اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قالت الحكماء : من كان اليوم على حاله ، فليعلم أن تدبيره إلى سواه.

وقيل لأبي بكر الوراق : ما الدليل على أنّ لهذا العالم صانعا؟ فقال : تحويل الحالات ، وعجز القوّة ، وضعف الأركان وقهر النية ونسخ العزيمة.

قوله : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ). يعني : أي شيء يمنعهم من الإيمان بعد ما وضّحت لهم الآيات والدّلالات ، وهذا استفهام إنكار.

وقيل : تعجب أي : اعجبوا منهم في ترك الإيمان مع هذه الآيات.

وقوله تعالى : (لا يُؤْمِنُونَ) حال.

قال ابن الخطيب (١) : فما لهم لا يؤمنون بالبعث والقيامة ، وهو استفهام إنكار ، وإنّما يحسن عند ظهور الحجّة ، وذلك أنه ـ تعالى ـ أقسم بتغييرات واقعة في الأفلاك والعناصر ، فإن الشفق حالة مخالفة لما قبلها ، وهو ضوء النهار ، ولما بعدها وهو ظلمة الليل ، وكذا قوله : (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) فإنه يدل على حدوث ظلمة بعد نور ، وعلى تغييرات أحوال الحيوانات من اليقظة إلى النّوم ، وكذا قوله تعالى : (وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) فإنه يدل على حصول كمال القمر بعد نقصانه ، ثم إنه أقسم ـ تعالى ـ بهذه الأحوال المتغيرة على تغيير أحوال الخلق ، وهذا يدل قطعا على صحة القول بالبعث ، لأن القادر على تغيير الأحوال العلوية والسفلية من حال إلى حال بحسب المصالح ، لا بد وأن يكون قادرا ، ومن كان كذلك لا محالة قادر على البعث والقيامة ، فلما كانت هذه الآية كالدلالة العقلية القاطعة بصحة البعث ، لا جرم قال تعالى على سبيل الاستبعاد : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

فصل في الكلام على الآية

قال القاضي (٢) : «لا يجوز أن يقول الحكيم لمن كان عاجزا عن الإيمان : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ، وهذا يدل على كونهم قادرين ، وهذا يقتضي أن تكون الاستطاعة قبل الفعل ، وأن يكونوا موجدين لأفعالهم ، وأن لا يكون تعالى خالقا للكفر فيهم ، فهذه الآية من المحكمات التي لا احتمال فيها ألبتة». وجوابه تقدم.

قوله : (وَإِذا قُرِئَ) شرط ، جوابه (لا يَسْجُدُونَ) ، وهذه الجملة الشرطية في محل نصب على الحال نسقا على ما قبلها ، أي : فما لهم إذا قرىء عليهم القرآن لا يسجدون ، أي : لا يصلون قاله ابن عباس ، وعطاء ، والكلبي ، ومقاتل [وقال أبو مسلم : المراد الخضوع والاستكانة.

وقيل : المراد نفس السجود لما روى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سجد فيها (٣).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٠١.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) تقدم.

٢٤١

وقال مالك : إنها ليست من عزائم السجود ؛ لأن المعنى لا يدعون ولا يطيعون](١).

قوله تعالى : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ). العامّة : على ضمّ الياء من «يكذبون» وفتح الكاف وتشديد الذّال.

والضحاك وابن أبي عبلة (٢) : بالفتح والإسكان والتخفيف [وتقدمت هاتان القراءتان أول البقرة](٣).

والمعنى : يكذّبون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به.

قال مقاتل : نزلت في بني عمرو بن عمير ، وكانوا أربعة ، فأسلم اثنان منهم (٤).

وقيل : هو في جميع الكفار.

قوله : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ). هذه هي قراءة العامة ، من أوعى يوعي ، أي : بما يضمرون في أنفسهم من التكذيب ، رواه الضحاك عن ابن عباس.

وقال مجاهد : يكتمون من أفعالهم (٥).

وقال ابن زيد : يجمعون من الأعمال الصالحة (٦) ، مأخوذ من الوعاء الذي يجمع فيه ، يقال : وعيت الزّاد والمتاع : إذا جعلته في الوعاء ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٥١٥١ ـ ألخير أبقى وإن طال الزّمان به

والشّرّ أخبث ما أوعيت من زاد (٧)

وقرأ أبو رجاء (٨) : «يعون» من «وعى يعي» ، يقال : وعاه إذا حفظه ، يقال : وعيت الحديث ، أعيه ، وعيا ، وأذن واعية ، وقد تقدم.

قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) ، أي : مؤلم في جهنّم على تكذيبهم وكفرهم ، أي: جعل ذلك بمنزلة البشارة.

قوله : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) : يجوز أن يكون متصلا ، وأن يكون منقطعا ، هذا إذا كانت الجملة من قوله : «لهم أجر» : مستأنفة أو حالية ، أمّا إذا كان الموصول مبتدأ والجملة خبره ، فالاستثناء ليس من قبيل استثناء المفردات ، ويكون من قسم المنقطع ، أي : لكن الذين آمنوا لهم كيت وكيت.

__________________

(١) سقط من ب.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٥٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٤٠ ، والدر المصون ٦ / ٥٠١.

(٣) سقط من ب.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٨٥).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥١٧) عن مجاهد.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥١٧) عن ابن زيد.

(٧) البيت لعبيد بن الأبرص ينظر القرطبي ١٩ / ١٨٥ ، واللسان (وعي).

(٨) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٤١ ، والدر المصون ٦ / ٥٠١.

٢٤٢

وتقدم معنى الممنون في : «حم» السجدة ، وأنّ معناه : غير منقوص ولا مقطوع ، يقال: مننت الحبل : إذا قطعته.

وسأل نافع بن الأزرق ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ عن قوله : (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) فقال : غير مقطوع ، فقال : هل تعرف ذلك العرب؟ قال : نعم ، قد عرفه أخو يشكر ؛ حيث يقول : [الخفيف]

٥١٥٢ ـ فترى خلفهنّ من سرعة الرّج

ع منينا كأنّه أهباء (١)

قال المبرد : المنين : الغبار ؛ لأنه يقطعه وراءها ، وكل ضعيف منين وممنون.

وقال بعضهم : ليس هنا استثناء ، وإنما هو بمعنى الواو ، كأنه قال : والذين آمنوا.

وقد مضى القول فيه في سورة البقرة ، والله تعالى أعلم.

روى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) أعاذه الله ـ تعالى ـ أن يعطيه كتابه وراء ظهره» (٢). وحسبنا الله ونعم الوكيل.

__________________

(١) ينظر القرطبي ١٩ / ١٨٦.

(٢) تقدم تخريجه.

٢٤٣

سورة البروج

مكية ، وهي اثنان وعشرون آية ، ومائة وتسع كلمات ، وأربعمائة وثمانية وخمسون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(٩)

قوله تعالى : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ). هذا قسم أقسم الله تعالى به ، وفي البروج أقوال :

قيل : والسّماء ذات النجوم. قاله الحسن ومجاهد وقتادة والضحاك (١). وقال ابن عباس وعكرمة ومجاهد : هي قصور في السماء (٢).

وقال مجاهد أيضا : هي البروج الاثنا عشر (٣) ، وهو قول أبي عبيدة ويحيى بن سلام.

وقيل : هي منازل القمر.

قوله : (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) : وهو يوم القيامة ، وهذا قسم آخر ، قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : وعد أهل السماء وأهل الأرض أن يجتمعوا فيه (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥١٨) ، عن مجاهد وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٥٢) ، عن مجاهد وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

وذكره أيضا عن قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥١٨) ، عن ابن عباس.

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٤٠) ، والقرطبي (١٩ / ١٨٧).

(٤) ينظر المصدر السابق.

٢٤٤

قال القفال (١) : يحتمل أن يكون المراد : اليوم الموعود لانشقاق السماء وبنائها ، وبطلان بروجها ، وقوله تعالى : «الموعود» أي : الموعود به.

وقال مكيّ : «الموعود» : نعت لليوم ، وثمّ ضمير محذوف به تتم الصفة ، تقديره : الموعود به ، ولو لا ذلك ما صحّت الصفة ؛ إذ لا ضمير يعود على الموصوف من صفته. انتهى.

وكأنه يعني أن اليوم موعود به غيره من الناس ، فلا بدّ من ضمير يرجع إليه ؛ لأنه موعود به ، وهذا لا يحتاج إليه ، إذ يجوز أن يكون قد تجوز بأن اليوم قد وعد بكذا ، فيصح ذلك ، ويكون فيه ضمير عائد عليه.

قوله : (وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ). قال علي ، وابن عباس ، وابن عمر ، وأبو هريرة ـ رضي الله عنهم ـ : الشاهد : يوم الجمعة ، والمشهود : يوم عرفة (٢) ، وهو قول الحسن ، ورواه أبو هريرة مرفوعا ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الموعود : يوم القيامة ، واليوم المشهود : يوم عرفة ، والشّاهد : يوم الجمعة». خرّجه الترمذي في «جامعه» (٣).

قال القشيري : فيوم الجمعة يشهد على عامله بما يعمل فيه.

قال القرطبيّ (٤) : وكذلك سائر الأيام والليالي ، لما روى أبو نعيم الحافظ عن معاوية ابن قرة عن معقل بن يسار عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ليس من يوم يأتي على العبد إلا ينادى فيه : يا ابن آدم أنا خلق جديد ، وأنا فيما تعمل عليك شهيد ، فاعمل فيّ خيرا أشهد لك فيه غدا ، فإنّي لو قد مضيت لم ترني أبدا ، ويقول اللّيل مثل ذلك» (٥). حديث غريب.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣١ / ١٠٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٢٠) ، عن أبي هريرة وابن عباس وعلي بن أبي طالب وقتادة وابن زيد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٥٢) ، عن ابن عباس وعزاه إلى ابن مردويه.

وذكره عن الحسن وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) أخرجه الترمذي (٣٣٣٩) ، والطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٢٠) ، من طريق موسى بن عبيدة عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة مرفوعا وقال الترمذي : هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث ضعفه يحيى بن سعيد وغيره من قبل حفظه.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٥٢) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٨٧.

(٥) أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (٢ / ٣٠٣) ، وقال غريب وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٤٣١٦١) ، وعزاه إلى أبي القاسم حمزة بن يوسف السهمي في «كتاب آداب الدين» والرافعي عن معقل بن يسار.

٢٤٥

وحكى القشيريّ عن ابن عمر وابن الزّبير : أن الشاهد يوم الأضحى.

وقال سعيد بن المسيب (١) الشاهد يوم التروية ، والمشهود : يوم عرفة.

[وروي عن علي ـ رضي الله عنه ـ : الشاهد يوم عرفة ، والمشهود يوم النحر](٢) وعن ابن عباس والحسين بن علي ـ رضي الله عنهم ـ : المشهود : يوم القيامة ، لقوله تعالى : (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ) [هود : ١٠٣] وعلى هذا فقيل : الشاهد هو الله تعالى ، وهو مروي عن ابن عباس ، والحسن ، وسعيد بن جبير لقوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) [النساء : ٧٩] ، وقوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) [الأنعام : ١٩].

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ : الشاهد : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) [الأحزاب : ٤٥] ، وقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١] وقوله تعالى : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(٣) [البقرة: ١٤٣].

وقيل : الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يشهدون على أممهم ؛ لقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ).

وقيل : آدم عليه الصلاة والسلام.

وقيل : عيسى ابن مريم ـ عليه الصلاة والسلام ـ لقوله تعالى : (وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ) [المائدة : ١١٧] والمشهود أمته.

وعن ابن عباس ومحمد بن كعب : الشاهد : الإنسان ، لقوله تعالى : (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)(٤) [النور : ٢٤].

وقال الحسين بن الفضل : الشاهد هذه الأمة ، لقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ)(٥) [البقرة : ١٤٣] ، والمشهود بنو آدم.

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٨٨).

(٢) سقط من : ب.

(٣) أثر الحسين بن علي أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٢١) ، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٣ ـ ٣٩) ، وقال : رواه الطبراني في «الصغير ، والأوسط» وفيه يحيى بن عبد الحميد الحماني وهو ضعيف وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٥٣) ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

أثر ابن عباس أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٢١) ، والبزار كما في «المجمع» (٧ / ١٣٩) ، وقال ورجاله ثقات.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٥٣) ، وعزاه إلى الطبراني في الأوسط وعبد بن حميد وابن مردويه وابن عساكر من طرق عنه.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٢٢) ، عن مجاهد وعكرمة وقتادة. وذكره الماوردي (٦ / ٢٤١) ، عن ابن عباس.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٨٨).

٢٤٦

قوله تعالى : (قُتِلَ). هذا جواب القسم على المختار ، وإنما حذفت اللام ، والأصل : «لقتل» ؛ كقوله : [الطويل]

٥١٥٣ ـ حلفت لها بالله حلفة فاجر

لناموا فما إن من حديث ولا صالي (١)

وإنما حسن حذفها للطول كما سيأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ في قوله : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : ٩].

وقيل : تقديره : لقد قتل ، فحذف «اللام وقد» ، وعلى هذا فقوله «قتل» خبر ، لا دعاء.

وقيل : هي دعاء ، فلا يكون جوابا.

وفي الجواب حينئذ أوجه :

أحدها : أنه قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا) [البروج : ١٠].

الثاني : قوله : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) قاله المبرد.

الثالث : أنه مقدر ، فقال الزمخشري ولم يذكر غيره (٢) : هو محذوف يدل عليه قوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) كأنّه قيل : أقسم بهذه الأشياء أن كفار قريش ملعونون ، كما لعن أصحاب الأخدود ثم قال : «قتل» دعاء عليهم كقوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧].

وقيل : التقدير : لتبعثن.

وقيل : فيه تقديم وتأخير ، قتل أصحاب الأخدود والسّماء ذات البروج ، قاله أبو حاتم.

قال ابن الأنباري : وهذا غلط ؛ لأنه لا يجوز لقائل أن يقول : والله قام زيد ، على معنى : قام زيد والله.

وقرأ الحسن (٣) وابن مقسم : «قتّل» بتشديد التاء مبالغة أو تكثيرا.

قوله : (أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) ، أي : لعن أصحاب الأخدود.

قال ابن عباس : كل شيء في القرآن «قتل» فهو : لعن ، والأخدود الشقّ العظيم المستطيل الغائص في الأرض (٤).

قال الزمخشريّ (٥) : والأخدود : الخدّ في الأرض وهو : الشق ، ونحوهما بناء ومعنى : الخق والأخقوق ، ومنه : «فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان» انتهى.

فالخدّ : في الأصل مصدر ، وقد يقع على المفعول ، وهو الشق نفسه ، وأمّا الأخدود فاسم له فقط.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٢٩.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤٤٣ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٢.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٨٨).

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٣٠.

٢٤٧

وقال الراغب : الخد والأخدود : شق في الأرض مستطيل غائص ، وأصل ذلك من خدّي الإنسان ، وهما ما اكتنفا الأنف عن اليمين والشمال ، فالخدّ : يستعار للأرض ونحوها كاستعارة الوجه ، وتخدد اللحم بزواله عن وجه الجسم ، ثم يعبر بالمخدود عن المهزول والخداد : وسم في الخد.

وقال غيره : سمي الخدّ خدّا ؛ لأن الدموع تخد فيه أخاديد ، أي : مجاري ، وجمع الأخدود: أخاديد ، والمخدّة ؛ لأن الخد يوضع عليها ، ويقال : تخدّد وجه [الرجل](١) إذا صارت فيه أخاديد من جراح.

فصل في نزول السورة

هذه السورة نزلت في تثبيت المؤمنين ، وتصبيرهم على أذى المشركين ، وتذكيرهم بما جرى على من تقدمهم من التعذيب على الإيمان حتى يقتدوا بهم ، فيعلموا أنّ كفارهم عند الله ـ تعالى ـ بمنزلة الأمم السابقة.

وكان من حديث أصحاب الأخدود : أنه كان لبعض الملوك ساحر ، فلما كبر ضم إليه غلاما ليعلمه السحر ، وكان في طريق الغلام راهب ، فمال قلب الغلام إلى ذلك الراهب ، ثم رأى في طريقه ذات يوم حيّة قد حبست الناس ، فقال : اللهم إن كان هذا الراهب أحبّ إليك من الساحر فقوّني على قتل هذه الحيّة ، وأخذ حجرا فرماها به فقتلها ، فأعرض الغلام عن تعليم السحر ، واشتغل بطريقة الراهب ، ثم صار إلى حيث يبرىء الأكمه والأبرص ، ويشفي من الأذى ، فاتفق أن عمي جليس الملك ، وأتاه بهدايا كثيرة ، وقال له : إن أنت شفيتني ، فهي لك أجمع ، فقال الغلام : إني لا أشفي أحدا ، إنما يشفي الله تعالى ، فإن آمنت بالله ـ تعالى ـ دعوته شفاك ، فآمن بالله ، فشفاه الله ، فأبرأه فلما رآه الملك ، قال : من ردّ عليك بصرك؟ قال : ربّي ، فغضب الملك وقال : هل لك ربّ غيري؟ قال : ربي وربّك الله ، فعذبه حتى دلّ على الغلام ، فجيء بالغلام ، فقال له الملك : يا بني قد بلغ من سحرك ما يبرىء الأكمه والأبرص ، وتفعل وتفعل؟ فقال : إني لا أشفي أحدا ، إنّما يشفي الله تعالى ، فأخذه ، فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب ، فجيء بالراهب ، فقيل له : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه ، فشقّه حتى وقع شقاه ، ثم جيء بالغلام ، فقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى ، فدفعه إلى نفر من أصحابه ، فقال : اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا ، فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه من ذروته ، فذهبوا به ، وصعدوا به الجبل ، فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل ، فسقطوا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟ قال : كفانيهم الله ، فدفعه إلى نفر من أصحابه ، وقال : احملوه في سفينة وتوغّلوا به في البحر ،

__________________

(١) في ب : الأرض.

٢٤٨

فإن رجع عن دينه وإلّا فأغرقوه ، فذهبوا به فقال : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فانكفأت بهم السفينة ، فغرقوا ، ونجا ، وجاء يمشي إلى الملك ، فقال له الملك : ما فعل أصحابك؟ قال : كفانيهم الله ، وقال للملك : إنك لست بقاتلي حتى تجمع الناس في صعيد واحد ، وتصلبني على جذع نخلة ، ثم تأخذ سهما من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ، ثم قل : بسم الله رب الغلام ، ثم ارم به واضرب ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، فجمع الناس في صعيد واحد ، وصلبه على جذع ، ثم أخذ سهما من كنانته ، فوضعه في القوس ، ثم قال : بسم الله رب الغلام ، ورماه به فوقع السهم في صدغه ، فوضع يده على صدغه ، فمات ، فقال الناس : آمنّا برب الغلام ، فقيل للملك : نزل بك ما كنت تحذر ، فأمر بأخاديد في أفواه السكك أوقدت فيها النيران ، وقال : من لم يرجع منهم طرحته فيها ، حتى جاءت امرأة ومعها صبي ، فتقاعست أن تقع فيها ، فقال لها الصبي : يا أمّاه ، اصبري ، فإنّك على الحق ، فصبرت على ذلك (١).

وفي رواية : أنّ الدابة التي حبست الناس كانت أسدا ، وأن الغلام دفن ، قيل : إنه خرج في زمن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وأصبعه على صدغه كما وضعها حين قتل (٢).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : أن النار ارتفعت من الأخدود ، فصارت فوق الملك وأصحابه أربعين ذراعا فأحرقتهم (٣).

وقال الضحاك : هم قوم من النصارى باليمن قبل مبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأربعين سنة ، أخذهم يوسف بن شراحيل بن تبع الحميري ، وكانوا نيّفا وثمانين رجلا ، وحفر لهم أخدودا ، وأحرقهم فيه (٤). حكاه الماورديّ. وروي غير ذلك.

قال مقاتل : أصحاب الأخدود ثلاثة : واحد بنجران ، والآخر : بالشّام ، والآخر : بفارس ، أما الذي بالشام فأنطنيانوس الرومي ، وأما الذي بفارس فبختنصّر ، والذي بأرض العرب يوسف بن ذي نواس ، فلم ينزل الله في الذي بفارس والشام قرآنا ، وأنزل قرآنا في الذي كان بنجران (٥).

قال الكلبي : هم نصارى نجران ، أخذوا بها قوما مؤمنين ، فخذوا لهم سبعة

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ٢٢٩٩ ـ ٢٣٠١) ، كتاب : الزهد والرقائق ، باب : بيان قصة أصحاب الأخدود والساحر والراهب والغلام حديث (٧٣ / ٣٠٠٥) ، والترمذي (٥ / ٤٠٧ ـ ٤٠٩) ، كتاب : التفسير ، باب : سورة البروج رقم (٣٣٤٠) ، والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٥١٠ ـ ٥١٢) ، عن صهيب.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٥٥) ، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وعبد بن حميد.

(٢) ينظر التخريج السابق والدر المنثور (٦ / ٥٥٦).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٨٩).

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٤٢).

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٩١).

٢٤٩

أخاديد ، كل أخدود أربعون ذراعا ، وعرضه اثنا عشر ذراعا ، ثم طرحوا فيه النفط ، والحطب ، ثم عرضوهم عليها فمن أبى قذفوه فيها (١).

فصل في المراد بأصحاب الأخدود

قال ابن الخطيب (٢) : يمكن أن يكون المراد بأصحاب الأخدود : القاتلين ، ويمكن أن يكون المراد بهم : المقتولين ، والمشهور أنّ المقتولين هم : المؤمنون.

وروي أن المقتولين هم الجبابرة ، روي أنهم لما ألقوا المؤمنين في النار عادت النار على الكفّار فأحرقتهم ، ونجّى الله ـ تعالى ـ المؤمنين منها سالمين ، وإلى هذا القول ذهب الربيع بن أنس ، والواحدي ، وتأولوا قوله تعالى : (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) [البروج : ١٠] أي : في الآخرة ، (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) في الدنيا ، فإن فسّرنا أصحاب الأخدود بالقاتلين ، فيكون قوله : (قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) دعاء عليهم ، أي : لعن أصحاب الأخدود ، كقوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) [عبس : ١٧] ، (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات : ١٠].

أو يكون المعنى : قتلوا بالنار كما أرادوا قتل المؤمنين بالنار عادت النار عليهم فقتلتهم.

وإن فسّرنا أصحاب الأخدود بالمقتولين كان المعنى أن المؤمنين قتلوا بالإحراق بالنار ، فيكون ذلك خبرا لا دعاء.

فصل في المقصود من هذه الآية

المقصود من هذه الآية : تثبيت قلوب المؤمنين بإخبارهم بما كان يلقاه من قبلهم من الشدائد ، وذكر لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلقون من أذى الكفار ، ليتأسّوا بهذا الغلام في صده على الأذى والصلب وبذله نفسه في إظهار دعوته ، ودخول الناس في الدين مع صغر سنه ، وكذلك صبر الراهب على التمسّك بالحق حتى نشر بالمنشار ، وكذلك أكثر الناس لما آمنوا بالله تعالى.

قوله : (النَّارِ). العامة : على جرها ، وفيها أوجه :

أحدها : أنه بدل من «الأخدود» بدل اشتمال ؛ لأن «الأخدود» مشتمل عليها ، وحينئذ فلا بد من الضمير.

فقال البصريون : مقدر ، تقديره : النار.

وقال الكوفيون : «أل» قائمة مقام الضمير ، تقديره : ناره ، ثم حذف الضمير ، وعوّض عنه «أل» [وتقدم البحث معه في ذلك](٣).

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١٠٨.

(٣) سقط من : ب.

٢٥٠

الثاني : أنّه بدل كل من كل ، ولا بد حينئذ من حذف مضاف ، تقديره : أخدود النار.

الثالث : أن التقدير : ذي النّار ؛ لأنّ الأخدود هو الشق في الأرض ، حكاه أبو البقاء(١).

وهذا يفهم أنّ النّار خفض بالإضافة لتلك الصفة المحذوفة ، فلما حذف المضاف قام المضاف إليه مقامه في الإعراب ، واتفق أن المحذوف كان مجرورا ، وقوله : إن الأخدود هو الشق ، تعليل بصحة كونه صاحب نار.

الرابع : أن النار خفض على الجوار ، نقله مكيّ عن الكوفيين.

وهذا يقتضي أن النار كانت مستحقة لغير الجر ، فعدل عنه إلى الجر للجوار ، والذي يقتضي الحال أنه عدل عن الرفع ، ويدل على ذلك أنه قد (٢) قرىء في الشاذ : «النّار» رفعا ، والرفع على أنه خبر ابتداء مضمر ، تقديره : هي النار وقيل : بل هي مرفوعة على الفاعلية تقديره قتلتهم ، أي : أحرقتهم ، والمراد حينئذ بأصحاب الأخدود : المؤمنون.

وقرأ العامة : «الوقود» بفتح الواو ، والحسن ، وأبو رجاء ، وأبو حيوة (٣) ، وعيسى : بضمها ، وتقدمت القراءتان في أول «البقرة».

قوله تعالى : (إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ). العامل في «إذ» إما : «قتل أصحاب» ، أي: قتلوا في هذا الوقت.

وقيل : اذكر ، مقدرا ، فيكون مفعولا به ، ومعنى قعودهم عليها أي : على ما يقرب منها كحافتها ؛ ومنه قول الأعشى : [الطويل]

٥١٥٤ ـ تشبّ لمقرورين يصطليانها

وبات على النّار النّدى والمحلق (٤)

وقال القرطبيّ (٥) : ومعنى «عليها» أي : «عندها» و «على» بمعنى : «عند» ، والضمير في «هم» يجوز أن يكون للمؤمنين ، وأن يكون للكافرين.

قوله : (وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ). أي : حضور ، يعني : الكفّار كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين ، فمن أبي ألقوه في النار.

وقيل : «على» بمعنى : «مع» أي : وهم مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود.

__________________

(١) ينظر : الإملاء ٢ / ٢٨٤.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٦٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٤٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٣.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) ينظر ديوانه ص ٢٧٥ ، والأغاني ١١١١٩ ، وخزانة الأدب ٧ / ١٤٤ ، ١٥٥ ، ١٥٧ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣٠٣ ، واللسان (حلق) ، ومغني اللبيب ١ / ١٠١ ، ١٤٣.

(٥) الجامع لأحكام القرآن (١٩ / ١٩٣).

٢٥١

قال ابن الخطيب (١) : و «على» بمعنى : «عند» كقوله تعالى : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ) [الشعراء : ١٤] أي : عندي.

[وقوله : «شهود» إما حضور قاسية قلوبهم لا يرقون على المؤمنين ، أو هم مجدون في ذلك لا يخطر لهم أنه حق.

أو يكون المراد وصف المؤمنين بالتصلّب في دينهم ، والثبات عليه ، وإن لم يؤثر فيهم حضور هؤلاء ، ولا استحيوا من مخالطتهم.

وإما أن يكون المراد بشهودهم شهادة الدعوة ؛ أي : يشهد بعضهم لبعض عند الملك بما فعلوا بالمؤمنين.

وإما أنهم متثبّتون في فعلهم متبصرون فيه كما يفعل الشهود ، ثم لا يرحمونهم مع ذلك](٢).

قوله : (وَما نَقَمُوا) ، العامة : على فتح القاف.

وزيد بن عليّ (٣) ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : بكسرها ، والفصيح : الفتح. وقد تقدم ذلك في سورة «المائدة» (٤) و «براءة» (٥).

والمعنى : ما نقم الملك وأصحابه من الذين حرّقوهم (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) إلّا أن صدقوا بالله ؛ كقوله : [الطويل]

٥١٥٥ ـ ولا عيب فيها غير شكلة عينها

كذاك عتاق الطّير شكل عيونها (٦)

وكقول ابن الرقيّات : [المنسرح]

٥١٥٦ ـ ما نقموا من بني أميّة إل

لا أنّهم يحلمون إن غضبوا (٧)

يعني أنهم جعلوا أحسن الأشياء قبيحا وتقدم الكلام على محل «أن» أيضا في سورة «المائدة».

وقوله تعالى : (أَنْ يُؤْمِنُوا) أتى بالفعل المستقبل تنبيها على أنّ التعذيب إنما كان لأجل إيمانهم في المستقبل ، ولو كفروا في المستقبل لم يعذبوا على ما مضى من الإيمان ، فكأنه قيل : أن يدوموا على إيمانهم ، و «العزيز» هو الغالب المنيع ، «الحميد» : المحمود في كل حال.

__________________

(١) الفخر الرازي ٣١ / ١٠٩.

(٢) سقط من : ب.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٣٢ ، والمحرر الوجيز ٨ / ٤٦٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٤٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٣.

(٤) آية ٥٩.

(٥) آية ٧٤.

(٦) ينظر اللسان (شكل) ، والبحر ٨ / ٤٤٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٣.

(٧) ينظر ديوانه ص ٤ ، وسمط اللآلىء ١ / ٢٩٥ ، ومجاز القرآن ١ / ١٧٠ ، والكشاف ٤ / ٧٣١ ، واللسان (نقم) ، والبحر ٨ / ٤٤٤ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٣.

٢٥٢

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) :لا شريك له فيهما.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) أي : عالم بأعمال خلقه لا يخفى عليه خافية ، وهذا وعد عظيم للمطيعين ، ووعيد للمجرمين.

قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ)(١٦)

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) : لما ذكر قصة أصحاب الأخدود ، أتبعها بما يتفرع من أحكام الثواب والعقاب ، فقال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي : حرقوهم بالنار ، والعرب يقولون : فتن فلان الدرهم والدينار إذا أدخله الكور لينظر جودته ، ودينار مفتون ، ويسمى الصائغ : فتّان ، وكذلك الشيطان ، وورق فتين ، أي : فضة محرقة ، ويقال للحرة : فتين ، وهي الأرض التي تركبها حجارة سوداء ، كأنما أحرقت حجارتها بالنار لسوادها.

وقال ابن الخطيب (١) : يحتمل أن يكون المراد بالذين فتنوا : كل من فعل ذلك ؛ لأن اللفظ والحكم عام.

وقوله تعالى : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) أي : من قبيح صنيعهم ، وهذا يدل على أنهم لو تابوا لخرجوا من هذا الوعيد ، وذلك يدلّ على القطع بأن الله يقبل التوبة ، فدلّ على أن توبة القاتل عمدا مقبولة.

قوله : (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ). هو خبر «إنّ الذين» دخلت الفاء لما تضمنه المبتدأ من معنى الشرط ، ولا يضر نسخه ب «إن» خلافا للأخفش.

وارتفاع «عذاب» يجوز على الفاعلية بالجار قبله لوقوعه خبرا ، وهو الأحسن ، وأن يرتفع بالابتداء ، والمعنى : لهم عذاب جهنّم لكفرهم.

وقيل : ولهم عذاب الحريق أي : ولهم في الآخرة عذاب الحريق ، والحريق : اسم من أسماء جهنم كالسعير ، والنّار دركات وأنواع ، ولها أسماء ، وكانوا يعذبون بالزّمهرير في جهنم ، ثم يعذبون بعذاب الحريق.

والأول : عذاب ببردها.

والثاني : عذاب بحرّها.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١١١.

٢٥٣

قوله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ). أي : هؤلاء الذين آمنوا بالله ، أي : صدقوا به وبرسوله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ) أي : بساتين.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لما ذكر تعالى وعيد المجرمين ، ذكر وعد المؤمنين ، (ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) أي : العظيم الذي لا فوز يشبهه ، وقال : «ذلك الفوز» ولم يقل : تلك ؛ لأن ذلك إشارة إلى إخبار الله تعالى بحضور الجنات ، وتلك إشارة إلى الجنّة الواحدة ، وإخبار الله ـ تعالى ـ يدل على كونه راضيا. والفوز الكبير : هو رضا الله تعالى ، لا دخول الجنة.

قوله : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) ؛ أي : أخذه الجبابرة والظلمة ، كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود : ١٠٢].

وقال المبرد : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ) جواب القسم وقد تقدم ذلك.

والبطش : هو الأخذ بعنف ، فإذا وصف بالشدة ، فقد تضاعف.

قوله : (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) ، يعني : الخلق عند أكثر العلماء يخلقهم ابتداء ، ثم يعيدهم عند البعث ، وروى عكرمة ، قال : عجب الكفّار من إحيائه تعالى الأموات (١).

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ يبدىء لهم عذاب الحريق في الدنيا ، ثم يعيده عليهم في الآخرة (٢) ، وهذا اختيار الطبري (٣).

قوله : (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) : «الغفور» : أي : الستور لعباده المؤمنين ، والودود : مبالغة في الوداد.

قال ابن عباس : هو المتودّد لعباده المؤمنين بالمغفرة (٤).

وعن المبرد : هو الذي لا ولد له ، وأنشد : [المتقارب]

٥١٥٧ ـ وأركب في الرّوع عريانة

ذلول الجناح لقاحا ودودا (٥)

أي : لا ولد لها تحنّ إليه.

وقيل : هو «فعول» بمعنى : «مفعول» ، كالرّكوب والحلوب أي : يوده عباده الصالحون.

قوله : (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) قرأ الكوفيون إلّا عاصما : «المجيد» بالجر.

فقيل : نعت للعرش.

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٩٥).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٢٩) ، وذكره الماوردي (٦ / ٢٤٣) ، والقرطبي (١٩ / ١٩٥) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٥٧).

(٣) ينظر : جامع البيان ١٢ / ٥٢٩.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٩٥).

(٥) ينظر القرطبي ١٩ / ١٩٤ ، والبحر ٨ / ٤٤٥ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٤ ، وفتح القدير ٥ / ٤١٣.

٢٥٤

وقيل : ل «ربك» في قوله : (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) ، قاله مكيّ. وقيل : لا يجوز أن يكون نعتا للعرش ؛ لأنه من صفات الله تعالى.

وقرأ الباقون (١) : بالرفع ، على أنه خبر بعد خبر.

وقيل : هو نعت ل «ذو» ، واستدلّ بعضهم على تعدد الخبر بهذه الآية ، ومن منع قال: لأنها في معنى خبر واحد ، أي : جامع بين هذه الأوصاف الشريفة ، أو كل منها خبر لمبتدأ مضمر.

والمجيد : هو النهاية في الكرم والفضل ، والله ـ تبارك وتعالى ـ هو المنعوت بذلك ، وإن كان قد وصف عرشه بالكريم في آخر المؤمنين.

ومعنى «ذو العرش» أي : ذو الملك والسلطان ، كما يقال : فلان على سرير ملكه وإن لم يكن على سرير ، ويقال : بلي عرشه ، أي : ذهب سلطانه.

قوله : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي : لا يمتنع عليه شيء يريده.

قال الزمخشريّ (٢) : «فعال» خبر مبتدأ محذوف ، وإنما قيل : «فعال» ؛ لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة.

وقال الفراء : هو رفع على التكرير والاستئناف ؛ لأنه نكرة محضة على وجه الإتباع لإعراب الغفور الودود.

وعن أبي السفر قال : دخل ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ يعودونه ، فقالوا : ألا نأتيك بطبيب؟ قال رضي الله عنه : قد رآني ، قالوا : فما قال لك؟ قال : قال : إنّي فعّال لما أريد (٣).

فصل في أن الآية دلت على خلق الأفعال

دلّت هذه الآية على خلق الأفعال ؛ لأنه تعالى يريد الإيمان ، فوجب أن يكون فاعلا للإيمان ، وإذا كان فاعلا للإيمان وجب أن يكون فاعلا للكفر ضرورة ؛ لأنه لا قائل بالفرق.

فصل في تفسير الآية

قال القفال (٤) : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي : يفعل ما يريد على ما يراه ، لا يعترض عليه ولا يغلبه غالب ، فيدخل أولياءه الجنة ، لا يمنعه مانع ، ويدخل أعداءه النار ، لا ينصرهم

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٧٨ ، والحجة ٦ / ٣٩٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٥٧ ، وحجة القراءات ٧٥٧.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٣٣.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي (١٩ / ١٩٥).

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١١٣.

٢٥٥

منه ناصر ، ويمهل العصاة على ما يشاء إلى أن يجازيهم ، ويعاجل بعضهم بالعقوبة إذا شاء ، فهو يفعل ما يريد.

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢٢)

قوله : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) ، أي : قد أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم [تسلية له بذلك](١).

قوله تعالى : (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ). يجوز أن يكون بدلا من الجنود ، وحينئذ فكان ينبغي أن يأتي البدل مطابقا للمبدل منه في الجمعية.

فقيل : هو على حذف مضاف ، أي : جنود فرعون.

وقيل : المراد فرعون وقومه ، واستغني بذكره عن ذكرهم ؛ لأنهم أتباعه.

ويجوز أن يكون منصوبا بإضمار : أعني ؛ لأنه لما لم يطابق ما قبله وجب قطعه.

والمعنى : أنك قد عرفت ما فعل بهم حين كذبوا بأنبيائهم ورسلهم.

قوله : (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) ، أي : هؤلاء الذين لا يؤمنون بك في تكذيب لك كدأب من قبلهم ، وإنما خصّ فرعون وثمود ؛ لأن ثمودا في بلاد العرب ، وقصتهم عندهم مشهورة ، وإن كانوا من المتقدّمين ، وأمر فرعون كان مشهورا عند أهل الكتاب وغيرهم ، وكان من المتأخرين في الهلاك فدلّ بهما على أمثالهما ، والله أعلم.

قوله : (وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) ، أي : يقدر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون ، والمحاط به المحصور.

وقيل : والله أعلم بهم فيجازيهم.

قوله : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) العامة : على تبعية مجيد ل «قرآن» ، وقرأ ابن (٢) السميفع بإضافة «قرآن» ل «مجيد».

فقيل : هو على حذف مضاف ، أي : قرآن رب مجيد.

كقوله : [الوافر]

٥١٥٨ ـ ولكنّ الغنى ربّ غفور (٣)

__________________

(١) في أ : سأله بذلك ثم بينهم.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٦٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٤٦ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٤.

(٣) عجز بيت لعروة بن الورد وصدره :

قليل عيبه ، والعيب جمّ

ينظر : ديوان عروة ٩٢ ، والعقد الفريد ٣ / ٢٩ ، والإنصاف ١ / ٤٨ ، والبحر ٨ / ٤٤٦ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٤.

٢٥٦

أي : غنى رب غفور.

وقيل : بل هو من إضافة الموصوف إلى صفته ، فتتحد القراءتان ، ولكن البصريين لا يجيزون هذا لئلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه ، ويتأولون ما ورد.

ومعنى «مجيد» أي : متناه في الشرف والكرم والبركة.

وقيل : «مجيد» أي : غير مخلوق.

قوله : (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) ، قرأ نافع (١) : برفع «محفوظ» : نعتا ل «قرآن».

والباقون : بالجر ؛ نعتا للوح.

والعامة : على فتح اللام ، وقرأ ابن السميفع (٢) وابن يعمر : بضمها.

قال الزمخشري (٣) : يعني : اللوح فوق السماء السابعة الذي فيه اللوح ، «محفوظ» من وصول الشياطين إليه.

وقال أبو الفضل : «اللّوح» : الهواء ، وتفسير الزمخشري بالمعنى ، وهو الذي أراده ابن خالويه.

قال القرطبي (٤) : (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي : مكتوب في لوح ، وهو محفوظ عند الله ـ تعالى ـ من وصول الشياطين إليه.

وقيل : هو أم الكتاب ، ومنه انتسخ القرآن والكتب.

وقال بعض المتكلمين : «اللوح» شيء يلوح للملائكة فيقرءونه.

وفي «الصّحاح» (٥) : لاح الشيء يلوح لوحا ولواحا : عطش ، وكل عظم عريض ، واللوح : الذي يكتب فيه ، واللّوح : بالضم ، الهواء بين السماء والأرض. وأنشد دريد : [الرجز]

٥١٥٩ ـ عقاب لوح الجوّ أعلى متنا

قال ابن الخطيب (٦) : قال ـ هاهنا ـ : (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) ، وقال في آية أخرى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) ، فيحتمل أن يكون الكتاب المكنون ، هو اللوح المحفوظ ، ثم كونه محفوظا يحتمل أن يكون المراد : محفوظا عن أن يمسّه إلا المطهّرون ، ويحتمل أن يكون كونه محفوظا عن اطلاع الخلق عليه سوى الملائكة

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٧٨ ، والحجة ٦ / ٣٩٦ ، وإعراب القراءات ٤ / ٤٥٨ ، وحجة القراءات ٧٥٧.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٣٣ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٦٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٤٤٦ ، والدر المصون ٦ / ٥٠٥.

(٣) الكشاف ٤ / ٧٣٣.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٩٦.

(٥) ينظر الصحاح ١ / ٤٠٢.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ١١٤.

٢٥٧

المقربين ، ويحتمل أن يكون المراد : ألّا يتغيّر ولا يتبدل. والله أعلم.

روى الثعلبي عن أبيّ ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) أعطاه الله تعالى بعدد كلّ يوم جمعة ، وكلّ يوم عرفة ، يكون في دار الدّنيا عشر حسنات» (١).

__________________

(١) تقدم تخريجه.

٢٥٨

سورة الطارق

مكيّة ، وهي سبع عشرة آية ، واثنتان وسبعون كلمة ، ومائتان وإحدى وسبعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ)(٤)

قوله تعالى : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) ، «السّماء» : قسم ، و «الطّارق» : قسم ، والطّارق : هو النّجم الثاقب ، كما بينه الله تعالى بقوله : (وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ).

والطارق في الأصل : اسم فاعل من : طرق يطرق طروقا : أي : جاء ليلا ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٥١٦٠ ـ فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع

فألهيتها عن ذي تمائم محول (١)

وأصله من الضرب ، والطّارق بالحصى : الضارب به ؛ قال : [الطويل]

٥١٦١ ـ لعمرك ، ما تدري الطّوارق بالحصى

ولا زاجرات الطّير ما الله صانع (٢)

ثم اتّسع فقيل لكل من أتى ليلا : طارق ، سواء كان كوكبا ، أو غيره ، ولا يكون الطارق نهارا.

وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : نهى أن يأتي الرجل أهله طروقا (٣).

__________________

(١) ويروى عن ذي تمام مغيل مكان عن ذي تمائم محول.

ينظر ديوانه ص ١٢ ، والأزهية ص ٢٤٤ ، والجنى الداني ص ٧٥ ، وجواهر الأدب ص ٦٣ ، وخزانة الأدب ١ / ٣٣٤ ، والدرر ٤ / ١٩٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٥٠ ، وشرح شذور الذهب ص ٤١٦ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٠٢ ، ٢٩٣ ، والكتاب ٢ / ١٦٣ ، واللسان (رضع) ، (غيل) ، والمقاصد النحوية ٣ / ٣٣٦ ، وأوضح المسالك ٣ / ٧٣ ، ورصف المباني ص ٣٨٧ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٩٩ ، ومغني اللبيب ١ / ١٣٦ ، ١٦١ ، وهمع الهوامع ٢ / ٣٦.

(٢) البيت للبيد بن ربيعة ينظر ديوانه ٩٠ ، وسمط اللآلىء ١ / ٣٨٨ ، واللسان (طرق) ، والدر المصون ٦ / ٥٠٦.

(٣) أخرجه البخاري (٩ / ٣٣٩) ، كتاب النكاح ، باب : لا يطرق أهله ليلا رقم (٥٢٤٤) ، ومسلم (٣ / ١٥٢٨) ، كتاب الإمارة ، باب : كراهة الطروق حديث (١٨٣ / ٧١٥) ، من حديث جابر.

٢٥٩

وقوله : (النَّجْمُ الثَّاقِبُ)، قال محمد بن الحسين : هو زحل.

وقال ابن زيد : هو الثّريّا ، وعنه ـ أيضا ـ : أنه زحل (١).

وعن ابن عباس : هو الجدي (٢) ، وعن عليّ بن أبي طالب والفرّاء : «النّجم الثّاقب» : نجم في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم ، فإذا أخذت النجوم أمكنتها من السماء هبط ، فكان معها ، ثم يرجع إلى مكانه من السماء السابعة ، وهو زحل ، فهو طارق حين ينزل ، وحين يهبط (٣).

وفي «الصحاح» (٤) : «الطّارق : النجم الذي يقال له : كوكب الصبح».

ومنه قول هند : [الرجز]

٥١٦٢ ـ نحن بنات طارق

نمشي على النمارق (٥)

وقيل : هو اسم جنس ، فيدخل فيه سائر الكواكب ، وسمي ثاقبا ؛ لأنه يثقب الظّلام بضوئه ، أي : ينفذ فيه. أي يرمي الشيطان فيحرقه.

قال الماورديّ : وأصل الطرق : الدّق ، ومنه سميت المطرقة ، فسمي قاصد الليل : طارقا ، لاحتياجه في الوصول إلى الدق.

وروي أنّ أبا طالب أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخبز ولبن ، فبينما هو جالس يأكل إذ انحطّ نجم فامتلأت الأرض نورا ، ففزع أبو طالب ، وقال : أيّ شيء هذا؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هذا نجم رمي به ، وإنّه من آيات الله» فعجب أبو طالب ، ونزلت السورة (٦).

وقال مجاهد : «الثاقب» : المتوهّج (٧).

قوله تعالى : (وَما أَدْراكَ) تفخيم لشأن هذا المقسم به.

قوله : (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ). قد تقدم في سورة «هود» : التخفيف والتشديد في «لما» ، فمن خففها ـ هنا ـ كانت «إن» : مخففة من الثقيلة ، و «كل» : مبتدأ ، و «عليها» :

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٣٣) ، عن ابن زيد.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (٢٠ / ٣).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر الصحاح ٤ / ١٥١٥.

(٥) نسب البيت إلى هند بنت عتبة ، وإلى هند بنت بياضة بن رباح بن طارق الإيادي ، ولهند بنت الفند الزماني ، وللقرشية.

ينظر أدب الكاتب ٩٠ ، والأغاني ١٢ / ٣٤٣ ، ١٥ / ١٤٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٩ ، واللسان (طرق) ، ومعجم ما استعجم ص ٧٠ ، وجمهرة اللغة ص ٧٥٦ ، ومغني اللبيب ٢ / ٣٨٧ ، وهمع الهوامع ١ / ١٧١.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٤٧٢) ، عن الكلبي ، والقرطبي (٢٠ / ٣).

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٣٣) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٦٠) ، وعزاه إلى عبد بن حميد عن مجاهد.

٢٦٠