اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

البلد ما يحرم عليك ارتكابه معرفة منك بحق هذا البيت لا كالمشركين الذين يرتكبون الكفر بالله فيه.

وقال شرحبيل بن سعد : «وأنت حلّ بهذا البلد» أي : حلال ، أي هم يحرمون «مكة» أن يقتلوا بها صيدا ، أو يعضدوا بها شجرة ، ثم هم مع هذا يستحلّون إخراجك وقتلك ، ففيه تعجّب من جرأتهم وشدة عداوتهم له.

قوله : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ).

قيل «ما» بمعنى : «من» ، أو بمعنى : «الذي».

وقيل : مصدرية أقسم بالشخص وفعله.

وقال الزمخشريّ (١) : فإن قلت : هلا قيل : ومن ولد؟.

قلت : فيه ما في قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦] ، أي : بأي شيء وضعت ، يعني : موضوعا عجيب الشأن.

وقيل : «ما» : نافية ، فيحتاج إلى إضمار موصول به يصح الكلام ، تقديره : والذي ما ولد ، إذ المراد بالوالد : الذي يولد له ، «وما ولد» يعني : العاقر الذي لا يولد له ، قال معناه ابن عبّاس ، وتلميذه ابن جبير وعكرمة (٢).

فصل في الكلام على الآية

هذا معطوف على قوله : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) ، وقوله تعالى : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) ، معترض بين المعطوف والمعطوف عليه.

قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك والحسن وأبو صالح والطبريّ : المراد بالوالد : آدم عليه الصلاة والسلام ، «وما ولد» أي : وما نسل من ولده ، أقسم بهم ؛ لأنهم أعجب ما خلق تعالى على وجه الأرض ، لما فيهم من البنيان ، والنّطق ، والتدبير ، وإخراج العلوم ، وفيهم الأنبياء ، والدّعاة إلى الله تعالى ، والأنصار لدينه ، وأمر الملائكة بالسّجود لآدم ـ عليه‌السلام ـ وعلمه الأسماء كلّها ، وقد قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ)(٣) [الإسراء : ٧٠].

وقيل : هو إقسام بآدم ، والصالحين من ذريته ، وأما الطالحون ، فكأنهم بهائم ، كما

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٥٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٨٦) عن عكرمة وابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٣) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري (١٢ / ٥٨٦ ـ ٥٨٧) عن مجاهد وقتادة وأبي صالح والضحاك.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٣) عن مجاهد وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره عن سعيد بن جبير وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد.

٣٤١

قال تعالى : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) [الفرقان : ٤٤] ، وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) [البقرة : ١٨].

وقيل : الوالد : إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ (وَما وَلَدَ) [ذريته.

وقيل : الوالد إبراهيم وإسماعيل ، وما ولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه أقسم بمكة وإبراهيم](١).

قال الفراء : وصلح «ما» للناس ، كقوله : (ما طابَ لَكُمْ) [النساء : ٣] ، وقوله تعالى : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [الليل : ٣] ، وهو خالق الذكر والأنثى.

قال الماورديّ : ويحتمل أن الوالد : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لتقدم ذكره ، «وما ولد» : أمته ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «إنّما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلّمكم» (٢) ، فأقسم به وبأمته ، بعد أن أقسم ببلده ، مبالغة في تشريفه عليه الصلاة والسلام.

قوله : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) : هذا هو المقسم عليه ، والكبد : المشقة.

قال الزمخشريّ (٣) : والكبد : أصله من قولك : كبد الرجل كبدا ، فهو أكبد ، إذا وجعت كبده وانتفخت ، فاتسع فيه ، حتى استعمل في كل تعب ومشقة ، ومنه اشتقت المكابدة ، كما قيل : كبته بمعنى أهلكه ، وأصله : كبده إذا أصاب كبده.

قال لبيد : [المنسرح]

٥٢١١ ـ يا عين هلّا بكيت أربد إذ

قمنا وقام الخصوم في كبد (٤)

أي : في شدة الأمر ، وصعوبة الخطب ؛ وقال أبو الإصبع : [البسيط]

٥٢١٢ ـ لي ابن عمّ لو انّ النّاس في كبد

لظلّ محتجزا بالنّبل يرميني (٥)

قال القرطبيّ (٦) : ومنه تكبّد اللبن : غلظ واشتد ، ومنه الكبد ؛ لأنه دم تغلظ واشتد ، ويقال : كابدت هذا الأمر ، قاسيت شدته.

فصل في المراد ب «الإنسان»

الإنسان هنا ابن آدم.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) أخرجه أبو داود (١ / ٣) كتاب الطهارة : باب كراهية استقبال القبلة حديث (٨) وابن ماجة (١ / ١١٤) كتاب الطهارة : باب الاستنجاء بالحجارة حديث (٣١٣) والنسائي (١ / ٣٧) كتاب الطهارة : باب الاستطابة بالروث.

(٣) الكشاف ٤ / ٧٥٤.

(٤) ينظر ديوان لبيد ص ٥٠ ، وإعراب القرآن ٣ / ٧٠٥ ، ٥ / ٢٢٩ ، والطبري ٣ / ١٢٦ ومجمع البيان ١٠ / ٧٤٦ ، والكشاف ٤ / ٧٠٤ ، والبحر ٨ / ٤٦٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٥.

(٥) ينظر إعراب القرآن ٥ / ٢٢٩ ، والمفضليات (٣٢٦) ، والبحر ٨ / ٤٦٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٥.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٤٢.

٣٤٢

قال ابن عباس والحسن : «في كبد» أي : في شدة ونصب (١) وعن ابن عباس أيضا : في شدّة من حمله ، وولادته ، ورضاعه ، ونبت أسنانه ، وسائر أحواله (٢).

وروى عكرمة عنه ، قال : منتصبا في بطن أمه (٣) ، والكبد : الاستواء ، والاستقامة ، فهذا امتنان عليه في الحقيقة ، ولم يخلق الله تعالى دابة في بطن أمها إلّا منكبة على وجهها إلا ابن آدم ، فإنه منتصب انتصابا. وهو قول النخعي ومجاهد وغيرهما (٤).

وقال يمان : لم يخلق الله تعالى خلقا يكابد ابن آدم ، وهو مع ذلك أضعف الخلق.

[وقال ابن كيسان : منتصبا في بطن أمه ، فإذا أراد الله تعالى أن يخرجه من بطن أمه قلب رأسه إلى رجل أمه.

وقال الحسن : كابد مصائب الدنيا ، وشدائد الآخرة](٥).

قال بعض العلماء : أول ما يكابد قطع سرته ، ثم إذا قمط قماطا ، وشد رباطا ، يكابد الضيق والتعب ، ثم يكابد الارتضاع ، ولو فاته لضاع ، ثم يكابد نبت أسنانه ، وتحرك لسانه ، ثم يكابد الفطام الذي هو أشد من اللطام ، ثم يكابد الختان ، والأوجاع والأحزان ، ثم يكابد المعلم وصولته ، والمؤدب وسياسته ، والأستاذ وهيبته ، ثم يكابد شغل التزويج ، ثم يكابد شغل الأولاد ، والأجناد ، ثم يكابد شغل الدّور ، وبناء القصور ، ثم الكبر والهرم ، وضعف الركبة والقدم ، في مصائب يكثر تعدادها ونوائب يطول إيرادها ، من صداع الرأس ، ووجع الأضراس ، ورمد العين ، وغم الدّين ، ووجع السن ، وألم الأذن ، ويكابد محنا في المال ، والنفس ، مثل الضرب والحبس ، ولا يمر عليه يوم إلا يقاسي فيه شدة ، ثم يكابد بعد ذلك مشقة الموت ، ثم بعد ذلك مساءلة الملك ، وضغطة القبر وظلمته ، ثم البعث ، والعرض على الله ، إلى أن يستقر به القرار ، إما في الجنة وإما في النار ، قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) فلو كان الأمر إليه ، ما اختار هذه الشّدائد ، ودل هذا على أن له خالقا دبره ، وقضى عليه بهذه الأحوال ، فليمتثل أمره. وقال ابن زيد : المراد بالإنسان هنا آدم عليه‌السلام.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٨٧) عن ابن عباس والحسن.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٨٨) والحاكم (٢ / ٥٢٣) من طريق عطاء عن ابن عباس. وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٣) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٣) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن أبي حاتم. وأخرجه الطبري (١٢ / ٥٨٨) عن عكرمة.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٨٨) عن إبراهيم وعكرمة والضحاك ومجاهد.

(٥) سقط من : ب.

٣٤٣

وقوله تعالى : (فِي كَبَدٍ) أي : في وسط السماء.

وقال الكلبيّ : إنّ هذا نزل في رجل من بني جمح ، يقال له : أبو الأشدين واسمه أسيد بن كلدة بن جمح ، وكان قويا ، وكان يأخذ الأديم العكاظي ، فيجعله تحت قدميه ، فيقول : من أزالني عنه فله كذا ، فيجذبه عشرة حتى يتمزّق الأديم ، ولا تزول قدماه ، وكان من أعداء النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه نزل : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) ، يعني : لقوته (١).

قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) ، أي : أيظنّ ابن آدم أن لن يحاسبه الله عزوجل قال ابن الخطيب (٢) : إن فسرنا الكبد بالشدة والقوة ، فالمعنى : أيحسب الإنسان الشديد أن لشدته لا يقدر عليه أحد؟ وإن فسرناه بالمحنة ، والبلاء ، كان المعنى : أنّ الإنسان كان في النعمة ، والشدة ، أي : أفيظنّ أنه في تلك الحالة لا يقدر عليه شيء ، فهو استفهام على سبيل الإنكار.

قوله : (يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) : يجوز أن تكون مستأنفة ، وأن تكون حالا.

وقرأ العامة : «لبدا» بضم اللام وفتح الباء.

وشدّد أبو جعفر الباء جمع (٣) لابد ، مثل : راكع وركع ، وساجد وسجّد ، وعنه أيضا(٤) : سكونها.

ومجاهد وابن أبي الزّناد (٥) : بضمتين ، وتقدم الكلام على هذه اللفظة في سورة : «الجن».

قال أبو عبيدة : «لبدا» : فعل من التلبيد ، وهذا المال الكثير ، بعضه على بعض.

قال الزّجّاج : و «فعل» للكثرة ، يقال : رجل حطم ، إذا كان كثير الحطم.

قال الفراء : واحدته : «لبدة» ، و «لبد» : جمع.

وجعل بعضهم : واحد ، ك «حطم» ، وهو في الوجهين للكثرة ، والمعنى : أنفقت مالا كثيرا مجتمعا ؛ لأن أهل الجاهلية يدعونه مكارم ومفاخر.

قوله : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) ، أي : أيظن أن لم يعاينه أحد ، بل علم الله ذلك منه ، فكان كاذبا في قوله : أهلكت ، ولم يكن أنفقه. وقال : أيظن أن لم يره ، ولا يسأله عن ماله من أين اكتسبه وأين أنفقه.

وقال ابن عبّاس : كان أبو الأشدين يقول : أنفقت في عداوة محمد مالا كثيرا ، وهو في ذلك كاذب (٦).

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٨٨) عن مقاتل مثله.

(٢) الفخر الرازي ٣١ / ١٦٦.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٨٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٧٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٥.

(٤) ينظر السابق.

(٥) السابق.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٤٣).

٣٤٤

وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن عامر بن نوفل ، أذنب ، فاستفتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأمره أن يكفر ، فقال : لقد ذهب مالي في الكفّارات ، والنفقات ، منذ دخلت في دين محمد. وهذا القول منه ، يحتمل أن يكون استطالة بما أنفق ، فيكون طغيانا منه ، أو أسفا منه ، فيكون ندما منه (١).

قال القرطبيّ (٢) : «وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنه كان يقرأ : «أيحسب» ، بضم السين ، في الموضعين».

وقال الحسن : يقول : أتلفت مالا كثيرا فمن يحاسبني به ، دعني أحسبه ، ألم يعلم أن الله قادر على محاسبته ، وأن الله ـ عزوجل ـ يرى صنيعه ، ثم عدد عليه نعمه ، فقال : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) : يبصر بهما ، (وَلِساناً) ينطق به ، (وَشَفَتَيْنِ) : يستر بهما ثغره (٣) ، والمعنى : نحن فعلنا ذلك ، ونحن نقدر على أن نبعثه ، ونحصي عليه ما عمله.

قوله : (وَشَفَتَيْنِ) ، الشّفة : محذوفة اللام ، والأصل : شفهة ، بدليل تصغيرها على «شفيهة» ، وجمعها على «شفاه» ونظيره : سنة في إحدى اللغتين ، وشافهته أي كلمته من غير واسطة ، ولا يجمع بالألف والتاء ، استغناء بتكسيرها عن تصحيحها.

قال القرطبي (٤) : «يقال : شفهات وشفوات ، والهاء : أقيس ، والواو أعم تشبيها بالسنوات».

قال الأزهريّ : «يقال : هذه شفة ، في الوصل ، وشفة ، بالتاء والهاء».

قوله : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) ، يعني : الطريقتين : طريق الخير وطريق الشّر.

روى قتادة قال : ذكر لنا أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كان يقول : «يا أيّها النّاس ، إنّما هما النّجدان : نجد الخير ، ونجد الشّرّ ، فلم تجعل نجد الشر أحبّ إليك من نجد الخير» (٥).

فكأنه لما وهمت الدلائل ، جعلت كالطريق المرتفعة العالية ، لكونها واضحة للعقول ، كوضوح الطريق العالي للأبصار ، ونظيره قوله تعالى : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً)، بعد قوله : (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) [الإنسان : ٢ و ٣].

وروي عن عكرمة ، قال : النجدان : الثّديان ، وهو قول سعيد بن المسيب والضحاك.

__________________

(١) ينظر تفسير البغوي (٤ / ٤٨٨).

(٢) ينظر الجامع لأحكام القرآن (٢٠ / ٤٣).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٤٣).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٩١) عن قتادة والحسن.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٥) عن الحسن وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن مردويه من طرق عنه.

٣٤٥

وروي عن ابن عبّاس وعلي ـ رضي الله عنهما ـ لأنهما كالطريقين لحياة الولد ، ورزقه (١).

فقوله : «النجدين» إما ظرف ، وإما على حذف الجار إن أريد بهما الثديان.

والنّجد في الأصل : العنق ، لارتفاعه.

وقيل : الطريق العالي.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

٥٢١٣ ـ فريقان : منهم جازع بطن نخلة

وآخر منهم قاطع نجد كبكب (٢)

ومنه سميت نجد ، لعلوها عن انخفاض تهامة.

قوله تعالى : (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ)(٢٠)

قوله : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ).

قال الفراء والزجاج : ذكر «لا» مرة واحدة ، والعرب لا تكاد تفرد : «لا» مع الفعل الماضي ، حتى تعيد «لا» ، كقوله تعالى : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) [القيامة : ٣١] وإنّما أفردها لدلالة آخر الكلام على معناه ، فيجوز أن يكون قوله تعالى : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا): قائما مقام التكرير ، فكأنه قال : فلا اقتحم العقبة ولا آمن.

وقال الزمخشريّ (٣) : هي متكررة في المعنى ؛ لأن معنى : «فلا اقتحم العقبة : فلا فكّ رقبة ، ولا أطعم مسكينا». ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة بذلك؟.

قال أبو حيّان (٤) : ولا يتم له هذا إلا على قراءة : «فكّ» فعلا ماضيا.

وقال الزجاج والمبرد وأبو عليّ ، وذكره البخاري عن مجاهد : أن قوله تعالى : (ثُمَ

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٩٢) عن ابن عباس والضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٩٥) عن ابن عباس وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عباس وينظر تفسير الماوردي (٦ / ٢٧٧) والقرطبي (٢٠ / ٤٤).

(٢) يروى الشطر الأول :

غداة غدوا فسالك بطن نخلة

ينظر الديوان ص ٤٣ ، وإصلاح المنطق ص ٥٦ ، ومجمع البيان ١ / ٧٤٦ واللسان (نجد) ، والقرطبي ٢٠ / ٤٤ ، والبحر ٨ / ٤٦٨ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٥.

(٣) الكشاف ٤ / ٧٥٦.

(٤) البحر المحيط ٨ / ٤٧١.

٣٤٦

كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) يدل على أن «لا» بمعنى : «لم» ، ولا يلزم التكرير مع «لم» ، فإن كررت «لا» كقوله : (فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى) ، فهو كقوله تعالى : (لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) [الفرقان : ٦٧].

فصل في معنى الآية

المعنى : فهلّا أنفق ماله في اقتحام العقبة ، الذي يزعم أنه أنفقه في عداوة محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم هلا أنفقه في اقتحام العقبة ، فيأمن ، والاقتحام : الرمي بالنفس في شيء من غير روية ، يقال منه : قحم في الأمر قحوما ، أي : رمى بنفسه فيه من غير روية ، وقحّم الفرس فارسه تقحيما على وجهه : إذا رماه وتقحيم النفس في الشيء : إدخالها فيه من غير روية ، والقحمة ـ بالضم ـ المهلكة والسّنة الشديدة ، يقال : أصاب العرب القحمة : إذا أصابهم قحط [فدخلوا الريف](١) والقحم : صعاب الطريق.

قال عطاء : يريد عقبة جهنم (٢).

وقال مجاهد والضحاك : هي الصراط (٣).

قال الواحدي : وهذا فيه نظر ؛ لأن من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره ، لم يقتحموا عقبة جهنم ، ولا جاوزوها.

وقال ابن العربي : قال مجاهد : اقتحام العقبة في الدنيا ؛ لأنه فسره بعد ذلك ، بقوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ) أو أطعم في يوم يتيما ، أو مسكينا ، وهذه الأعمال إنما تكون في الدنيا (٤).

وقال الحسن ومقاتل : هذا مثل ضربه الله تعالى ، لمجاهدة النفس ، والشيطان في أعمال البر(٥).

قال القفال (٦) : قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) ، معناه : فلا أنفق ماله فيما فيه اقتحام العقبة.

وقيل : معنى قوله تعالى : (فَلَا اقْتَحَمَ) دعاء ، أي : فلا نجا ولا سلم ، من لم ينفق ماله في كذا وكذا.

وقيل : شبه عظيم الذنوب ، وثقلها بعقبة ، فإذا أعتق رقبة ، أو عمل صالحا ، كان مثله مثل من اقتحم العقبة ، وهي الذنوب تضره ، وتؤذيه وتثقله.

ثم قال تعالى : (وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ).

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣١ / ١٦٧).

(٣) ذكره الماوردي (٦ / ٢٧٨) والقرطبي (٢٠ / ٤٥).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ذكره الماوردي (٦ / ٢٧٨) والقرطبي (٢٠ / ٤٥).

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٦٧.

٣٤٧

قال سفيان بن عيينة : كل شيء قال فيه : «وما أدراك» ، فقد أخبر به ، وكل شيء قال فيه : «وما يدريك» ، فإنه لم يخبره به ، والمعنى : وما أدراك ما اقتحام العقبة ، وهذا تعظيم لإلزام أمر الدين ، والخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليعلمه اقتحام العقبة ، ثم إنه تعالى فسر العقبة بقوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ).

قوله : (فَكُّ رَقَبَةٍ).

قرأ أبو عمرو (١) وابن كثير والكسائي : «فكّ» : فعلا ماضيا ، و «رقبة» : نصبا ، «أو أطعم» : فعلا ماضيا.

والباقون : «فكّ» : برفع الكاف اسما ، «رقبة» : خفض بالإضافة ، «أو إطعام» : اسم مرفوع أيضا.

فالقراءة الأولى : الفعل فيها ، بدل من قوله : «اقتحم» ، فهو بيان له ، فكأنه قيل : فلا فك رقبة ولا أطعم.

والثانية : مرتفع فيها : «فكّ» ، على إضمار مبتدأ ، أي : هو فك رقبة ، «أو إطعام» على معنى الإباحة ، وفي الكلام حذف مضاف ، دل عليه (فَلَا اقْتَحَمَ) ، تقديره : وما أدراك ما اقتحام العقبة ، فالتقدير : اقتحام العقبة فك رقبة ، أو إطعام ، وإنما احتيج إلى تقدير هذا المضاف ليطابق المفسر والمفسر ؛ ألا ترى أن المفسّر ـ بكسر السين ـ مصدر ، والمفسّر ـ بفتح السين ـ وهو العقبة غير مصدر ، فلو لم يقدر مضافا ، لكان المصدر ، وهو «فك» مفسرا للعين ، وهي العقبة.

وقرأ أمير المؤمنين وأبو رجاء (٢) : «فكّ ، أو أطعم» فعلين ـ كما تقدم ـ إلا أنهما نصبا : «ذا» الألف.

وقرأ الحسن : «إطعام» (٣) ، و «ذا» بالألف أيضا ، وهو على هاتين القراءتين : مفعول : «أطعم» ، أو «إطعام» ، و «يتيما» حينئذ بدل منه أو نعت له ، وهو في قراءة العامة : «ذي» بالياء : نعت ل «يوم» ، على سبيل المجاز ، وصف اليوم بالجوع مبالغة ، كقولهم : ليلك قائم ، ونهارك صائم ، والفاعل ل «إطعام» : محذوف ، وهذا أحد المواضع التي يطرد فيها حذف الفاعل وحده عند البصريين.

فصل في الاستفهام في الآية

قال ابن زيد ، وجماعة من المفسرين : معنى الكلام الاستفهام على معنى الإنكار ،

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٨٦ ، والحجة ٦ / ٤١٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٨١ ، وحجة القراءات ٧٦٤.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٧١ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٦.

(٣) ينظر : السابق ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٨٥.

٣٤٨

تقديره : هلّا اقتحم العقبة ، تقول : هلا أنفق ماله في فك الرقاب ، وإطعام السغبان ، فيكون خيرا له من إنفاقه في عداوة محمد عليه الصلاة والسلام (١).

فصل في الفرق بين الفك والرق

الفكّ : التفريق ، ومنه فكّ القيد ، وفكّ الرقبة ، فرق بينها وبين صفة الرق بإيجاد الحرفة ، وإبطال العبودية ، ومنه فكّ الرهن ، وهو إزالته عن المرتهن ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أيّما امرىء مسلم أعتق امرءا مسلما كان فكاكه من النّار يجري على كلّ عضو منه عضوا منه» الحديث (٢).

وسمي المرقوق رقبة ؛ لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته ، وسمي عتقها فكّا كفك الأسير من الأسر ؛ قال : [البسيط]

٥٢١٤ ـ كم من أسير فككناه بلا ثمن

وجرّ ناصية كنّا مواليها (٣)

قال الماورديّ : ويحتمل ثانيا : أنه أراد فك رقبته ، وخلاص نفسه ، باجتناب المعاصي ، وفعل الطاعات ، ولا يمتنع الخبر من هذا التأويل ، وهو أشبه بالصواب.

فصل في أن العتق أفضل من الصدقة

قال أبو حنيفة ـ رضي الله عنه ـ : العتق أفضل من الصدقة ، وعند صاحبيه الصدقة أفضل ، والآية أدلّ على قول أبي حنيفة ، لتقديم العتق على الصدقة.

قوله : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) ، أي : مجاعة ، والسّغب : الجوع ، والسّاغب: الجائع.

قال شهاب الدّين (٤) : والمسغبة : الجوع مع التعب ، وربما قيل في العطش مع التعب.

قال الراغب : يقال سغب الرجل يسغب سغبا وسغوبا فهو ساغب ، وسغبان ، والمسغبة : مفعل منه.

وأنشد أبو عبيدة : [الطويل]

٥٢١٥ ـ فلو كنت جارا يا بن قيس بن عاصم

لما بتّ شبعانا وجارك ساغبا (٥)

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٤٤) عن ابن زيد.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) ينظر شرح ديوان حسان بن ثابت ٤٨٥ ، والقرطبي ٢٠ / ٤٦.

(٤) ينظر الدر المصون ٦ / ٥٢٦.

(٥) ينظر القرطبي ٢٠ / ٤٦.

٣٤٩

فصل

إطعام الطعام فضيلة ، وهو مع السغب الذي هو الجوع أفضل.

وقال النخعي في قوله تعالى : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) ، قال : في يوم عزيز فيه الطّعام.

قوله : (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) ، أي : قرابة.

قال الزمخشريّ (١) : «والمسغبة ، والمقربة ، والمتربة : مفعلات ، من سغب إذا جاع ، وقرب في النسب ، يقال : فلان ذو قرابتي وذو مقربتي ، وترب إذا افتقر».

وهذه الآية تدل على أن الصدقة على الأقارب ، أفضل منها على الأجانب.

واليتيم : قال بعض العلماء : اليتيم في الناس من قبل الأب ، وفي البهائم من قبل الأمّهات.

وقال بعضهم : اليتيم : «الذي يموت أبواه».

قال قيس بن الملوح : [الطويل]

٥٢١٦ ـ إلى الله أشكو فقد ليلى كما شكا

إلى الله فقد الوالدين يتيم (٢)

ويقال : يتم الرجل يتما : إذا ضعف.

قوله : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) ، أي : لا شيء له ، حتى كأنه قد لصق بالتراب من الفقر يقال : ترب أي افتقر حتى لصق جلده بالتراب ، فأما أترب بالألف فمعناه استغنى نحو : أثرى أي صار ماله كالتراب وكالثرى.

قال المفسرون : هو الذي ليس له مأوى إلا التراب.

وقال ابن عباس : هو المطروح على الطريق الذي لا بيت له.

وقال مجاهد : الذي لا يقيه من التراب لباس ولا غيره.

وقال قتادة : إنه ذو العيال.

وقال عكرمة عن ابن عباس : ذو المتربة هو البعيد عن وطنه ، ليس له مأوى إلّا التراب.

فصل في أن المسكين قد يملك شيئا

احتجوا بهذه الآية على أن المسكين قد يملك شيئا ؛ لأنه لو كان المسكين هو الذي لا يملك شيئا ـ ألبتة ـ لكان تقييده بقوله : «ذا متربة» تكرير.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٥٦.

(٢) ينظر ديوان مجنون ليلى ص ٢٤٤ ، والقرطبي ٢٠ / ٤٦.

٣٥٠

قوله : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا). التراخي في الإيمان ، وتباعده في المرتبة والفضيلة عن العتق والصدقة ، لا في الوقت ؛ لأن الإيمان هو السابق ، ولا يثبت عمل إلّا به. قاله الزمخشري (١) وقيل : المعنى : ثمّ كان في عاقبة أمره من الذين وافوا الموت على الإيمان ؛ لأنّ الموافاة عليه شرط في الانتفاع بالطّاعات.

وقيل : التراخي في الذكر.

قال المفسرون : معناه أنه لا يقتحم العقبة من فك رقبته ، أو أطعم في يوم ذي مسغبة ، حتى يكون من الذين آمنوا ، أي : صدقوا ، فإنّ شرط قبول الطاعات الإيمان بالله تعالى ، فالإيمان بعد الإنفاق لا ينفع ، قال تعالى في المنافقين : (وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ) [التوبة : ٥٤].

وقيل : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) أي : فعل هذه الأشياء وهو مؤمن ثم بقي على إيمانه حتى الوفاة [فيكون المعنى : ثم كان مع تلك الطاعات من الذين آمنوا](٢) ، نظيره قوله تعالى : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) [طه : ٨٢].

وقيل : المعنى : ثم كان من الذين يؤمنون بأن هذا نافع لهم عند الله تعالى.

وقيل : أتى بهذه القرب لوجه الله ـ تعالى ـ ثم آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : إن «ثمّ» بمعنى : الواو ، أي : وكان هذا المعتق للرقبة ، والمطعم في المسغبة ، من الذين آمنوا.

قوله : (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) ، أي : أوصى بعضهم بعضا على طاعة الله ، وعن معاصيه ، وعلى ما أصابهم من البلاء والمصائب ، (وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) ، أي : بالرحمة على الخلق فإنّهم إذا فعلوا ذلك ، رحموا اليتيم والمسكين ، ثم إنه تعالى بينهم ، فقال تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ)، أي : الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم ، قاله محمد بن كعب القرظي (٣).

[وقال يحيى بن سلام : لأنهم ميامين على أنفسهم (٤).

وقال ابن زيد : لأنهم أخذوا من شق آدم الأيمن (٥).

وقال ميمون بن مهران لأن منزلتهم عن اليمين](٦).

قوله : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) ، أي : القرآن ، (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي : يأخذون كتبهم

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٥٧.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٤٨).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر المصدر السابق.

٣٥١

بشمائلهم قاله محمد بن كعب ، وقال يحيى بن سلام : لأنهم مشائيم على أنفسهم (١).

وقال ابن زيد : لأنهم أخذوا من شق آدم الأيسر (٢).

وقال ميمون : لأن منزلتهم على اليسار (٣).

قال القرطبي (٤) : ويجمع هذه الأقوال أن يقال : إن أصحاب الميمنة أصحاب الجنة ، وأصحاب المشئمة أصحاب النار.

قوله : (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) ، قرأ أبو عمرو وحمزة وحفص : بالهمزة.

والباقون (٥) : بلا همز.

فالقراءة الأولى : من «آصدت الباب» أي : أغلقته ، أوصده ، فهو مؤصد ، قيل : ويحتمل أن يكون من «أوصدت» ، ولكنه همز الواو السّاكنة لضمة ما قبلها ، كما همز (بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ) [ص : ٣٣].

والقراءة الثانية ـ أيضا ـ تحتمل المادتين ، ويكون قد خفف الهمزة ، لسكونها بعد ضمة.

وقد نقل الفرّاء عن السوسي الذي قاعدته إبدال مثل هذه الهمزة ، أنه لا يبدل هذه ، وعللوا ذلك بالإلباس وأيقن أنه قرأ : «مؤصدة» بالواو من قاعدته تخفيف الهمزة.

والظاهر أن القراءتين من مادتين : الأولى من «آصد ، يوصد» ك «أكرم يكرم» ، والثانية من «أوصد ، يوصد» مثل «أوصل يوصل».

وقال الشاعر : [الطويل]

٥٢١٧ ـ تحنّ إلى أجبال مكّة ناقتي

ومن دونها أبواب صنعاء مؤصده (٦)

أي : مغلقة ؛ وقال آخر : [الكامل]

٥٢١٨ ـ قوم يعالج قمّلا أبناؤهم

وسلاسلا حلقا وبابا مؤصدا (٧)

وكان أبو بكر راوي عاصم يكره الهمز في هذا الحرف ، وقال : لنا إمام يهمز : «مؤصدة» ، فأشتهي أن أسد أذني إذا سمعته.

قال شهاب الدّين (٨) : وكأنه لم يحفظ عن شيخه إلا ترك الهمزة مع حفظ حفص

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٤٨.

(٥) ينظر : السبعة ٦٨٦ ، والحجة ٦ / ٤١٦ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٨٦ ، وحجة القراءات ٧٦٦.

(٦) ينظر القرطبي ٢٠ / ٤٨ ، والبحر ٨ / ٤٦٩ ، وفتح القدير ٥ / ٤٤٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٦.

(٧) ينظر البحر ٨ / ٤٧١ ، والدر المصون ٦ / ٥٢٦.

(٨) الدر المصون ٦ / ٥٢٧.

٣٥٢

إياه عنه ، وهو أضبط لحرفه من أبي بكر ، على ما نقله الفراء ، وإن كان أبو بكر أكبر وأتقن ، وأوثق عند أهل الحديث.

وقال القرطبيّ (١) : وأهل اللغة يقولون : أوصدت الباب وآصدته ، أي : أغلقته ، فمن قال: أوصدت ، فالاسم : الوصاد.

ومن قال : آصدته ، فالاسم : الإصاد.

قال الفراء : ويقال من هذا «الأصيد» ، وهو الباب المطبق ، ومعنى «مؤصدة» أي : مغلقة».

قوله تعالى : (عَلَيْهِمْ نارٌ) ، يجوز أن تكون جملة مستأنفة ، وأن تكون خبرا ثانيا ، وأن يكون الخبر وحده : «عليهم» ، و «نار» : فاصل به ، وهو الأحسن.

وقيل : معنى «عليهم نار» ، أي : أحاطت النّار بهم ، كقوله تعالى : (أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها) [الكهف : ٢٩]. والله أعلم.

روى الثّعلبيّ عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) أعطاه الله الأمن من غضبه يوم القيامة» (٢).

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ٢٠ / ٤٨.

(٢) تقدم تخريجه.

٣٥٣

سورة الشمس

مكية ، وهي خمس عشرة آية ، وأربع وخمسون كلمة ، ومائتان وسبعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (١٠)

قوله تعالى : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها) ، وقد تقدّم أنّ جماعة من أهل الأصول ؛ قالوا : التقدير : ورب الشمس ، ورب سائر ما ذكر إلى تمام القسم.

واحتج قوم على بطلان هذا القول ، بأن في جملة هذا القسم : (وَالسَّماءِ وَما بَناها) ، وذلك هو الله تعالى ، لا يجوز أن يكون المراد منه تعالى أن يقدم قسمه بغيره على قسمه بنفسه ، فإذن لا بد من تأويل ، وهو أن «ما» مع ما بعده في حكم المصدر ، فيكون التقدير : والسّماء وبنائها.

واعترض الزمخشريّ عليه ، فقال (١) : لو كان الأمر على هذا الوجه ، لزم من عطف قوله : «فألهمها» عليه فساد النظم.

قوله : (وَضُحاها).

قال المبرّد : إن الضّحى ، والضّحوة ، مشتقان من الضحّ ، وهو النور فأبدلت الألف ، والواو من الحاء ، تقول : ضحوة ، وضحوات ، وضحى فالواو من «ضحوة» مقلوبة عن الحاء الثانية ، والألف في «ضحى» مقلوبة عن الواو.

وقال أبو الهيثم : الضحّ نقيض الظل ، وهو نور الشمس على ظهر وجه الأرض وأصله : الضحى ، فاستثقلوا الياء مع سكون الواو فقلبوها ألفا.

والضّحى : مؤنثة ، يقال : ارتفعت الضّحى فوق الصخور ، وقد تذكر ، فمن أنّث ذهب إلى أنها جمع ضحوة ، ومن ذكّر ذهب إلى أنّه اسم على : «فعل» نحو «صرد ،

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٥٩.

٣٥٤

ونغر» وهو ظرف غير متمكن مثل : سحر ، تقول : لقيته ضحّى ، وضحى ، إذا أردت به ضحى يومك لم تنونه.

وقال الفراء : الضّحى ، هو النهار ، كقول قتادة ، والمعروف عند العرب أنّ الضحى إذا طلعت الشمس ، وبعيد ذلك قليلا ، فإذا زاد فهو الضّحاء بالمد.

ومن قال : الضحى ، النهار كله ، فذلك لدوام نور الشمس ، ومن قال : إنه نور الشّمس أو حرها ، فنور الشمس لا يكون إلّا مع حرّ الشمس ، وقد استدل من قال : إن الضّحى حر الشمس بقوله تعالى : (وَلا تَضْحى) [طه : ١١٩] أي : لا يؤذيك الحر.

فصل في تفسير الآية

قال مجاهد : «وضحاها» أي : ضوؤها وإشراقها ، وأضاف الضحى إلى الشمس ؛ لأنه إنما يكون بارتفاع الشمس (١).

وقال قتادة : بهاؤها (٢).

وقال السدي : حرها.

وقال اليزيدي : انبساطها.

وقيل : ما ظهر بها من كل مخلوق ، فيكون القسم بها ، وبمخلوقات الأرض كلها. حكاه الماوردي.

قال ابن الخطيب (٣) : إنّما أقسم بالشمس ، وضحاها ، لكثرة ما يتعلق به من المصالح ، فإنّ أهل العالم كانوا كالأموات في الليل ، فلما ظهر الصبح في المشرق ، صار ذلك الضوء ، كالروح الذي تنفخ فيه الحياة ، فصارت الأموات أحياء ، ولا تزال تلك الحياة في القوة ، والزيادة إلى غاية كمالها وقت الضحى ، وذلك شبيه استقرار أهل الجنة.

قوله : (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) ، أي : تبعها ، وذلك إذا سقطت رؤيا الهلال.

[قال الليث : تلوت فلانا إذا تبعته.

وقال ابن زيد : إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر ، تلاها القمر بالطلوع ، وفي آخر الشهر ، يتلوها بالغروب (٤)](٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٩٩) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠٠) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٤٩) عن قتادة.

(٣) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ١٧٢.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٠٠) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وينظر تفسير الماوردي (٦ / ٢٨٢) والقرطبي (٢٠ / ٤٩).

(٥) سقط من : ب.

٣٥٥

قال الفراء : «تلاها» : أخذ منها ، يذهب إلى أن القمر يأخذ من ضوء الشمس.

وقال الزجاج : «إذا تلاها» أي : حين استوى ، واستدار ، فكان مثلها في الضياء والنور.

وقال قتادة والكلبيّ : معناه : أن الشمس ، إذا قربت ، فالقمر يتبعها ليلة الهلال في الغروب (١).

وقيل : يتلوها في كبر الجرم ، بحسب الحسّ في ارتباط مصالح هذا العالم بحركته.

قوله : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) ، الفاعل : ضمير النهار.

وقيل : عائد على الله تعالى ، والضمير المنصوب ، إمّا للشمس ، وإما للظّلمة ، وإما للأرض.

ومعنى «جلاها» أي : كشفها ، فمن قال : هي «الشمس» ، فالمعنى : أنه يبين بضوئه جرمها ، ومن قال : هي «الظلمة» ، فهي وإن لم يجر لها ذكر ، كقولك : أضحت باردة ، تريد: أضحت غداتنا باردة ، وهو قول الفراء والكلبي وغيرهما.

ومن قال : هي الدنيا والأرض ، وإن لم يجر لهما ذكر ، كقوله : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢].

قوله : «إذا تلاها» ، وما بعده فيه إشكال ؛ لأنه إن جعل شرطا اقتضى جوابا ، ولا جواب لفظا ، وتقديره غير صالح ، وإن جعل محضا استدعى عاملا وليس هنا عامل إلا فعل القسم حال ؛ لأنه إنشاء ، و «إذا» ظرف مستقبل ، والحال لا يعمل في المستقبل.

ويخص «إذا» وما بعدها إشكال آخر ذكره الزمخشري ، قال (٢) : فإن قلت : الأمر في نصب «إذا» معضل ؛ لأنك لا تخلو إمّا أن تجعل الواو عاطفة ، فتنصب بها وتجر ، فتقع في العطف على عاملين في نحو قولك : «مررت أمس بزيد واليوم عمرو» ، وإمّا أن تجعلهن للقسم ، فتقع فيما اتفق الخليل وسيبويه على استكراهه.

قلت : الجواب فيه : أن واو القسم مطرح معها إبراز الفعل اطراحا كليا ، فكان لها شأن خلاف شأن الباء ، حيث أبرز معها الفعل وأضمر ، فكانت الواو قائمة مقام الفعل ، والباء سادة مسدهما معا ، والواوات العواطف نوائب عن هذه الواو ، فحقهن أن يكنّ عوامل على الفعل ، والجار جميعا ، كما تقول : «ضرب زيد بكرا وعمرو خالدا» ، فترفع بالواو وتنصب لقيامها مقام «ضرب» الذي هو عاملهما انتهى.

وقال أبو حيّان (٣) : أما قوله في واوات العطف : «فتنصب وتجر» ، فليس هذا

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٠٠) عن ابن زيد.

(٢) الكشاف ٤ / ٧٥٨.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٣٧٤.

٣٥٦

بالمختار على أن يكون حرف العطف عاملا لقيامه مقام العامل ، بل المختار أن العمل إنما هو للعامل في المعطوف عليه ، ثم إن الإنشاء حجة في ذلك.

وقوله : «فتقع في العطف على عاملين» ، ليس ما في الآية من العطف على عاملين ، وإنما هو من باب عطف اسمين مجرور ومنصوب ، على اسمين مجرور ومنصوب ، فصرف العطف لم ينب مناب عاملين ، وذلك نحو قولك : مررت بزيد قائما وعمرو جالسا ؛ وأنشد سيبويه في كتابه: [الطويل]

٥٢١٩ ـ فليس بمعروف لنا أن نردّها

صحاحا ولا مستنكر أن تعقّرا (١)

فهذا من عطف مجرور ومرفوع ؛ والعطف على عاملين فيه أربعة مذاهب ، ونسب الجواز إلى سيبويه.

وقوله في نحو قولك : «مررت أمس بزيد واليوم عمرو» ، هذا المثال مخالف لما في الآية ، بل وزان ما في الآية : «مررت بزيد أمس وعمرو اليوم» ونحن نجيز هذا.

وأمّا قوله : «على استكراه» ، فليس كما ذكر ، بل كلام الخليل على المنع.

قال الخليل في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) [الليل : ١ ـ ٣] : «الواوان الأخريان ليستا بمنزلة الأولى ، ولكنهما الواوان اللتان تضمان الأسماء إلى الأسماء في قولك : مررت بزيد وعمرو ، والأولى بمنزلة الباء والتاء».

وأما قوله : «إن واو القسم ليس يطرح معها إبراز الفعل اطراحا كليا» فليس هذا الحكم مجمعا عليه ، بل أجاز ابن كيسان التصريح بفعل القسم مع الواو ، فتقول : «أقسم ، أو أحلف والله لزيد قائم».

وأما قوله : «والواوات العواطف نوائب عن هذا» إلى آخره ، فمبني على أن حرف العطف عامل لنيابته مناب العامل ، وليس هذا بالمختار.

قال : والذي يقول : إن المعضل هو تقدير العامل في «إذا» بعد الإقسام ، كقوله تعالى : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) [النجم : ٨] ، (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) [المدثر : ٣٣ ، ٣٤] ، (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) [الليل : ٢ ـ ٤] ، وما أشبهها ف «إذا» ظرف مستقبل ، لا جائز أن يكون العامل فيه فعل القسم المحذوف ؛ لأنه فعل إنشائي ، فهو في الحال ينافي أن يعمل في المستقبل لإطلاق زمان العامل زمان المعمول ، ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف أقيم المقسم به مقامه أي وطلوع النجم ، ومجيء الليل ، لأنه

__________________

(١) البيت للنابغة الجعدي ينظر ديوانه ص ٥٠ ، وأمالي المرتضى ١ / ٢٦٨ وجمهرة أشعار العرب ٢ / ٧٨٥ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٢٤١ ، والكتاب ١ / ٦٤ وخزانة الأدب ٧ / ١٨١ ، والمقتضب ٤ / ١٩٤ ، ٢٠٠.

٣٥٧

معمول لذلك الفعل [فالطلوع حال ، ولا يعمل فيه المستقبل ضرورة أن زمان المعمول زمان العامل ولا جائز أن يعمل فيه نفس المقسم به لأنه ليس من قبيل ما يعمل ، سيما إن كان جزما](١) ، ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه ، ويكون ذلك العامل في موضع الحال ، وتقديره : والنجم كائنا إذا هوى والليل كائنا إذا يغشى ، لأنه لا يلزم كائنا أن يكون منصوبا بالعامل ، ولا يصح أن يكون معمولا لشيء مما فرضناه أن يكون عاملا ، وأيضا ، فقد يكون المقسم به جثة ، وظروف الزمان لا تكون أحوالا عن الجثث كما لا تكون أخبارا. انتهى ما رد به أبو حيان وما استشكله من أمر العامل في «إذا».

قال شهاب الدين (٢) : المختار أن حرف العطف لا يعمل لقيامه مقام العامل ، فلا يلزم أبا القاسم لأنه يختار القول الآخر ، وقوله «ليس ما في الآية من العطف على عاملين» ممنوع بل فيه العطف على عاملين ولكنه فيه غموض ، وبيان أنه من العطف على عاملين ، أن قوله : (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) ـ هاهنا ـ ، معمولان ، أحدهما مجرور وهو «النهار» ، والآخر منصوب ، وهو الظرف عطفا على معمول عاملين ، والعاملان هنا في فعل المقسم به ، الناصب ل «إذا» الأولى ، وواو القسم الجارة ، فقد تحقق معك عاملان ، لهما معمولان ، فإذا عطفت مجرورا على مجرور ، وظرفا على ظرف ، معمولين لعاملين ، لزم ما قاله أبو القاسم ، وكيف يجهل هذا مع التأمل والتحقيق؟!.

وأما قوله : «وأنشد سيبويه» إلى آخره ، فهو اعتراف منه بأنه من العطف على عاملين ، غاية ما في الباب أنه استند إلى حكمه لسيبويه ، وأما قوله : أجاز ابن كيسان ، فلا يلزم مذهبه ، وأما قوله : فالمثال ليس كالآية بل وزانها ، إلى آخره ، فصحيح لما فيه من تقديم الظرف الثاني على المجرور والمعطوف والآية والظرف فيها متأخر ، وإنما مراد الزمخشري وجود معمول عاملين ، وهو موجود في المثال المذكور إلا أن في الآية إشكالا آخر ، وهو كالتكرير للمسألة ، وأما قوله : بل كلام الخليل يدل على المنع ، إلى آخره ، فليس فيه ردّ عليه بالنسبة إلى قصده بل فيه تقوية لما قال ، غاية ما في الباب أنه عبر بالاستكراه عن المنع ، ولم يفهم المنع ، وقوله : ولا جائز أن يكون ثم مضاف محذوف ، إلى آخره ، فأقول : بل يجوز تقديره ، وهو العامل ، ولا يلزم ما قاله من اختلاف الزمانين ، لأنه يجوز أن يقسم [الآن بطلوع النجم في المستقبل ، فالقسم في الحال والطلوع في المستقبل ، ويجوز أن يقسم](٣) بالشيء الذي سيوجد وقوله «ولا جائز أن يقدر محذوف قبل الظرف فيكون قد عمل فيه» إلى آخره ، ليس بممنوع بل يجوز ذلك ويكون حالا

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٥٢٩.

(٣) سقط من ب.

٣٥٨

مقدرة ، وقوله «ويلزم ألّا يكون له عامل» ليس كذلك بل له عامل وهو فعل القسم ، ولا يضر كونه إنشائيا ، لأن الحال مقدرة كما تقدم ، وقوله «وقد يكون المقسم به جثة» جوابه : يقدر حينئذ حدث ، يكون الظرف الزماني حالا عنه وسئل ابن الحاجب عن هذه المسألة ، فأجاب بنحو ما ذكرناه والله أعلم ، ولا يخلو الكلام فيها من بحث.

قوله (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها). المفعول «الشمس» : أي : يغشى الشمس فيذهب بضوئها عند سقوطها ، قاله مجاهد (١).

وقيل : للأرض أي : يغشى الدنيا بالظلمة ، فتظلم الآفاق فالكناية ترجع إلى غير مذكور. وجيء ب «يغشاها» مضارعا دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل ؛ إذ لو أتى به ماضيا لكان التركيب «إذ غشيها» فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع.

قوله (وَالسَّماءِ وَما بَناها). في «ما» هذه وجهان :

أحدهما : أن «ما» موصولة بمعنى «الذي» وبه استشهد من يجوز وقوعها على العقلاء ، ولأن المراد به الباري تعالى ، وإليه ذهب الحسن ومجاهد وأبو عبيدة ، واختاره ابن جرير (٢).

والثاني : مصدر ، أي وبنائها ، وإليه ذهب الزجاج والمبرد ، وهذا منهما بناء على أنها مختصة بغير العقلاء.

واعترض على هذا القول بأنه يلزم أن يكون القسم بنفس المصادر : بناء السماء وطحو الأرض ، وتسوية النفس ، وليس المقصود إلّا القسم بفاعل هذه الأشياء ، وهو الرب تعالى ، وأجيب عنه بوجهين :

أحدهما : أن يكون على حذف مضاف ، أي : ورب بناء السماء ونحوه.

والثاني : أنه لا غرو لا يجوز في الإقسام بهذه الأشياء ، كما أقسم سبحانه وتعالى بالصبح ونحوه.

وقال الزمخشري (٣) : «جعلت «ما» مصدرية في قوله (وَما بَناها) ، (وَما طَحاها) ، (وَما سَوَّاها) وليس بالوجه ، لقوله «فألهمها» ، وما يؤدي إليه من فساد النظم ، والوجه أن تكون موصولة ، وإنما أوثرت على «من» لإرادة معنى الوصفية ، كأنه قيل : والسماء والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سواها ، وفي كلامهم : سبحان من سخركن لنا» انتهى.

[يعني أن الفاعل في «فألهمها» عائد على الله تعالى ، فليكن في بنائها كذلك](٤).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٥٠) عن مجاهد.

(٢) ينظر : جامع البيان ١٢ / ٦٠٠ ـ ٦٠١.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٥٩.

(٤) سقط من ب.

٣٥٩

وحينئذ يلزم عوده على شيء ، وليس هنا ما يمكن عوده عليه غير «ما» فتعين أن تكون موصولة.

قال أبو حيان : «أما قوله «وليس بالوجه» ، لقوله تعالى : (فَأَلْهَمَها) يعني من عود الضمير في (فَأَلْهَمَها) على الله تعالى ، فيكون قد عاد على مذكور ، وهو «ما» المراد به «الذي» ، قال : ولا يلزم ذلك ، لأنا إذا جعلناها مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من سياق الكلام ، في «بناها» ضمير عائد على الله تعالى ، أي : وبناها هو ، أي : الله تعالى ، كما إذا رأيت زيدا قد ضرب عمرا ، فتقول : عجبت مما ضرب عمرو ، تقديره : من ضرب عمرو هو ، كان حسنا فصيحا جائزا ، وعود الضمير على ما يفهم من سياق الكلام كثير.

وقوله «وما يؤدي إليه من فساد النظم» ليس كذلك ، ولا يؤدي جعلها مصدرية إلى ما ذكر.

وقوله «وإنما أوثرت» إلى آخره ، لا يراد ب «ما» ولا «من» الموصولتين ، معنى الوصلية (١) ، لأنهما لا يوصف بهما «ما» دون «من».

وقوله «في كلامهم» إلى آخره ، تأوله أصحابنا على أن «سبحان» علم ، و «ما» مصدرية ظرفية».

قال شهاب الدين (٢) : أما ما رد به عليه من كونه يعود على ما يفهم من السياق ، فليس يصلح ردّا ؛ لأنه إذا دار الأمر بين عوده على ملفوظ وبين غير ملفوظ به ، فعوده على الملفوظ به أولى ؛ لأنه الأصل وأما قوله : فلا ينفرد به «ما» دون «من» ، فليس مراد الزمخشري أنها توصف بها وصفا صريحا ، بل مراده أنها تقع على نوع من يعقل وعلى صفته ، ولذلك مثل النحويون بقوله تعالى : (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ) [النساء : ٣].

وقالوا : تقديره : فانكحوا الطّيّب من النّساء ، ولا شك أن هذا الحكم تنفرد به «ما» دون «من».

قوله : (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها). أي : وطحوها ، وقيل : ومن طحاها : أي بسطها ، قال عامة المفسرين : أي دحاها.

قال الحسن ومجاهد وغيرهما : طحاها ودحاها : واحد ، أي : بسطها من كل جانب (٣).

والطّحو : البسط ، طحا ، يطحو ، طحوا ، وطحى يطحى طحيا ، وطحيت :

__________________

(١) في أ : الوصفية.

(٢) ينظر الدر المصون ٦ / ٥٣١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٠١) عن مجاهد وابن زيد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٦٠١) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر.

٣٦٠