اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

يدل على أن هذه عادته ، ودأبه ، فهو أبلغ في الذم أيضا فهذا عام في كل من نهى عن الصلاة ، وروي عن عليّ ـ رضي الله عنه ـ : أنه رأى أقواما يصلون قبل صلاة العيد ، فقال : ما رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يفعل ذلك ، فقيل له : ألا تنهاهم فقال : أخشى أن أدخل في قوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) [العلق : ٩ ، ١٠] ، فلم يصرح أيضا بالنهي عن الصلاة(١).

وأيضا فيه : إجلال لمنصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن ينهاه رجل لا سيما مثل هذا.

قوله : (كَلَّا) ردع لأبي جهل عن نهيه عن عبادة الله تعالى ، أو كلا لن يصل أبو جهل إلى أن يقتل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويطأ عنقه.

وقال مقاتل : كلا لا يعلم أن الله يرى ، وإن كان يعلم لكن إذا كان لا ينتفع بناصيته يوم القيامة ، وليسحبنه بها في النّار ، كقوله تعالى : (فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) [الرحمن : ٤١] ، فالآية وإن كانت في أبي جهل ، فهي عظة للنّاس ، وتهديد لمن يمنع غيره عن الطاعة.

قوله : (لَنَسْفَعاً) ، الوقف على هذه النون بالألف ، تشبيها لها بالتنوين ، ولذلك يحذف بعد الضمة والكسرة وقفا ، وتكتب هنا ألفا إتباعا للوقف.

وروي (٢) عن أبي عمرو : «لنسفعنّ» بالنون الثقيلة.

والسّفع : الأخذ والقبض على الشيء بشدة ، يقال : سفع بناصية فرسه ، قال عمرو بن معديكرب : [الكامل]

٥٢٥٧ ـ قوم إذا سمعوا الصّريخ رأيتهم

ما بين ملجم مهره أو سافع (٣)

وقيل : هو الأخذ ، بلغة قريش.

وقال الرّاغب : السّفع : الأخذ بسعفة الفرس ، أي : بسواد ناصيته ، وباعتبار السواد قيل للأثافي : سفع ، وبه سفعة غضب اعتبارا بما يعلم من اللون الدخاني وجه من اشتد به الغضب.

وقيل للصقر : أسفع ، لما فيه من لمع السواد ، وامرأة سفعاء اللون انتهى.

وفي الحديث : «فقامت امرأة سفعاء الخدّين» (٤).

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣٢ / ٢١).

(٢) ينظر : المحرر الوجيز (٥ / ٥٠٣) ، والبحر المحيط (٨ / ٤٩١) ، والدر المصون (٦ / ٥٤٧).

(٣) ينظر ديوانه (١٤٥) ، والكشّاف (٤ / ٧٧٨ ، واللسان (سفع) والقرطبي ٢٠ / ٨٥ ، والبحر ٨ / ٤٨٧ ، والدر المصون ٦ / ٤٧.

(٤) أخرجه مسلم (٣ / ٤٣٩ ـ نووي) كتاب : صلاة العيدين ، باب : (١) حديث (٤) من حديث جابر.

٤٢١

وقيل : هو مأخوذ من سفعت النار والشمس إذا غيرت وجهه إلى حال تسويد.

قال : [الكامل]

٥٢٥٨ ـ أثافي سفعا في معرس مرجل

ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع (١)

قال القرطبي (٢) : السفع الضرب ، أي : ليلطمن وجهه ، وكله متقارب المعنى ، أي : يجمع عليه الضرب عند الأخذ ، ثم يجر إلى جهنم.

وقرأ ابن مسعود (٣) : «لأسفعن» ، أي : يقول الله تعالى : يا محمد أنا الذي أتولى إهانته ، لقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ) [الأنفال : ٦٢] ، (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) [الفتح : ٤] ، والناصية : شعر مقدم الرأس ، وقد يعبر بها عن جملة الإنسان ، وخص الناصية بالذكر على عادة العرب فيمن أرادوا إذلاله وإهانته أخذوا بناصيته.

قوله : (ناصِيَةٍ) بدل من «الناصية» ، بدل نكرة من معرفة.

قال الزمخشري (٤) : «وجاز بدلها عن المعرفة ، وهي نكرة ، لأنها وصفت ، فاستقلت بفائدة».

قال شهاب الدين (٥) : وهذا مذهب الكوفيين ، لا يجيزون إبدال نكرة من غيرها إلا بشرط وصفها ، وكونها بلفظ الأول ، ومذهب البصريين : لا يشترط بشيء ؛ وأنشدوا : [الوافر]

٥٢٥٩ ـ فلا وأبيك خير منك إني

ليؤذيني التحمحم والصهيل (٦)

وقرأ أبو حياة ، وابن أبي عبلة (٧) ، وزيد بن علي : بنصب «ناصية كاذبة خاطئة» على الشتم.

وقرأ الكسائي في روآية (٨) : بالرفع ، على إضمار : هي ناصية ، ونسب الكذب والخطأ إليها مجازا. والألف واللام في «الناصية» قيل : عوض من الإضافة ، أي : بناصيته.

وقيل : الضمير محذوف ، أي : الناصية منه.

فصل في معنى الآية

والمعنى : لنأخذن بناصية أبي جهل «كاذبة» في قولها ، «خاطئة» في فعلها ،

__________________

(١) ينظر القرطبي ٢٠ / ٨٥.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٨٥.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٧٨ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٥٠٣.

(٤) الكشاف ٤ / ٧٧٨.

(٥) الدر المصون ٦ / ٥٤٧.

(٦) تقدم.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٠٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٩١ ، والدر المصون ٦ / ٥٤٧.

(٨) ينظر السابق.

٤٢٢

والخاطىء معاقب مأخوذ ، والمخطىء غير مأخوذ ، وو صفت الناصية بأنها خاطئة كوصف الوجوه بالنظر في قوله (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) ، وقيل : إن صاحبها كاذب خاطىء كما يقال : ليل قائم ونهار صائم ، أي صائم في النهار وقائم في الليل ، وإنما وصف الناصية بالكاذبة ، لأنه كان كاذبا على الله تعالى في أنه لم يرسل محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكاذبا على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أنه ساحر ، وكاذب أنه ليس بنبي ؛ لأن صاحبها يتمرد على الله تعالى ، كما قال تعالى : (لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ) [الحاقة : ٣٧].

قوله : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) ، إما أن يكون على حذف مضاف ، أي : أهل ناديه ، أو على التجوز في نداء النادي لا شتماله على الناس ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها) [يوسف : ٨٢] ، والنادي والندي : المجلس المتجدد للحديث.

قال زهير : [الطويل]

٥٢٦٠ ـ وفيهم مقامات حسان وجوههم

وأندية ينتابها القول والفعل (١)

[وقالت أعرابية : هو سيد ناديه وثمال عافيه](٢).

وقال تعالى : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت : ٢٩].

وقال أبو عبيدة : «وناديه» أهل مجلسه ، ولا يسمى المكان ناديا حتى يكون فيه أهله ، والمعنى : فليدع عشيرته ، فليستنصر بهم.

قوله : (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ).

قال الزمخشري (٣) : «والزبانية في كلام العرب : الشرط ، الواحد : زبنية ، كعفرية من الزبن ، وهو الدفع.

وقيل : زبني ، وكأنه نسب إلى الزبن ، ثم غير للنسب ، كقولهم : أمسي ، وأصله : زباني ، فقيل : «زبانية» على التعويض».

وقال عيسى ابن عمر والأخفش : واحدهم زابن.

وقيل : هو اسم جمع لا واحد له من لفظه ، كعباديد ، وشماطيط ، وأبابيل ، والحاصل : أن المائدة تدل على الدفع.

قال : [الطويل]

٥٢٦١ ـ مطاعيم في القصوى مطائعين في الوغى

زبانية غلب عظام حلومها (٤)

__________________

(١) ينظر ديوانه ٩٧ ، والعمدة لا بن رشيق ٢ / ١٣٤ ، واللسان (قوم) ، والكشاف ٤ / ٧٧٩. والبحر ٨ / ٤٨٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٤٧.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٧٩.

(٤) ينظر القرطبي ٢٠ / ٨٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٤٨.

٤٢٣

وقال آخر : [الطويل]

٥٢٦٢ ـ ومستعجب مما يرى من أناتنا

ولو زبنته الحرب لم يترمرم (١)

[قال عتبة : زبنتنا الحرب ، وزبناها ، ومنه الزبون لأنه يدافع من بائع إلى آخر.

وقال أبو الليث السمرقندي رحمه‌الله : ومنه المزابنة في البيع ؛ لأنهم يعملون بأرجلهم ، كما يعملون بأيديهم](٢).

وقرأ العامة : «سندع» بنون العظمة ، ولم ترسم بالواو ، وتقدم نظيره ، نحو (يَدْعُ الدَّاعِ) [القمر : ٦].

وقرأ ابن أبي عبلة (٣) : «سيدعى الزبانية» مبنيا للمفعول ورفع «الزبانية» لقيامها مقام الفاعل.

فصل في المراد بالزبانية

قال ابن عباس : الملائكة الغلاظ الشداد ، وروي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى : (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ) قال أبو جهل : أنا ادعوا قومي حتى يمنعوا عني ربك ، قال الله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) فلما ذكر الزبانية رجع فزعا ، فقيل له : أخشيت منه؟.

قال : لا ، ولكن رأيت عنده فارسا ، فهددني بالزبانية فما أدري ما الزبانية ؛ ومال إلي الفارس ، فخشيت منه أن يأكلني.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته. خرجه الترمذي بمعناه (٤).

قوله : (كَلَّا) أي : ليس الأمر كما يظنه أبو جهل «لا تطعه» فيما دعاك إليه من ترك الصلاة «واسجد» ، أي : صل لله «واقترب» أي : اقترب إلى الله بالطاعة والعبادة.

وقيل : المعنى : إذا سجدت اقترب من الله بالدعاء.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما الركوع فعظموا فيه الرب تعالى ، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء ، فقمن أن يستجاب لكم» (٥).

__________________

(١) البيت لأوس بن حجر ينظر ديوانه (١٢١) ، والمحتسب ٢ / ١٠٨ ، والكامل ٣ / ٣٨٥ ، والحجة للفارسي ١ / ٢٦٥ ، ومجمع البيان ١ / ٧٧٩ ، والبحر ٨ / ٤٨٧ ، والدر المصون (٦ / ٥٤٨).

(٢) سقط من : ب.

(٣) ينظر : الكشاف (٤ / ٧٧٩) ، والبحر المحيط (٨ / ٤٩١) ، والدر المصون (٦ / ٥٤٨).

(٤) أخرجه الترمذي (٥ / ٤١٤) ، كتاب : التفسير رقم (٣٣٤٩) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ١٥٨) من طريق عكرمة عن ابن عباس وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب صحيح.

(٥) تقدم.

٤٢٤

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» (١).

فالسجود في قوله تعالى : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة ، ويحتمل أن يكون سجود التلاوة في هذه السورة.

وقال ابن العربي : والظاهر أنه سجود الصلاة ؛ لقوله تعالى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) إلى قوله : (كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) ، لو لا ما ثبت في الصحيح من روآية مسلم ، وغيره من الأئمة عن أبي هريرة ، أنه قال : سجدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) وفي (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) سجدتين (٢) ، فكان هذا نصا على أن المراد سجود التلاوة.

روى الثعلبي عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، فكأنما قرأ المفصل كله» (٣). والله تعالى أعلم.

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه مسلم كتاب المساجد (٥٧٨) : باب سجود التلاوة عن أبي هريرة. وقد تقدم تخريجه موسعا.

(٣) تقدم تخريجه مرارا.

٤٢٥

سورة القدر

مكية في قول أكثر المفسرين ذكره الثعلبي.

وحكي الماوردي عكسه.

وذكر الواقدي : أنها أول سورة نزلت ب «المدينة» ، وهي خمس آيات ، وثلاثون كلمة ، ومائة واثنا عشر حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥)

قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) ، أي : القرآن ، أضمر للعلم به (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) يجوز أن يكون ظرفا للإنزال ، والقرآن كله كالسورة الواحدة ، وقال تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥] ، وقال : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣٠] يريد : ليلة القدر.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : نزل به جبريل ـ عليه‌السلام ـ جملة (١) واحدة في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا إلى بيت العزة ، وأملاه جبريل على السفرة ، ثم كان جبريل ينزله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم منجما ، وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة (٢).

حكى الماوردي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : نزل القرآن في شهر رمضان ، وفي ليلة القدر ، وفي ليلة مباركة ، جملة واحدة من عند الله ، من اللوح

__________________

(١) في أ : دفعة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٥١) ، عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٨) ، وزاد نسبته إلى ابن الضريس وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «الدلائل».

٤٢٦

المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في سماء الدنيا ، فنجمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة ، ونجمه جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرين سنة (١).

قال ابن العربي : وهذا باطل ، ليس بين جبريل ـ عليه‌السلام ـ وبين الله واسطة ، ولابين جبريل محمد ـ عليهما‌السلام ـ واسطة.

وقيل : المعنى أنزل في شأنها وفضلها ، فليست ظرفا ، وإنما كقول عمر ـ رضي الله عنه ـ : خشيت أن ينزل في قرآن ، وقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ : لأنا أحقر في نفسي أن ينزل في قرآن (٢).

وسميت ليلة القدر بذلك ؛ لأن الله يقدر فيها ما يشاء من أمره إلى مثلها من السنة القابلة من أمر الموت ، والأجل ، والرزق ، وغيره ، ويسلمه إلى مدبرات الأمور ، وهم أربعة من الملائكة : إسرافيل ، وميكائيل ، وعزرائيل ، وجبريل ، عليهم‌السلام.

وعن ابن عباس أيضا : أن الله يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان ، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر ، وأما تضييقها بالملائكة قال الخليل : لأن الأرض تضيق فيها بالملائكة ؛ كقوله تعالى : (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ) [الطلاق : ٧].

وقيل : سميت بذلك لعظمها ، وشرفها ، وقدرها ، من قولهم : لفلان قدر : أي شرف ومنزلة. قاله الزهري. وقيل : سميت بذلك لأن للطاعة فيها قدرا عظيما ، وثوابا جزيلا.

وقيل : لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر على رسول ذي قدر على أمه ذات قدر ، والقدر : مصدر ، والمراد ما يمضيه الله تعالى من الأمور ، قال الله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) [القمر : ٤٩] ، وهو بمعنى القدر ، إلا أنه بالتسكين ، مصدر ، وبالفتح اسم.

قوله : (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) بين فضلها ، وعظمها ، وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر ، جميع الدهر ، لأن العرب تذكر الألف ، لا تريد حقيقتها ، وإنما تريد المبالغة في الكثرة ، كقوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) [البقرة : ٩٦] ، يعني جمع الدهر.

[وقيل : إن العابد فيما مضى لا يسمى عابدا ، حتى يعبد الله ألف شهر ، فجعل الله تعالى لهذه الأمة أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبادة ليلة خير من ألف شهر كانوا يعبدونها](٣).

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣١١) ، والقرطبي (٢٠ / ٨٨).

(٢) جزء من حديث الإفك وقد تقدم تخريجه.

(٣) سقط من : ب.

٤٢٧

وقال أبو بكر الوراق : كان ملك سليمان ـ عليه الصلاة والسلام ـ خمسمائة شهر ، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر ، فصار ملكهما ألف شهر ، فجعل الله العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما.

وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل حمل السلاح ألف شهر ، فعجب المسلمون من ذلك فنزلت هذه الآية ، يعني خير من ألف شهر التي لبس السلاح فيها في سبيل الله ، ونحوه عن ابن عباس رضي الله عنه (١).

وقال مالك بن أنس ـ رضي الله عنه ـ : أري رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أعمار الناس ، فاستقصر أعمار أمته ، فخاف ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله ليلة القدر، وجعلها خيرا من ألف شهر لسائر الأمم (٢).

وقال عكرمة وعروة : ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربعة من بني إسرائيل ، يقال : عبدوا الله ثمانين سنة ، لم يعصوا الله ـ تعالى ـ طرفة عين : أيوب ، وزكريا ، وحزقيل بن العجوز ، ويوشع ابن نون ، فعجب أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ذلك ، فأتاه جبريل ـ عليه‌السلام ـ فقال : يا محمد ، عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة ، لم يعصوا الله تعالى طرفة عين ، فقد أنزل الله عليك خيرا من ذلك ، ثم قرأ : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، فسر بذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

قوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) ، أي : تهبط من كل سماء إلى الأرض ، ويؤمنون على دعاء الناس إلى وقت طلوع الفجر ، وقوله تعالى : (وَالرُّوحُ فِيها). يجوز أن ترتفع «الرّوح» بالابتداء ، والجار بعده الخبر وأن ترتفع بالفاعلية عطفا على الملائكة ، و «فيها» متعلق ب «تنزل» وأن يكون معطوفا على الفاعل ، و «فيها» ظرف أو حال ، والمراد بالروح جبريلعليه‌السلام.

[وحكى القشيري : أن الروح صنف من الملائكة ؛ جعله حفظة على سائرهم ، وأن الملائكة لا يرونهم كما لا نرى نحن الملائكة.

وقال مقاتل : هم أشرف الملائكة ، وأقربهم إلى الله تعالى (٤).

وقيل : هم جند الله ـ تعالى ـ غير الملائكة رواه ابن عبّاس مرفوعا حكاه (٥) الماوردي.

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ٨٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٩) ، عن مجاهد وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي.

(٢) ينظر التفسير الكبير للفخر الرازي (٣٢ / ٣٠).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٢٩) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن علي بن عروة.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٩٠).

(٥) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٣١٣).

٤٢٨

وقيل : الروح خلق عظيم يقوم صفا واحدا ، والملائكة صفا](١).

وقيل : «الرّوح» : الرحمة ينزل بها جبريل عليه‌السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها ، بدليل قوله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [النحل : ٢] ، أي : بالرحمة فيها ، أي : في ليلة القدر.

قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ). يجوز أن يتعلق ب «تنزّل» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المرفوع ب «تنزّل» أي : ملتبسا بإذن ربهم.

قوله : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ). يجوز في «من» وجهان :

أحدهما : أنها بمعنى اللام ، وتتعلق ب «تنزّل» ، أي : تنزل من أجل كل أمر قضي إلى العام القابل.

الثاني : أنها بمعنى الباء ، أي : تنزل بكل أمر ، فهي للتعدية ، قاله أبو حاتم.

وقرأ العامة : «أمر» واحد الأمور.

وقرأ ابن عباس ، وعكرمة (٢) ، والكلبي : «من كلّ امرىء» ، أي : من أجل كل إنسان.

قال القرطبيّ (٣) : وتأولها الكلبي على أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ ينزل فيها مع الملائكة ، فيسلمون على كلّ امرىء مسلم ، ف «من» بمعنى «على».

وقيل : من أجل كل ملك ، وهو بعيد.

وقيل : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) ليس متعلقا ب «تنزّل» إنما هو متعلق بما بعده ، أي : هي سلام من كل أمر مخوف ، وهذا لا يتم على ظاهره ؛ لأن «سلام» مصدر لا يتقدم عليه معموله ، وإنما المراد أنه متعلق بمحذوف يدل عليه هذا المصدر.

فصل في معنى الآية

قوله : (سَلامٌ هِيَ) فيه وجهان :

أحدهما : أن «هي» ضمير الملائكة ، و «سلام» بمعنى التسليم ، أي : الملائكة ذات التّسليم على المؤمنين من مغيب الشمس حتى مطلع الفجر وقيل : الملائكة يسلم بعضهم على بعض فيها.

الثاني : أنها ضمير ليلة القدر ، و «سلام» بمعنى سلامة ، أي : ليلة القدر ذات سلامة من كلّ شيء مخوف.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٠٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٩٣ ، والدر المصون ٦ / ٥٤٩.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٩١.

٤٢٩

قال الضحاك : لا يقدر الله ـ تعالى ـ في تلك الليلة إلا السلامة (١).

وقيل : هي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة ، قاله مجاهد (٢).

وعلى التقديرين : يجوز أن يرتفع «سلام» على أنه خبر مقدم ، و «هي» مبتدأ مؤخر ، وهذا هو المشهور ، ويجوز أن يرتفع بالابتداء ، و «هي» فاعلة عند الأخفش ؛ لأنه لا يشترط الاعتماد على الوصف.

وقد تقدم أن بعضهم يجعل الكلام تاما على قوله : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ، وتعلق «كلّ أمر» بما بعده ، وتقدم تأويله.

وقال أبو الفضل : «وقيل : معناه هي سلام من كل أمر أو امرىء ؛ أي سالمة ، أو مسلمة منه ، ولا يجوز أن يكون «سلام» بهذه اللفظة الظّاهرة التي هي المصدر عاملا فيما قبله ، لامتناع تقدم معمول المصدر على المصدر ، كما أن الصفة كذلك لا يجوز تقديمها على الموصول» انتهى.

[وقد تقدم أن معنى ذلك عند هذا القائل أن يتعلق بمحذوف مدلول عليه ب «سلام» فهو تفسير معنى لا تفسير إعراب](٣).

وما يروى عن ابن عبّاس ـ رضي الله عنهما ـ أن الكلام تمّ عند قوله تعالى : «سلام» ويبتدىء ب «هي» على أنها خبر مبتدأ ، والإشارة بذلك إلى أنها ليلة السابع والعشرين ، لأن لفظه : هي سابعة وعشرون ، من كلم هذه السورة ، فلا ينبغي أن يعتقد صحته لأنه إلغاز وتغيير لنظم أفصح الكلام.

[قوله : (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) متعلق ب «تنزل» أو ب «سلام» وفيه إشكال للفصل بين المصدر والمعمول للمبتدأ ، إلا أن يتوسع في الجار].

وقرأ الكسائي وابن محيصن : «مطلع» بكسر اللام ، والباقون (٤) : بالفتح ، والفتح هو القياس ، والكسر سماع ، وله أخوات تحفظ فيها الكسر مما ضم مضارعه ، أو فتح ، نحو : المشرق ، والمغرب ، والمنسك ، والمسكن ، والمحشر ، والمسقط.

قال القرطبي (٥) : «حكي في ذلك كله الفتح والكسر».

وهل هما مصدران أو المفتوح مصدر ، والمكسور مكان؟ خلاف ، وعلى كل تقدير ، فالقياس في الفعل مطلقا مما ضمت عين مضارعه أو فتحت فتح العين ، وإنما يقع الفرق في المكسور العين الصحيح ، نحو : «يضرب».

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٩١).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) سقط من : ب.

(٤) ينظر : السبعة ٦٩٣ ، والحجة ٦ / ٤٢٧ ، وإعراب القراءات (٢ / ٥١٠) ، وحجة القراءات ٧٦٨.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٩١.

٤٣٠

فصل في تعيين ليلة القدر

اختلفوا في تعيين ليلة القدر ، فالأكثرون على أنها ليلة سبع وعشرين ، لحديث أبيّ ابن كعب : أنها في العشر الأواخر ، وأنّها ليلة سبع وعشرين (١).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كان متحرّيا لليلة القدر فليتحرّها في ليلة سبع وعشرين» (٢).

وقال أبيّ بن كعب : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «ليلة القدر ليلة سبع وعشرين» (٣).

وقال أبو بكر الوراق : كرر ذكرها ثلاث مرات ، وهي تسعة أحرف ، فيكون سبعة وعشرين.

وقال عبيد بن عمير : كنت ليلة السابع والعشرين في البحر فأخذت من مائه ، فوجدته عذبا سلسا.

وقال أبو هريرة وغيره : هي في ليلة السنة كلها (٤) ، وإليه ذهب أبو حنيفة ، وعنه أنها رفعت ، وأنها إنما كانت مرة واحدة قال الخليل : من قال : إن فضلها لنزول القرآن [يقول] انقطعت ، والجمهور على أنها في كل عام من رمضان ، ثم اختلفوا.

فقيل : هي ليلة إحدى وعشرين ، وإليه مال الشافعي ـ رضي الله عنه ـ لحديث الماء والطين.

وقيل : ليلة الثالث والعشرين ، لما روى ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أنّ رجلا قال : يا رسول الله ، إني رأيت ليلة القدر في سابعة تبقى ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين ، فمن أراد أن يقوم من الشّهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين» (٥).

وقيل : ليلة خمس وعشرين ، لما روى مسلم عن أبي سعيد الخدري : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال: «التمسوها في العشر الأواخر ، في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى» (٦).

__________________

(١) تقدم في «سورة البقرة».

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه أبو داود (١٣٨٦) ، والبيهقي (٤ / ٣١٢) ، والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٣ / ٩٣) ، وابن خزيمة (٣ / ٣٣٠) ، رقم (٢١٨٩) ، وابن حبان (٩٢٥ ـ موارد) ، من حديث معاوية مرفوعا.

(٤) ينظر تفسير القرطبي (٢٠ / ٩٢).

(٥) أخرجه البخاري (٤ / ٣٠١) ، كتاب : فضل ليلة القدر ، باب : التماس ليلة القدر في السبع الأواخر رقم (٢٠١٥) ، ومسلم (٢ / ٨٢٢ ، ٨٢٣) ، كتاب : الصيام ، باب : فضل ليلة القدر والحث على طلبها ... رقم (٢٠٥ ـ ١١٦٥).

(٦) تقدم.

٤٣١

[قال مالك رضي الله عنه : يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين ، وبالسابعة ليلة ثلاث وعشرين ، وبالخامسة ليلة خمس وعشرين.

وقيل : سبع وعشرين وقد تقدم](١).

وقيل : ليلة تسع وعشرين ، لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليلة القدر التّاسعة والعشرون ، والسّابعة والعشرون» (٢).

وقال الحسن ـ رضي الله عنه ـ : «ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها ، يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة» (٣).

[وروي عن أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ أنها في ليالي الأفراد من النصف الأخير من شهر رمضان مستقلة في ليالي الجمع ، ونظمه محمد ابن الأثير فقال : [الطويل]

٥٢٦٣ أ ـ ثلاث شروط هنّ في ليلة القدر

كذا قال شيخ العرب فيها أبو بكر

فأوّلها وتر وليلة جمعة

وثالثها النّصف الأخير من الشّهر

وقيل : هي تنتقل في جميع السنة](٤).

قالوا : والحكمة في إخفائها ليجتهد الناس في إحياء جميع الليالي ، كما أخفى رمضان في الطاعات ، حتى يرغبوا في الكل ، وأخفى ساعة الإجابة في الدعاء ، ليبالغوا في كل الساعات ، وأخفى الاسم الأعظم ، ليعظموا كل الأسماء ، وأخفى قبول التوبة ، ليحافظوا على جميع أقسام التوبة ، وأخفى وقت الموت ، ليخاف الموت المكلف ، وكذلك أخفى هذه الليلة ، ليعظموا جميع ليالي رمضان.

فصل في أحكام تتعلق بليلة القدر

نقل القرطبي (٥) عن بعض العلماء : أن من علق طلاق امرأته ، أو عتق عبده بليلة القدر لم يقع الطلاق والعتق إلى مضى سنة من يوم حلف ، لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك ، ولم يثبت اختصاصها بوقت ، فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا لمضى حول.

وفي هذا نظر ؛ لأنه تقدم عن أبي حنيفة في أحد قوليه أنها رفعت ، فعلى هذا لا ينبغي أن يقع شيء أصلا ، لوجود الخلاف في بقائها.

وروى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة القدر ، كان كمن صام رمضان ، وأحيا ليلة القدر» (٦).

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي (٢٠ / ٩٣).

(٤) سقط من : ب.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٩١.

(٦) تقدم تخريجه مرارا.

٤٣٢

سورة لم يكن

مكية في قول يحيى بن سلام ، ومدنية في قول الجمهور ، وهي ثمان آيات وأربع وتسعون كلمة ، وثلاثمائة وتسعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)(٣)

قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) ، هذه قراءة العامة ، وخط المصحف.

وقرأ عبد الله بن مسعود (١) ـ رضي الله عنه ـ : «لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين» وهذه قراءة على التفسير.

قال ابن العربي : «وهي جائزة في معرض البيان ، لا في معرض التلاوة ، فقد قرأ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم في رواية الصحيح «فطلّقوهنّ لقبل عدّتهنّ» وهو تفسير ، فإن التلاوة هو ما كان في خط المصحف».

وقرىء : «والمشركون» (٢) بالواو نسقا على (الَّذِينَ كَفَرُوا).

قوله : (مُنْفَكِّينَ) اسم فاعل من «انفك» ، وهي هنا التامة ، فلذلك لم تحتج إلى خبر.

وزعم بعضهم : أنها هنا ناقصة ، وأن الخبر مقدر ، تقديره : منفكّين عارفين محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال أبو حيان (٣) : وحذف خبر «كان» لا يجوز اقتصارا ، ولا اختصارا.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٠٧ ، والقرطبي ٢٠ / ٩٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٠٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٩٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٥١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٩٥.

٤٣٣

وجعلوا قوله : [الكامل]

٥٢٦٣ ب ـ ...........

يبغي جوارك حيث ليس مجير (١)

أي : في الدنيا ، ضرورة ، ووجه من منع من ذلك أنه قال : صار الخبر مطلوبا من جهتين: من جهة كونه مخبرا به ، فهو أحد جزئي الإسناد ، ومن حيث كونه منصوبا بالفعل ، وهذا منتقض بمفعولي ظن ، فإن كلّا منهما فيه المعنيان المذكوران ومع ذلك يحذفان ، أو أحدهما اختصارا ، وأما الاقتصار ففيه خلاف وتفصيل وتقدم ذكره.

وقوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ) متعلق ب «لم يكن» أو ب «منفكّين».

فصل

قال الواحديّ : هذه الآية من أصعب ما في القرآن نظما وتفسيرا ، ولم يبين كيفية الإشكال قال ابن الخطيب (٢) : ووجه الإشكال أن تقدير الآية : لم يكن الذين كفروا إلى أن تأتيهم البينة التي هي الرسول ، ثم إنه تعالى لم يذكر الشيء المنفكّ عنه ، والظاهر أن المراد لم ينفكوا عن كفرهم ، حتى تأتيهم البينة التي هي الرسول ، فانفكوا عنه لأن «حتّى» لانتهاء الغاية ، فهذه الآية تقتضي أنهم صاروا منفكين عن كفرهم عند إتيان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لكن قوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) يقتضي زيادة كفرهم عند مجيء الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ فحينئذ يحصل التناقض ، والجواب من وجوه :

أحدهما : وهو أحسنها ، ما لخصه الزمخشريّ (٣) : أن الأول حكاية ما كانوا يقولونه من أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم الموعود به لا ننفك عما نحن عليه من ديننا.

والثاني : إخبار عن الواقع ، يعني أنهم كانوا يعدون الاتّفاق على الحق إذا جاءهم الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، والمعنى أن الذي وقع فيه كان خلافا لما ادعوا.

وثالثها : المعنى : لم يكونوا منفكين عن كفرهم ، وإن جاءتهم بينة ، قاله القاضي. إلا أن جعل «حتى» بمعنى «أن» بعيد في اللغة.

ورابعها : المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمناقب والفضائل ، حتى أتتهم البينة ، والمضارع هنا بمعنى الماضي كقوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) [البقرة : ١٠١] ، أي ما تلت أي : ما كانوا منفكين عن ذكر مناقبه ، ثم لما جاءهم محمد تفرقوا ، ونظيره (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩].

وخامسها : أنهم كانوا متفقين على الكفر قبل البينة ، فلما جاءتهم البينة تفرقوا ، وتكفي هذه المغايرة.

__________________

(١) تقدم.

(٢) الفخر الرازي ٣٢ / ٣٧.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٨٢.

٤٣٤

وسادسها : هي كقوله تعالى : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) [البقرة ٢١٣] الآية ، أي : كان كل منهم جازما بمذهبه ودينه ، فلما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم شكوا في أديانهم ، لأن قوله تعالى : (مُنْفَكِّينَ) مشعر بهذا ؛ لأن الانفكاك من الشيء هو الانفصال عنه ، فمعناه : أن قلوبهم ما خلت عن تلك العقائد ، وما انفصلت عن الجزم بصحتها ، ثم بعد المبعث لم يبق الأمر على تلك الحالة.

فصل في المراد بأهل الكتاب هنا

قال ابن عباس : أهل الكتاب الذين كانوا ب «يثرب» ، وهم : قريظة ، والنضير ، وبنو قينقاع ، والمشركون الذين كانوا ب «مكة» وما حولها ، و «المدينة» ، وهم مشركو قريش ، وقوله تعالى : (مُنْفَكِّينَ) أي : منتهين من كفرهم (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) يعني محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم(١).

وقيل : لانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا حتى تأتيهم البينة. وقيل : منفكين زائلين إن لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والعرب تقول : ما انفككت أفعل كذا ، أي ما زلت ، وما انفك فلان قائما ، أي : ما زال قائما.

وأصل الفك للفتح ، ومنه : فك الكتاب ، وفك الخلخال.

وقيل : «منفكّين» ، بارحين ، أي : لم يكونوا ليبرحوا ، ويفارقوا الدنيا ، حتى تأتيهم البينة.

وقال ابن كيسان : أي : لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويسمونه الأمين في كتابهم حتى بعث فلما بعث صلى‌الله‌عليه‌وسلم حسدوه ، وجحدوه ، وهو قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ) [البقرة : ٨٩] ، ولهذا قال تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) [البينة : ٤] ، وعلى هذا فقوله تعالى : (وَالْمُشْرِكِينَ) أي : ما كانوا يسيئون القول في محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى بعث ، فإنهم كانوا يسمونه الأمين ، حتى أتتهم البينة على لسانه ، وبعث إليهمصلى‌الله‌عليه‌وسلم فحينئذ عادوه.

وقال بعض اللغويين : «منفكّين» ، أي : هالكين ، من قولهم : انفك صلا المرأة عند الولادة ، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك ، والمعنى : لم يكونوا معذّبين ، ولا هالكين إلا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب.

فصل في المراد بالمشركين

قال قوم : المراد بالمشركين من أهل الكتاب ، فمن اليهود من قال : عزير ابن الله ومن النصارى من قال : عيسى هو الله.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٩٥).

٤٣٥

ومنهم من قال : هو ابنه.

ومنهم من قال : هو ثالث ثلاثة وكذبوا فيما قالوا عن الله تعالى ، وأن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له ، ولا ولد له ، ولا مثل ولا ضد له ، ولا ند له ، ولا شبيه له ، ولا صاحبة له ، ولا زوجة له ، ولا وزير له ، ولا حاجب له ، ولا بواب له ، وهو سبحانه وتعالى كما قال في كتابه المنزل على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

وقيل : المشركون وصف لأهل الكتاب أيضا ، لأنهم لم ينتفعوا بكتابهم ، وتركوا التوحيد ، فالنصارى مثلثة ، وعامة اليهود مشبهة ، والكل شرك ، وهو كقولك : جاءني العقلاء والظرفاء ، وأنت تريد أقواما بعينهم تصفهم بالأمرين ، قال تعالى : (الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ) [التوبة : ١١٢] ، وهذا وصف للطائفة الواحدة ، فالمعنى على هنا من أهل الكتاب المشركين.

[وقيل : أهل الكتاب كانوا مؤمنين ، ثم كفروا بعد أنبيائهم ، والمشركون ولدوا على الفطرة ، ثم كفروا حين بلغوا.

وقيل : الكفر هنا هو الكفر بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : لم يكن الذين كفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب ، ولم يكن المشركون الذين هم عبدة الأوثان من العرب وغيرهم ، وهم الذين ليس لهم كتاب منفكين.

قال القشيريّ : وفيه بعد ، لأن الظاهر من قوله تعالى : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللهِ) أنّ هذا الرسول هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فيبعد أن يقال لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منفكين ، حتى يأتيهم محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا أن يقال : أراد لم يكن الذين كفروا الآن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد كانوا من قبل معظمين له منتهين عن هذا الكفر إلى أن يبعث الله تعالى لهم محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويبين لهم الآيات ، فحينئذ يؤمن قوم](١).

وقرأ الأعمش وإبراهيم (٢) : «والمشركون» رفعا عطفا على (الَّذِينَ كَفَرُوا).

قال القرطبيّ (٣) : «والقراءة الأولى أبين ، لأن الرفع يصير فيه الصنفان ، كأنهم من غير أهل الكتاب».

وفي حرف أبيّ (٤) : «فما كان الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركون منفكين».

قال ابن الخطيب : فإن قيل : لم قال الذين كفروا ، بلفظ الفعل ، وذكر المشركين

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر السابق.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٩٦.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٩٦.

٤٣٦

باسم الفاعل؟ فالجواب : أن أهل الكتاب ما كانوا كافرين من أول الأمر ؛ لأنهم كانوا مصدقين بالتوراة والإنجيل ، وبمبعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخلاف المشركين ، فإنهم ولدوا على عبادة الأوثان ، وذلك يدل على الثبات على الكفر.

قوله : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ).

قيل : البينة ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه في نفسه بينة وحجّة ولذلك سمّاه الله ـ تعالى ـ سراجا منيرا.

قوله تعالى : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) ، وهو رفع على البدل من «البيّنة» ، ولأن اللام في «البيّنة» للتعريف أي : هو الذي سبق ذكره في التوراة والإنجيل على لسان موسى وعيسى ، وقد يكون التعريف للتفخيم ؛ إذ هو البينة التي لا مزيد عليها والبينة كل البينة ، وكذا التنكير ، وقد جمعهما الله ـ تعالى ـ هاهنا ـ في حق الرسول ، أي : هو رسول ، وأي رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونظيره : قوله تعالى حين أثنى على نفسه ، فقال سبحانه وتعالى : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) [البروج : ١٥] ثم قال تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) [البروج : ١٦] فنكر بعد التعريف.

وقال أبو مسلم (١) : المراد من البينة مطلق الرسل ، فقوله تعالى : (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي : تأتيهم رسل من ملائكة الله تعالى ، تتلو عليهم صحفا مطهرة ، نظيره : (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً) [المدثر : ٥٢].

وقال قتادة وابن زيد : «البيّنة» هي القرآن ، كقوله تعالى : (أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى)(٢) [طه : ١٣٣].

قوله : «رسول» ، العامة : على رفعه بدلا من «البينة» ، إما بدل اشتمال ، وإما بدل كل من كل على سبيل المبالغة ، جعل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم نفس البينة ، أو على حذف مضاف ، أي : بينة رسول.

وقال الفرّاء : رفع على خبر ابتداء مضمر ، أي : هي رسول ، أو هو رسول من الله لأن البينة قد تذكّر ، فيقال : بيّنتي فلان.

وقرأ عبد الله وأبيّ (٣) : «رسولا» على الحال من «البينة».

وقال القرطبي (٤) : «بالنصب على القطع».

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٢ / ٤٠.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٥٦) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٤٢) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٨٢ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٥٠٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٩٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٢.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٩٦.

٤٣٧

قوله : «من الله» يجوز تعلّقه بنفس «رسول» أو بمحذوف على أنه صفة ل «رسول» ، وجوز أبو البقاء ثالثا ، وهو أن يكون حالا من «صحفا» ، والتقدير : يتلو صحفا مطهرة منزلة من الله (١) تعالى.

يعني كانت صفة في الأصل للنّكرة ، فلما تقدمت عليها نصبت حالا.

قوله : «يتلو» يجوز أن يكون صفة ل «رسول» وأن يكون حالا من الضمير في الجار قبله ، إذا جعله صفة ل «رسول». و «يتلو» : أي : يقرأ ، يقال : تلا يتلو تلاوة.

و «صحفا» جمع صحيفة ، وهي ظرف المكتوب.

«مطهّرة» ، قال ابن عبّاس : من الزور ، والشك ، والنفاق ، والضلالة (٢) ، وقال قتادة: من الباطل (٣).

وقيل : من الكذب والشبهات ، والمعنى واحد [أي : يقرأ ما تتضمن الصحف من المكتوب بدليل أنه كان يتلو عن ظهر قلب لا عن كتاب ، ولأنه كان أميّا لا يقرأ ، ولا يكتب ، ومطهرة من نعت الصحف كقوله تعالى : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) فالمطهرة : نعت للصحف في الظاهر ، وهو نعت لما في الصحف من القرآن.

وقيل : مطهرة أي : لا يمسّها إلا المطهرون كما تقدم في سورة «الواقعة».

وقيل : الصحف المطهرة هي التي عند الله ـ تعالى ـ في أم الكتاب الذي منه نسخ ما أنزل على الأنبياء صلوات الله عليهم من الكتب لقوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)](٤).

قوله : (فِيها كُتُبٌ). يجوز أن تكون جملة صفة ل «صحفا» ، أو حالا من ضمير «مطهّرة» وأن يكون الوصف أو الحال الجار والمجرور فقط ، و «كتب» فاعل به ، وهو الأحسن ، والمراد بالكتب : الآيات المكتوبة في الصحف ، والقيمة : المستقيمة المحكمة ، من قول العرب : قام يقوم إذا استوى وصح.

وقال صاحب «النّظم» (٥) : الكتب بمعنى الحكم ؛ لقوله تعالى : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) [المجادلة : ٢١] ، ومنه حديث العسيف : «لأقضينّ بينكما بكتاب الله» (٦) ، ثم قضى بالرّجم ، وليس ذكر الرجم مسطورا في الكتاب.

__________________

(١) الإملاء ٢ / ٢٩١.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٩٦).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) سقط من : ب.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٣٢ / ٤١.

(٦) أخرجه البخاري (١٢ / ١٨٥) ، كتاب : الحدود ، باب : الإمام يأمر رجلا فيضرب الحد غائبا حديث (٦٨٥٩ ، ٦٨٦٠) ، ومسلم (٣ / ١٣٢٤) ، كتاب : الحدود ، باب : من اعترف على نفسه بالزنا حديث (٢٥ / ١٦٩٧ ، ١٦٩٨) ، من حديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني.

٤٣٨

وقيل : الكتب القيمة : هي القرآن ، سمي كتبا ، لأنه يشتمل على أنواع من البيان.

قوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ)(٥)

قوله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ). أي : من اليهود والنصارى ، خصّ أهل الكتاب بالتفريق دون غيرهم ، وإن كانوا مجموعين مع الكافرين ؛ لأنهم مظنون بهم علم ، فإذا تفرقوا كان غيرهم ممن لا كتاب لهم أدخل في هذا الوصف.

قوله : (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ). أي : أتتهم البينة الواضحة ، والمعني به محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي القرآن موافقا لما في أيديهم من الكتاب بنعته وصفته ، وذلك أنهم كانوا مجتمعين على نبوته ، فلما بعث جحدوا نبوته وتفرقوا ، فمنهم من كفر ، بغيا وحسدا ، ومنهم من آمن ، كقوله تعالى : (وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ) [الشورى : ١٤] وقيل : البينة البيان الذي في كتبهم أنه نبي مرسل.

قال العلماء : من أول السورة ، إلى قوله : «قيّمة» حكمها فيمن آمن من أهل الكتاب والمشركين ، وقوله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ) حكمه فيمن لم يؤمن من أهل الكتاب بعد قيام الحجج.

قوله : (وَما أُمِرُوا). يعني هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) ، أي: يوحدوه ، واللام في (لِيَعْبُدُوا) بمعنى «أن» كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) [النساء: ٢٦] أي : أن يبين ، و (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) [الصف : ٨].

قوله : (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ). العامة : على كسر اللام ، اسم فاعل ، وانتصب به الدين.

والحسن (١) : بفتحها ، على أنهم يخلصون هم أنفسهم في شأنهم.

وانتصب «الدّين» على أحد وجهين : إما إسقاط الخافض ، أي : «في الدين» ، وإما على المصدر من معنى «ليعبدوا» ، وكأنه قيل : ليدينوا الدين ، أو ليعبدوا العبادة.

[فالتجوز إما في الفعل ، وإما في المصدر ، وانتصاب مخلصين على الحال من فاعل «يعبدون»](٢).

قوله : «حنفاء» حال ثانية ، أو حال من الحال قبلها ، أي : من الضمير المستكن فيها.

[قوله : (وَما أُمِرُوا) أي : وما أمروا بما أمروا به إلا لكذا ، وقرأ عبد الله (٣) : وما

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٥٠٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٩٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٢.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ينتظر : الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٩٧.

٤٣٩

أمروا إلا أن يعبدوا ، أي بأن يعبدوا ، وتقدم تحرير مثله عند قوله تعالى : (وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) في سورة الأنعام [آية : ٧١]](١).

فصل في معنى الآية

قال المفسرون : المعنى ، وما أمر هؤلاء الكفار في التوراة والإنجيل (إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ) ، أي : ليوحدوه ، واللام بمعنى «أن» كقوله تعالى : (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) ، ومنه قوله تعالى : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) [الزمر : ١١] أي : العبادة ، وفي هذا دليل على وجوب النية في العبادات ، فإن الإخلاص عمل القلب ، وهو أن يراد به وجه الله لا غيره ، وقوله تعالى : (حُنَفاءَ) ، أي : مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، وكان ابن عباس يقول : حنفاء : على دين إبراهيم عليه‌السلام (٢).

وقيل : الحنيف : من اختتن وحجّ ، قاله سعيد بن جبير.

وقال أهل اللغة : وأصله أنه تحنف إلى الإسلام ، أي : مال إليه.

قوله : (وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ) ، أي يصلّوها في أوقاتها (وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) ، أي : يعطوها عند محلها ، وقوله : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي : ذلك الدين الذي أمروا به دين القيمة ، أي : الدين المستقيم ، وقال الزجاج أي : ذلك دين الملة المستقيمة ، و «القيّمة» نعت لموصوف محذوف ، وقيل : «ذلك» إشارة إلى الدين ، أي ذلك الدين الذي أمروا به أي الدين المستقيم أي ذلك دين الأمة القيمة.

وقال محمد بن الأشعث الطالقاني : الكتب القيمة ، لأنها قد تقدمت في الذكر ، قال تعالى: (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) فلما أعادها مع «أل» العهدية ، كقوله تعالى : (فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ) [المزمل : ١٦] ، وهو حسن.

وقرأ الحسن ، وعبد الله (٣) : «وذلك الدين القيمة» ، والتأنيث حينئذ ، إما على تأويل الدين بالملة ، كقوله : [البسيط]

٥٢٦٤ ـ ..........

سائل بني أسد ما هذه الصّوت (٤)

وقال الخليل : القيمة جمع القيم ، والقيم والقيمة واحد بتأويل : الصحية ، وإما على أنها تاء المبالغة : ك «علامة».

وقال الفراء : أضاف الدين إلى «القيمة» وهو نعته ، لاختلاف اللفظين ، وعنه أيضا : هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه ، ودخلت الهاء للمدح.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ينظر القرطبي (٢٠ / ٩٦).

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٩٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٥٢.

(٤) تقدم.

٤٤٠