الموتى ، وقد رأوا الزلزلة ، وانشقاق الأرض عن الموتى فيقولون من الهول : ما لها ، [كأنهم يخاطبون أنفسهم تعجبا](٢).

قوله : (يَوْمَئِذٍ) ، أي : يوم إذا زلزلت ، والعامل في «يومئذ» : «تحدّث» إن جعلت «إذا» منصوبة بما بعدها ، [أو بمحذوف ، وإن جعلت العامل فيها «تحدّث» كان «يومئذ» بدلا منها

فالعامل فيه](٣) العامل فيها ، أو شيء آخر ، لأنه على تكرير العامل ، وهو خلاف مشهور.

فصل في معنى الآية

معنى (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) ، أي : تخبر الأرض بما عمل عليها من خير ، أو شر يومئذ.

ثم قيل : هو من قول الله تعالى.

وقيل : من قول الإنسان ، أي : يقول الإنسان «ما لها» ، (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) متعجبا.

روى الترمذي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآية (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) قال : «أتدرون ما أخبارها؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنّ أخبارها أن تشهد على كلّ عبد أو أمة بما عمل على ظهرها تقول : عمل يوم كذا ، كذا وكذا ، قال : «فهذه أخبارها» (٤).

__________________

ـ (٦ / ٦٤٥) ، عن ابن عباس وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وذكره أيضا عن مجاهد وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٧٠١) ، كتاب : الزكاة ، باب : الترغيب في الصدقة (٦٢ / ١٠١٣) ، والترمذي (٤ / ٤٢٧) ، كتاب : التفسير ، باب : (٣٦) ، رقم (٢٢٠٨) ، والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٤٢٥) ، من حديث أبي هريرة.

(٢) سقط من : ب.

(٣) سقط من : أ.

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٤١٦) ، رقم (٣٣٥٣) ، والحاكم (٢ / ٥٣٣) ، وأحمد (٢ / ٣٧٤) ، والنسائي في ـ

٤٤٦

قال الماورديّ : قوله تعالى : (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) فيه ثلاثة أقاويل :

أحدها : أن تحدث أخبارها بأعمال العباد على ظهرها ، قاله أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ ورواه مرفوعا (١) ، وهو قول من زعم أنها زلزلة القيامة.

الثاني : قال يحيى بن سلام : (تُحَدِّثُ أَخْبارَها) بما أخرجت من أثقالها ، وهو قول من زعم أنها زلزلة أشراط الساعة.

الثالث : قال ابن مسعود : أنها تحدث بقيام الساعة ، إذا قال الإنسان : ما لها؟ فتخبر أن أمر الدنيا قد انقضى ، وأمر الآخرة قد أتى ، فيكون ذلك منها جوابا لهم عند سؤالهم ، ووعيدا للكافر ، وإنذارا للمؤمن.

وفي حديثها بأخبارها ثلاثة أقاويل :

أحدها : أن الله تعالى يقلبها حيوانا ناطقا ، فتتكلم بذلك.

الثاني : أن الله يحدث فيها الكلام.

الثالث : أنه يكون منها بيان يقوم مقام الكلام.

قال الطبريّ (٢) : تبين أخبارها بالرّجّة (٣) ، والزلزلة ، وإخراج الموتى.

قوله : (بِأَنَّ رَبَّكَ) متعلق ب «تحدّث» ، أي : تحدث الأرض بما أوحى إليها ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها.

وقيل : الباء زائدة و «أنّ» وما في حيزها بدل من أخبارها.

وقيل : الباء سببية ، أي : بسبب إيحاء الله إليها.

وقال الزمخشريّ : «فإن قلت (٤) : أين مفعولا «تحدّث»؟.

قلت : حذف أولهما ، والثاني : أخبارها ، أي : تحدث الخلق أخبارها ، إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيما لليوم.

فإن قلت : بم تعلقت الباء ، في قوله «بأنّ ربّك»؟.

قلت : ب «تحدث» ومعناه : تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها ، وأمره إياها

__________________

ـ «الكبرى» (٦ / ٥٢٠) ، والطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٦١) من حديث أبي هريرة وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٤٥) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في «الشعب».

(١) هو الحديث السابق.

(٢) جامع البيان ١٢ / ٦٦٠.

(٣) في أ : بالرجفة.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٨٤.

٤٤٧

بالتحديث ، ويجوز أن يكون المعنى : يومئذ تحدث بتحديث أن ربّك أوحى لها أخبارها على أن تحديثها بأن ربّك أوحى لها تحديث بأخبارها ، كما تقول : نصحتني كلّ نصيحة بأن نصحتني في الدين».

قال أبو حيان (١) : وهو كلام فيه عفش ، ينزه القرآن عنه.

قال شهاب الدين (٢) : وأي عفش فيه ، فصحته وفصاحته ، ولكنه لما طال تقديره من جهة إفادة هذا المعنى الحسن جعله عفشا وحاشاه.

ثم قال الزمخشري (٣) : «ويجوز أن يكون (بِأَنَّ رَبَّكَ) بدلا من «أخبارها» كأنه قيل : يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربّك أوحى لها ، لأنك تقول : حدثته كذا ، وحدثته بكذا».

قال أبو حيّان (٤) : «وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر ، وتارة يتعدى بنفسه ، وحرف الجر ليس بزائد ، فلا يجوز في تابعه إلّا الموافقة في الإعراب ، فلا يجوز : «استغفرت الذنب العظيم» بنصب «الذنب» وجر «العظيم» لجواز أنك تقول : «من الذنب» ، ولا «اخترت زيدا الرجال الكرام» بنصب «الرجال» وخفض «الكرام» ، وكذلك لا يجوز : «استغفرت من الذنب العظيم» بجر «الذنب» ونصب «العظيم» ، وكذلك في «اخترت» فلو كان حرف الجر زائدا جاز الإتباع على موضع الاسم ، بشروطه المحررة في علم النحو ، تقول : ما رأيت من رجل عاقلا ، لأن «من» زائدة ، ومن رجل عاقل على اللفظ ، ولا يجوز نصب «رجل» وجر «عاقل» على مراعاة جواز دخول «من» وإن ورد شيء من ذلك ، فبابه الشعر». انتهى.

قال شهاب الدين (٥) : ولا أدري كيف يلزم الزمخشري ما ألزمه به من جميع المسائل التي ذكرها ، فإن الزمخشري يقول : إن هذا بدل مما قبله ، ثم ذكر مسوغ دخول الباء في البدل ، وهو أن المبدل منه يجوز دخول الباء عليه ، فلو حل البدل محل المبدل منه ومعه الباء لكان جائزا ، لأن العامل يتعدى به ، وذكر مسوغا لخلو المبدل منه من الباء ، فقال : «لأنك تقول : حدثته كذا وحدثته بكذا» ، وأما كونه يمتنع أن يقول : «استغفرت الذنب العظيم» بنصب «الذنب» وجرّ «العظيم» إلى آخره ، فليس في كلام الزمخشري شيء منه ألبتة ، ونظير ما قاله الزمخشري في باب «استغفر» أن تقول : استغفرت الله ذنبا من شتمي زيدا ، فقولك «من شتمي» بدل من «الذنب» ، وهذا جائز لا محالة.

قوله (أَوْحى لَها). في هذه اللام أوجه :

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٤٩٧.

(٢) الدر المصون ٦ / ٥٥٥.

(٣) الكشاف ٤ / ٧٨٤.

(٤) البحر المحيط ٨ / ٤٩٧.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٥٥٥.

٤٤٨

أحدها : أنها بمعنى «إلى» ، وإنما أوثرت على «إلى» لمراعاة الفواصل ، والمعنى : أوحى لها تحدث أخبارها بوحي الله تعالى لها أي إليها ، والعرب تضع لام الصفة موضع «إلى» ، قال العجّاج يصف الأرض : [الرجز]

٥٢٦٥ ـ أوحى لها القرار فاستقرّت

وشدّها بالرّاسيات الثّبّت (١)

قاله أبو عبيدة.

الثاني : على أصلها ، «أوحى» يتعدى باللام تارة ، وب «إلى» أخرى ، ومنه البيت.

الثالث : اللام على بابها من العلة ، والموحى إليه محذوف ، وهو الملائكة ، تقديره : أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض ، أي : لأجل ما يفعلون فيها.

قال الثوريّ : تحدث أخبارها مما كان عليها من الطّاعات والمعاصي ، وما كان (٢) على ظهرها من خير وشر.

قوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(٨)

قوله : (يَوْمَئِذٍ) إما بدل من «يومئذ» قبله ، وإما منصوب ب «يصدر» ، وإما منصوب ب «اذكر» مقدرا. وقوله تعالى : (أَشْتاتاً) : حال من الناس ، وهو جمع «شت» أي : متفرقين في الأمن والخوف والبياض والسواد ، والصدر ضد الورود عن موضع الحساب ، فريق إلى جهة اليمين إلى الجنة ، وفريق إلى جهة الشّمال إلى النار ، لقوله تعالى : (يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ) [الروم : ١٤] ، (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) [الروم : ٤٣].

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : «أشتاتا» متفرقين على قدر أعمالهم ، أهل الإيمان على حدة ، وأهل كل دين على حدة (٣).

وقيل : هذا الصدر إنما هو عند النشور ، يصدرون أشتاتا ، من القبور إلى موقف الحساب ليروا أعمالهم في كتبهم ، أو ليروا جزاء أعمالهم ، فإنهم وردوا القبور فدفنوا فيها ثم صدروا عنها ، وقوله تعالى : (أَشْتاتاً) ، أي : يبعثون من أقطار الأرض ، فعلى هذا قوله تعالى : (لِيُرَوْا) متعلق ب «يصدر» ، وعلى القول الأول فيه تقديم وتأخير أي : تحدث أخبارها ، بأن ربّك أوحى لها ، ليروا أعمالهم ، واعترض قوله : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) متفرقين عن موقف الحساب ، وعلى هذا تتعلق ب «أوحى» ، وقرأ العامة : ببنائه للمفعول ، وهو من رؤية البصر ، فتعدى بالهمزة إلى ثان ، وهو أعمالهم ، والتقدير : ليريهم الله أعمالهم.

__________________

(١) ينظر ديوان العجاج ص ٢٦٦ ، واللسان (وحى) والمحتسب ٢ / ٣٣١ ، والبحر ٨ / ٤٩٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٥.

(٢) في أ : عمل.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٠٢).

٤٤٩

وقرأ (١) الحسن والأعرج ، وقتادة ، وحماد بن سلمة ، ونصر بن عاصم ، وطلحة ، ويروى عن نافع : بفتحها.

قال الزمخشري (٢) : وهي قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبنيا للفاعل.

قوله : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : من يعمل من الكفار مثقال ذرة خيرا يره في الدنيا ، ولا يثاب عليه في الآخرة ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر عوقب عليه في الآخرة مع عقاب الشرك ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من المؤمنين يره في الدنيا ، ولا يعاقب عليه في الآخرة إذا مات ، ويتجاوز عنه ، وإن عمل مثقال ذرة من خير يقبل منه ، ويضاعف له في الآخرة (٣).

وفي بعض الحديث : «أن الذرة لا زنة لها» ، وهذا مثل ضربه الله تعالى أنه لا يغفل من عمل ابن آدم صغيرة ، ولا كبيرة ، وهو مثل قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) [النساء: ٤٠] وقد تقدم أن الذر لا وزن له.

وذكر بعض أهل اللغة : أن الذّرّ : أن يضرب الرّجل بيده على الأرض ، فما علق بها من التراب فهو الذّر ، وكذا قال ابن عباس : إذا وضعت يدك على الأرض ، ورفعتها ، فكل واحد مما لزق به من التراب ذرة (٤).

وقيل : الذر نملة صغيرة ، وأصغر ما تكون إذا مضى عليها حول.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

٥٢٦٦ ـ من القاصرات الطّرف لو دبّ محول

من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا (٥)

قال محمد بن كعب القرظي : فمن يعمل مثقال ذرة من خير من كافر ، يرى ثوابه في الدنيا ، في نفسه وماله وأهله ووطنه ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير ، ومن يعمل مثقال ذرة من شر من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في ماله ونفسه وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا ، وليس له عند الله شر (٦) ، ودليله ما رواه أنس ـ رضي الله عنه ـ أن هذه الآية نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [وأبو بكر يأكل فأمسك ، وقال : يا رسول الله](٧) ، وإنا لنرى ما عملنا من خير وشر؟ قال النبي : «يا أبا بكر ، ما رأيت في الدّنيا مما

__________________

(١) ينظر : إعراب القراءات ٢ / ٥١٦ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٥١١ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٩٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٥.

(٢) الكشاف ٤ / ٧٨٤.

(٣) ينظر القرطبي (٢٠ / ١٠٢).

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٠٣).

(٥) تقدم.

(٦) ينظر القرطبي (٢٠ / ١٠٣).

(٧) سقط من أ.

٤٥٠

تكره فهو مثاقيل ذر الشر ، ويدخر لكم مثاقيل ذرّ الخير ، حتّى تعطوه يوم القيامة» (١).

قال أبو إدريس : إن مصداقه في كتاب الله : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى : ٣٠].

قال مقاتل : نزلت في رجلين ، وذلك أنه لما نزل (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [الإنسان: ٨] ، كان أحدهم يأتيه السائل ، فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ، وكان الآخر يتهاون بالذّنب اليسير ، كالكذبة والغيبة والنظرة ، ويقول : إنما أوعد الله النّار على الكبائر ، فنزلت ترغبهم في القليل من الخير أن يعطوه ، فإنه يوشك أن يكثر ، وتحذرهم اليسير من الذنب ، فإنه يوشك أن يكثر ، ولهذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة ، فمن لم يجد فبكلمة طيّبة».

فصل في قراءة «يره»

قوله : (يَرَهُ) ، جواب الشرط في الموضعين.

وقرأ هشام : بسكون (٢) هاء «يره» وصلا في الحرفين ، وباقي السبعة : بضمها موصولة بواو وصلا ، وساكنة وقفا ، كسائر «ها» الكناية.

ونقل أبو حيان (٣) عن هشام وأبي بكر : سكونها.

وعن أبي عمرو : بضمها مشبعتين ، وباقي السبعة بإشباع الأولى وسكون الثانية انتهى.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٦٢) ، من حديث أنس وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٤٤ ـ ١٤٥) ، وقال رواه الطبراني في الأوسط عن شيخه موسى بن سهل والظاهر أنه الوشاء وهو ضعيف. والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٤٦) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم في «تاريخه» وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان».

وله شاهد من حديث أبي أسماء الرحبي أخرجه الحاكم (٢ / ٥٣٢ ـ ٥٣٣) ، وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتعقبه الذهبي فقال : مرسل.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٤٦) ، وزاد نسبته إلى إسحاق بن راهويه وعبد بن حميد وابن مردويه.

وللحديث شاهد آخر عن أبي أيوب ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٤٦) ، وعزاه إلى ابن مردويه.

وللحديث شاهد أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص دون ذكر الأكل أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٦٣) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٤٦) ، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في «كتاب البكاء» والطبراني وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان».

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد (٧ / ١٤٤) ، وقال رواه الطبراني وفيه حييّ بن عبد الله المعافري وثقه ابن معين وغيره وبقية رجاله رجال الصحيح. وحيي بن عبد الله ليس في إسناد الطبري.

(٢) ينظر : السبعة ٦٩٤ ، والحجة ٦ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٥١٦ ، وحجة القراءات ٧٦٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٩٨.

٤٥١

وكان ذلك لأجل الوقف على آخر السورة غالبا ، أما لو وصلوا آخرها بأول «العاديات» كان الحكم الإشباع ، وهذا مقتضى أصولهم ، وهو المنقول.

وقرأ العامة : «يره» مبنيا للفاعل فيهما.

وقرأ ابن عبّاس والحسن والحسين ابنا علي بن (١) أبي طالب ، وزيد بن علي وأبو حيوة وعاصم والكسائي في رواية الجحدريّ والسلمي وعيسى بن عمر : بضم الياء ، أي : يريه الله إياه.

قال القرطبيّ (٢) : والأولى الاختيار ، لقوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران : ٣٠].

وقرأ عكرمة : «يراه» (٣) بالألف ، إما على تقدير الجزم بحذف الحركة المقدرة ، وإما على توهم أن «من» موصولة. وتقدم هذا في أواخر «يوسف». ومعنى «يره» أي : يرى جزاءه ؛ لأن ما عمله قد مضى وعدم.

وحكى الزمخشري (٤) : أن أعرابيا أخر : «خيرا يره» ، فقيل له : قدمت وأخرت ؛ فقال: [الطويل]

٥٢٦٧ ـ خذا جنب هرشى أو قفاها فإنّه

كلا جانبي هرشى لهنّ طريق (٥)

انتهى.

يريد : أن التقديم والتأخير سواء ، وهذا لا يجوز ـ ألبتة ـ فإنه خطأ ، فلا يعتد به قراءة. وفي نصب «خيرا ، وشرا» ، وجهان :

أظهرهما : أنهما تمييز لأنه مقدار.

والثاني : أنهما بدلان من مثقال.

فصل في الكلام على هذه الآية

قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : هذه أحكم آية في القرآن وأصدق (٦). وقد اتفق العلماء على عموم هذه الآية ، القائلون بالعموم ومن لم يقل به.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٩٤ ، والحجة ٦ / ٤٢٩ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٥١٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٩٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٦.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٠٣.

(٣) ينظر المحرر الوجيز ٥ / ٥١٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٩٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٦.

(٤) الكشاف ٤ / ٧٨٤.

(٥) قائله هو عقيل بن علفة ينظر سمط اللالىء ١ / ٤٣٧ ، والكشاف ٤ / ٧٨٥ ، والخزانة ٢ / ٢٧٨ ، واللسان (هرش) ، والدر المصون ٦ / ٥٥٦.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٠٤).

٤٥٢

قال كعب الأحبار ـ رضي الله عنه ـ : لقد أنزل الله تعالى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيتين ، أحصتا ما في التوراة والإنجيل والزبور والصحف : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)(١). [وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمي هذه الآية الجامعة الفاذّة](٢).

روى مالك في «الموطأ» : أن مسكينا استطعم عائشة ـ رضي الله عنها ـ وبين يديها عنب ، فقالت لإنسان : خذ حبة وأعطه إياها ، فجعل ينظر إليها ويتعجب ، فقالت عائشة : أتعجب ، كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة (٣).

روى الترمذي عن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (إِذا زُلْزِلَتِ) عدلت له نصف القرآن ، ومن قرأ : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) عدلت له ثلث القرآن» (٤).

وعن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (إِذا زُلْزِلَتِ) أربع مرّات ، كان كمن قرأ القرآن كلّه» (٥). والله أعلم.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٤٩) ، وعزاه إلى مالك وابن سعد وعبد بن حميد.

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ١٥٢) ، كتاب : فضائل القرآن ، باب : ما جاء في إذا زلزلت من طريق الحسن بن مسلم بن صالح العجلي ثنا ثابت عن أنس به. وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث هذا الشيخ الحسن بن مسلم.

والحسن ذكره الحافظ في «التهذيب» (٢ / ٢٨٠) ، وقال : وهو شيخ مجهول له حديث واحد في فضل إذا زلزلت رواه عن ثابت البناني وعنه محمد بن موسى الحرشي أخرجه الترمذي واستغربه وكذا فعل الحاكم أبو أحمد وقال العقيلي بصري مجهول في النقل وحديثه غير محفوظ وقال الآجري عن أبي داود خفي علينا أمره وقال ابن حبان : ينفرد عن الثقات بما لا يشبه حديث الأثبات.

(٥) ذكره الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» (٤ / ٧٨٥) ، وقال أخرجه الثعلبي من حديث علي بإسناد أهل البيت ولكنه من رواية أبي القاسم الطائي وهو ساقط وشاهده عند ابن أبي شيبة والبزار من رواية سلمة بن وردان عن أنس مرفوعا بلفظ : «إذا زلزلت تعدل ربع القرآن».

٤٥٣

سورة العاديات

مكية ، في قول ابن مسعود ، وجابر ، والحسن ، وعكرمة ، وعطاء ، ومدنية في قول ابن عباس ، وأنس بن مالك ، وقتادة ، وهي إحدى عشرة آية ، وأربعون كلمة ، ومائة وثلاثة وستون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً)(٥)

قوله تعالى : (وَالْعادِياتِ) ، جمع عادية ، وهي الجارية بسرعة من العدو ، وهو المشي بسرعة ، والياء منقلبة عن واو لكسر ما قبلها ، نحو : الغازيات ، من الغزو ، ويقال : عدا يعدو عدوا ، فهو عاد ، وهي عادية. وقد تقدم هذا في سورة «المؤمنين».

قال عامة المفسرين : يريد الأفراس تعدو في سبيل الله تعالى.

قوله : (ضَبْحاً) ، فيه أوجه :

أحدها : أنه مصدر مؤكد لاسم الفاعل ، فإن الضبح نوع من السير والعدو كالضبع ، يقال: ضبح وضبع : إذا عدا بشدة ، أخذا من الضبع وهو الذراع ، لأنه يمده عند العدو ، وكأن الحاء بدل من العين ، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة والمبرد.

قال عنترة : [مجزوء الكامل]

٥٢٦٨ ـ والخيل تعلم حين تض

بح في حياض الموت ضبحا (١)

الثاني : أنه مصدر في موضع الحال ، أي : ضابحات وذوي ضبح والضبح : صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو ، وليس بصهيل.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه حكاه ، فقال : أح أح (٢).

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٧٨٦ ، والقرطبي ٢٠ / ١٥ ، والبحر ٨ / ٥٠٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٧.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٦٦) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٢) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

٤٥٤

وقال قتادة : تضبح إذا عدت ، أي : تحمحم.

وقال الفراء : والضبح : أصوات أنفاسها إذا عدون. وقيل : كانت تكمكم لئلا تصهل ، فيعلم العدو بهم ، فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة.

ونقل عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : أنه لم يضبح من الحيوان غير الخيل والكلب والثعلب (١) ، وهذا ينبغي أن يصحّ عنه ؛ لأنه روي عنه أنه قال : سئلت عنها ، ففسرتها بالخيل ؛ وكان علي ـ رضي الله عنه ـ تحت سقاية زمزم ، فسأله ، فذكر ما قلت ؛ فدعاني ، فلما وقفت على رأسه ، قال : تفتي الناس بغير علم ، والله إنها لأول غزوة في الإسلام ، وهي بدر ، ولم يكن معنا إلا فرسان : فرس للمقداد ، وفرس للزبير ، فكيف تكون العاديات ضبحا؟ إنما العاديات الإبل من «عرفة» إلى «المزدلفة» ، ومن «المزدلفة» إلى «منى» يعني إبل الحاج.

قال ابن عباس : فرجعت إلى قول علي ـ رضي الله عنه ـ وبه قال ابن مسعود ، وعبيد بن عمير ، ومحمد بن كعب ، والسديّ رضي الله عنهم.

ومنه قول صفية بنت عبد المطلب : [الوافر]

٥٢٦٩ ـ فلا والعاديات غداة جمع

بأيديها إذا سطع الغبار (٢)

إلا أن الزمخشري ، قال بعد ذلك (٣) : «فإن صحت الرواية ، فقد استعير الضبح للإبل ، كما استعير المشافر والحافر للإنسان ، والشفتان للمهر».

ونقل غيره : أن الضبح ، يكون في الإبل ، والأسود من الحيّات ، والبوم ، والصدى ، والأرنب ، والثعلب ، والفرس.

وأنشد أبو حنيفة رضي الله عنه : [الرجز]

٥٢٧٠ ـ حنّانة من نشم أو تألب

تضبح في الكفّ ضباح الثّعلب (٤)

قال شهاب الدين (٥) : وهذا عندي من الاستعارة ، ونقل أهل اللغة أن أصل الضبح في الثعلب فاستعير للخيل ، وهو ضبحته النار ، إذا غيرت لونه ولم تبالغ ، وانضبح لونه تغير لسواد قليل ، والضبح أيضا الرماد.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٦٦) ، عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٢) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ينظر القرطبي ٢٠ / ١٠٦ ، والبحر ٨ / ٥٠٠ ، ومجمع البيان ١٠ / ٨٠٣ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٨ ، وفتح القدير ٥ / ٤٨٢.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٨٨.

(٤) ينظر اللسان (صبح) ، والبحر ٨ / ٤٩٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٧.

(٥) الدر المصون ٦ / ٥٥٨.

٤٥٥

الثالث من أوجه النصب : أن يكون منصوبا بفعل مقدر ، أي : يضبح ضبحا ، وهذا الفعل حال من «العاديات».

الرابع : أنه منصوب ب «العاديات» ، وإن كان المراد به الصوت.

قال الزمخشري (١) : «كأنه قيل : والضابحات ، لأن الضبح يكون مع العدو».

قال أبو حيّان (٢) : «وإذا كان الضّبح مع العدو ، فلا يكون معنى والعاديات معنى الضابحات فلا ينبغي أن يفسر به» انتهى.

قال شهاب الدين (٣) : لم يقل الزمخشري إنه بمعناه ، إنما جعله منصوبا ، لأنه لازم لا يفارقه ، فكأنه ملفوظ به. وقوله : كأنه قيل ؛ تفسير التلازم لا أنه هو هو.

فصل في هذا القسم

قال ابن العربي : أقسم الله تعالى بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) [يس : ١ ، ٢] ، وأقسم بحياته فقال : (لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ) [الحجر : ٧٢]، وأقسم بخيله وصهيلها وغبارها ، وقدح حوافرها النار من الحجر ، فقال : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً).

وقال الشعبيّ : تمارى عليّ وابن عباس في «العاديات» فقال علي : هي الإبل تعدو في الحج.

وقال ابن عباس : هي الخيل ، ألا تراه يقول : «فأثرن به نقعا» فهل تثير إلا بحوافرها ، وهل تضبح الإبل؟.

فقال علي رضي الله عنه : ليس كما قلت ، لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد ، وفرس لمرثد بن أبي مرثد (٤).

وعلى هذا فالقول : (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) أي : الحافر يرمي بالحجر من شدة العدو ، فيضرب به حجارة أخرى فتوري النار ، أو يكون المعنى : الذين يركبون الإبل ، وهم الحجيج إذا أوقدوا نيرانهم ب «المزدلفة» ، وقوله تعالى : (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) ، والإغارة : سرعة السير ، وهم يدفعون صبيحة يوم النحر مسرعين إلى «منى».

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) يعني «مزدلفة» ، لأنها تسمى بجمع ، لاجتماع الحاجّ بها ، وعلى هذا التقدير ، فوجه القسم بها ما تقدم ذكره من المنافع الكثيرة في قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [الغاشية : ١٧].

__________________

(١) الكشاف ٤ / ٧٨٦.

(٢) البحر المحيط ٨ / ٥٠٠.

(٣) الدر المصون (٦ / ٥٥٨).

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٢) ، وعزاه إلى عبد بن حميد عن عامر الشعبي.

٤٥٦

وأيضا : الغرض بذكر إبل الحج : الترغيب في الحج ، فإن الكنود : هو الكفور ، والذي لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك ، كما في قوله تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) [آل عمران : ٩٧].

ومن قال : هي الخيل ، وهو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة ، والضحاك وعطاء وأكثر المحققين ، قال : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية إلى أناس من بني كنانة ، فأبطأ عليه خبرها ، وكان استعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري ، وكان أحد النقباء ، فقال المنافقون : إنهم قتلوا فنزلت هذه السورة إخبارا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسلامتها ، وبشارة له بإغارتها على القوم ، فالمراد : الخيل التي يغزو(١) عليها المؤمنون.

وفي الخبر : «من لم يعرف حرمة فرس الغازي ، ففيه شعبة من النّفاق» ، وعلى هذا القول ، فالسورة مدنية ، لأن الإذن في القتال إنما كان ب «المدينة».

قوله : (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) ، قال عكرمة وعطاء والضحاك : هي الخيل حين توري النار بحوافرها وهي سنابكها (٢).

و «قدحا» يجوز أن يكون مصدرا مؤكدا ؛ لأن الإيراء من القدح ، يقال : قدح فأورى ، وقدح فأصلد.

ويجوز أن يكون حالا ، فالمعنى : «قادحات» ، أي : ضابحات بحوافرها ما توري النار ، ويقال : قدحت الحجر بالحجر ، أي : صككته به.

وقال الزمخشريّ (٣) : انتصب «قدحا» بما انتصب به «ضبحا» وكأنه جوّز في نصبه ثلاثة أوجه : النصب بإضمار فعله ، والنصب باسم الفاعل قبله لأنه ملازمه ، والنصب على الحال ، وتسمى تلك النار التي تخرج من الحوافر : نار الحباحب.

قال : [الطويل]

٥٢٧١ ـ تقدّ السّلوقيّ المضاعف نسجه

وتوقد بالصّفّاح نار الحباحب (٤)

فصل في معنى الموريات

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أورت بحوافرها غبارا (٥) ، وهذا يخالف سائر

__________________

(١) في ب : يعدو.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٦٧ ـ ٦٦٨) ، عن عكرمة وعطاء والضحاك وقتادة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٣) ، عن قتادة وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٨٧.

(٤) البيت للنابغة ينظر ديوانه (١١) ، وابن الشجري ٢ / ٥٨ ، والإيضاح الشعري ص ٥٧٤ ، ومجمع البيان ١٠ / ٨٠٢ ، والمعاني الكبير ص ١٠٨٠ ، واللسان (سلق) ، (حبحب). والدر المصون ٦ / ٥٥٨.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ١٠٧).

٤٥٧

ما روي عنه في قدح النار ، وإنما هذا في الإبل [وروى ابن نجيح عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قوله تعالى : (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) قال هي في القتال وهو في الحج ، قاله ابن مسعود هي الإبل تطأ الحصى فيخرج منه النار (١)](٢).

وأصل القدح : الاستخراج ، ومنه قدحت العين : إذا أخرجت منها الماء الفاسد ، واقتدحت بالزّند ، واقتدحت المرق : غرفته. وركيّ قدوح : يغرف باليد.

والقديح : ما يبقى في أسفل القدر ، فيغرف بجهد ، والمقدحة : ما تقدح به النار.

والقداحة والقداح : الحجر الذي يوري النار.

يقال : ورى الزند ـ بالفتح ـ يري وريا : إذا خرجت ناره ، وفيه لغة أخرى : وري الزند ـ بالكسر ـ يرى فيهما ، وقد مضى في سورة «الواقعة».

وقيل : هذه الآيات في الخيل ، ولكن إيراءها : أن تهيج الحرب بين أصحابها ، وبين عدوهم. ويقال للحرب إذا التحمت : حمي الوطيس ، ومنه قوله تعالى : (كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللهُ) [المائدة : ٦٤].

قال ابن عباس : المراد ب (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) مكر الرجال في الحرب (٣) ، وقاله مجاهد وزيد بن أسلم : والعرب يقولون إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه : والله لأمكرن بك ، ثم لأورين لك.

وعن ابن عباس أيضا : هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل ، لحاجتهم وطعامهم (٤).

وعنه أيضا أنها نيران المجاهدين إذ كثرت نارها إرهابا ، ليظنها العدو كثيرا.

وقيل هي أفكار الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به ويظهر بها من إقامة الحجج ، وإقامة الدّلائل ، وإيضاح الحق ، وإبطال الباطل.

قال القرطبي (٥) : هذه الأقوال مجاز ، ومنه قولهم : فلان يوري زناد الضلالة ، والأول : الحقيقة ، وأن الخيل من شدة عدوها تقدح النّار بحوافرها.

قال مقاتل : العرب تسمي تلك النّار نار أبي حباحب ، وكان أبو حباحب شيخا من

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٦٦) ، عن ابن مسعود.

(٢) سقط من : ب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٦٨) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٥٢) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٦٨) ، عن ابن عباس.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ١٠٧.

٤٥٨

مضر في الجاهلية ، من أبخل الناس ، وكان لا يوقد نار الخبز ولا غيره حتى تنام العيون ، فيوقد نويرة تقد مرة ، وتخمد أخرى ، فإن استيقظ لها أحد أطفأها ، كراهية أن ينتفع بها أحد ، فشبهت العرب هذه النار بناره ؛ لأنه لا ينتفع بها.

وكذلك إذا وقع السيف على البيضة فاقتدحت نارا فكذلك يسمونها.

قال النابغة : [الطويل]

٥٢٧٢ ـ ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

تقدّ السّلوقيّ المضاعف نسجه

وتوقد بالصّفّاح نار الحباحب (١)

قوله : (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) ظرف ؛ أي : التي تغير وقت الصبح ، يقال : أغار يغير إغارة وغارة : إذا باغت عدوا نهبا وقتلا وأسرا ؛ قال : [البسيط]

٥٢٧٣ ـ فليت لي بهم قوما إذا ركبوا

شنّوا الإغارة فرسانا وركبانا (٢)

وأغار وغار أيضا : نزل الغور ، وهو المنهبط من الأرض.

قوله : (فَأَثَرْنَ). عطف الفعل على الاسم ، لأن الاسم في تأويل الفعل لوقوعه صلة ل «أل».

قال الزمخشريّ (٣) : «معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه ، يعني في الأصل ؛ إذ الأصل : واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن».

قوله : (بِهِ). في الهاء أوجه :

أحدها : أنه ضمير الصبح ، أي : فأثرن في وقت الصبح غبارا. وهذا حسن ، لأنه مذكور بالتصريح.

الثاني : أنه عائد على المكان ، وإن لم يجر له ذكر ؛ لأن الإشارة لا بد لها من مكان ، والسياق والعقل يدلان عليه ، وإذا علم بالمعنى جاز أن يكون عما لم يجر له ذكر بالصريح كقوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢]. وفي عبارة الزمخشري : «وقيل : الضمير لمكان الغارة» ، وهذا على تلك اللغيّة وإلا فالفصيح أن تقول : الإغارة.

الثالث : أنه ضمير العدو الذي دل عليه «والعاديات».

وقرأ العامة : بتخفيف الثاء ، أثار كذا إذا نشره وفرقه مع ارتفاع.

وقرأ أبو حيوة ، وابن (٤) أبي عبلة : بتشديدها.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) الكشاف ٤ / ٧٨٨.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥١٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٥٠١ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٩.

٤٥٩

وخرجه الزمخشري (١) على وجهين :

الأول : بمعنى فأظهرن به غبارا ؛ لأن التأثير فيه معنى الإظهار.

الثاني : قلب «ثورن» إلى «وثرن» ، وقلب الواو همزة انتهى.

يعني : الأصل «ثوّرن» من ثور يثور ـ بالتشديد ـ عداه بالتضعيف كما يعدى بالهمزة في قولك : أثاره ثم قلب الكلمة بأن جعل العين وهي الواو موضع الفاء وهي الثاء ، ووزنها حينئذ «عفلن» ثم قلب الواو همزة ، فصار : «أثرن» ، وهذا بعيد جدا ، وعلى تقدير التسليم ، فقلب الواو المفتوحة همزة لا ينقاس ، إنما جاءت منه ألفاظ ك «أحد وأناة» والنقع : الغبار.

وأنشد : [البسيط]

٥٢٧٤ ـ يخرجن من مستطار النّقع دائمة

كأنّ آذانها أطراف أقلام (٢)

وقال ابن رواحة : [الوافر]

٥٢٧٥ ـ عدمت بنيّتي إن لم تروها

تثير النّقع من كنفي كداء (٣)

وقال أبو عبيدة : النقع ، رفع الصوت ؛ قال لبيد : [الرمل]

٥٢٧٦ ـ فمتى ينقع صراخ صادق

يحلبوها ذات جرس وزجل (٤)

يروى : «يجلبوها» أيضا ، يقول : متى سمعوا صراخا أجلبوا الحرب ، أي : جمعوا لها ، وقوله : «ينقع صراخ» يعني رفع الصوت.

قال الزمخشري (٥) : ويجوز أن يراد بالنّقع : الصياح ، من قوله عليه الصلاة والسلام : «لم يكن نقع ولا لقلقة» (٦).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٨٧.

(٢) قائله هو عديّ بن الرقاع العاملي ينظر سمط اللآلىء ٢ / ٢٧٦ ، والاقتضاب ص ٣٢٢ ، والأمالي ٢ / ٢٧٤ ، والبحر ٨ / ٤٩٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٩.

(٣) ينظر القرطبي ٢ / ١٠٨ ، والبحر ٨ / ٤٩٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٩ ، وفتح القدير ٥ / ٤٨٢.

(٤) ينظر ديوان لبيد ص ١٤٦ ، والكامل ١ / ٣٣١ ، والكشاف ٤ / ٧٨٧ ، والاقتضاب ص ٤١٩ ، والأضداد للأصمعي ص ٥٤ ، والبحر ٨ / ٥٠٠ ، واللسان (نقع) ، والدر المصون ٦ / ٥٥٩.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٨٧.

(٦) ذكره الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» (٤ / ٧٨٧) ، وقال : لم أجده مرفوعا ، وإنما ذكره البخاري في الجنائز تعليقا عن عمر قال : «دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة» ، قال : والنقع التراب على الرأس واللقلقة الصوت. ووصله عبد الرازق والحاكم وابن سعد وأبو عبيد الحربي في الغريب كلهم من طريق الأعمش عن أبي وائل قال : «وقيل لعمر : إن نسوة من بني المغيرة قد اجتمعن في دار خالد بن الوليد يبكين عليه وإنا نكره أن يؤذينك فلو نهيتهن فقال : ما ـ

٤٦٠