اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ٢٠

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قال القفال (١) : وهذا كأنّه هو الأظهر ؛ لأنّه ـ تعالى ـ قال : (فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى فَكَذَّبَ وَعَصى ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى فَحَشَرَ فَنادى فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) فذكر القصتين ، ثم قال : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى).

فظهر أنّ المراد : أنّه عاقبه على هذين الأمرين.

ثمّ إنّه ـ تعالى ـ ختم هذه القصة بقوله :

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) ، إنّ فيما قصصنا عليك اعتبارا وعظة لمن يخاف.

قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ)(٣٣)

قوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً) ، يريد : أهل «مكّة» ، أي : أخلقكم بعد الموت أشدّ في تقديركم أم السماء؟.

فمن قدر على خلق السّماء على عظمها ، وعظم أحوالها ، قدر على الإعادة ، وهذا كقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) [غافر : ٥٧].

والمقصود من الآية الاستدلال على منكري البعث ، ونظيره قوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس : ٨١].

ومعنى الكلام : التقريع والتوبيخ.

ثم وصف تعالى السماء ، فقال : (أَمِ السَّماءُ بَناها) ، عطف على «أنتم» ، وقوله : «بناها» بيان لكيفيّة خلقه إياها ، فالوقف على «السّماء» ، والابتداء بما بعدها ، ونظيره قوله ـ تعالى ـ في «الزخرف» : (أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) [الزخرف : ٥٨].

وقوله : (رَفَعَ سَمْكَها) جملة مفسرة لكيفية البناء ، «والسّمك» : «الارتفاع».

قال الزمخشريّ (٢) : «جعل مقدار ذهابها في سمت العلوّ مديدا رفيعا».

وسمكت الشيء : رفعته في الهواء ، وسمك هو ، أي : ارتفع سموكا ، فهو قاصر ومتعدّ ، وبناء مسموك ، وسنام سامك تامك ، أي : عال مرتفع ، وسماك البيت ما سمكته به ، والمسموكات : السماوات ويقال : اسمك في الدّيم ، أي : اصعد في الدرجة ، والسماك : نجم معروف ، وهما اثنان ، رامح وأعزل ؛ قال الشاعر : [الكامل]

٥٠٩٩ ـ إنّ الذي سمك السّماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعزّ وأطول (٣)

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٤٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٩٦.

(٣) تقدم.

١٤١

وقال البغويّ (١) : «رفع سمكها» أي : سقفها.

فصل في الكلام على هذه الآية

قال الكسائيّ والفراء والزجاج : هذا الكلام تم عند قوله تعالى : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها) ، قال : لأنّه من صلة السماء ، والتقدير : «أم السماء التي بناها» فحذف «التي» ، ومثل هذا الحذف جائز.

قال القفال (٢) : يقال : الرجل جاءك عاقل ، أي : الرجل الذي جاءك عاقل ، وإذا ثبت جواز ذلك في اللغة ، فنقول : الدّليل على أن قوله تعالى : «بناها» صلة لما قبله ، أنّه لو لم يكن صلة لكان صفة ، فقوله : «بناها» صفة ، ثم قوله : «رفع سمكها» صفة ، فقد توالت صفتان ، لا تعلّق لإحداهما بالأخرى ، فكان يجب إدخال العاطف بينهما ، كما في قوله : (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) ، ولمّا لم يكن كذلك ، علمنا أنّ قوله : «بناها» صلة للسّماء ، فكان التقدير : «أم السّماء التي بناها» ، وهذا يقتضي وجود سماء ما بناها الله ، وذلك باطل.

وقوله (فَسَوَّاها) أي : خلقها خلقا مستويا ، لا تفاوت فيه ، ولا فطور ، ولا شقوق.

فصل فيمن استدل بالآية على أن السماء كرة

قال ابن الخطيب (٣) : واستدلّوا بهذه الآية على كون السّماء كرة ، قالوا : لأنه لو لم تكن كرة لكان بعض جوانبها سطحا ، والبعض زاوية والبعض خطّا ، ولكان بعض أجزائه أقرب إلينا ، والبعض الآخر أبعد ، فلا تحصل التّسوية الحقيقية ، ثمّ قالوا : لما ثبت أنّها محدثة مفتقرة إلى فاعل مختار ، فأيّ ضرر في الدّين ينافي كونها كرة.

قوله تعالى : (وَأَغْطَشَ). أي أظلم بلغة أنمار ، يقال : غطش الليل ، وأغطشته أنا ؛ قال : [المتقارب]

٥١٠٠ ـ عقرت لهم ناقتي موهنا

فليلهم مدلهمّ غطش (٤)

وليل أغطش ، وليلة غطشاء.

قال الراغب : وأصله من الأغطش ، وهو الذي في عينه شبه عمش ، ومنه فلاة غطشى لا يهتدى فيها ، والتّغاطش : التّعامي انتهى.

ويقال : أغطش اللّيل قاصرا ك «أظلم» ، ف «أفعل» فيه متعدّ ولازم ، فالغطش والغتش : الظّلمة ، ورجل أغطش ، أي : أعمى ، أو شبيه به ، وقد غطش ، والمرأة :

__________________

(١) معالم التنزيل ٤ / ٤٤٥.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٤١.

(٣) السابق ٣١ / ٤٣.

(٤) ينظر القرطبي ١٩ / ١٣٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٥.

١٤٢

غطشاء ، وفلاة غطشى لا يهتدى لها ؛ قال الأعشى : [المتقارب]

٥١٠١ ـ وبهماء بالليل غطشى الفلا

ة يؤنسني صوت قيّادها (١)

ومعنى قوله : (وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أي : جعله مظلما ، وأضاف اللّيل إلى السّماء ؛ لأنّ الليل يكون بغروب الشمس ، والشمس تضاف إلى السماء ، ويقال : نجوم اللّيل ؛ لأنّ ظهورها بالليل.

قوله : (وَأَخْرَجَ ضُحاها) ، فيه حذف ، أي : ضحى شمسها ، وأضاف الليل والضحى لها للملابسة التي بينها وبينهما ، وإنّما عبّر عن النّهار بالضحى ؛ لأنّ الضّحى أكمل النّهار بالنّور والضّوء.

قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) أي : بسطها ، و «بعد» على بابها من التأخير ، ولا معارضة بينها وبين آية فصلت ؛ لأنّه ـ تعالى ـ خلق الأرض غير مدحوة ، ثم خلق السماء ، ثم دحا الأرض.

وقول أبي عبيدة : إنّها بمعنى : «قبل» منكر عند العلماء.

والعرب تقول : دحوت الشيء أدحوه دحوا : إذا بسطه ، ودحى يدحي دحيا : إذا بسطه ، فهو من ذوات الواو والياء ، فيكتب بالألف ، والياء.

وقيل لعشّ النّعامة : أدحو ، وأدحى لانبساطه في الأرض.

وقال أمية بن أبي الصلت : [الوافر]

٥١٠٢ ـ وبثّ الخلق فيها إذ دحاها

فهم قطّانها حتّى التّنادي (٢)

وقيل : دحى بمعنى سوّى.

قال زيد بن عمرو بن نفيل : [المتقارب]

٥١٠٣ ـ وأسلمت وجهي لمن أسلمت

له الأرض تحمل صخرا ثقالا

دحاها فلمّا استوت شدّها

بأيد وأرسى عليها الجبالا (٣)

والعامة : على نصب الأرض ، والجبال على إضمار فعل مفسّر بما بعده ، وهو المختار لتقدّم جملة فعلية.

ورفعهما (٤) الحسن ، وابن أبي عبلة ، وأبو حيوة وأبو السمال وعمرو بن عبيد : برفعهما على الابتداء ، وعيسى برفع «الأرض» فقط.

__________________

(١) ينظر ديوانه ص ٢٦٠ ، والقرطبي ١٩ / ١٣٣ ، واللسان (غطش).

(٢) ينظر القرطبي ١٩ / ١٣٣ ، والبحر ٨ / ٤١٠ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٥ ، وفتح القدير ٥ / ٣٧٩.

(٣) ينظر القرطبي ١٩ / ١٣٣ ، والبحر ٨ / ٤١١ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٥ ، وفتح القدير ٥ / ٣٧٩.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٣٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٤١٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٥.

١٤٣

فصل

روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : خلق الله تعالى الكعبة ووضعها على الماء على أربعة أركان ، وكان قبل أن يخلق الدّنيا بألفي عام ، ثم دحيت الأرض من تحت البيت (١).

وحكى القرطبي (٢) عن بعض أهل العلم أنّ «بعد» هنا في موضع : «مع» ، كأنّه قال: والأرض مع ذلك دحاها ، كقوله تعالى : (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) [القلم : ١٣] ، ومنه قولهم: «أنت أحمق ، وأنت بعد هذا سيّىء الخلق» ؛ وقال الشاعر : [الطويل]

٥١٠٤ ـ فقلت لها : عنّي إليك فإنّني

حرام ، وإنّي بعد ذاك لبيب (٣)

أي : مع ذلك.

وقيل : «بعد» بمعنى : «قبل» ، كقوله تعالى : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) [الأنبياء : ١٠٥] أي : من قبل الفرقان ؛ قال أبو كثير : [الطويل]

٥١٠٥ ـ حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا

خراش وبعض الشّرّ أهون من بعض (٤)

وزعموا أن خراشا نجا قبل عروة.

وقيل : «دحاها» حرثها وشقّها ، قاله ابن زيد.

وقيل : «دحاها» مهّدها للأقوات ، والمعنى متقارب.

قوله : (أَخْرَجَ). فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون تفسيرا.

والثاني : أن يكون حالا.

قال الزمخشري (٥) : فإن قلت هلّا أدخل حرف العطف على «أخرج»؟ قلت : فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون «دحاها» بمعنى : بسطها ، ومهّدها للسّكنى ، ثم فسّر التّمهيد بما

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٣٨) ، من طريق عكرمة عن ابن عباس وينظر تفسير القرطبي (١٩ / ١٣٣).

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٣٣.

(٣) تقدم.

(٤) البيت ليس لأبي كبير الهذلي ، ولكنه لأبي خراش الهذلي من قصيدة قالها عند ما قتل أخوه عروة ونجا أبو خراش من الموت.

ينظر ديوان الهذليين ٢ / ١٥٧ ، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي ١ / ٣٢٦ ، وشرح المفصل ٣ / ١١٧ ، والطبري ٣٠ / ٢٩ ، والقرطبي ١٩ / ١٣٣.

(٥) ينظر الكشاف ٤ / ٦٩٧.

١٤٤

لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أمر المأكل والمشرب وإمكان القرار عليها.

والثاني : أن يكون «أخرج» حالا ، بإضمار «قد» ، كقوله تعالى : (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) [النساء : ٩٠].

واعلم أنّ إضمار «قد» هو قول الجمهور ، وخالف الكوفيون والأخفش.

قوله : (مِنْها ماءَها) ، أي : من الأرض عيونها المتفجّرة بالماء.

و «مرعاها» أي : النبات الذي يرعى ، والمراد بمرعاها : ما يأكل النّاس والأنعام ، ونظيره قوله تعالى : (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) ، إلى قوله تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) [عبس : ٢٥ ـ ٣٢] ، واستعير الرّعي للإنسان ، كما استعير الرّتع في قوله : (يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ) [يوسف : ١٢] ، وقد قرىء «نرتع» ويرتع من الرّعي ، والرعي في الأصل مكان أو زمان ، أو مصدر ، وهو هنا مصدر بمعنى : «المفعول» ، وهو في حق الآدميين استعارة.

قال ابن قتيبة : قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) [الأنبياء : ٣٠] ، فانظر كيف دلّ بقوله (ماءَها وَمَرْعاها) على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ، ومنها متاعا للأنام من العشب ، والشجر ، والثمر ، والحب والقضب ، واللباس ، والدواء ، حتى النار والملح.

أمّا النار ؛ فلأنها من العيدان ، قال جل وعلا : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) [الواقعة : ٧١ ، ٧٢].

وأمّا الملح ؛ فلأنّه من الماء.

قوله تعالى : (وَالْجِبالَ أَرْساها).

قراءة العامة : بنصب «الجبال».

وأرسى : ثبّت فيها الجبال.

وقرأ الحسن ، وعمرو بن عبيد (١) ، وعمرو بن ميمون ، ونصر بن عاصم : بالرّفع على الابتداء.

قوله تعالى : (مَتاعاً لَكُمْ).

العامّة : على النصب مفعولا له ، أو مصدرا لعامل مقدر ، أي : متّعكم ، أو مصدرا من غير اللفظ ؛ لأن المعنى : أخرج منها ماءها ومرعاها أمتع بذلك.

وقيل : نصب بإسقاط حرف الصفة ، تقديره : لتتمتعوا به متاعا ، والمعنى منفعة لكم ولأنعامكم.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٣٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٤١٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٥.

١٤٥

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى)(٤١)

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) في جواب «إذا» أوجه :

أحدها : قوله : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) ، نحو : «إذا جاءك بنو تميم ، فأما العاصي فأهنه ، وأمّا الطائع فأكرمه».

وقيل : محذوف.

فقدّره الزمخشريّ : فإن الأمر كذلك ، أي : فإنّ الجحيم مأواه.

وقدّره غيره : انقسم الرّاءون قسمين.

وقيل : عاينوا أو علموا.

وقيل : جوابها أدخل أهل النار النار ، وأهل الجنة الجنة.

وقال أبو البقاء : العامل فيها جوابها ، وهو معنى قوله تعالى : (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ).

والطّامة الكبرى : الدّاهية العظمى التي تطمّ على غيرها من الدّواهي لعظمها ، و «الطّمّ»: «الدفن» ، ومنه : طمّ السّيل الرّكية ، وفي المثل : جرى الوادي فطمّ على القرى.

وقيل : مأخوذ من قولهم : طمّ الفرس طميما ، إذا استفرغ جهده في الجري ، والمراد بها في القرآن : النّفخة الثانية ؛ لأن بها يحصل ذلك.

قال ابن عباس : هي النّفخة الثانية التي يكون معها البعث (١).

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أيضا ، والضحاك : أنّها القيامة ، سميت بذلك ؛ لأنّها تطمّ على كل شيء فتغمره (٢).

وقال القاسم بن الوليد الهمداني : الطامة الكبرى حين يساق أهل الجنّة إلى الجنة ، وأهل النار إلى النار (٣).

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٠٠) ، عن الحسن. وذكره القرطبي (١٩ / ١٣٤) ، عن ابن عباس من طريق الضحاك عنه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٤٠) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥١٥) ، وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

وينظر تفسير الماوردي (٦ / ٢٠٠) ، والقرطبي (١٩ / ١٣٤).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٤٠) ، عن القاسم بن الوليد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥١٥) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر.

١٤٦

قوله : (يَوْمَ يَتَذَكَّرُ) بدل من «إذا» ، أو : منصوبا بإضمار فعل ، أي : أعني : يوم أو يوم يتذكر كيت وكيت.

قوله : (ما سَعى) أي : ما عمل من خير أو شر يراه مكتوبا في كتابه فيتذكره ، وكان قد نسيه ، لقوله تعالى : (أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) [المجادلة : ٦].

قوله تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ) العامة على بنائه للمفعول مشددا ، و (لِمَنْ يَرى) بياء الغيبة.

وزيد بن علي وعائشة وعكرمة (١) : مبنيّا للفاعل مخففا ، و «ترى» بتاء من فوق ، فجوزوا في تاء «ترى» أن تكون للتأنيث ، وفي «ترى» ضمير الجحيم ، كقوله تعالى : (إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) [الفرقان : ١٢] ، وأن تكون للخطاب ، أي : ترى أنت يا محمد ، والمراد : ترى الناس. وقرأ عبد الله (٢) : «لمن رأى» فعلا ماضيا.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «برّزت» كشفت عنها تتلظّى ، فيراه كل ذي بصر ، فالمؤمنون يمرّون عليها ، (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [مريم : ٧١] ، وأمّا الكفار فهي مأواهم (٣).

وقيل : الرؤية هنا : استعارة ، كقولهم : قد تبين الصبح لذي عينين.

وقيل : المراد : الكافر ؛ لأنه الذي يرى النار بما فيها من أصناف العذاب.

وقيل : يراها المؤمن ليعرف قدر النّعمة.

قوله : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) أي : تجاوز الحدّ في العصيان.

قيل : نزلت في النّضر وأبيه الحارث ، وهي عامة في كل كافر آثر الحياة الدنيا على الآخرة.

قوله : (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) إمّا هي المأوى له ، أو هي مأواه ، وقامت «أل» مقام الضمير ، وهو رأي الكوفيين وقد تقدم تحقيق هذا والرد على قائله ، خلافا للبصريين ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٥١٠٦ ـ رحيب قطاب الجيب منها رقيقة

بجسّ النّدامى بضّة المتجرّد (٤)

إذ لو كانت «أل» عوضا من الضمير لما جمع بينهما في هذا البيت ، ولا بدّ من أحد هذين التأويلين في الآية الكريمة لأجل العائد من الجملة الواقعة خبرا للمبتدأ ، والذي

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٩٧ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٣٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٤١٥ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٦.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٩٨ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٤٣٤ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٦.

(٣) ذكره القرطبي في تفسيره (١٩ / ١٣٤).

(٤) تقدم.

١٤٧

حسّن عدم ذكر العائد كون الكلمة (١) وقعت رأس فاصلة.

وقال الزمخشري (٢) : «فإن الجحيم مأواه ، كما تقول للرجل : غضّ الطّرف ، تريد طرفك ، وليس الألف و «اللام» بدلا من الإضافة ، ولكن لما علم أنّ الطّاغي هو صاحب المأوى ، وأنّه لا يغضّ الرجل طرف غيره تركت الإضافة ، ودخول الألف واللام في «المأوى» والطرف ، للتعريف ؛ لأنّهما معروفان».

قال أبو حيان (٣) : «وهو كلام لا يتحصّل منه الرابط العائد على المبتدأ ، إذ قد نفى مذهب الكوفيين ، ولم يقدّر ضميرا محذوفا كما قدّره البصريون ، فرام حصول الرابط بلا رابط».

قال شهاب الدّين (٤) : «ولكن لما علم إلى آخره ، هو عين قول البصريين ، ولا أدري كيف خفي عليه هذا».

قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي : حذر مقامه بين يدي ربه.

وقال الربيع : مقامه يوم الحساب (٥).

وقال مجاهد : خوفه في الدنيا من الله عند مواقعة الذّنب فيقلع عنه ، نظيره : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦].

«ونهى النّفس عن الهوى» أي : زجرها عن المعاصي والمحارم (٦).

قال ابن الخطيب (٧) : هذان الوصفان مضادّان للوصفين المتقدمين ، فقوله تعالى : (مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) ضدّ قوله : (فَأَمَّا مَنْ طَغى) ، و «نهى النفس» ضدّ قوله : (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) فكما دخل في ذينك الوصفين جميع القبائح دخل في هذين الوصفين جميع الطاعات.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : أنتم في زمان يقود الحق الهوى ، وسيأتي زمان يقود الهوى الحقّ ، فنعوذ بالله من ذلك الزمن (٨).

قوله : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) أي : المنزل ، نزلت الآيتان في مصعب بن عمير ، وأخيه عامر بن عمير (٩).

__________________

(١) في ب : الآية.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٩٨.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤١٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٧٦.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٣٥).

(٦) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٢٠٠) ، وينظر المصدر السابق.

(٧) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٤٨.

(٨) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٣٥).

(٩) قال الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» (٤ / ٦٩٨) : لم أجده.

١٤٨

روى الضحاك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ قال : أمّا من طغى فهو أخ لمصعب بن عمير ، أسر يوم بدر ، فأخذته الأنصار ، فقالوا : من أنت؟ قال : أنا أخو مصعب بن عمير فلم يشدوه في الوثاق ، وأكرموه ، وبيتوه عندهم ، فلمّا أصبحوا حدّثوا مصعب بن عمير حديثه ، فقال: ما هو لي بأخ ، شدّوا أسيركم ، فإنّ أمّه أكثر أهل البطحاء حليا ومالا ، فأوثقوه حتى بعثت أمه في فدائه (١).

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) فمصعب بن عمير ، وقى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بنفسه يوم «أحد» حين تفرّق الناس عنه ، حتى نفذت المشاقص في جوفه ، وهي السّهام ، فلما رآه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم مشحطا في دمه ، قال : «عند الله أحتسبه». وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه : «لقد رأيته وعليه بردان ما تعرف قيمتهما وإنّ شراك نعليه من ذهب».

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ «نزلت هذه الآية في رجلين : أبو جهل بن هشام ، ومصعب بن عمير» (٢).

وقال السديّ : نزل قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) في أبي بكر الصديق رضي الله عنه (٣).

وقال الكلبيّ : هما عامّتان.

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها)(٤٦)

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها). لما سمع المشركون أخبار القيامة ، ووصفها بالأوصاف الهائلة مثل : (الطَّامَّةُ الْكُبْرى) ، و «الصّاخّة» ، و «القارعة» ، سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم استهزاء ، متى تكون الساعة؟.

وقيل : يحتمل أن يكون ذلك إيهاما لإيقاعهم أنّه لا أصل لذلك ، ويحتمل أنّهم كانوا يسألونه عن وقت القيامة استعجالا كقوله : (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها) [الشورى : ١٨].

وقوله : (أَيَّانَ مُرْساها) ، أي : إقامتها ، والمعنى : أيّ شيء يقيمها ويوجدها ، ويكون المعنى : أيان منتهاها ومستقرها ، كما أنّ مرسى السفينة : مستقرّها الذي تنتهي إليه فأجابهم الله ـ تعالى ـ بقوله : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها).

قوله «فيم» خبر مقدم ، و «أنت» مبتدأ مؤخر ، و «من ذكراها» متعلق بما تعلق به الخبر ، والمعنى : أنت في أي شيء من ذكراها ، أي : ما أنت من ذكراها لهم وتبيين وقتها في شيء.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٣٥) ، من طريق الضحاك عن ابن عباس.

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر المصدر السابق.

١٤٩

وقال الزمخشري (١) : وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ لم يزل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم يذكر الساعة ، ويسأل عنها ويذكرها حتى نزلت ، قال : «فهو على هذا تعجّب من كثرة ذكره لها كأنّه قيل : في أيّ شغل واهتمام أنت من ذكرها والسّؤال عنها» (٢).

وقيل : الوقف على قوله : «فيم» ، وهو خبر مبتدأ مضمر ، أي : فيم هذا السؤال ، ثم يبتدىء بقوله : (أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي : إرسالك ، وأنت خاتم الأنبياء ، وآخر الرسل ، والمبعوث في تسمية الساعة ذكر من ذكراها ، وعلامة من علامتها ، فكفاهم بذلك دليلا على دنوّها ، ومشارفتها ، والاستعداد لها ، ولا معنى لسؤالهم عنها.

قاله الزمخشري : وهو كلام حسن ، لو لا أنّه يخالف الظاهر ، وتفكيك لنظم الكلام.

ومعنى (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) منتهى علمها ، كقوله تعالى : (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) [الأعراف : ١٨٧] ، وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) [لقمان : ٣٤].

قال القرطبي (٣) : ويجوز أن يكون إنكارا على المشركين في مسألتهم له ، أي : فيم أنت من ذلك حتى يسألوك بيانه ، ولست ممن يعلمه ، روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما.

قوله تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها).

العامة : على إضافة الصفة لمعمولها تخفيفا.

وقرأ عمر (٤) بن عبد العزيز وأبو جعفر ، وطلحة ، وابن محيصن : بالتنوين ، ويكون في موضع نصب ، والمعنى : إنّما ينتفع بإنذارك من يخشى الساعة.

قال الزمخشري (٥) : وهو الأصل ، والإضافة تخفيف ، وكلاهما يصلح للحال والاستقبال ، فإذا أريد الماضي ، فليس إلا الإضافة ، كقولك : هو منذر زيد أمس.

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٦٩٩.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٤١) ، والبزار (٢٢٧٩ ـ كشف) ، والحاكم (٢ / ٥١٣ ـ ٥١٤) ، عن عائشة. وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥١٥) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن مردويه. وذكره السيوطي أيضا في «الدر» (٦ / ٥١٥) ، عن عروة مرسلا وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

وذكر الهيثمي في «المجمع» (٧ / ١٣٦) الطريق الموصول وقال : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح.

وقد رجح أبو زرعة الطريق المرسل. ففي العلل (٢ / ٦٨) لابن أبي حاتم قال سمعت أبا زرعة يقول : الصحيح مرسل بلا عائشة.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٣٦.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٣٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٤١٦ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٧.

(٥) الكشاف ٤ / ٦٩٩.

١٥٠

قال أبو حيان (١) : قوله : «هو الأصل» يعني : «التنوين» ، هو قول قاله غيره.

ثم اختار أبو حيّان : أن الأصل الإضافة ، قال : لأنّ العمل إنما هو بالشبه ، والإضافة أصل في الأسماء ، ثم قال : وقوله : «ليس إلا الإضافة» فيه تفصيل وخلاف مذكور في كتب النحو.

قال شهاب الدين (٢) : لا يلزمه أن يذكر إلّا محل الوفاق ، بل هذان اللذان ذكرهما مذهب جماهير الناس.

فصل في معنى الآية

المعنى : إنّما أنت مخوّف ، وخص الإنذار بمن يخشى ؛ لأنهم المنتفعون به ، وإن كان منذرا لكلّ مكلّف ، كقوله : (إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) [يس : ١١].

قوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها) يعني : الكفّار ، يرون الساعة.

(لَمْ يَلْبَثُوا) في دنياهم (إِلَّا عَشِيَّةً) أي : قدر عشيّة ، (أَوْ ضُحاها) أي : أو قدر الضّحى الذي يلي تلك العشيّة ، والمراد : تقليل مدة الدنيا ، كقوله تعالى : (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ) [الأحقاف : ٣٥]. وأضاف الضحى إلى العشية إضافة الظرف إلى ضمير الظرف الآخر تجوّزا واتّساعا ، وذكرهما ؛ لأنّهما طرفا النهار ، وحسّن هذه الإضافة وقوع الكلمة فاصلة.

فإن قيل : قوله تعالى : (أَوْ ضُحاها) معناه : ضحى العشيّة ، وهذا غير معقول ؛ لأنّه ليس للعشيّة ضحى؟.

فالجواب : قال ابن عباس رضي الله عنهما : الهاء والألف صلة للكلام ، يريد : لم يلبثوا إلا عشية أو ضحى (٣).

وقال الفرّاء والزجاج : المراد بإضافة الضّحى إلى العشية ، إضافتها إلى يوم العشية على عادة العرب ، يقولون : آتيك الغداة أو عشيها ، وآتيك العشية أو غداتها ، فتكون العشية في معنى : آخر النهار ، والغداة في معنى : أول النهار ؛ وأنشد بعض بني عقيل : [الرجز]

٥١٠٧ أ ـ نحن صبحنا عامرا في دارها

جردا تعادى طرفي نهارها

عشيّة الهلال أو سرارها (٤)

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٤١٦.

(٢) الدر المصون ٦ / ٤٧٧.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣١٠ / ٤٩) ، من طريق عطاء عن ابن عباس.

(٤) ينظر الطبري ٣٠ / ٣٢ ، ومعاني القرآن ٣ / ٢٣٥ ، واللسان (صبح) ، (سرر) ، والقرطبي ١٩ / ١٣٧.

١٥١

سورة عبس

وتسمى سورة السفرة مكيّة ، وهي اثنان وأربعون آية ، ومائة وثلاثون كلمة ، وخمسمائة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)(١٠)

قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) أي : كلح بوجهه ، يقال : عبس وبسر وتولى ، أي : أعرض بوجهه.

قوله : (أَنْ جاءَهُ). فيه وجهان :

أحدهما : أنّه مفعول من أجله ، وناصبه : إمّا «تولّى» وهو قول البصريين ، وإمّا «عبس» وهو قول الكوفيين ، والمختار مذهب (١) البصريين لعدم الإضمار في الثاني ، وتقدم تحقيق هذا في مسائل النزاع والتقدير : لأن جاءه الأعمى فعل ذلك.

قال القرطبيّ (٢) : إن من قرأ بالمدّ (٣) على الاستفهام ، ف «أن» متعلقة بمحذوف دلّ عليه (عَبَسَ وَتَوَلَّى) والتقدير : أأن جاءه أعرض عنه وتولى؟ فيوقف على هذه القراءة على «تولّى» ، ولا يوقف عليه على قراءة العامة.

فصل في سبب نزول الآية

قال المفسرون : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن أم مكتوم ، واسم أم مكتوم عاتكة بنت عامر بن مخزوم ، وكان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم صناديد قريش : عتبة وشيبة ابنا ربيعة ، وأبو

__________________

(١) في ب : قول.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٣٩.

(٣) وهي قراءة الحسن وأبي عمران الجوني وعيسى ، ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٣٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٤١٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٨ ، وزاد «زيد بن علي».

١٥٢

جهل بن هشام ، والعبّاس بن عبد المطلب ، وأميّة بن خلف ، والوليد بن المغيرة ، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم ، فقال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : علّمني مما علمك الله ، وكرّر ذلك عليه ، فكره قطعه لكلامه ، وعبس وأعرض عنه ، فنزلت هذه الآية.

قال ابن العربي : أمّا قول المفسرين : إنه الوليد بن المغيرة ، أو أمية بن خلف والعباس ، فهذا كله باطل وجهل ؛ لأن أمية والوليد كانا ب «مكة» وابن أم مكتوم كان ب «المدينة» ما حضر معهما ، ولا حضرا معه ، وماتا كافرين ، أحدهما : قبل الهجرة ، والآخر في «بدر» ، ولم يقصد أمية «المدينة» قط ، ولا حضر معه مفردا ، ولا مع أحد ، وإنّما أقبل ابن أم مكتوم والنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مشتغل بمن حضره من وجوه قريش يدعوهم إلى الإسلام ، وقد طمع في إسلامهم ، وكان في إسلامهم إسلام من وراءهم من قومهم ، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى ، فقال : يا رسول الله علمني مما علمك الله وجعل يناديه ويكثر النداء ، ولا يدري أنه مشتغل بغيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء : إنّما أتباعه العميان والسّفلة والعبيد ، فعبس وأعرض عنه ، فنزلت الآية.

قال الثوري : فكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ذلك إذا رأى ابن أم مكتوم بسط له رداءه ، ويقول : «مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي» ، ويقول : «هل من حاجة»؟ واستخلفه على «المدينة» مرتين في غزوتين غزاهما.

قال أنس رضي الله عنه : فرأيته يوم «القادسيّة» راكبا وعليه درع ، ومعه راية سوداء (١).

فصل في معاتبة الله تعالى رسوله

قال ابن الخطيب (٢) : ما فعله ابن أم مكتوم كان يستحق التأديب والزّجر ، فكيف عاتب الله ـ تعالى ـ رسوله على تأديبه ابن أم مكتوم؟.

وإنما قلنا : إنه كان يستحق التأديب ؛ لأنه وإن كان أعمى لا يرى القوم ، لكنه سمع

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٤٤) ، وذكره الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» (٤ / ٧٠١) ، وقال : أخرجه عبد الرزاق عن معمر عن قتادة أخبرني أنس بهذا وكذا رواه أبو يعلى والطبري من رواية قتادة عن أنس رضي الله عنه.

وللحديث شاهد من حديث عائشة أخرجه الترمذي (٣٣٢٨) ، وابن حبان (١٧٦٩) ، والحاكم (٢ / ٥١٤) ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب. وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٥٠.

١٥٣

مخاطبة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأولئك الكفار ، وكان بسماعه يعرف شدة اهتمام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشأنهم ، فكان إقدامه على قطع كلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لغرض نفسه قبل تمام غرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم معصية عظيمة.

وأيضا : فإنّ الأهم يقدّم على المهمّ ، وكان قد أسلم ، وتعلّم ما يحتاج إليه من أمر دينه ، أما أولئك الكفّار ، فلم يكونوا أسلموا بعد ، وكان إسلامهم سببا لإسلام جمع عظيم ، فكان كلام ابن أم مكتوم كالسبب في قطع ذلك الخير العظيم لغرض قليل ، وذلك محرم.

وأيضا : فإنّ الله ـ تعالى ـ ذمّ الذين ينادونه من وراء الحجرات بمجرد ندائهم ، فهذا النداء الذي هو كالصّارف للكفار عن [قبول](١) الإيمان أولى أن يكون ذنبا ، فثبت أن الذي فعله ابن أمّ مكتوم كان ذنبا ومعصية.

وأيضا : فمع هذا الاعتناء بابن أم مكتوم ، فكيف لقب بالأعمى؟.

وأيضا : فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤدّب أصحابه بما يراه مصلحة ، والتّعبيس من ذلك القبيل ، ومع الإذن فيه ، كيف يعاتب عليه؟.

والجواب عن الأول : أنّ ما فعله ابن أم مكتوم كان من سوء الأدب لو كان عالما بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم مشغول بغيره ، وأنّه يرجو إسلامهم ، ولكن الله عاتبه حتى لا تنكسر قلوب أهل الصّفّة ، أو ليعلم أنّ المؤمن الفقير خير من الغنى ، وكان النظر إلى المؤمن أولى ، وإن كان فقيرا أصلح وأولى من الإقبال على الأغنياء طمعا في إيمانهم ، وإن كان ذلك أيضا طمعا في المصلحة ، وعلى هذا يخرج قوله تعالى : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى) [الأنفال : ٦٧] الآية.

وقيل : إنّما قصد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تأليف الرجل ثقة بما كان في قلب ابن أم مكتوم من الإيمان ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي لأعطي الرّجل ، وغيره أحبّ إليّ منه مخافة أن يكبّه الله على وجهه».

وقال ابن زيد : إنّما عبس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لابن أم مكتوم ، وأعرض عنه ؛ لأنّه أشار إلى الذي كان يقوده أن يكفه ، فدفعه ابن أم مكتوم ، وأبى إلا أن يكلم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يعلمه ، فكان في هذا نوع جفاء منه ، ومع هذا أنزل الله تعالى في حقه : (عَبَسَ وَتَوَلَّى) ، بلفظ الإخبار عن الغائب تعظيما له ، ولم يقل : عبست وتولّيت. ثم أقبل عليه بمواجهة الخطاب تأنيسا له ، فقال : (وَما يُدْرِيكَ) أي : يعلمك «لعلّه» ابن أم مكتوم «يزّكّى» بما استدعى منك تعليمه إياه من القرآن والدين ، وإنّما ذكره بلفظ الأعمى ليس للتحقير ، بل كأنه قيل : إنه بسبب عماه يستحق مزيد الرفق والرأفة ، فكيف يليق بك يا محمد ، أن

__________________

(١) سقط من : أ.

١٥٤

تخصّه بالغلظة ، وأمّا كونه مأذونا له في تأديب أصحابه ، لكن هنا لمّا أوهم تقديم الأغنياء على الفقراء ، وكان ذلك مما يوهم ترجيح الدنيا على الدّين ، فلهذا السبب عوتب (١).

فصل فيمن استدل بالآية على جواز صدور الذنوب من الأنبياء

قال ابن الخطيب (٢) : تمسّك القائلون بصدور الذنب عن الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بهذه الآية.

وقالوا : لمّا عوتب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك الفعل دلّ على أنّه كان معصية.

قال ابن الخطيب : وهذا بعيد لما ذكرنا في الجواب عن الأول ، وأيضا : فإن هذا من باب الاحتياط وترك الأفضل.

قوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) ؛ الظاهر أنه أجرى التّرجي مجرى الاستفهام ، لما بينهما من معنى الطّلب في التّعليق ، لأن المعنى منصب على تسليط الدراية على التّرجي ، إذ التقدير : لا يدري ما هو مترجّى منه التركيب ، أو التذكر.

وقيل : الوقف على «يدري» ، والابتداء بما بعده على معنى : وما يطلعك على أمره ، وعاقبة حاله ، ثم ابتدأ ، فقال : (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى).

فصل في تحرير الضمير في قوله : «لعله»

قيل : الضمير في «لعلّه» للكافر ، يعني : لعل إذا طمعت في أن يتزكّى بالإسلام.

(أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) أي : قبول الحق ، (وَما يُدْرِيكَ) أنّ ما طمعت فيه كائن ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الأنعام : ٥٢].

وقوله : (وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) [الكهف : ٢٨].

قوله : (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى).

قرأ عاصم : «فتنفعه» بالنصب.

والباقون (٣) : بالرفع.

فمن رفع ، فهو نسق على قوله : «أو يذّكر».

ومن نصب ، فعلى جواب التّرجي كقوله في «المؤمن» (٤) : (فَأَطَّلِعَ) [غافر : ٣٧] ، وهو مذهب كوفي وقد تقدم الكلام عليه.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٤٤) ، مختصرا وذكره بتمامه القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٣٩) ، عن ابن زيد.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٥١.

(٣) ينظر : السبعة ٦٧٢ ، والحجة ٦ / ٣٧٦ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٣٩ ، وحجة القراءات ٧٤٩.

(٤) يعني سورة «غافر».

١٥٥

وقال ابن عطية (١) : في جواب التمني ؛ لأنّ قوله تعالى : (أَوْ يَذَّكَّرُ) في حكم قوله : (لَعَلَّهُ يَزَّكَّى).

قال أبو حيان (٢) : «وهذا ليس تمنيا إنما هو ترجّ».

قال شهاب الدين (٣) : إنما يريد التّمني المفهوم من الكلام ، ويدلّ له ما قاله أبو البقاء : «وبالنصب على جواب التمني في المعنى» ، وإلّا فالفرق بين التمنّي والترجّي لا يجهله ابن عطية.

وقال مكي : «من نصبه جعله جواب «لعلّ» بالفاء ؛ لأنّه غير موجب ، فأشبه التّمني والاستفهام ، وهو غير معروف عند البصريين» وقرأ عاصم (٤) في رواية الأعرج : «أو يذكر» ـ بسكون الذال ، وتخفيف الكاف مضمومة ـ مضارع «ذكر» ، والمعنى : أو يتّعظ بما يقوله ، (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) أي : العظة.

قوله : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) قال عطاء : يريد عن الإيمان ، وقال الكلبي : استغنى عن الله ، وقال بعضهم : استغنى أثرى ؛ وهو فاسد ههنا ؛ لأن إقبال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يكن لثروتهم ومالهم حتى يقال له أما من أثرى ، فأنت تقبل عليه ، ولأنه قال : (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى وَهُوَ يَخْشى) ولم يقل وهو فقير معدم ، ومن قال : أما من استغنى بماله فهو صحيح ، لأن المعنى أنه استغنى عن الإيمان والقرآن بما له من المال.

وقوله تعالى : (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) تقدمت فيه قراءتا التثقيل والتخفيف.

قال الزجاج : أي أنت تقبل عليه وتتعرض له وتميل إليه ، يقال تصدى فلان لفلان ، يتصدّد إذا تعرض له ، والأصل فيه تصدد يتصدّد من الصدد ، وهو ما استقبلك وصار قبالتك فأبدل أحد الأمثال حرف علة مثل : تظنيت وقصيت ، وتقضى البازي قال الشاعر :

٥١٠٧ ب ـ تصدّى لوضّاح كأنّ جبينه

سراج الدّجى يجبى إليه الأساور (٥)

وقيل : هو من الصدى ، وهو الصوت المسموع في الأماكن الخالية والأجرام الصلبة.

وقيل : من الصدى وهو العطش ، والمعنى على التعرض ، ويتمحّل لذلك إذا قلنا أصله من الصوت أو العطش.

وقرأ أبو جعفر «تصدي» بضم التاء وتخفيف الصاد. أي يصديك حرصك على إسلامه.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٣٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤١٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٧٨.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٤٣٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٤١٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٧٩.

(٥) البيت للراعي النميري. ينظر ديوانه (١٠٩) ، والبحر المحيط ٨ / ٤١٧ ، والدر المصون ٤٧٩٦.

١٥٦

يقال : صدى الرجل وصديته ، وقال الزمخشري (١) : وقرىء «تصدي» بضم التاء أي تعرض ، ومعناه يدعوك داع إلى التصدي له ؛ من الحرص والتهالك على إسلامه.

قوله (أَلَّا يَزَّكَّى) مبتدأ خبره «عليك» أي ليس عليك عدم تزكيته.

والمعنى لا شيء عليك في أن لا يسلم من تدعوه إلى الإسلام ، فإنه ليس عليك إلا البلاغ ، أي لا يبلغن بك الحرص على إسلامهم إلى أن تعرض عمن أسلم للاشتغال بدعوتهم.

قوله : (يَسْعى) حال من فاعل «جاءك» والمعنى أن يسرع في طلب الخير ، كقوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩].

وقوله : (وَهُوَ يَخْشى) جملة حالية من فاعل «يسعى» فهو حال من حال وجعلها حالا ثانية معطوفة على الأولى ليس بالقوي وفيها ثلاثة أوجه يخشى الله ويخافه في ألّا يهتم بأداء تكاليفه ، أو يخشى الكفار وأذاهم في إتيانك ، أو يخشى الكبوة فإنه كان أعمى ، وما كان له قائد.

قوله (تَلَهَّى) أصله تتلهى من لهي يلهى بكذا أي اشتغل وليس هو من اللهو في شيء.

وقال أبو حيان (٢) : ويمكن أن يكون منه لأن ما يبنى على فعل من ذوات الواو تنقلب واوه لانكسار ما قبلها. نحو شقي يشقى. فإن كان مصدره جاء بالياء فيكون من مادة غير مادة اللهو.

قال شهاب الدين (٣) : الناس إنما لم يجعلوه من اللهو لأجل أنه مسند إلى ضمير النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يليق بمنصبه الكريم أن ينسب الله إليه التفعل من اللهو. بخلاف الاشتغال فإنه يجوز أن يصدر منه في بعض الأحيان ، ولا ينبغي أن يعتقد غير هذا وإنما سقط الشيخ وقرأ ابن كثير في رواية البزي عنه «عنهو تلهى» بواو وهي صلة لهاء الكناية ، وتشديد التاء والأصل تتلهى فأدغم ، وجاز الجمع بين ساكنين لوجود حرف علة وإدغام ، وليس لهذه الآية نظير. وهو أنه إذا لقي صلة هاء الكناية ساكن آخر ثبتت الصلة بل يجب الحذف ، وقرأ أبو جعفر «تلهّى» بضم التاء مبنيا للمفعول. أي يلهيك شأن الصناديد ، وقرأ طلحة «تتلهى» بتاءين وهي الأصل ، وعنه بتاء واحدة وسكون اللام.

فصل

فإن قيل قوله : (فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) فأنت عنه تلهى كان فيه اختصاصا.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٧٠١ ، ٧٠٢.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٤١٩.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٧٩.

١٥٧

قلنا نعم ، ومعناه إنكار التصدي والتلهي عنه ، أي مثلك خصوصا لا ينبغي أن يتصدى للغني ، ويتلهى عن الفقير.

قوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ)(١٦)

قوله : (كَلَّا) وهو ردع عن المعاتب عليه وعن معاودة مثله. قال الحسن : لما تلا جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الآيات عاد وجهه كأنما أسف الرماد فيه ينتظر ماذا يحكم الله عليه ، فلما قال: (كَلَّا) سري عنه ، أي لا تفعل مثل ذلك قال ابن الخطيب (١) : وقد بينا نحن أن ذلك محمول على ترك الأولى.

وقوله : (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) فيه سؤالان :

الأول : قوله : (إِنَّها) ضمير المؤنث ، وقوله : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) ضمير المذكر ، والضميران عائدان إلى شيء واحد ، فكيف القول فيه؟.

الجواب : وفيه وجهان :

الأول : أن قوله : (إِنَّها) ضمير المؤنث ، قال مقاتل : يعني آيات القرآن ، وقال الكلبي : يعني هذه السورة وهو قول الأخفش والضمير في قوله : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) عائد إلى التذكرة أيضا ، لأن التذكرة في معنى الذكر والوعظ.

الثاني : قال صاحب النظم : إنها تذكرة يعني بها القرآن والقرآن مذكر إلا أنه لما جعل القرآن تذكرة أخرجه على لفظ التذكرة ، ولو ذكره لجاز كما قال في موضع آخر (كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) والدليل على أن قوله : (إِنَّها تَذْكِرَةٌ) المراد به القرآن قوله (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ).

فصل

كيف اتصال هذه الآية بما قبلها؟ الجواب : من وجهين :

الأول : كأنه قيل : هذا التأديب الذي أوحيته إليك وعرفته لك في إجلال الفقراء وعدم الالتفات إلى أهل الدنيا أثبت في اللوح المحفوظ الذي قد وكل بحفظه أكابر الملائكة.

الثاني : كأنه قيل : هذا القرآن قد بلغ في العظمة إلى هذا الحد العظيم ، فأي حاجة به إلى أن يقبله هؤلاء الكفار ، فسواء قبلوه أو لم يقبلوه فلا تلتفت إليهم ولا تشغل قلبك بهم ، وإياك وأن تعرض عمن آمن به تطييبا لقلوب أرباب الدنيا.

__________________

(١) ينظر : الرازي ٣١ / ٥٣.

١٥٨

قوله : (ذَكَرَهُ) يجوز أن يكون الضمير لله تعالى ، لأن منزل التذكرة ، وأن يكون للتذكرة ، وذكر ضميرها ؛ لأنها بمعنى الذكر والوعظ.

وقوله : (فِي صُحُفٍ) صفة لتذكرة. فقوله (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) جملة معترضة بين الصفة وموصوفها ، ونحوها (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [المزمل : ١٩] ويجوز أن يكون «في صحف» خبرا ثانيا ل «إنها» والجملة معترضة بين الخبرين.

فصل

اعلم أنه تعالى وصف تلك التذكرة بأمرين :

الأول : قوله : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي هذه تذكرة بينة ظاهرة بحيث لو أرادوا فهمها والاتعاظ بها والعمل بموجبها لقدروا عليه.

والثاني : قوله : (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) أي تلك التذكرة معدة في هذه الصحف المكرمة ، والمراد من ذلك تعظيم حال القرآن والتنويه بذكره والمعنى أن هذه التذكرة مثبتة في صحف.

والمراد من «الصحف» قولان :

الأول : أنها صحف منتسخة من اللوح مكرمة عند الله تعالى مرفوعة في السماء السابعة أو مرفوعة المقدار مطهرة عن أيدي الشياطين ، أو المراد مطهرة بسبب أنها لا يمسها إلا المطهرون وهم الملائكة.

قوله (سَفَرَةٍ) جمع سافر وهو الكاتب ومثله كاتب وكتبة ، وسفرت بين القوم أسفر سفارة أصلحت بينهم قال :

٥١٠٧ ج ـ فما أدع السّفارة بين قومي

ولا أمشي بغشّ إن مشيت (١)

وسفرت المرأة : كشفت نقابها.

وقوله : (كِرامٍ) هي لفظة مخصوصة بالملائكة عند الإطلاق ، ولا يشاركهم فيها سواهم ، وروى الضحاك عن ابن عباس في «كرام» قال : يتكرمون أن يكونوا مع ابن آدم إذا خلا بزوجته ، أو تبرّز لغائطه.

وقيل : يؤثرون منافع غيرهم على منافع أنفسهم.

وقوله تعالى : (بَرَرَةٍ) جمع بارّ ، مثل : كافر وكفرة ، وساحر وسحرة وفاجر وفجرة ، يقال : برّ وبارّ ، إذا كان أهلا للصّدق ، ومنه : برّ فلان في يمينه أي : صدق ،

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٩ / ١٤١ ، والبحر المحيط ٨ / ٤١٧ ، وفتح القدير ٥ / ٣٨٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٨٠.

١٥٩

وفلان يبرّ خالقه ويتبرّره : أي : يعطيعه ، فمعنى «بررة» أي : مطيعين لله صادقين الله في أعمالهم.

فصل في المراد بالسفرة

قال ابن الخطيب (١) : قوله تعالى : (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) يقتضي أن طهارة تلك الصحف إنما حصلت بأيدي هؤلاء السّفرة ، فقال القفال في تقريره : لمّا كان لا يمسّها إلا الملائكة المطهرون أضيف التطهير إليها لطهارة من يمسّها.

وقال القرطبيّ (٢) : إن المراد بقوله ـ تعالى ـ في سورة «الواقعة» : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) أنهم الكرام البررة في هذه السورة.

قوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) (٢٣)

قوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ). أي : لعن.

وقيل : عذّب ، والإنسان : الكافر.

روى الأعمش عن مجاهد قال : ما كان في القرآن من قتل الإنسان ، فإن ما عني به الكافر(٣).

قال النحويون : وهذا إما تعجب ، أو استفهام تعجب.

قال ابن الخطيب (٤) : اعلم أنّه ـ تعالى ـ لما ذكر ترفّع صناديد قريش على فقراء المسلمين عجب [عباده](٥) المؤمنين من ذلك ، فكأنّه قيل : وأيّ سبب في هذا الترفّع مع أنّه أوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بين الوقتين حمال عذرة ، فلا جرم أن يذكر ـ تعالى ـ ما يصلح أن يكون علاجا لعجبهم ، وعلاجا لكفرهم فإنّ خلقة الإنسان تصلح لأن يستدلّ بها على وجود الصانع ، ولأن يستدل بها على القول بالبعث والحشر.

قيل : نزلت في عتبة بن أبي لهب ، والظاهر العموم.

وقوله تعالى : (قُتِلَ الْإِنْسانُ) دعاء عليه بأشدّ الأشياء ؛ لأنّ القتل غاية شدائد الدّنيا ، و (ما أَكْفَرَهُ) ، تعجّب من إفراطه في كفران نعمة الله.

فإن قيل : الدعاء على الإنسان إنما يليق بالعاجز ، والقادر على الكلّ كيف يليق به

__________________

(١) الفخر الرازي ٣١ / ٥٤.

(٢) ينظر : لجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٤٢.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٤٦) ، من طريق الأعمش عن مجاهد. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٥٢٠) ، وعزاه إلى ابن المنذر.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣١ / ٥٤.

(٥) سقط من : أ.

١٦٠