اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

فعليّ كذا وكذا ، واختلفوا فيما إذا علق ذلك بما ليس من وجوه البر كقوله : إن أتى فلان الدّار فعلي هذا ، فمنهم من جعله كاليمين ، ومنهم من جعله من باب النذور.

فصل في المراد بالإيفاء بالنذر

قال القشيري : روى أشهب عن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) هو نذر العتق ، والصيام والصلاة.

وروى عنه أبو بكر بن عبد العزيز قال : قال مالك : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) قال : النذر هو اليمين.

قال ابن الخطيب (١) : هذه الآية تدلّ على وجوب الوفاء بالنذر ؛ لأنه تعالى قال عقيبه : (وَيَخافُونَ يَوْماً) ، وهذا يقتضي أنهم إنما وفّوا بالنذر خوفا من شر ذلك اليوم ، والخوف من شر ذلك اليوم لا يتحقق إلا إذا كان الوفاء به واجبا ويؤكده قوله تعالى : (وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها) [النحل : ٧١] وقوله تعالى : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) [الحج : ٢٩] وهذا محتمل ليوفوا أعمال نسكهم التي ألزموها أنفسهم.

فصل في زيادة كان

قال الفراء وجماعة من أهل المعاني : «كان» في قوله تعالى : (كانَ مِزاجُها كافُوراً) زائدة وأما هاهنا فكان محذوفة ، والتقدير : كانوا يوفون بالنذر.

قال ابن الخطيب (٢) : ولقائل أن يقول : إنا بينا أن «كان» في قوله تعالى : (كانَ مِزاجُها كافُوراً) ليست بزائدة ، وأما في هذه الآية فلا حاجة إلى إضمارها ؛ لأنه ـ تعالى ـ ذكر في الدنيا أن الأبرار يشربون أي : سيشربون ، فإن لفظ المضارع مشترك بين الحال والاستقبال ، ثم قال السبب في ذلك الثواب الذي سيجدونه أنهم الآن يوفون بالنذر.

قوله : (وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً) ، أي : يخافون يوم القيامة ، و «كان شرّه» في موضع نصب صفة ل «يوم».

و «المستطير» : المنتشر ، يقال : استطار يستطير استيطارا ، فهو مستطير ، وهو «استفعل» من الطيران.

قال الأعشى : [المتقارب]

٥٠٣٤ ـ فبانت وقد أسأرت في الفؤا

د صدعا على نأيها مستطيرا (٣)

والعرب تقول : استطار الصدع في القارورة والزجاجة ، أو استطال إذا امتدّ ، ويقال : استطار الحريق إذا انتشر.

__________________

(١) السابق.

(٢) السابق.

(٣) تقدم.

٢١

وقال الفرّاء : المستطير : المستطيل ، كأنه يريد أنه مثله في المعنى ، لأنه أبدل من اللام راء ، والفجر : فجران ، مستطيل كذنب السّرحان وهو الكاذب ، ومستطير ، وهو الصادق لانتشاره في الأفق.

قال قتادة : استطار والله شرّ ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض (١).

وقال مقاتل : كان شره فاشيا في السموات ، فانشقت وتناثرت بالكواكب وفزعت الملائكة في الأرض ، ونسفت الجبال وغارت المياه (٢).

فإن قيل : أحوال القيامة وأهوالها كلها فعل الله تعالى ، وكل ما كان فعلا لله ، فهو حكمة وصواب ، وما كان كذلك لا يكون شرّا ، فكيف وصفها الله بأنها شرّ؟.

والجواب : إنما سميت شرّا لكونها مضرة بمن تنزل عليه ، وصعبة عليه كما سميت الأمراض ، وسائر الأمور المكروهة شرورا.

قال ابن الخطيب (٣) : وقيل : المستطير هو الذي يكون سريع الوصول إلى أهله ، وكأن هذا القائل ذهب إلى أن الطيران إسراع.

فإن قيل : لم قال : كان شره ، ولم يقل : سيكون شره مستطيرا؟.

فالجواب : أن اللفظ وإن كان للماضي إلا أن معناه كان شره في علم الله وحكمته (٤).

قوله : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) وهذا الجار والمجرور حال إما من «الطعام» أي: كائنين على حبهم الطعام كقوله تعالى : (وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) [البقرة : ١٧٧].

قال ابن عباس ومجاهد : على قلة حبهم إياه وشهوتهم له (٥) ، وإما من الفاعل.

والضمير في «حبه» لله تعالى ، أي : على حب الله ، وعلى التقدير : فهو مصدر مضاف للمفعول.

قال الفضيل بن عياض : على حب إطعام الطّعام.

قوله «مسكينا». أي : ذا مسكنة ، «ويتيما» أي : من يتامى المسلمين «وأسيرا» أي : الذي يؤسر فيحبس ، وذلك أن المسكين عاجز عن الاكتساب بنفسه ، واليتيم : هو الذي مات من يكتسب له ، وبقي عاجزا عن الكسب لصغره ، والأسير : هو المأخوذ من قومه المملوك رقبة ، الذي لا يملك لنفسه نصرا ولا حيلة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٥٩).

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٨٤) عن مقاتل.

(٣) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٢١٥.

(٤) في أ : وحكمه.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٥٩) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٨٤) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في «شعب الإيمان».

٢٢

قال ابن عباس والحسن وقتادة : الأسير من أهل الشرك يكون في أيديهم (١).

فإن قيل : لمّا وجب قتله ، فكيف يجب إطعامه؟.

فالجواب : أن القتل في حال لا يمنع من الإطعام في حال أخرى ، ولا يجب إذا عوقب بوجه أن يعاقب بوجه آخر ، وكذلك لا يحسن فيمن عليه قصاص أن يفعل به ما هو دون القتل ، ويجب على الإمام أن يطعمه ، فإن لم يفعله الإمام وجب على المسلمين.

وقال مجاهد وسعيد بن جبير : الأسير : المحبوس (٢).

وقال السديّ : الأسير : المملوك (٣) ، وقيل : الأسير : الغريم ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أسيرك غريمك» (٤) وقال عطاء : الأسير من أهل القبلة وغيرهم (٥).

قال القرطبي (٦) : «هذا يعم جميع الأقوال ، ويكون إطعام الأسير المشرك قربة إلى الله تعالى ، غير أنه من صدقة التطوع ، فأما المفروضة فلا».

وقيل : الأسير : الزوجة ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتّقوا الله في النّساء ، فإنّهنّ عوان عندكم» (٧).

قال القفال (٨) : واللفظ يحتمل كل ذلك ؛ لأن أصل الأسر هو الشك بالقدر ، وكان الأسير يفعل به ذلك حبسا له.

فصل في الكلام على الآية

قال القرطبي (٩) : قيل نسخ آية المسكين آية الصدقات ، وإطعام الأسير بالسيف قاله سعيد بن جبير.

وقال غيره : بل هو ثابت الحكم ، وإطعام اليتيم والمسكين على التطوع ، وإطعام الأسير لحفظ نفسه إلى أن يتخير فيه الإمام.

وقال الماورديّ : ويحتمل أن يريد بالأسير الناقص العقل ؛ لأنه في أسر خبله وجنونه ، وأسر المشرك انتقام يقف على رأي الإمام ، وهذا برّ وإحسان.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٦٠) عن الحسن وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٨٤) عن الحسن وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن مردويه وذكره أيضا عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٦٠) عن مجاهد وسعيد بن جبير.

(٣) ورد مثله مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٨٥) وعزاه إلى ابن مردويه وابن نعيم.

(٤) ذكره الزمخشري في «الكشاف» (٤ / ٦٦٨).

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٨٤) وعزاه إلى ابن أبي شيبة عن سعيد بن جبير وعطاء.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٨٤.

(٧) تقدم.

(٨) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٢١٧.

(٩) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٨٤.

٢٣

قوله (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) على إضمار القول ، أي : يقولون بألسنتهم لليتيم والمسكين والأسير إنما نطعمكم في الله ـ جل ثناؤه ـ فزعا من عذابه وطمعا في ثوابه (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) أي : ولا تثنوا علينا بذلك.

قال ابن عباس : كذلك كانت نيّاتهم في الدنيا حين أطعموا (١).

وعن مجاهد : أما إنهم ما تكلموا به ، ولكن علمه الله منهم ، فأثنى به عليهم ليرغب في ذلك راغب (٢).

قيل : هذه الآيات نزلت في مطعم بن ورقاء الأنصاري نذر نذرا فوفى به.

وقيل : نزلت فيمن تكفل بأسرى بدر ، وهم سبعة من المهاجرين : أبو بكر ، وعمر ، وعلي ، والزبير ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعيد ، وأبو عبيدة ـ رضي الله عنهم ـ ذكره الماوردي.

وقال مقاتل : نزلت في رجل من الأنصار أطعم في يوم واحد مسكينا ، ويتيما ، وأسيرا(٣).

وقيل : نزلت في علي وفاطمة ـ رضي الله عنهما ـ وجارية لهما اسمها فضة.

قال القرطبي (٤) : نزلت في جميع الأبرار ، ومن فعل فعلا حسنا ، فهي عامة ، وما ذكر عن عليّ ، وفاطمة لا يصح.

وروى جابر الجعفي في قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) ، عن قنبر مولى علي ـ رضي الله عنه ـ قال : مرض الحسن والحسين حتى عادهما أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ : يا أبا الحسن لو نذرت عن ولديك نذرا ، فقال عليّ ـ رضي الله عنه ـ إن برأ ولدي صمت لله ثلاثة أيام شكرا.

وقالت فاطمة ـ رضي الله عنها ـ مثل ذلك ، وقال الحسن والحسين مثل ذلك وذكر الحديث. قال أهل الحديث : جابر الجعفي كذاب.

فصل في الإحسان إلى الغير

قال ابن الخطيب (٥) : اعلم أن الإحسان إلى الغير تارة يكون لأجل الله ، وتارة يكون لغير الله ، إما طلبا لمكافأة أو طلبا لحمد وثناء ، وتارة يكون لهما ، وهذا هو الشرك ، والأول هو المقبول عند الله ، وأما القسمان الباقيان فمردودان ، قال تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) [البقرة : ١٦٤].

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٨٤).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٦١) عن مجاهد.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٨٤).

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٨٥.

(٥) الفخر الرازي ٣٠ / ٢١٨.

٢٤

وقال تعالى : (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) [الروم : ٣٩] ، ولا شك أن التماس الشكر من جنس المنّ والأذى ، إذا عرفت ذلك فنقول : القوم لما قالوا : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) بقي فيه احتمال ، أنه أطعمه لوجه الله ولسائر الأغراض على سبيل التشريك ، فلا جرم نفى هذا الاحتمال بقوله تعالى : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً).

فصل في الشكور والكفور

الشّكور والكفور : مصدران ك «الشكر والكفر» وهو على وزن «الدّخول والخروج» هذا قول جمهور أهل اللغة.

وقال الأخفش : إن شئت جعلت الشكور ، جماعة الشكر ، وجعلت الكفور في قوله تعالى : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً) مثل «برد وبرود» وإن شئت جعلته مصدرا واحدا في معنى جمع مثل : قعد قعودا ، وخرج خروجا.

قوله : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا) يحتمل وجهين :

أحدهما : أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لإرادة مكافأتهم.

والثاني : لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى علّل ترك المكافأة بخوف عقاب الله على طلب المكافأة بالصدقة.

فإن قيل : إنه ـ تعالى ـ لما حكى عنهم الإيفاء بالنذر ، علّل ذلك بخوف القيامة فقط ، ولما حكى عنهم الإطعام علل ذلك بأمرين : بطلب رضا الله تعالى ، وبالخوف ، فما الحكمة في ذلك؟.

فالجواب : أن النذر هو الذي أوجبه على نفسه لأجل الله ، فلما كان كذلك ، لا جرم علله بخوف القيامة فقط ، وإما الإطعام فالله ـ تعالى ـ هو الذي شرعه ، فلا جرم ضم إليه خوف القيامة.

قوله : (يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً). القمطرير : الشديد ، وأصله كما قال الزجاج : «مشتق من اقمطرّت الناقة إذا رفعت ذنبها ، وجمعت قطريها وزمت بأنفها».

قال الزمخشري : اشتقاقه من القطر ، وجعلت الميم زائدة (١) ؛ قال أسد بن ناعصة : [الخفيف]

٥٠٣٥ ـ واصطليت الحروب في كلّ يوم

باسل الشّرّ قمطرير الصّباح (٢)

__________________

(١) في أ : فريدة.

(٢) ينظر الكشاف ٤ / ٦٦٩ ، والقرطبي ١٩ / ٩٠ ، والبحر ٨ / ٣٨٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٢.

٢٥

قال أبو حيان : واختلف النحاة في هذا الوزن ، والأكثر على أنه لا يثبت «افمعلّ» في أوزان الأفعال ويقال : اقمطرّ يقمطرّ فهو مقمطرّ ؛ قال الشاعر : [الرجز]

٥٠٣٦ ـ قد جعلت شبوة تزبئرّ

تكسو استها لحما وتقمطرّ (١)

ويوم قمطرير وقماطر : بمعنى شديد ؛ قال الشّاعر : [الطويل]

٥٠٣٧ ـ ففرّوا إذا ما الحرب ثار غبارها

ولجّ بها اليوم العبوس القماطر (٢)

وقال الزجاج : القمطرير : الذي يعبس حتى يجتمع ما بين عينيه. انتهى.

فعلى هذا استعماله في اليوم مجاز ، وفي بعض كلام الزمخشري ، أنه جعله من «القمط» فعلى هذا تكون الرّاءان فيه مزيدتين.

وقال القرطبي (٣) : «القمطرير : الطّويل» ؛ قال الشاعر :

٥٠٣٨ ـ شديدا عبوسا قمطريرا (٤)

تقول العرب : يوم قمطرير ، وقماطر ، وعصيب بمعنى ؛ وأنشد الفراء : [الطويل]

٥٠٣٩ ـ بني عمّنا هل تذكرون بلاءنا

عليكم إذا ما كان يوم قماطر (٥)

بضم القاف ، واقمطرّ : إذا اشتد ، وقال الأخفش : القمطرير : أشد ما يكون من الأيام وأطوله في البلاء ؛ وأنشد : [الطويل]

٥٠٤٠ ـ ففرّوا إذا ما الحرب

البيت المتقدم (٦).

وقال الكسائي : يقال : اقمطرّ اليوم وازمهرّ اقمطرارا وازمهرارا ، وهو القمطرير والزمهرير ، ويوم مقمطرّ ، إذا كان صعبا شديدا ؛ قال الهذليّ : [الطويل]

٥٠٤١ ـ بنو الحرب ارضعنا لهم مقمطرّة

ومن يلق منّا ذلك اليوم يهرب (٧)

__________________

(١) ينظر اللسان (قمطر) ، والبحر ٨ / ٣٥٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٢.

(٢) ينظر اللسان (لجج) و(قمطر) ، والقرطبي ١٩ / ٨٨ ، والبحر ٨ / ٣٨٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٢.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٨٨.

(٤) ينظر القرطبي ١٩ / ٨٨.

(٥) ينظر معاني القرآن للفراء ٣ / ٢١٦ ، وإعراب القرآن ٥ / ٩٩ ، والطبري ٢٩ / ١٣١ ، ومجمع البيان ١٠ / ٦١١ ، والقرطبي ١٩ / ٨٨ ، واللسان (قمطر).

(٦) تقدم.

(٧) البيت لحذيفة بن أنس.

ورواية البيت كما في ديوان الهذليين :

بنو الحرب أرضعنا بها مقمطرة

فمن يلق منا يلق سيد مدرّب

ينظر ديوان الهذليين ٣ / ٢٥ ، والقرطبي ١٩ / ٨٨.

٢٦

و «العبوس» أيضا صفة ل «اليوم» ، «يوما» تعبس فيه الوجوه من هوله وشدته ، والمعنى : نخاف يوما ذا عبوس.

وقال ابن عباس : يعبس الكافر يومئذ حتى يسيل منه عرق كالقطران.

وقال مجاهد : إن العبوس بالشّفتين ، والقمطرير بالجبهة والحاجبين فجعلهما من صفات الوجه المتغيّر من شدائد ذلك اليوم (١).

قوله : (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ). أي : دفع عنهم بأس ذلك اليوم وشدته وعذابه.

وقرأ (٢) أبو جعفر : «فوقّاهم الله» بتشديد القاف على المبالغة.

واعلم أنه ـ تعالى ـ لما حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعات لغرضين : لأجل رضا الله تعالى والخوف من القيامة ، بيّن هنا أنه أعطاهم هذين الغرضين وهو أنه حفظهم من أهوال القيامة ، وهو قوله جل ثنائه (فَوَقاهُمُ اللهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ) وأما طلبهم رضا الله فأعطاهم الله بسببه «نضرة» في الوجه ، أي حسنا ، حين رأوه ، «وسرورا» في القلب قال الضحاك : النضرة : البياض والنقاء(٣).

وقال ابن جبير : الحسن والبهاء (٤).

وقال ابن زيد : أثر النعمة (٥).

قوله تعالى : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا). «ما» مصدرية ، و «جنّة» مفعول ثان ، أي : جزاهم جنة بصبرهم وقدر مكي مضافا ، فقال : تقديره دخول الجنة ، ولبس حرير ، والمعنى : وجزاهم بصبرهم على الفقر.

وقال القرظي (٦) : على الصوم.

وقال عطاء : على الجوع ثلاثة أيام ، وهي أيام نذر.

وقيل : بصبرهم على طاعة الله ، وصبرهم عن معصية الله ومحارمه ، وهذا يدل على أن الآيات نزلت في جميع الأبرار ، ومن فعل فعلا حسنا.

وروى ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عن الصبر ، فقال : «الصّبر أربعة : الصّبر عند الصّدمة الأولى ، والصّبر على أداء الفرائض ، والصّبر على اجتناب محارم الله تعالى ، والصّبر على المصائب» (٧).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٨٥) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤١١ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٨٨.

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٦٧) والقرطبي (١٩ / ٨٩).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ٨٩).

(٧) ينظر المصدر السابق.

٢٧

قوله تعالى : (جَنَّةً وَحَرِيراً). أي : أدخلهم الجنة وألبسهم الحرير.

قوله : (مُتَّكِئِينَ). حال من مفعول «جزاهم» والعامل فيها «جزى» ولا يعمل فيها «صبروا» ؛ لأن الصبر إنما كان في الدنيا والاتّكاء في الآخرة.

وقرأ علي (١) ـ رضي الله عنه ـ : «وجازاهم».

وجوّز أبو البقاء : أن يكون صفة ل «جنّة».

وهذا لا يجوز عند البصريين ؛ لأنه كان يلزم بروز الضمير ، فيقال : «متّكئين هم فيها» لجريان الصفة على غير من هي له.

وقد منع مكي أن يكون «متكئين» صفة ل «جنة» لما ذكرنا من عدم بروز الضمير.

وممن ذهب إلى كون «متكئين» صفة ل «جنة» ، الزمخشري ، فإنه قال : «ويجوز أن يكون متّكئين ، ولا يرون ، ودانية ، كلها صفات الجنة». وهو مردود بما تقدم.

ولا يجوز أن يكون «متكئين» حالا من فاعل «صبروا» ؛ لأن الصبر كان في الدنيا ، واتكاؤهم إنما هو في الآخرة. قال معناه مكي.

ولقائل أن يقول : إن لم يكن المانع إلا هذا فاجعلها حالا مقدرة ، لا ما لهم بسبب صبرهم إلى هذه الحالة ، وله نظائر.

قال ابن الخطيب (٢) : وقال الأخفش : وقد ينصب على المدح والضمير في «فيها» أي في الجنة وقال الفراء : وإن شئت جعلت «متكئين» تابعا ، كأنه قال : جزاؤهم جنة متكئين فيها.

والأرائك : السّرر في الحجال ، وجاءت عن العرب أسماء تحتوي على صفات : إحداها الأريكة لا تكون إلّا حجلة على سرير. وثانيها : السّجل ، وهو الدلو الممتلىء ماء ، فإذا صفرت لم تسم سجلا ، وكذلك الذنوب لا تسمى ذنوبا حتى تملأ ، قاله القرطبي (٣).

وهذا فيه نظر ، لأنه قد ورد في شعر العرب يصف البازي ؛ قال : [الكامل]

٥٠٤٢ ـ ..........

يغشى المهجهج كالذّنوب المرسل (٤)

يعني الدّلو إذا ألقي في البئر ، وهو لا يلقى في البئر إلا إذا كان فارغا.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤١١ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٨٨.

(٢) الفخر الرازي ٣٠ / ٢١٩.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٨٩.

(٤) عجز بيت للبيد وصدره :

أو ذو زوائد لا يطاف بأرضه

ينظر ديوانه ص ١٢٧ ، واللسان (هجهج).

٢٨

قال : والكأس لا تسمى كأسا حتى تترع من الخمر ، قال : وكذلك الطبق الذي تهدى فيه الهدية إذا كانت فيه يسمى مهدى ، فإذا كان فارغا يسمّى طبقا أو خوانا.

قال ابن الأعرابي : مهدى ـ بكسر الميم ـ ، ولا يسمى الطبق مهدى إلا وفيه ما يهدى ، والمهداء ـ بالمد ـ الذي من عادته أن يهدى.

وقيل : الأرائك : الفرش على السرر ؛ قال ذو الرمة : [الطويل]

٥٠٤٣ ـ خدود جفت في السّير حتّى كأنّما

يباشرن بالمعزاء مسّ الأرائك (١)

أي : الفرش على السرر.

قوله : (لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً). فيها أوجه :

أحدها : أنها حال ثانية من مفعول «جزاهم».

الثاني : أنها حال من الضمير المرفوع المستكن في «متّكئين» فتكون حالا متداخلة.

الثالث : أن تكون صفة ل «جنة» ك «متكئين» عند من يرى ذلك ـ كما تقدم ـ عن الزمخشري.

والزمهرير : أشد البرد ، وهذا هو المعروف ؛ وقيل : هو القمر بلغة طيّىء ؛ وأنشد : [الرجز]

٥٠٤٤ ـ في ليلة ظلامها قد اعتكر

قطّعتها والزّمهرير ما نهر (٢)

ويروى : ما ظهر ، أي : لم يطلع القمر ، والمعنى : لا يرون فيها شمسا كشمس الدنيا ، ولا قمرا كقمر الدنيا ، أي : أنهم في ضياء مستديم ، لا ليل فيه ولا نهار ، لأن ضوء النّهار بالشمس ، وضوء الليل بالقمر ، والمعنى : أن الجنة لا يحتاج فيها إلى شمس ولا إلى قمر ، ووزنه «فعلليل» ، وقيل : المعنى : لا يرون في الجنّة شدة حر كحرّ الشمس ، ولا زمهريرا ، أي : ولا بردا مفرطا.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اشتكت النّار إلى ربّها سبحانه ، قالت : يا ربّ ، أكل بعضي بعضا ، فجعل لها نفسين : نفسا في الشّتاء ، ونفسا في الصّيف ، فشدّة ما تجدون من البرد من زمهريرها ، وشدّة ما تجدون من الحرّ في الصّيف من سمومها» (٣).

__________________

(١) ينظر ديوانه ٣ / ١٧٢٩ ، ومجاز القرآن ١ / ٤٠١ ، ٢ / ١٦٤ ، والقرطبي ١٩ / ٨٨.

(٢) ينظر الكشاف ٤ / ٦٧٠ ، والقرطبي ١٩ / ٩٠ ، والبحر ٨ / ٣٨٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٣ ، وروح المعاني ٢٩ / ٢٠٠.

(٣) أخرجه البخاري (٢ / ٣٢) ، كتاب مواقيت الصلاة : باب الإبراد بالظهر في شدة الحر رقم (٥٣٦ ، ٥٣٧) ومسلم (١ / ٤٣٠) كتاب المساجد : باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر رقم (١٨٠ / ٦١٥) والشافعي في «مسنده» (١ / ٥٢) رقم (١٥٤) والترمذي (٢٥٩٥) وابن ماجه (٤٣١٩) وأحمد (٢ / ٢٣٨ ، ٢٧٧) والبغوي في «شرح السنة» (٢ / ٢٤) رقم (٣٦٢) من حديث أبي هريرة.

٢٩

قال مرة الهمداني : الزمهرير : البرد القاطع.

وقال مقاتل بن حيان : هو شيء مثل رءوس الإبر ينزل من السماء في غاية البرد.

وقال ابن مسعود رضي الله عنه : هو لون من العذاب ، وهو البرد الشديد ، حتى إن أهل النار إذا ألقوا فيه سألوا الله أن يعذبهم في النار ألف سنة أهون عليهم من عذاب الزمهرير يوما واحد.

قوله : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ) العامة على نصبها ، وفيها أوجه :

أحدها : أنها عطف على محل «لا يرون».

الثاني : أنها معطوفة على «متّكئين» فيكون فيها ما فيها.

قال الزمخشري : «فإن قلت : (وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها) علام عطفت؟.

قلت : على الجملة التي قبلها ؛ لأنها في موضع الحال من المجزيين ، وهذه حال مثلها عنهم لرجوع الضمير منها إليهم في «عليهم» ، إلّا أنها اسم مفرد ، وتلك جماعة في حكم مفرد ، تقديره : غير رائين فيها شمسا ، ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها ، ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم ، كأنه قيل : وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقمر ودنو الظلال عليهم».

الثالث : أنها صفة لمحذوف ، أي : وجنة دانية.

قال أبو البقاء : كأنه قيل : (وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً) أي : أخرى دانية عليهم ظلالها ، لأنهم قد وعدوا جنتين ، لأنهم خافوا مقام ربهم ، بقولهم : (إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً).

الرابع : أنها صفة ل «جنة» الملفوظ بها. قاله الزجاج.

وقال الفراء : نصب على المدح ، أي : دانية عليهم ، لقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦].

وقرأ أبو حيوة (١) : «ودانية» بالرفع ، وفيها وجهان :

أظهرهما : أن يكون «ظلالها» مبتدأ ، «ودانية» خبر مقدم ، والجملة في موضع الحال.

قال الزمخشري : «والمعنى : لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا ، والحال أن ظلالها دانية».

والثاني : أن ترتفع «دانية» بالابتداء ، و «ظلالها» فاعل به ، وبها استدل الأخفش على جواز إعمال اسم الفاعل ، وإن لم يعتمد ، نحو «قائم الزيدون» ، فإن «دانية» لم تعتمد على شيء مما ذكره النحويون ، ومع ذلك فقد رفعت «ظلالها».

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٨٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٣.

٣٠

وهذا لا حجة فيه لجواز أن يكون مبتدأ وخبرا مقدما كما تقدم.

وقال أبو البقاء : وحكي بالجر ، أي : في جنة دانية ، وهو ضعيف ، لأنه عطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار. يعنى أنه قرىء (١) شاذا : «ودانية» بالجر على أنها صفة لمحذوف ، ويكون حينئذ نسقا على الضمير المجرور من قوله تعالى : (لا يَرَوْنَ فِيها) أي : ولا في جنة دانية ، وهو رأي الكوفيين حيث يجوزون العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار ، ولذلك ضعفه ، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة.

وأما رفع «ظلالها» فيجوز أن يكون مبتدأ ، و «عليهم» خبر مقدم ، ولا يرتفع ب «دانية» ؛ لأن «دنا» يتعدى ب «إلى» لا ب «على» ، ويجوز أن يرفع ب «دانية» على أن يضمن معنى مشرفة ؛ لأن «دنا» و «أشرف» متقاربان ، قال معناه أبو البقاء ، وهذان الوجهان جاريان في قراءة من نصب «دانية».

وقرأ الأعمش (٢) : «ودانيا» بالتذكير ، للفصل بين الوصف وبين مرفوعه ب «عليهم» ، أو لأن الجمع مذكر.

وقرأ أبيّ (٣) : «ودان عليهم» بالتذكير مرفوعا ، وهي شاذة. فمذهب الأخفش حيث يرفع باسم الفاعل وإن لم يعتمد ، ولا جائز أن يعربا مبتدأ وخبرا لعدم المطابقة.

وقال مكي : «وقرىء «ودانيا» بالتذكير» ثم قال : «ويجوز : «ودانية» بالرفع ، ويجوز «دان» بالرفع والتذكير» ، فلم يصرح بأنهما قرئا ، وقد تقدم أنهما مقروء بهما ، فكأنه لم يطلع على ذلك.

فصل في معنى الآية

قال المفسرون : معناه : أن ظل الأشجار في الجنة قريب من الأبرار فهي مظلة عليهم زيادة على نعيمهم.

قال ابن الخطيب (٤) : فإن قيل : الظل إنما يوجد حيث توجد الشمس ، وهناك لا شمس في الجنة ، فكيف يحصل الظل؟.

فالجواب : أن أشجار الجنّة تكون بحيث لو كان هناك شمس لكانت الأشجار مظلة منها وإن كان لا شمس ولا قمر كما أن أمشاطهم الذهب والفضة ، وإن كان لا وسخ ولا شعث. ثم قوله : (وَذُلِّلَتْ) يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال عطفا على دانية

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٤٣.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤١١ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٨٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٤.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤١١ ـ ٤١٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٨٨ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٤.

(٤) الفخر الرازي : ٣٠ / ٢٢٠.

٣١

فيمن نصبها ، أي : ومذللة ، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في «عليهم» سواء نصبت «دانية» أو رفعتها ، أو جررتها ، ويجوز أن تكون مستأنفة.

وأما على قراءة رفع «ودانية» فتكون جملة فعلية عطفت على اسمية ، ويجوز أن تكون حالا كما تقدم.

فصل في تذليل قطوف الجنة

والمعنى : وسخرت لهم قطوفها ، أي : ثمارها «تذليلا» أي : تسخيرا ، فيتناولها القائم والقاعد والمضطجع لا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك.

قال ابن قتيبة : «ذللت» أدنيت منهم ، من قولهم : حائط ذليل إذا كان قصير السمك.

وقيل : «ذلّلت» أي : جعلت منقادة لا تمتنع على قطافها كيف شاءوا.

قال البراء بن عازب رضي الله عنه : ذلّلت لهم ، فهم يتناولون منها كيف شاءوا ، فمن أكل قائما لم يؤذه ، ومن أكل جالسا لم يؤذه ، ومن أكل مضطجعا لم يؤذه (١).

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : إذا همّ أن يتناول من ثمارها تدلّت إليه حتى يتناول منها ما يريد (٢).

وتذليل القطوف : تسهيل التناول ، والقطوف : الثمار ، الواحد : قطف ـ بكسر القاف ـ سمي به ؛ لأنه يقطف ، كما سمي الجنى لأنه يجنى.

قوله : (تَذْلِيلاً) تأكيد لما وصف به من الذل ، كقوله تعالى : (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء : ١٠٦] ، (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) [النساء : ١٦٤].

قال الماوردي : ويحتمل أن تكون تذليل قطوفها أن تبرز لهم من أكمامها ، وتخلص لهم من نواها وقال النحاس : ويقال : المذلل الذي قد ذلله الماء ، أي : أرواه.

ويقال : المذلل : الذي يفيئه أدنى ريح لنعمته ، ويقال : المسوى ؛ لأن أهل الحجاز يقولون: ذلّل نخلك ، أي : سوّه.

قوله : (وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ) لما وصف طعامهم ولباسهم ومسكنهم وصف شرابهم ، وقدم وصف الأواني التي يشرب بها ، ومعنى «يطاف» أي : يدور على هؤلاء الأبرار والخدم إذا أرادوا الشراب بآنية من فضة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٦٤) عن مجاهد مثله وأخرجه الحاكم (٢ / ٥١١) : عن البراء وقال : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٨٦) وزاد نسبته إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شبية وهناد بن السري وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «البعث».

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره (١٩ / ٩١).

٣٢

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء (١) ، أي : الذي في الجنة أشرف وأعلا ، ثم لم تنف الأواني الذهبية بل المعنى : يسقون في أواني الفضة ، وقد يسقون في أواني الذهب ، كما قال تعالى : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ، أي والبرد ، فنبه بذكر أحدهما على الأخرى. قوله : «بآنية» هذا هو القائم مقام الفاعل ؛ لأنه هو المفعول به في المعنى ، ويجوز أن يكون «عليهم».

و «آنية» جمع إناء ، والأصل : «أأنية» بهمزتين ، الأولى مزيدة للجمع ، والثانية فاء الكلمة ، فقلبت الثانية ألفا وجوبا ، وهذا نظير : كساء وأكسية ، وغطاه وأغطية ، ونظيره في صحيح اللام : حمار وأحمرة.

وقوله «من فضّة» نعت ل «آنية».

قوله : (وَأَكْوابٍ). الأكواب هي الكيزان العظام التي لا آذان لها ولا عرى ، الواحد منها كوب ؛ وقال عدي : [السريع]

٥٠٤٥ ـ متّكئا تقرع أبوابه

يسعى عليه العبد بالكوب (٢)

قوله : (كانَتْ قَوارِيرَا). اختلف القراء في هذين الحرفين بالنسبة إلى التنوين وعدمه ، وفي الوقوف بالألف وعدمها ، كما تقدم خلافهم في «سلاسل».

واعلم أن القراء فيهما على خمس مراتب :

إحداها (٣) : تنوينهما معا والوقف عليهما بالألف لنافع والكسائي وأبي بكر.

الثانية : مقابلة هذه ، وهي عدم تنوينهما ، وعدم الوقف عليهما بالألف ، لحمزة وحده.

الثالثة : عدم تنوينهما والوقف عليهما بالألف وعلى الثاني بدونها لهشام وحده.

والرابعة : تنوين الأول دون الثاني ، والوقف على الأول بالألف ، وعلى الثاني بدونها لابن كثير وحده.

الخامسة : عدم تنوينهما معا ، والوقف على الأول بالألف ، وعلى الثاني بدونها ، لأبي عمرو ، وابن ذكوان ، وحفص.

فأما من نونهما فكما مرّ في تنوين «سلاسل» ؛ لأنها صيغة منتهى الجموع ، ذاك على «مفاعل» وذا على «مفاعيل» ، والوقف بالألف التي هي بدل من التنوين ، وفيه موافقة للمصاحف المرسومة ، فإنهما مرسومان فيهما بالألف على ما نقل أبو عبيد.

__________________

(١) ينظر القرطبي (١٩ / ٩١).

(٢) تقدم.

(٣) تنظر هذه الوجوه في : السبعة ٦٦٤ ، والحجة ، ٦ / ٣٤٨ ، ٣٤٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٢٠ ـ ٤٢١ ، وحجة القراءات ٧٣٩.

٣٣

وأما عدم تنوينهما وعدم الوقف بالألف عليهما فظاهر جدّا.

وأما من نون الأول دون الثاني ، فإنه ناسب بين الأول وبين رءوس الآي ولم يناسب بين الثاني والأول والوجه في وقفه على الأول بالألف وعلى الثاني بغير ألف ظاهر.

وقد روى أبو عبيد أنه كذلك في مصاحف أهل «البصرة».

وأما من لم ينونهما ، ووقف على الأول بالألف ، وعلى الثاني بدونها ، فلأن الأول رأس آية ، فناسب بينه وبين رءوس الآي في الوقف بالألف ، وفرق بينه وبين الثاني ؛ لأنه ليس برأس آية.

وأما من لم ينونهما ووقف عليهما بالألف ، فلأنه ناسب بين الأول وبين رءوس الآي ، وناسب بين الثاني وبين الأول.

وحصل مما تقدم في «سلاسلا» وفي هذين الحرفين ، أن القراء منهم من وافق مصحفه ، ومنهم من خالفه لاتباع الأثر. وتقدم الكلام على «قوارير» في سورة «النمل» (١) ، ولله الحمد.

وقال الزمخشري : «وهذا التنوين بدل من حرف الإطلاق لأنه فاصلة ، وفي الثاني لإتباعه الأول». يعني أنهم يأتون بالتنوين بدلا من حرف الإطلاق الذي للترنم ؛ كقوله : [الرجز]

٥٠٤٦ ـ يا صاح ، ما هاج الدّموع الذّرّفن (٢)

وفي انتصاب «قوارير» وجهان :

أظهرهما : أنه خبر «كان».

والثاني : أنها حال و «كان» تامة ، أي كونت فكانت.

قال أبو البقاء : «وحسن التكرير لما اتصل به من بيان أصلها ، ولو كان التكرير لم يحسن أن يكون الأول رأس آية لشدة اتصال الصفة بالموصوف».

وقرأ الأعمش (٣) : «قوارير» بالرفع ، على إضمار مبتدأ ، أي : هي قوارير ، و «من فضّة» صفة ل «قوارير» ، والمعنى : في صفاء القوارير ، وبياض الفضة ، فصفاؤها صفاء الزجاج وهي من فضة.

__________________

(١) آية ٤٤.

(٢) الرجز للعجاج ينظر ديوانه ٢ / ٢١٩ ، وتخليص الشواهد ص ٤٧ ، وخزانة الأدب ٣ / ٤٤٣ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٥١ ، والكتاب ٤ / ٢٠٧ ، والمقاصد النحوية ١ / ٢٦ ، والإيضاح ص ١٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٨٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٥.

٣٤

فصل في وصف تربة الجنة

روي أن أرض الجنة من فضة ، والأواني تتخذ من تربة الأرض التي منها ، ذكره ابن عباس رضي الله عنهما ، وقال : ليس في الجنة شيء إلا وقد أعطيتم في الدنيا شبهه إلا قوارير من فضة.

قال ابن الخطيب (١) : ومعنى «كانت» هو من يكون ، من قوله : (فَيَكُونُ) [النحل: ٤٠] أي : فتكونت قوارير بتكوين الله ـ تعالى ـ تفخيما لتلك الخلقة العظيمة العجيبة الشأن ، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين ، ثم قال : فإن قيل : كيف تكون هذه الأكواب من فضة ومن قوارير؟.

فالجواب من وجوه :

أحدها : أن أصل القوارير في الدنيا الرّمل ، وأصل قوارير الجنة هو فضة الجنة ، فكما أن الله ـ تعالى ـ قادر على أن يقلب الرمل الكثيف زجاجة صافية ، فكذلك قادر على أن يقلب فضة الجنة قارورة لطيفة ، فالغرض من ذكر هذه الآية التنبيه على أن نسبة قارورة الجنة إلى قارورة الدنيا كنسبة الفضة إلى الرمل ، فكما أنه لا نسبة بين هذين الأصلين فكذا بين القارورتين.

وثانيها : ما تقدم من قول ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء ، أي : أنها جامعة بين صفاء الزجاج وشفافيته وبين نقاء الفضة وشرفها (٢).

وثالثها : أنه ليس المراد بالقوارير الزجاج ، بل العرب تسمي ما استدار من الأواني التي تجعل فيها الأشربة مما رق وصفا قارورة ، فالمعنى : وأكواب من فضة مستديرة صافية.

قوله : (تَقْدِيراً) صفة ل «قوارير» ، والواو في «قدّروها» فيها وجهان :

أحدهما : أنها عطف عليهم ، ومعنى تقديرهم إياها أنهم قدروها في أنفسهم أن تكون على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم ، فجاءت كما قدروا.

والثاني : أن الواو للطائفين للدلالة عليهم في قوله تعالى : «ويطاف» ، والمعنى : أنهم قدروا شرابها على قدر ريّ الشارب ، وهذا ألذ الشراب لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ، ولا يعجز. قاله الزمخشري.

وجوز أبو البقاء : أن تكون الجملة مستأنفة.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٢٢٠.

(٢) في أ : ونقائها.

٣٥

قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : أتوا بها على قدر ريّهم بغير زيادة ولا نقصان (١) ، قال الكلبي : وذلك ألذّ وأشهى ، والمعنى : قدرتها الملائكة التي تطوف عليهم (٢) ، وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قدروها على ملء الكف لا يزيد ولا ينقص حتى لا تؤذيهم بثقل ، أو بإفراط صغر (٣).

وقرأ علي ، وابن (٤) عباس ، والسلمي ، والشعبي ، وزيد بن علي ، وعبيد بن عمير ، وأبو عمرو في رواية الأصمعي : «قدّروها» بضم القاف وكسر الدال مبنيا للمفعول أي : جعلت لهم على قدر إرادتهم.

وجعله الفارسي من باب المقلوب ، قال : كان اللفظ قدروا عليها ، وفي المعنى قلب ؛ لأن حقيقة المعنى أن يقال : قدرت عليهم ، فهي مثل قوله تعالى : (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) [القصص : ٧٦] ، ومثل قول العرب : إذا طلعت الجوزاء ، ألقى العود على الحرباء.

قال الزمخشري : ووجهه أن يكون من قدر منقولا ، تقول : قدرت الشيء وقدّرنيه فلان : إذا جعلك قادرا له ، ومعناه : جعلوا قادرين لها كما شاءوا ، وأطلق لهم أن يقدروا على حسب ما اشتهوا.

وقال أبو حاتم : قدرت الأواني على قدر ريهم ما لم يسمّ فاعله ، فحذف الري فصارت الواو مكان الهاء والميم ، لما حذف المضاف مما قبلها ، وصارت الواو مفعول ما لم يسم فاعله ، واتصل ضمير المفعول الثاني في تقدير النصب بالفعل بعد الواو التي تحولت من الهاء والميم حتى أقيمت مقام الفاعل.

وفي هذا التخريج تكلف مع عجرفة ألفاظه.

وقال أبو حيان (٥) : والأقرب في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون الأصل : قدر ريهم منها تقديرا ، فحذف المضاف وهو الري ، وأقيم الضمير بنفسه ، فصار قدروها ، فلم يكن فيه إلا حذف مضاف ، واتساع في الفعل.

قال شهاب الدين (٦) : وهذا منتزع من تفسير كلام أبي حاتم.

وقال القرطبي (٧) : وقال المهدوي : من قرأها «قدروها» فهو راجع إلى معنى القراءة

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٦٧) عن مجاهد والحسن. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٨٧) من طريق مجاهد عن ابن عباس وعزاه إلى الفريابي.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٩٢).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤١٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٨٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٥.

(٥) البحر المحيط ٨ / ٣٩٨.

(٦) الدر المصون ٦ / ٤٤٥.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٩٢.

٣٦

الأخرى ، وكأن الأصل : قدروا عليها ، فحذف حرف الجر ، والمعنى : قدرت عليهم ؛ وأنشد سيبويه البيت : [البسيط]

٥٠٤٧ ـ آليت حبّ العراق الدّهر آكله

والحبّ يأكله في القرية السّوس (١)

وذهب إلى أن المعنى : على حبّ العراق ، وقيل : هذا التقدير هو أن الأقداح تطير فتغترف بمقدار شهوة الشّارب ، وذلك قوله تعالى : (قَدَّرُوها تَقْدِيراً).

أي : لا يفضل عن الري ولا ينقص منه ، فقد ألهمت الأقداح معرفة مقدار ري المشتهي حتى تغترف بذلك المقدار. ذكر ذلك الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول».

قوله : (وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً). وهي الخمر في الإناء (كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً) ، «ان» صلة ، أي : مزاجها زنجبيل ، أو كان في حكم الله زنجبيلا ، وكانت العرب يستلذّون من الشراب ما يمزج بالزنجبيل لطيب رائحته ؛ لأنه يحذو اللسان ، ويهضم المأكول ، ويحدث في المشروب ضربا من اللّذع ، فرغبوا في نعيم الآخرة بما اعتقدوه نهاية النعمة والطيب.

والزنجبيل : نبت معروف ؛ وسميت الكأس بذلك ؛ لوجود طعم الزنجبيل فيها ؛ وأنشد الزمخشري للأعشى : [المتقارب]

٥٠٤٨ ـ كأنّ القرنفل والزّنجبي

ل باتا بفيها وأريا مشورا (٢)

وأنشد للمسيب بن علس يصف ثغر امرأة : [الكامل]

٥٠٤٩ أ ـ وكأنّ طعم الزّنجبيل به

إذ ذقته وسلافة الخمر (٣)

ويروى : وسلافة الكرم.

وقال مجاهد : «الزنجبيل» اسم للعين التي منها مزاج شراب الأبرار ، وكذا قال قتادة (٤) ، وقيل : هي عين في الجنة يوجد فيها طعم الزنجبيل.

والمعنى : كأن فيها ، وتكون قد عطفت «رأيت» الثاني على الأول ، ويكون فعل الجواب محذوفا ، ويكون فعل الجواب المحذوف هو الناصب لقوله تعالى : (نَعِيماً) ، والتقدير : إذا صدر منك رؤية ؛ ثم صدر منك رؤية أخرى رأيت نعيما وملكا فرأيت هذا هو الجواب.

__________________

(١) تقدم.

(٢) رواية البيت كما في ديوان الأعشى :

كأن جنيا من الزنجبي

ل بات بفيها وأريا مشورا

ينظر ديوان الأعشى ص ٨٥ ، والكشاف ٤ / ٦٧٢ ، واللسان (زنجبيل) ، ومجمع البيان ٦ / ٣٨٥ ، ١٠ / ٦٢١ ، والقرطبي ١٩ / ٩٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٦.

(٣) ينظر الكشاف ٤ / ٦٧٢ ، والقرطبي ١٩ / ٩٢ ، والبحر ٨ / ٣٨٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٦.

(٤) ذكره الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٦٨) والماوردي (٦ / ١٧٠) والقرطبي (١٩ / ٩٢).

٣٧

فصل في بيان الخطاب لمن؟!

هذا الخطاب قيل : للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : عامّ ، والنعيم : ما يتنعم به.

والملك الكبير : قال سفيان الثوري : بلغنا أن الملك الكبير ، تسليم الملائكة عليهم.

وقيل : كون التيجان على رءوسهم كما يكون على رءوس الملوك.

وقال السديّ ومقاتل : هو استئذان الملائكة عليهم (١).

وقال الحكيم الترمذي : هو ملك التكوين إذا أراد شيئا قال له : كن.

وفي الخبر : أن الملك الكبير هو أن أدناهم منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألفي عام ، يرى أقصاه كما يرى أدناه ، وأن أفضلهم منزلة من ينظر في وجه ربّه ـ تعالى ـ كل يوم مرتين.

و «عينا» فيها من الوجوه ما تقدم ، قوله «سلسبيلا» السلسبيل : ما سهل انحداره في الحلق ، قال الزجاج : هو في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة ، وقال الزمخشري : يقال : شراب سلسل وسلسال وسلسبيل ، وقد زيدت الباء في التركيب حتى صارت الكلمة خماسية ، ودلت على غاية السلاسة.

قال أبو حيان (٢) : فإن كان عنى أنه زيدت حقيقة فليس بجيد ؛ لأن الباء ليست من حروف الزيادة المعهودة في علم النحو ، وإن عنى أنها حرف جاء في سنخ الكلمة ، وليس في سلسل ولا سلسال ؛ فيصح ، ويكون مما اتفق معناه وكان مختلفا في المادة.

وقال ابن الأعرابي : لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن.

وقال مكي : هو اسم أعجمي نكرة فلذلك صرف. ووزن سلسبيل فعلليل مثل دردبيس(٣).

وقيل : فعفليل ؛ لأن الفاء مكررة.

وقرأ طلحة سلسبيل دون تنوين ومنعت من الصرف للعلمية والتأنيث ؛ لأنها اسم لعين بعينها ، وعلى هذا فكيف صرفت في قراءة العامة؟ فيجاب أنها سميت بذلك لا على

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٩٤).

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٩٠.

(٣) الدّردبيس : خرزة سوداء كأن سوادها لون كبد إذا رفعتها واستشففتها رأيتها تشفّ مثل لون العنبة الحمراء تتحبّب بها المرأة إلى زوجها انظر اللسان (دربس).

٣٨

جهة العلمية بل على جهة الإطلاق المجرد ، أو يكون من باب تنوين «سلاسل» و «قوارير» وقد تقدم.

وأغرب ما قيل في هذا الحرف : أنه مركب من كلمتين من فعل أمر وفاعل مستتر ومفعول ، والتقدير سل أنت سبيلا إليها.

قال الزمخشري : وقد عزوا إلى علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أن معناه سل سبيلا إليها ، قال : وهذا غير مستقيم على ظاهره إلا أن يراد أن جملة قول القائل : سل سبيلا جعلت علما للعين ؛ كما قيل : تأبط شرا ، وذرى حبّا ، وسميت بذلك ؛ لأنه لا يشرب منها إلّا من سأل سبيلا إليها بالعمل الصالح ، وهو مع استقامته في العربية تكلف وابتداع وعزوه إلى مثل علي أبدع وفي شعر بعض المحدثين :

٥٠٤٩ ـ سل سبيلا فيها إلى راحة النّف

س براح كأنّها سلسبيل (١)

قال أبو حيان (٢) بعد تعجبه من هذا القول : وأعجب من ذلك توجيه الزمخشري له واشتغاله بحكايته.

قال شهاب الدين (٣) : ولو تأمل ما قاله الزمخشري لم يلمه ولم يتعجب منه ؛ لأن الزمخشري هو الذي شنع على هذا القول غاية التشنيع.

وقال أبو البقاء : والسلسبيل كلمة واحدة. وفي قوله كلمة واحدة تلويح وإيماء إلى هذا الوجه المذكور.

قوله : «ثمّ» هذا ظرف مكان ، وهو مختص بالبعد ، وفي انتصابه وجهان :

أظهرهما : أنه منصوب على الظرف ، ومفعول الرؤية غير مذكور ؛ لأنّ القصد : وإذا صدرت منك رؤية في ذلك المكان رأيت كيت وكيت ، ف «رأيت» الثاني جواب ل «إذا».

وقال الفراء : «ثمّ» مفعولة به ل «رأيت» ، والمعنى : وإذا رأيت ما ثم ، وصلح إضمار «ما» ، كما قال (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] ، يريد : ما بينكم.

قال الزجاج : لا يجوز إضمار «ما».

وقال الفراء : «وإذا رأيت» تقديره : ما ثمّ ، ف «ما» مفعول ، وحذفت «ما» ، وقامت «ثمّ» مقام «ما».

وقال الزمخشري تابعا لأبي إسحاق : ومن قال : معناه : ما ثمّ ، فقد أخطأ ؛ لأن «ثمّ» صلة ل «ما» ولا يجوز إسقاط الموصول ، وترك الصّلة.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٧٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٤٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٩٠.

(٣) ينظر الدر المصون ٦ / ٤٤٦.

٣٩

وفي هذا نظر ؛ لأن الكوفيين يجوزون مثل هذا ، واستدلوا عليه بأبيات وآيات تقدم الكلام عليها مستوفى في أوائل هذا الموضوع.

وقال ابن عطية : و «ثم» ظرف والعامل فيه «رأيت» أو معناه ، والتقدير : رأيت ما ثم فحذفت ما.

قال أبو حيان (١) : وهذا فاسد ؛ لأنه من حيث جعله معمولا ل «رأيت» لا يكون صلة ل «ما» ؛ لأن العامل فيه إذ ذاك محذوف : أي ما استقر ثم.

قال شهاب الدّين (٢) : ويمكن أن يجاب عنه ، بأن قوله أو معناه هو القول بأنه صلة لموصول فيكونان وجهين لا وجها واحدا حتى يلزمه الفساد ، ولو لا ذلك لكان قوله أو معناه لا معنى له ، ويعني بمعناه أي معنى الفعل من حيث الجملة ، وهو الاستقرار المقدر.

والعامة على فتح الثاء من «ثمّ» كما تقدم.

وقرأ حميد الأعرج بضمها ، على أنها العاطفة ، وتكون قد عطفت «رأيت» الثاني على الأول ويكون فعل الجواب محذوفا ، ويكون فعل الجواب المحذوف هو الناصب لقوله «نعيما» والتقدير : وإذا صدرت منك رؤية ثم صدرت رؤية أخرى رأيت نعيما وملكا ؛ فرأيت هذا هو الجواب.

فصل

واعلم أنه تعالى ذكر بعد ذلك من يكون خادما في تلك المجالس.

فقال (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ) وقد تقدم تفسير هذين الوصفين في سورة الواقعة والأقرب أن المراد به دوام كونهم على تلك الصورة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها ، وذلك يتضمن دوام حياتهم وحسنهم ومواظبتهم على الخدمة الحسنة الموافقة ، قال الفراء يقال مخلدون مسورون ويقال مقرطون ، وروى نفطويه عن ابن الأعرابي مخلدون محلون.

والصفة الثالثة : قوله تعالى (إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً) وفي كيفية التشبيه وجوه:

أحدها : شبهوا في حسنهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في مجالسهم ومنازلهم عند اشتغالهم بأنواع الخدمة باللؤلؤ المنثور ولو كان صفا لشبهوا باللؤلؤ المنظوم ؛ ألا ترى أنه تعالى قال (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) فإذا كانوا يطوفون كانوا متناثرين.

وثانيها : أنهم شبهوا باللؤلؤ الرطب إذا انتثر من صدفه لأنه أحسن وأكثر ماء.

__________________

(١) ينظر البحر المحيط ٨ / ٣٩١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٤٧.

٤٠