اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

اضطجعت ، عن أبي عمرو ، وعن ابن عباس : طحاها : أي قسمها (١) ، وقيل : خلقها ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٥٢٢٠ ـ وما تدري جذيمة من طحاها

ولا من ساكن العرش الرّفيع (٢)

قال الماوردي : ويحتمل أنه ما خرج منها من نبات وعيون وكنوز ؛ لأنه حياة لما خلق عليها.

ويقال في بعض أيمان العرب : لا ، والقمر الطاحي ، أي : المشرق المرتفع.

قال أبو عمرو : طحا الرجل إذا ذهب في الأرض ، يقال : ما أدري أين طحا؟.

ويقال : طحا به قلبه ، إذا ذهب به في كلّ شيء ؛ قال علقمة : [الطويل]

٥٢٢١ ـ طحا بك قلب في الحسان طروب

 .......... (٣)

قال ابن الخطيب (٤) : وإنما أخر هذا عن قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) لقوله : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها).

قوله (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها). قيل : المعنى ، وتسويتها ، ف «ما» مصدرية.

وقيل : المعنى ، ومن سواها ، وهو الله تعالى ، قيل : المراد بالنفس : آدم عليه الصلاة والسلام.

وقيل : كلّ نفس منفوسة ، فما التنكير إلا لتعظيمها ، أي نفس عظيمة ، وهي نفس آدم عليه الصلاة والسلام وإما للتكثير ، كقوله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ) [التكوير : ١٤] ، و «سوّى» بمعنى هيأ.

وقال مجاهد : سوّى خلقها وعدّل ، وهذه الأسماء كلها مجرورة على القسم ، أي أقسم الله تعالى بخلقه لما فيه من عجائب الصنعة الدالة عليه ـ سبحانه وتعالى ـ.

قوله : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها) أي : عرّفها طريق الفجور والتقوى ، قاله ابن عباس ومجاهد(٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٠٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٠) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ينظر القرطبي ٢٠ / ٥.

(٣) صدر بيت لعلقمة الفحل ، وعجزه :

يعيد الشباب عصر حان مشيب

ينظر ديوانه ص ٣٣ ، والأضداد ص ١٤٩ ، وخزانة الأدب ٤ / ٣٩٢ ، ١١ / ٢٨٩ ، وجمهرة اللغة ص ٩٩ ، ورصف المباني ص ٣٥٤ ، والمفضليات ص ٣٩١ ، وابن الشجري ٢ / ٢٦٧ ، ومعاهد التنصيص ١ / ٦٣ ، والدر المصون ٦ / ٥٣١.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٧٤.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠١) عن ابن عباس وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٣٦١

وعن مجاهد أيضا : عرفها الطاعة والمعصية (١).

[وعن محمد بن كعب ـ رضي الله عنه ـ إذا أراد الله تعالى لعبده خيرا ألهمه الخير فعمل به ، وإذا أراد به الشر ألهمه الشرّ فعمل به (٢).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : ألهم المؤمن التقي تقواه وألهم الكافر فجوره (٣) ، وعن قتادة : بين لها فجورها وتقواها (٤) ، والفجور والتقوى مصدران في موضع المفعول](٥).

قال الواحدي : الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئا ، وإذا أوقع في قلبه فقد ألزمه إياه ، من قولهم : لهم الشيء وألهمه : إذا بلغه ، وألهمته ذلك الشيء ، أي أبلغته ، هذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد لأنه كالإبلاغ.

قوله : (قَدْ أَفْلَحَ). فيه وجهان :

أحدهما : أنه جواب القسم ، والأصل : لقد وإنما حذفت لطول الكلام ، والثاني : أنه ليس بجواب ، وإنما جيء به تابعا لقوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) على سبيل الاستطراد ، وليس من جواب القسم في شيء ، فالجواب محذوف ، تقديره [ليدمرنّ](٦) الله عليهم ، أي : على أهل مكة لتكذيبهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال معناه الزمخشري (٧). وقدر غيره : لتبعثن.

وقيل : هو على التقديم والتأخير بغير حذف ، والمعنى : قد أفلح من زكاها ، وقد خاب من دساها ، والشمس وضحاها.

وفاعل «زكّاها» و «دسّاها» ، الظاهر أنه ضمير «من».

وقيل : ضمير الباري تعالى ، أي : أفلح وفاز من زكاها بالطاعة ، وقد خاب من دساها أي : خسرت نفس دسها الله تعالى بالمعصية ، وأنحى الزمخشري على صاحب هذا القول لمنافرته مذهبه (٨).

قال شهاب الدين (٩) : والحق أنه خلاف الظاهر ، لا لما قال الزمخشري ، بل لمنافرة نظمه للاحتياج إلى عود الضمير على النفس مقيدة بإضافتها إلى ضمير «من».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٠٢) عن ابن عباس ومجاهد والضحاك.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٥١).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٠٢) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) سقط من ب.

(٦) في ب : فدمدم.

(٧) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٦٠.

(٨) ينظر السابق.

(٩) الدر المصون ٦ / ٥٣٢.

٣٦٢

وقال ابن عباس : خابت نفس أضلها الله وأغواها.

وقيل : أفلح من زكى نفسه بطاعة الله ، «وخاب» خسر من دس نفسه في المعاصي.

قاله قتادة.

وأصل الزكاة : النمو والزيادة ، ومنه تزكى الزّرع إذا كثر معه ، ومنه تزكية القاضي الشاهد ، لأنه يرفعه بالتعديل.

وقيل : دساها : أغواها ، قال : [الطويل]

٥٢٢٢ ـ وأنت الّذي دسّيت عمرا فأصبحت

حلائله منه أرامل ضيّعا (١)

قال أهل اللغة : والأصل ، دسها ، من التدسيس [فكثرت الأمثال فأبدل من ثالثها حرف علة كما قالوا : قصيت أظفاري وأصله قصصت ، وتقضي البازي ، والتدسية : الإخفاء يعني أخفاه بالفجور ، وقد نطق بالأصل الشاعر المتقدم. وقال آخر : [الكامل]

٥٢٢٣ ـ ودسست عمرا في التّراب فأصبحت

 ...........(٢)](٣)

[وهو إخفاء الشيء في الشيء ، فأبدلت سينه ياء. وقال ابن الأعرابي : (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي : دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم](٤).

قال الواحدي : فكأنه ـ تعالى ـ أقسم على فلاح من طهره وخسارة من خذله لئلا يظن أن المراد بتولي ذلك من غير قضاء سابق ، فقوله : «قد أفلح» : هو جواب القسم.

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها)(١٥)

قوله : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها). في هذه الباء ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها للاستعانة مجازا ، كقولك : «كتبت بالقلم» ، وبه بدأ الزمخشري (٥) ، يعني فعلت التكذيب بطغيانها ، كقولك : ظلمني بجرأته على الله تعالى.

والثاني : أنها للتعدية ، أي كذبت بما أوعدت به من عذابها ذي الطغيان ، كقوله تعالى : (فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ) [الحاقة : ٥] قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : وكان اسم

__________________

(١) ويروى الشطر الثاني :

نساؤهم منهم أرامل ضيّع

ينظر القرطبي ٢٠ / ٥٢ ، والبحر ٨ / ٤٧٢ ، والدر المصون ٦ / ٥٣١.

(٢) تقدم.

(٣) سقط من ب.

(٤) سقط من أ.

(٥) الكشاف ٤ / ٧٦٠.

٣٦٣

العذاب الذي جاءها الطغوى ، لأنه طغى عليهم (١). قال ابن الخطيب (٢) : وهذا لا يبعد لأن الطغيان مجاوزة [الحد فسمي عذابهم طغوا لأنه كالصيحة مجاوزة](٣) للقدر المعتاد.

والثالث : أنها للسببية ، أي : بسبب طغيانها ، وهو خروجها عن الحدّ في العصيان قاله مجاهد وقتادة وغيرهما.

وقال محمد بن كعب : بأجمعها (٤).

وقيل : مصدر ، وخرج على هذا المخرج ، لأنه أشكل برءوس الآي.

وقيل : إن الأصل «بطغيانها» إلا أن «فعلى» إذا كانت من ذوات الياء أبدلت في الاسم واو ليفصل بين الاسم والوصف.

وقرأ العامة : «بطغواها» بفتح الطاء ، وهو مصدر بمعنى الطغيان ، وإنما قلبت الياء واوا لما تقدم ، من الفرق بين الاسم والصفة ، يعني أنهم يقرون ياء «فعلى» ـ بالفتح ـ صفة ، نحو جريا ، وصديا ، ويقلبونها في الاسم ، نحو «تقوى ، وشروى» ، وكان الإقرار في الوصف ، لأنه أثقل من الاسم والياء أخف من الواو ، فلذلك جعلت في الأثقل.

وقرأ الحسن ومحمد (٥) بن كعب والجحدري ، وحماد : بضم الطاء ، وهو أيضا مصدر ، كالرّجعى والحسنى ، إلا أن هذا شاذ ، إذ كان من حقه بقاء الياء على حالها ، كالسّقيا ، وبابها ، وهذا كله عند من يقول : «طغيت طغيانا» بالياء ، فأما من يقول : «طغوت» بالواو فالواو أصل عنده. قاله أبو البقاء (٦) ، وقد تقدم الكلام على اللغتين في البقرة.

قوله : (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها). يجوز في «إذ» وجهان :

أحدهما : أن تكون ظرفا ل «كذبت».

والثاني : أن تكون ظرفا للطغوى.

و «انبعثت» مطاوع بعثت فلانا على الأمر فانبعث له ، و «أشقاها» فاعل «انبعث» أي : نهض ، والانبعاث : الإسراع ، وفيه وجهان :

أحدهما : أن يراد به شخص معين ، روي أن اسمه : قدار بن سالف.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٠٥) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٢) وعزاه للطبري.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٧٦.

(٣) سقط من : ب.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٠٥) عن محمد بن كعب وينظر تفسير الماوردي (٦ / ٢٨٥) والقرطبي (٢٠ / ٥٢).

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٦٠ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٩٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٧٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٣٢.

(٦) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٨٨.

٣٦٤

والثاني : أن يراد به جماعة قال الزمخشري (١) : ويجوز أن يكونوا جماعة للتسوية في «أفعل» التفضيل ، إذا أضيف بين الواحد والجمع والمذكر والمؤنث ، وكان يجوز أن يقول : «أشقوها». وكان ينبغي أن يقيد ، فيقول : إذا أضيف إلى معرفة ، لأن المضاف إلى النكرة حكمه الإفراد والتذكير مطلقا كالمقترن ب «من».

فصل

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذ انبعث أشقاها : انبعث لها رجل عزيز عارم ، منيع في أهله ، مثل أبي زمعة» الحديث (٢).

وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قال له : «أتدري من أشقى الأوّلين»؟ قلت : الله ورسوله أعلم. قال عليه الصلاة والسلام : «عاقر النّاقة» ، ثم قال : «أتدري من أشقى الآخرين»؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : «قاتلك» (٣).

قوله : (فَقالَ لَهُمْ). إن كان المراد ب «أشقاها» جماعة ، فعود الضمير من «لهم» عليهم واضح وإن كان المراد به علما بعينه ، فالضمير من «لهم» يعود على «ثمود» ، والمراد برسول الله يعني : صالحا.

وقوله تعالى : (ناقَةَ اللهِ) منصوب على التحذير ، أي احذروا ناقة الله فلا تقربوها ، وإضمار الناصب هنا واجب لمكان العطف ، فإن إضمار الناصب يجب في ثلاثة مواضع :

أحدها : أن يكون المحذر نفس «إياك» وبابه.

الثاني : أنه يجب فيه عطف.

الثالث : أنه يوجد فيه تكرار ، نحو «الأسد الأسد والصبيّ الصبيّ ، والحذر الحذر».

وقيل : ذروا ناقة الله ، كقوله تعالى : (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) [هود : ٦٤].

وقرأ زيد بن علي : «ناقة الله» رفعا ، على إضمار مبتدأ مضمر ، أي : هذه ناقة الله فلا تتعرضوا لها.

__________________

(١) الكشاف ٤ / ٧٦٠.

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٥٧٥) كتاب التفسير : باب سورة والشمس رقم (٤٩٤٢) ومسلم (٤ / ٢١٩١) كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها : باب النار يدخلها الجبارون حديث (٤٩ / ٢٨٥٥) وأحمد (٤ / ١٧) والترمذي (٥ / ٤١٠) رقم (٣٣٤٣) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٥١٥) والطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٠٥) من حديث عبد الله بن زمعة وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٧٠٢) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.

(٣) له شاهد من حديث عمار بن ياسر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٢) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه والبغوي وأبي نعيم في «الدلائل».

٣٦٥

قوله : (وَسُقْياها). أي ذروها وشربها ، فإنهم لما اقترحوا الناقة ، أخرجها لهم من الصخرة وجعل لهم شرب يوم من بئرهم ، ولها شرب يوم مكان ذلك ، فشق عليهم ، فكذبوه يعني صالحا ـ عليه الصلاة والسلام ـ في وعيدهم بالعذاب.

(فَعَقَرُوها) أي : عقرها الأشقى ، وأضاف إلى الكل ، لأنهم رضوا بفعله.

قال قتادة : بلغنا أنه لم يعقر حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم (١).

وقال الفراء : عقرها اثنان ، والعرب تقول : هذان أفضل الناس ، وهذا خير الناس ، وهذه المرأة أشقى القوم ، فلهذا لم يقل : أشقياها.

قوله : (فَدَمْدَمَ). الدمدمة : قيل : الإطباق ، يقال : دمدمت عليه القبر ، أي : أطبقته عليه ، أي : أهلكهم وأطبق عليهم العذاب (بِذَنْبِهِمْ) الذي هو الكفر والتكذيب والعقر.

وقال المؤرج : الدمدمة : الإهلاك باستئصال.

وروى الضحاك عن ابن عباس : «دمدم عليهم ، دمر عليهم ربهم «بذنبهم» أي : بجرمهم» (٢).

وقال الفراء : «فدمدم» أي : أرجف. وحقيقة الدمدمة : تضعيف العذاب وترديده ، ويقال : دممت على الشيء : أي : أطبقت عليه ، فإذا كرر الإطباق قلت : دمدمت. وفي «الصحاح» (٣) : ودمدمت الشيء : إذا ألصقته بالأرض وطحطحته.

[قال القشيري : وقيل دمدمت على الميت التراب أي سويته عليه ، والمعنى على هذا فجعلهم تحت التراب فسواها أي فسوى عليهم الأرض ، وعلى الأول : فسواها : أي فسوى الدمدمة ، وقيل : الدمدمة حكاية صوت الهدة ، وذلك أن الصيحة أهلكتهم فأتت على صغيرهم وكبيرهم](٤).

وقال ابن الأنباري : دمدم : أي : غضب ، والدمدمة : الكلام الذي يزعج الرجل ودمدمت الثوب طليته بالصبغ والباء في بذنبهم للسببية.

وقرأ ابن الزبير : «فدهدم» بهاء بين الدالين بدل الميم (٥) ، وهي بمعنى القراءة المشهورة.

قال القرطبي (٦) : «وهما لغتان ، كما يقال : امتقع لونه ، وانتقع».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٠٦) عن قتادة.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٥٣).

(٣) ينظر الصحاح ٥ / ١٩٢١ (دمم).

(٤) سقط من ب.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٨٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٧٦ ، والدر المصون ٦ / ٥٣٣.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٥٣.

٣٦٦

قوله : (فَسَوَّاها). الضمير المنصوب يجوز عوده على «ثمود» باعتبار القبيلة كما أعاده في قوله تعالى (بِطَغْواها) ويجوز عوده على «الدمدمة» والعقوبة أي : سواها بينهم ، فلم يفلت منهم أحد.

قوله : (وَلا يَخافُ عُقْباها). قرأ نافع (١) وابن عامر : «فلا» بالفاء ، والباقون : بالواو ، ورسمت في مصاحف المدينة والشام بالفاء ، وفي غيرها بالواو ، فقد قرأ كل بما يوافق رسم مصحفه.

وروي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يقرأ : ولم يخف ، وهي مؤيدة لقراءة الواو. ذكره الزمخشري(٢).

فالفاء تقتضي التعقيب ، وهو ظاهر ، والواو يجوز أن تكون للحال ، وأن تكون لاستئناف الإخبار.

قال القرطبي (٣) : روي أن ابن وهب وابن القاسم قالا : أخرج إلينا مالك مصحفا لجده ، وزعم أنه كتبه في أيام عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ حين كتب المصاحف ، وفيه : «ولا يخاف» بالواو وكذا هي في مصاحف أهل مكة والعراق : بالواو ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم.

وضمير الفاعل في «يخاف» الأظهر عوده على الرب تبارك وتعالى ، لأنه أقرب مذكور ، وهو قول ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد ، والهاء في «عقباها» ترجع إلى الفعلة ، وذلك لأنه تعالى يفعل ذلك بحق ، وكل من فعل فعلا بحق فإنه لا يخاف عاقبة فعله.

وقيل : المراد تحقيق ذلك الفعل والله تعالى أجل من أن يوصف بذلك.

وقيل : المعنى أنه بالغ في الإعذار إليهم مبالغة من لا يخاف عاقبة عذابهم.

وقيل : يرجع إلى رسول الله ، أي : لا يخاف صالح ـ عليه الصلاة والسلام ـ عقبى هذه العقوبة لإنذاره إياهم ، ونجاه الله حين أهلكهم.

وقال السديّ والضحاك والكلبي : إن الضمير يرجع إلى «أشقاها» ، أي : انبعث لعقرها والحال أنه غير خائف عاقبة هذه الفعلة الشنعاء ، وهو مروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أيضا (٤).

في الكلام تقديم وتأخير : إذ انبعث أشقاها ولا يخاف عقباها ، وعقبى الشيء : خاتمته.

وروى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قر (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) فكأنّما تصدّق بكلّ شيء طلعت عليه الشّمس والقمر» (٥).

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٨٩ ، والحجة ٦ / ٤٢٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٩١ ، وحجة القراءات ٧٦٦.

(٢) الكشاف ٤ / ٧٦١.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٥٤.

(٤) ينظر القرطبي (٢٠ / ٥٣).

(٥) تقدم تخريجه.

٣٦٧

سورة الليل

مكيّة ، وقيل : مدنيّة ، وهي إحدى وعشرون آية ، وإحدى وسبعون كلمة ، وثلاثمائة وعشرة أحرف.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) (٤)

قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى). أي : يغطي ، ولم يذكر مفعولا ، للعلم به.

وقيل : يغشى النهار.

وقيل : الأرض.

قال قتادة : أول ما خلق الله تعالى النور والظلمة ثم ميز بينهما ، فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما ، والنور نهارا والنهار مضيئا مبصرا (١).

قال ابن الخطيب (٢) : أقسم بالليل الذي يأوي فيه كل حيوان إلى مأواه وتسكن الخلق عن الاضطراب ، ويجيئهم النوم الذي جعله الله تعالى راحة لأبدانهم وغذاء لأرواحهم ثم أقسم تعالى بالنهار إذا تجلى ، لأن النهار إذا كشف بضوئه ما كان في الدنيا من الظلمة ، جاء الوقت الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم والطير والهوام من مكانها ، فلو كان الدهر كله ليلا لتعذر المعاش ، ولو كان كله نهارا لبطلت الراحة ، لكن المصلحة في تعاقبهما ، كما قال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً) [الفرقان : ٦٢] ، وقال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) [إبراهيم : ٣٣] ، فقوله (وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) أي : انكشف وظهر وبان بضوئه عن ظلمة الليل. وقرأ العامة : «تجلّي» فعلا ماضيا ، وفاعله ضمير عائد على النهار.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٠٩) عن قتادة.

(٢) الفخر الرازي ٣١ / ١٧٩.

٣٦٨

وقرأ (١) عبد الله بن عمير : «تتجلى» بتاءين ، أي : الشمس ، وقرأ : «تجلي» (٢) بضم التاء وسكون الجيم أي : الشمس أيضا ، ولا بد من عائد على النهار محذوف أي : تتجلى أو تجلى فيه.

قوله : (وَما خَلَقَ). يجوز في «ما» أن تكون بمعنى «من» على ما تقدم في سورة «والشمس».

قال الحسن : معناه ، والذي خلق فيكون قد أقسم بنفسه تعالى (٣).

وقيل : مصدرية.

قال الزمخشري (٤) : «والقادر : العظيم القدرة الذي قدر على خلق الذكر والأنثى من ماء واحد» ، وقد تقدم هذا القول ، والاعتراض عليه ، والجواب عنه في السورة قبلها. وقرأ أبو الدرداء (٥) : «والذكر والأنثى» ، وقرأ عبد الله (٦) : «والذي خلق» ، وقرأ الكسائي ، ونقلها (٧) ثعلبة عن بعض السلف : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ) بجر الذكر.

قال الزمخشري (٨) : «على أنه بدل من محل ما خلق بمعنى وما خلقه الله ، أي : ومخلوق الله الذكر والأنثى ، وجاز إضمار اسم الله لأنه معلوم بالخلق ، إذ لا خالق سواه».

وقيل : المعنى ، وما خلق من الذكر والأنثى ، فتكون «من» مضمرة ، ويكون القسم منه بأهل طاعته ، من أنبيائه وأوليائه ويكون قسمه بهم تكريما لهم وتشريفا.

قال أبو حيان (٩) : وقد يخرج على توهم المصدر ، أي : وخلق الذكر ؛ كقوله : [المتقارب]

٥٢٢٤ ـ تطوف العفاة بأبوابه

كما طاف بالبيعة الرّاهب (١٠)

بجر «الراهب» على توهم النطق بالمصدر ، أي : كطوف الراهب انتهى.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٧٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٣٤.

(٢) ينظر السابق.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦١٠).

(٤) الكشاف ٤ / ٧٦١.

(٥) وزعم الزمخشري وغيره أنها قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر : الكشاف ٤ / ٧٦١ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٩٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٧٧ وقال أبو حيان : «وما ثبت في الحديث من قراءة «والذكر والأنثى» نقل آحاد ، مخالف للسواد ؛ فلا يعد قرآنا» ، وينظر : الدر المصون ٦ / ٥٣٤.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٥٣٤.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٩٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٧٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٣٤.

(٨) الكشاف ٤ / ٧٦٢.

(٩) ينظر البحر المحيط ٨ / ٤٧٧.

(١٠) ويروى الشطر الثاني :

كطوف النصارى ببيت الوثن

ينظر ديوان الأعشى ص ٢٠٩ ، والبحر ٨ / ٤٧٧ ، والدر المصون ٦ / ٥٣٥.

٣٦٩

والذي يظهر في تخريج البيت أن أصله : الراهبي ـ بياء النسب ـ ثم خفف ، وهو قليل ، كقولهم : أحمري ، وداودي ، وهذا التخريج بعينه في قول امرىء القيس : [الطويل]

٥٢٢٥ ـ ..........

فقل في مقيل نحسه متغيّب (١)

لما استشهد به الكوفيون على تقديم الفاعل.

وروي عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يقرأ : والنهار إذا تجلى والذكر والأنثى ويسقط (وَما خَلَقَ).

وفي صحيح مسلم عن علقمة ، قال : قدمنا «الشام» ، فأتانا أبو الدرداء ، فقال : فيكم أحد يقرأ عليّ قراءة عبد الله؟ فقلت : نعم ، أنا ، قال : فكيف سمعت عبد الله يقرأ هذه الآية : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قال : سمعته يقرأ «والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى ، والذكر والأنثى» قال : وأنا والله هكذا سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرؤها ، ولكن هؤلاء يريدون أن أقرأ «وما خلق» فلا أتابعهم (٢).

وقال ابن الأنباري : حدثنا محمد بن يحيى المروزي بسنده إلى عبد الله ، قال : أقرأني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي أنا الرّزّاق ذو القوّة المتين» (٣).

قال ابن الأنباري : كل من هذين الحديثين مردود بخلاف الإجماع له ، وإن حمزة وعاصما يرويان عن عبد الله بن مسعود فيما عليه جماعة من المسلمين ، وموافقة الإجماع أولى من الأخذ بقول واحد يخالفه الإجماع.

فصل في المراد بالذكر والأنثى

قيل المراد بالذكر والأنثى ، آدم وحواء ـ عليهما الصلاة والسلام ـ قاله ابن عباس والحسن والكلبي (٤).

وقيل : جميع الذكور والإناث من جميع الحيوانات.

__________________

(١) عجز بيت وصدره :

فظلّ لنا يوم لذيذ بنعمة

ينظر ديوان امرىء القيس ص (٣٧) ، وشرح جمل الزجاجي لابن عصفور ١ / ١٦٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٣٥.

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٥٧٧) كتاب التفسير ، باب : والنهار إذا تجلى رقم (٤٩٤٣) ، وأحمد (٦ / ٤٤٩) والترمذي (٥ / ١٧٥) رقم (٢٩٣٩) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٥١٦) والطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦١٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٤) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٥٥) وعزاه إلى ابن الأنباري.

(٤) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٢٨٧) والقرطبي (٢٠ / ٥٦).

٣٧٠

وقيل : كل ذكر وأنثى من الآدميين فقط لاختصاصهم بولاية الله تعالى وطاعته.

فصل في معنى الآية

وقوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى). هذا جواب القسم ، والمعنى : إن أعمالكم لتختلف ، [ويجوز أن يكون محذوفا كما قيل في نظائره المتقدمة ، وشتى واحده شتيت مثل مريض ومرضى ، وإنما قيل للمختلف : شتّى ؛ لتباعد ما بين بعضه وبعضه ، أي إن أعمالكم المتباعدة بعضه عن بعض لشتى ، لأن بعضه ضلالة وبعضه هدى أي : فمنكم مؤمن ، وبر ، وكافر ، وفاجر ، ومطيع ، وعاص.

وقيل : لشتّى أي : لمختلف الجزاء فمنكم مثاب بالجنة ومعاقب بالنار وقيل لمختلف الأخلاق ، فمنكم راحم وقاسي وحليم وطائش وجواد وبخيل](١).

قال المفسرون : نزلت هذه الآية في أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ وأبي سفيان.

قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى)(١١)

قوله : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى). قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يعني أبا بكر (٢) ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) أي : بذل واتقى محارم الله التي نهي عنها (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي : بالخلف من الله تعالى على عطائه (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى).

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من يوم غربت شمسه إلا بعث بجنبتها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلّهم إلّا الثّقلين : اللهمّ أعط منفقا خلفا ، وأعط ممسكا تلفا» (٣).

وأنزل الله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ...) الآيات.

فصل

حذف مفعول «أعطى» ومفعول «اتقى» ، ومفعول «صدّق» المجرور ب «على» ، لأن الغرض ذكر هذه الأحداث دون متعلقاتها ، وكذلك متعلقات البخل والاستغناء ، وقوله تعالى : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) إما من باب المقابلة لقوله (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) وإما نيسره: بمعنى نهيئه ، والتهيئة تكون في العسر واليسر.

__________________

(١) سقط من : ب.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٥) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن عساكر عن ابن مسعود.

(٣) أخرجه البخاري (٣ / ٣٠٤) كتاب الزكاة ، باب : قوله تعالى فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى رقم (١٤٤٢) ومسلم (٢ / ٧٠٠) كتاب الزكاة ، باب : في المنفق والممسك حديث (٥٧ / ١٠١٠) من حديث أبي هريرة.

٣٧١

فصل في المراد بالإعطاء

قال المفسرون : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى) المعسرين.

وقال قتادة : أعطى حق الله الواجب (١).

وقال الحسن : أعطى الصدق من قلبه وصدق بالحسنى ، أي بلا إله إلا الله ، وهو قول ابن عباس والضحاك والسلمي رضي الله عنهم (٢).

وقال مجاهد : بالجنة ؛ لقوله تعالى (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ)(٣) [يونس : ٢٦].

وقال زيد بن أسلم : في الصلاة والزكاة والصوم (٤).

وقوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي نرشده لأسباب الخير والصلاح حتى يسهل عليه فعلها.

وقال زيد بن أسلم : لليسرى ؛ للجنة.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من نفس منفوسة إلّا كتب الله ـ تعالى ـ مدخلها» فقال القوم : يا رسول الله ، أفلا نتّكل على كتابنا؟ فقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «بل اعملوا فكلّ ميسّر ، فمن كان من أهل السّعادة فإنّه ميسّر لعمل أهل السّعادة ، ومن كان من أهل الشّقاوة فإنّه ميسّر لعمل أهل الشّقاوة» ثمّ قرأ : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى ، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى)(٥).

قوله : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى). أي : ضنّ بما عنده فلم يبذل خيرا ، وروي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في قوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) ، قال : سوف أحول بينه وبين الإيمان بالله وبرسوله.

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال نزلت في أمية بن خلف. وعن ابن عباس : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) ، أي : بخل بماله واستغنى عن ربه (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أي : بالخلف الذي وعده الله تعالى في قوله تعالى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ)(٦) [سبأ : ٣٩].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦١٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٥) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٨٨) والقرطبي (٢٠ / ٥٦).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٥) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦١٢ ، ٦١٣) عن ابن عباس وأبي عبد الرحمن السلمي والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٥) عن أبي عبد الرحمن السلمي وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٥) تقدم.

(٦) أخرجه الطبري «تفسيره» (١٢ / ٦١٤) عن ابن عباس.

٣٧٢

[وقال مجاهد : وكذب بالحسنى أي بالجنة ، وعنه : بلا إله إلا الله (١). فنيسره للعسرى أي نسهل عليه طريقة العسرى للشر ، وعن ابن مسعود : أي للنار](٢).

قوله : (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) يدل على أن التوفيق والخذلان من الله تعالى لأن التيسير يدل على الرجحان ولزم الوجوب ، لأنه لا واسطة بين الفعل والترك ، ومع الاستواء لا ترجيح فحال المرجوحية أولى بالامتناع ، ومتى امتنع أحد الطرفين وجب الآخر إذ لا خروج عن النقيضين. أجاب القفال (٣) : أنه من باب تسمية أحد الضدين باسم الآخر ، كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ) [الشورى : ٤٠] فسمى الله الألفاظ الداعية إلى الطّاعة تيسيرا لليسرى ، وسمى ترك هذه الألفاظ تيسيرا للعسرى ، أو هو من باب إضافة الفعل إلى السبب دون الفاعل ، كقوله تعالى : (إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً) [إبراهيم : ٣٦] ، أو يكون على سبيل الحكم ، والإخبار عنه.

وأجيب بأن هذا كله عدول عن الظاهر ، والظاهر من جهتنا وهو المقصود من الحديث المتقدم : «ما من نفس منفوسة».

قال القفال (٤) : معنى الحديث : أن النّاس خلقوا للعبادة ، قال تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، وهذا ضعيف ؛ لأن هذا جواب عن قولهم : «ألا نتّكل»؟ فقال : اعملوا فكلّ ميسر ، لما وافق معلوم الله تعالى.

فصل في اليسرى والعسرى

التأنيث في «اليسرى» و «العسرى» إن أريد جماعة الأعمال فظاهر ، وإن أريد عمل من الأعمال باعتبار الخصلة ، أو الفعلة ، أو الطريقة ، فمن فسر اليسرى بالجنة ، فتيسيرها بإكرام ، وسهولة ، ومن فسرها بالخير ، فتيسيره حضّه عليه ونشاطه ، بخلاف المنافق والمرائي ، ودخلت السين في «فسنيسّره» بمعنى الترجي ، وهذا يفيد القطع من الله تعالى ، أو لأن الأعمال بالخواتيم ، فقد يعصي المطيع ، وبالعكس ، أو لأن أكثر الثواب يكون بالآخرة ، وهي متأخرة.

قوله : (وَما يُغْنِي) ، يجوز أن تكون «ما» نافية ، أي : لا يغني عنه ماله شيئا ، وأن تكون استفهاما إنكاريا ، أي : أيّ شيء يغني عنه ماله إذا هلك ، ووقع في جهنم وتردى ، ويروى إما من الهلاك يقال : ردي الرجل يردى ، إذا هلك ؛ قال : [الطويل]

٥٢٢٦ ـ صرفت الهوى عنهنّ من خشية الرّدى (٥)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦١٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٥) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) سقط من ب.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٨٢.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٨٢.

(٥) ينظر القرطبي ١٩ / ٥٨.

٣٧٣

وقال أبو صالح وزيد بن أسلم : تردى : أي سقط في جهنم ، ومنه «المتردية» ، ويقال : ردي من في البئر وتردى : إذا سقط في بئر أو نهر أو من جبل ، ويقال : ما أدري أين ردى أي أين ذهب.

ويحتمل أن يكون من تردى ، وهو كناية عن الموت ؛ كقوله : [الكامل]

٥٢٢٧ ـ وخطّا بأطراف الأسنّة مضجعي

وردّا على عينيّ فضل ردائيا (١)

وقول الآخر : [الطويل]

٥٢٢٨ ـ نصيبك ممّا تجمع الدّهر كلّه

رداءان تلوى فيهما وحنوط (٢)

قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى)(٢١)

قوله : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) ، أن نبين طريق الهدى ، من طريق الضلال ، فالهدى بمعنى بيان الأحكام قاله الزجاج : أي : على الله بيان حلاله ، وحرامه ، وطاعته ومعصيته ، وهو قول قتادة.

وقال الفراء : من سلك الهدى ، فعلى الله سبيله ، كقوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ) [النحل : ٩] ، وقيل : معناه إنّ علينا للهدى والإضلال ، فترك الإضلال كقوله تعالى: (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) [آل عمران : ٢٦] ، وقوله تعالى (تَقِيكُمُ الْحَرَّ) وهي تقي الحرّ وهي تقي البرد ، قاله الفراء أيضا. وهو يروى عن ابن عباس رضي الله عنه.

فصل

لما عرفهم سبحانه أن سعيهم شتى ، وبين ما للمحسنين من اليسرى ، وللمسيئين من العسرى أخبرهم أنه قد مضى ما عليه من البيان ، والدلالة ، والترغيب ، والترهيب ، أي : إن الذي يجب علينا في الحكمة إذا خلقنا الخلق للعبادة أن نبين لهم وجوه التعبد ، ونبين المتعبد به.

قالت المعتزلة : إباحة الأعذار تقتضي أنه تعالى كلفهم بما في وسعهم وطاقتهم.

وأيضا فكلمة «على» للوجوب ، وأيضا : فلو لم يستقل العبد بالإيجاد ، لم يكن في نصب الأدلة فائدة ، وجوابهم قد تقدم.

وزاد الواحديّ : أن الفراء ، قال : إن معنى : إن علينا للهدى والإضلال ، فحذف المعطوف كقوله تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ، وهو معنى قول ابن عباس رضي الله عنهما ، يريد : أرشد أوليائي للعمل بطاعتي ، وأحول بين أعدائي أن

__________________

(١) البيت لمالك بن الريب التميمي ينظر الجمهرة (٦١٠) ، والبحر ٨ / ٤٧٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٣٥.

(٢) ينظر البحر ٨ / ٤٧٨ والدر المصون ٦ / ٥٣٥.

٣٧٤

يعملوا بطاعتي ، وهو معنى الإضلال ، ورد المعتزلة هذا التأويل بقوله تعالى : (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ) [النحل : ٩] ، وتقدم جوابهم.

قوله تعالى : (وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) ، أي : لنا كل ما في الدنيا ، والآخرة ، فلا يضرنا ترككم الاهتداء بهدانا ، ولا يزيد في ملكنا اهتداؤكم بل نفع ذلك وضره عائدان عليكم ، ولو شئنا لمنعناكم عن المعاصي لكن ذلك يخل بالتكليف ، بل نمنعكم بالبيان والتعريف ، والوعد والوعيد ، ونكون نحن نملك الدارين ، فليطلب منا سعادة الدارين ؛ فالأول أوفق لقول المعتزلة ، والثاني أوفق لقولنا.

وروى أبو صالح عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ قال : ثواب الدنيا والآخرة ، وهو كقوله تعالى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) [النساء : ١٣٤] فمن طلبهما من غير مالكهما فقد أخطأ الطريق (١).

قوله : (فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى). قد تقدم في «البقرة» : أن البزي يشدد (٢) مثل هذه التاء ، والتشديد فيها عسر لالتقاء الساكنين فيهما على غير حدهما ، وهو نظير قوله تعالى : (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) [النور : ١٥] وقد تقدم.

وقال أبو البقاء (٣) : يقرأ بكسر التنوين ، وتشديد التاء ، وقد ذكر وجهه في قوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) [البقرة : ٢٦٧] انتهى. وهذه قراءة غريبة ، ولكنها موافقة للقياس من حيث إنه لم يلتق فيها ساكنان وقد ذكر وجهه ، أي الذي قاله في «البقرة» ، ولا يفيد هنا شيئا ألبتة فإنه قال هناك : «ويقرأ بتشديد التاء ، وقبله ألف ، وهو جمع بين ساكنين ، وإنما سوغ ذلك المد الذي في الألف».

وقرأ ابن الزبير ، وسفيان (٤) ، وزيد بن علي ، وطلحة : «تتلظّى» بتاءين وهو الأصل.

قال القرطبي (٥) : «وهي قراءة عبد الله بن عمير ويحيى بن يعمر».

فصل في معنى الآية

المعنى : خوفتكم ، وحذرتكم نارا تلظى ، أي : تلهّب ، وتوقّد ، وتوهّج ، يقال : تلظت النار تلظيا ، ومنه سميت جهنم : لظى.

قوله تعالى : (لا يَصْلاها) ، أي : لا يجد صلاها ، وهو حرها (إِلَّا الْأَشْقَى) ، أي: الشقي.

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره (٢٠ / ٥٨).

(٢) ينظر : السبعة ٦٩٠ ، والحجة ٦ / ٤٢١ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٩٣ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٩٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٧٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٣٥.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٨٨.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٩٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٧٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٣٥.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٥٩.

٣٧٥

قيل : الأشقى ، والأتقى ، بمعنى الشقي والتقي ، ولا تفضيل فيهما ، لأن النار مختصة بالأكثر شقاء ، وتجنبها ليس مختصا بالأكثر تقوى.

وقيل : بل هما على بابهما ، وإليه ذهب الزمخشريّ ، فإنه قال (١) : فإن قلت : كيف قال : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) ، وقد علم أن كلّ شقي يصلاها ، وكل تقي يجنبها ، لا يختص بالصليّ أشقى الأشقياء ، ولا بالنجاة أتقى الأتقياء ، وإن زعمت أنه نكّر النار ، فأراد نارا بعينها مخصوصة بالأشقى ، فما تصنع بقوله (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) فقد علم أن أفسق المسلمين يجنب تلك النار المخصوصة ، لا الأتقى منهم خاصة.

قلت : الآية واردة في الموازنة بين حالتي عظيم من المشركين ، وعظيم من المؤمنين ، فأريد أن يبالغ في صفتيهما المتناقضتين ؛ فقيل : الأشقى ، وجعل : مختصا بالصلي كأن النار لم تخلق إلا له. وقيل : الأتقى ، وجعل مختصا بالنجاة ، كأن الجنة لم تخلق إلا له ، وقيل : هما أبو جهل وأمية بن خلف وأبو بكر ـ رضي الله عنه.

قال : جوابه المراد بهما شخصان معينان. انتهى.

فصل

قال المفسرون : المراد بالأشقى ، والشقي : الذي «كذّب» نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «وتولّى» أعرض عن الإيمان.

وقال الفرّاء : معناه إلّا من كان شقيا في علم الله تعالى.

قال بعضهم : «الأشقى» بمعنى الشقي ؛ كقوله : [الطويل]

٥٢٢٩ ـ ..........

 ... لست فيها بأوحد(٢)

«بأوحد» ، أي : بواحد ، ووحيد ، ويوضع «أفعل» موضع «فعيل» نحو قولهم : «الله أكبر» بمعنى كبير وهو أهون عليه بمعنى هين ، قالت المرجئة : الآية تدل على أن الوعيد مختص بالكافر.

والجواب : المعارضة بآيات الوعيد.

وأيضا : فهذا إغراء بالمعاصي ، وأيضا ، فقوله تعالى بعده : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) يدل على ترك هذه الظاهرة ؛ لأن الفاسق ليس «بأتقى» فالمراد بقوله تعالى : (ناراً تَلَظَّى) أنها مخصوصة من بين النيران ؛ لأن النار دركات ، ولا يلزم من هذا أنّ الفاسق لا يدخل النّار أصلا ، والمراد لا يصلاها بعد الاستحقاق.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٦٣ ، ٧٦٤.

(٢) عجز بيت لطرفة بن العبد وتمامه :

تمنى رجال أن أموت وإن أمت

فتلك سبيل لست فيها بأوحد

ينظر القرطبي ٢٠ / ٥٩.

٣٧٦

وأجاب الواحديّ : بأن معنى «لا يصلاها» : لا يلزمها ، وهذه الملازمة لا تثبت إلا للكافر.

قوله : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) ، أي : يبعد عنها الأتقى ، أي : التقي الخائف.

قال ابن عباس : وهو أبو بكر ـ رضي الله عنه (١) ـ ، ثم وصف الأتقى ، فقال سبحانه : (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) أي : يطلب أن يكون عند الله زاكيا ، ولا يطلب بذلك رياء ، ولا سمعة بل يتصدق به مبتغيا به وجه الله.

قوله : «يتزكّى». قرأ العامة : «يتزكّى» مضارع «تزكّى».

والحسن (٢) بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم ـ : «يزكّى» بإدغام الياء في الزاي ، وفي هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها في موضع الحال من فاعل «يؤتي» ، أي : يؤتيه متزكيا به.

والثاني : أنها لا موضع لها من الإعراب على أنها بدل من صلة «الّذي» ، ذكرهما الزمخشري (٣).

قوله تعالى : (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) ، أي : ليس يتصدق ليجازى على نعمة بل يبتغي وجه ربه الأعلى ، أي : المتعالي ، و «تجزى» صفة ل «نعمة» ، أي : يجزى الإنسان ، وإنّما جيء به مضارعا مبنيا للمفعول ، لأجل الفواصل ؛ إذ الأصل : يجزيها إياه أو يجزيه إياها.

قوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ). في نصب «إلّا ابتغاء» وجهان :

أحدهما : أنه مفعول له قال الزمخشري (٤) : «ويجوز أن يكون مفعولا له على المعنى ؛ لأن المعنى : لا يؤتي ماله إلا ابتغاء وجه ربه ، لا لمكافأة نعمة». وهذا أخذه من قول الفراء ، فإنه قال : ونصب على تأويل : ما أعطيتك ابتغاء جزائك ، بل ابتغاء وجه الله تعالى.

والثاني : أنه منصوب على الاستثناء المنقطع ، إذ لم يندرج تحت جنس «من نعمة» وهذه قراءة العامة ، أعني : النصب ، والمد.

وقرأ يحيى (٥) : برفعه ممدودا على البدل من محل «نعمة» ؛ لأن محلها الرفع ، إما على الفاعلية ، وإما على الابتداء ، و «من» مزيدة في الوجهين ، والبدل لغة تميم ؛ لأنهم يجرون المنقطع في غير الإيجاب مجرى المتصل ، وأنشد الزمخشري (٦) بالوجهين : النصب ؛ والبدل قول بشر بن أبي خازم : [البسيط]

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٧) وعزاه إلى ابن مردويه عن ابن عباس.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٧٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٣٦.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٦٤.

(٤) السابق ٤ / ٧٦٥.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٧٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٣٦.

(٦) الكشاف ٤ / ٧٦٤.

٣٧٧

٥٢٣٠ ـ أضحت خلاء قفارا لا أنيس بها

إلّا الجآذر والظّلمان تختلف (١)

وقول القائل في الرفع : [الرجز]

٥٢٣١ ـ وبلدة ليس بها أنيس

إلّا اليعافير وإلّا العيس (٢)

وفي التنزيل : (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦].

وقال مكي : «وأجاز الفرّاء الرفع في «ابتغاء» على البدل من موضع «نعمة» ، وهو بعيد».

قال شهاب الدين (٣) : «كأنه لم يطلع عليها قراءة ، واستبعاده هو البعيد ، فإنها لغة فاشية».

وقرأ ابن أبي (٤) عبلة : «ابتغا» بالقصر.

فصل في سبب نزول الآية

روى عطاء ، والضحاك عن ابن عباس ، قال : عذّب المشركون بلالا ، وبلال يقول : أحد أحد فمرّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «أحد ، يعني الله ينجيك بها» ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبي بكر ـ رضي الله عنه ـ : «يا أبا بكر إنّ بلالا يعذّب في الله» ، فعرف أبو بكر الذي يريده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم فانصرف إلى منزله ، فأخذ رطلا من ذهب ومضى به إلى أمية بن خلف ، فقال له : أتبيعني بلالا؟ قال : نعم ، فاشتراه ، فأعتقه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ لا ليد كانت له عنده ، فنزلت (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ) ، أي : عند أبي بكر «من نعمة» أي : مزية ومنّة «تجزى» بل ابتغى بما فعل وجه ربّه الأعلى (٥).

قال بعضهم : المراد ابتغاء ثوابه وكرامته لأن ابتغاء ذاته محال ، وقال بعضهم : لا حاجة إلى هذا الإضمار ، بل حقيقة هذه المسألة ترجع إلى أن العبد هل يمكن أن يحب ذات الله ، والمراد من هذه المحبة ذاته ، وكرامته. ذكره ابن الخطيب (٦).

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٧٦٤ ، والقرطبي ٢٠ / ٦٠ ، والبحر ٨ / ٤٧٩ والدر المصون ٦ / ٥٣٦.

(٢) البيت لجران العود ، واسمه عامر بن الحارث. ينظر الديوان ص ٥٣ والكتاب ١ / ٤٥٣ ، ٢ / ٣٢٢ ، والمقتضب ٢ / ٦١٩ ، ٣٤٦ ، ٤١٤ ، وابن يعيش ٢ / ٨٠ ، ١١٧ ، ٧ / ٢١ ، ٨ / ٥٢ ، والأشموني ٢ / ١٤٧ ، والتصريح ١ / ٣٥٣ ، والهمع ١ / ٢٢٥ ، ٢ / ١٤٤ والدرر اللوامع ١ / ١٩٢ ، ٢ / ٢٠٢ ، والعيني ٢ / ١٠٧ ، ومعاني القرآن للفراء ٣ / ٢٧٣ والكشاف ٤ / ٧٦٤ ، والبحر ٨ / ٤٧٩ ، والقرطبي ٢٠ / ٦٠ ، والدرر المصون ٦ / ٥٣٦.

(٣) الدر المصون ٦ / ٥٣٦.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٧٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٣٦.

(٥) ينظر تفسير البغوي (٤ / ٤٩٦) والقرطبي (٢٠ / ٦٠).

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٨٧.

٣٧٨

والأعلى من نعت الربّ الذي استحق صفات العلو ، ويجوز أن يكون ابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة](١).

قوله : (وَلَسَوْفَ يَرْضى). هذا جواب قسم مضمر ، والعامة : على «يرضى» مبنيا للفاعل وقرىء (٢) : ببنائه للمفعول ، من أرضاه الله تعالى.

[وهو قريب من قوله تعالى في آخر سورة طه (لَعَلَّكَ تَرْضى)](٣) [طه : ١٣٠].

ومعنى الآية : سوف يعطيه الله تعالى في الجنّة ما يرضى ، بأن يعطيه أضعاف ما أنفق.

قال ابن الخطيب (٤) : وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن المراد أنه إنما طلب رضوان الله تعالى ، وليس يرضى الله عنه ، قال : وهذا أعظم من الأول ؛ لأن رضا الله أكمل للعبد من رضاه عن ربّه ، والله أعلم.

روى الثعلبيّ عن أبي ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (والليل) اعطاه الله حتّى يرضى ، وعافاه الله تعالى من العسر ، ويسّر له اليسر» (٥).

قال الثعلبي : وإذا ثبت نزولها ب «مكة» ضعف تأويلها بقصة أبي الدحداح ، وقوي تأويلها بنزولها في حق أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ لأنه كان ب «مكة» ، وإنفاقه ب «مكة» وقصة أبي الدحداح كانت بالمدينة.

وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رحم الله أبا بكر ، زوّجني ابنته ، وحملني إلى دار الهجرة ، وأعتق بلالا من ماله» (٦). والله أعلم.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٩٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٧٩ ، والدر المصون ٦ / ٥٣٦.

(٣) سقط من ب.

(٤) الفخر الرازي ٣١ / ١٨٧.

(٥) تقدم تخريجه.

(٦) أخرجه الترمذي (٣٧١٤) وابن أبي عاصم (٢ / ٥٧٧) والعقيلي في «الضعفاء» (٤ / ٢١٠) وابن الجوزي في «العلل المتناهية» (١ / ٢٥٥) من طريق المختار بن نافع عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن علي مرفوعا وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.

وقال ابن الجوزي : هذا حديث يعرف بمختار قال البخاري هو منكر الحديث وقال ابن حبان كان يأتي بالمناكير عن المشاهير حتى يسبق إلى القلب أنه كان المتعمد لذلك.

٣٧٩

سورة الضحى

مكية ، وهي إحدى عشرة آية ، وأربعون كلمة ، ومائة وسبعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى)(٥)

قوله تعالى : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) ، تقدم الكلام في «الضّحى» والمراد به هنا : النهار ، لمقابلته بقوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) ، ولقوله تعالى : (أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأعراف : ٩٨] ، أي : نهارا.

وقال قتادة ومقاتل وجعفر الصادق : أقسم بالضحى الذي كلم الله فيه موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبليلة (١) المعراج.

وقيل : «الضّحى» هي الساعة التي خرّ فيها السحرة سجّدا لقوله تعالى : (وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) [طه : ٥٩].

وقال القرطبي (٢) : «يعني عباده الذين يعبدونه في وقت الضحى ، وعباده الذين يعبدونه بالليل إذا أظلم».

وقيل : الضحى نور الجنة ، والليل ظلمة النار.

وقيل : الضحى نور قلوب العارفين كهيئة النهار ، والليل سواد قلوب الكافرين كهيئة الليل ، أقسم تعالى بهذه الأشياء.

وقال أهل المعاني فيه وفي أمثاله : فيه إضمار مجازه ورب الضحى وسيجيء معناه.

و «سجى» ، أي : سكن ، قاله قتادة ومجاهد وابن زيد وعكرمة.

يقال : ليلة ساجية ، أي : ساكنة.

ويقال للعين إذا سكن طرفها ساجية ، ويقال : سجا الشّيء سجوا إذا سكن ، وسجا

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٦٢).

(٢) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٦٢.

٣٨٠