اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وقال الفرّاء وأبو عبيد : والتخفيف أحسن وأقيس ، نحو : غرفة وغرف ، وطرفة وطرف وحجرة وحجر وفتح الميم لغة بني عقيل. وقيل : إنها لغة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فصل في الكلام على الآية

فإن قيل : قال ابن الخطيب (١) : قوله : «للصّلاة» ، أي : لوقت الصلاة ، بدليل قوله : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) ولا تكون الصلاة من اليوم وإنما يكون وقتها من اليوم.

فالجواب : روى سلمان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّما سمّيت جمعة لأنّ الله جمع فيها خلق آدم» (٢).

وقيل : لأن الله ـ تعالى ـ فرغ فيها من خلق كل شيء فاجتمع فيها جميع المخلوقات. وقيل : لتجتمع الجماعات فيها. وقيل : لاجتماع النّاس فيها للصلاة.

قوله : (مِنْ يَوْمِ).

«من» هذه بيان ل «إذا» وتفسير لها. قاله الزمخشري (٣).

وقال أبو البقاء (٤) : إنها بمعنى «في» أي : في يوم ، كقوله تعالى : (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) [فاطر : ٤٠] ، أي : في الأرض.

فصل في أول من قال أما بعد وسمى الجمعة

قال القرطبي (٥) رحمه‌الله تعالى : قال أبو سلمة : أول من قال : أما بعد ، كعب بن لؤي وكان أول من سمى الجمعة جمعة لاجتماع قريش فيه إلى كعب ، وكان يقال ليوم الجمعة : العروبة.

وقيل : أول من سماها جمعة : الأنصار.

قال ابن سيرين : جمّع أهل «المدينة» من قبل أن يقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة ، وقبل أن ننزل الجمعة ، وهم الذين سموها الجمعة ، وذلك أنهم قالوا : إن اليهود يجتمعون فيه في كل سبعة أيام وهو يوم السّبت ، وللنصارى يوم مثل ذلك وهو الأحد ، فتعالوا فلنجتمع حتى نجعل يوما لنا نذكر الله فيه ونصلي فيه ونستذكر ، فقالوا : يوم السبت لليهود ، ويوم

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٨.

(٢) أخرجه أحمد (٥ / ٤٣٩) والحاكم (١ / ٢٧٧) من حديث سلمان وقال الحاكم : صحيح الإسناد ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٢٣) وزاد نسبته إلى النسائي وسعيد بن منصور وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٣٢.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٢٣ ، والدر المصون ٦ / ٣١٨.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٦٤.

٨١

الأحد للنصارى ، فاجعلوه يوم العروبة ، فاجتمعوا إلى أسعد بن زرارة فصلى بهم يومئذ ركعتين وذكّرهم ، فسموه يوم الجمعة حين اجتمعوا ، فذبح لهم أسعد شاة فتعشّوا وتغدّوا منها لقلتهم فهذه أول جمعة في الإسلام.

وروي أنهم كانوا اثني عشر رجلا (١).

وقال البيهقي : وروينا عن موسى بن عقبة عن الزهري أن مصعب بن عمير كان أول من جمع الجمعة للمسلمين بالمدينة قبل أن يقدمها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢) قال البيهقي : يحتمل أن يكون مصعب جمع بهم بمعونة أسعد بن زرارة ، فأضافه كعب إليه.

وروي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه كعب : أنه كان إذا سمع النداء يوم الجمعة ترحّم لأسعد بن زرارة ، فقلت له : إذا سمعت النداء ترحمت لأسعد بن زرارة قال : لأنه أول من جمع بنا في هزم النّبيت من حرّة بني بياضة في بقيع يقال له : بقيع الخضمات ، قلت له : كم كنتم يومئذ؟ قال : أربعين (٣).

ذكره البغوي.

وأما أول جمعة جمعها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأصحابه ، [فقال أهل السير (٤) : قدم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم](٥) مهاجرا حتى نزل ب «قباء» على بني عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنين عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول حين اشتد الضحى ، ومن تلك السّنة يعدّ التاريخ فأقام بها إلى يوم الخميس وأسس مسجدهم ، ثم خرج يوم الجمعة إلى المدينة فأدركته في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم اتخذ القوم في ذلك الموضع مسجدا ، فجمع بهم

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٦٤.

(٢) ذكره السيوطي في الدر المنثور ٦ / ٣٢٦ وقال : أخرجه الدار قطني عن ابن عباس قال أذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الجمعة قبل أن يهاجر ، ولم يستطع أن يجمع بمكة ، فكتب إلى مصعب بن عمير : أما بعد ، فانظر اليوم الذي يجهر فيه اليهود بالزبور ، فاجمعوا نساءكم وأبناءكم ، فإذا مال النهار عن شطره عند الزوال من يوم الجمعة فتقربوا إلى الله بركعتين. فهو أول من جمع حتى قدم النبي المدينة فجمع بعد الزوال من الظهر ، وأظهر ذلك.

وأخرجه ابن سعد في الطبقات ٣ / ٨٨ من طريق سفيان عن ابن جريج عن عطاء قال : أول من جمع بالمدينة رجل من بني عبد الدار. قال قلت بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ قال : الفم ، فمه؟ قال سفيان : يقول : وهو مصعب بن عمير.

وذكره الهيثمي في المجمع ٢ / ١٧٩ وقال : رواه الطبراني في الأوسط والكبير ، وفيه صالح بن أبي الأخضر ، وفيه كلام.

وينظر طبقات ابن سعد ٣ / ٨٧ ، ٨٨.

(٣) أخرجه أبو داود ١ / ٣٤٨ في الصلاة ، (١٠٦٩) وابن ماجه (١ / ٣٤٤) في إقامة الصلاة (١٠٨٤) والبيهقي ٣ / ١٧٦ ، وذكره البغوي في تفسيره ٤ / ٣٤١.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ٦٥.

(٥) سقط من أ.

٨٢

وخطب ، وهي أول جمعة خطبها بالمدينة ، وقال فيها : «الحمد لله ، أحمده ، وأستعينه ، وأستغفره وأستهدي به ، وأومن به ولا أكفره ، وأعادي من يكفر به ، وأشهد ألا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله ، أرسله الله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كله والنّور والموعظة والحكمة ، على فترة من الرّسل ، وقلّة العلم وضلالة من النّاس ، وانقطاع من الزّمان ، ودنوّ من السّاعة ، وقرب من الأجل ؛ من يطع الرّسول فقد رشد ومن يعصي الله ورسوله فقد غوى وفرّط وضلّ ضلالا بعيدا. وأوصيكم بتقوى الله فإنّه خير ما أوصيكم وخير ما أوصى به المسلم المسلم أن يحضّه على الآخرة وأن يأمره بتقوى الله ، واحذروا ما حذّركم الله من نفسه ، فإنّ تقوى الله من عمل به على وجل ومخافة من ربّه عنوان صدق على ما تبغون من الآخرة ومن يصلح الذي بينه وبين الله من أمره في السّرّ والعلانية لا ينوي به إلّا وجه الله يكن له ذكرا في عاجل أمره وذخرا فيما بعد الموت حين يفتقر المرء إلى ما قدّم وما كان ممّا سوى ذلك (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) [آل عمران : ٣٠].

هو الّذي صدق قوله ، وأنجز وعده ، لا خلف لذلك فإنّه يقول : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة ق : ٢٩].

فاتّقوا الله في عاجل أمركم وآجله ، في السّرّ والعلانية ، فإنّه (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) [الطلاق : ٥].

ومن يتّق الله فقد فاز فوزا عظيما.

وإنّ تقوى الله توقي مقته وتوقي عقوبته وتوقي سخطه ، وإنّ تقوى الله تبيّض الوجوه وترضي الرّبّ ، وترفع الدّرجة ، فخذوا حذركم ولا تفرّطوا في جنب الله فقد علّمكم في كتابه ونهج لكم سبيله ، ليعلم الّذين صدقوا وليعلم الكاذبين ، فأحسنوا كما أحسن الله إليكم ، وعادوا أعداءه ، وجاهدوا في الله حقّ جهاده هو اجتباكم وسمّاكم المسلمين ، (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) [الأنفال : ٤٢] ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم ، فأكثروا من ذكر الله تعالى واعملوا لما بعد الموت ، فإنّه من يصلح ما بينه وبين الله يكفه الله ما بينه وبين النّاس ، ذلك بأنّ الله يقضي بين النّاس ولا يقضون عليه ، ويملك من النّاس ولا يملكون منه ، الله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم» (١).

فصل في خطاب الله للمؤمنين

خاطب الله المؤمنين بالجمعة دون الكافرين تشريفا لهم وتكريما ، فقال : (يا أَيُّهَا

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ٦٥.

٨٣

الَّذِينَ آمَنُوا) ، ثمّ خصه بالنّداء وإن كان قد دخل في عموم قوله تعالى : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى (١) الصَّلاةِ) [المائدة : ٥٨] ليدلّ على وجوبه وتأكيد فرضه (١).

وقال بعض العلماء : كون الصّلاة الجمعة هاهنا معلوم بالإجماع لا من نفس اللفظ.

وقال ابن العربي (٢) : «وعندي أنه معلوم من نفس اللفظ بنكتة ، وهي قوله : (مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ) وذلك يفيده لأن النداء الذي يختصّ بذلك اليوم هو نداء تلك الصلاة ، وأما غيرها فهو عام في سائر الأيام ، ولو لم يكن المراد به نداء الجمعة لما كان لتخصيصه بها وإضافته إليها معنى ولا فائدة».

فصل

كان الأذان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما في سائر الصلوات مؤذن واحد إذا جلس النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم على المنبر أذن مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكذلك فعل أبو بكر وعمر وعلي ب «الكوفة» ثم زاد عثمان أذانا ثانيا على داره التي تسمى الزوراء حين كثر الناس بالمدينة ، فإذا سمعوا أقبلوا حتى إذا جلس عثمان على المنبر أذّن مؤذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يخطب عثمان. أخرجه ابن ماجه في سننه(٣).

وقال الماوردي (٤) : فأما الأذان الأول فمحدث ، فعله عثمان بن عفّان ليتأهب النّاس لحضور الخطبة عند اتساع «المدينة» وكثرة أهلها ، وقد كان عمر ـ رضي الله عنه ـ أمر أن يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم ، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد فجعله عثمان ـ رضي الله عنه ـ أذانين في المسجد.

قال ابن العربي (٥) : وفي الحديث الصحيح : أن الأذان كان على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم واحدا ، فلما كان زمن عثمان زاد النداء الثالث على الزوراء ، وسماه في الحديث (٦) : ثالثا ، لأنه إضافة إلى الإقامة ، لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ «بين كلّ أذانين صلاة لمن شاء» يعني الأذان والإقامة.

وتوهّم بعض الناس أنه أذان أصلي ، فجعلوا المؤذنين ثلاثة ، فكان وهما ، ثم جمعوهم في وقت واحد فكان وهما على وهم (٧).

قوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٦٦.

(٢) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ٣٨٠٤.

(٣) أخرجه ابن ماجه (١ / ٣٥٩) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها باب : ما جاء في الأذان يوم الجمعة (١١٣٥).

(٤) ينظر : النكت والعيون ٦ / ٩.

(٥) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٨٠٣.

(٦) تقدم.

(٧) ينظر : القرطبي ١٨ / ٦٦.

٨٤

قيل : المراد بالسعي هنا القصد. قال الحسن : والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية.

وقال الجمهور : السعي العمل كقوله تعالى : (وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ) [الإسراء : ١٩] ، وقوله : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) [من سورة الليل] ، وقوله : (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) [النجم : ٣٩].

والمعنى : فاعملوا على المضي إلى ذكر الله واشتغلوا بأسبابه من الغسل والطهر والتوجه إليه.

وقيل : المراد به السعي على الأقدام ، وذلك فضل ، وليس بشرط ، لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من اغبرّت قدماه في سبيل الله حرّمه الله على النّار» (١).

قال القرطبي (٢) : «ويحتمل ظاهره وجها رابعا ، وهو الجري والاشتداد».

قال ابن العربي (٣) : وهو الذي أنكره الصّحابة والفقهاء الأقدمون ، فقرأها (٤) عمر ـ رضي الله عنه ـ : «فامضوا إلى ذكر الله» فرارا عن طريق الجري والاشتداد الذي يدل عليه الظاهر.

وقرأ ابن مسعود كذلك ، وقال : لو قرأت : «فاسعوا» لسعيت حتى يسقط ردائي.

وقال ابن شهاب : [فامضوا](٥) إلى ذكر الله ، سالكا تلك السبيل ، وهو كله تفسير منهم لا قراءة قرآن منزل ، وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير.

قال أبو بكر بن الأنباري : وقد احتج من خالف المصحف بقراءة عمر وابن مسعود ، وأن خرشة بن الحر قال : رآني عمر ـ رضي الله عنه ـ ومعي قطعة فيها : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) فقال عمر : من أقرأك هذا؟ قلت : أبيّ ، فقال : إن أبيّا أقرؤنا للمنسوخ ثم قرأ عمر : «فامضوا إلى ذكر الله».

وقال الفراء وأبو عبيدة : معنى السّعي في الآية المضي للجمعة.

واحتج الفراء بقولهم : هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله (٦).

واحتج أبو عبيدة بقول الشاعر : [السريع]

__________________

(١) أخرجه البخاري (٢ / ٤٥٣) كتاب الجمعة ، باب : المشي إلى الجمعة رقم (٩٠٧) والترمذي (١٦٣٢) والنسائي (٦ / ١٤) من حديث أبي عيسى بن جبر.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٦٧.

(٣) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٨٠٤.

(٤) وقرأ بها عليّ وأبيّ وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وابن الزبير ، وجماعة من التابعين كما في المحرر الوجيز ٥ / ٣٠٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٦٥ ، والقرطبي ١٨ / ٦٧.

(٥) في أ : فاسعوا.

(٦) ينظر معاني القرآن للفراء ٣ / ١٥٦.

٨٥

٤٧٦٩ ـ أسعى على جدّ بني مالك

كلّ امرىء في شأنه ساع (١)

فهل يحتمل السعي في هذا البيت المضي والانكماش ، ومحال أن يخفى هذا المعنى على ابن مسعود وعلى فصاحته وإتقان عربيته.

قال القرطبي (٢) : وما يدلّ على أن المراد هنا العدو ، قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إذا أقيمت الصّلاة فلا تأتونا وأنتم تسعون ولكن ائتوها وعليكم السّكينة» (٣).

قال الحسن رضي الله عنه : أما والله ما هو بالسّعي على الأقدام ، ولقد نهوا أن يأتوا الصّلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن بالقلوب والنية والخشوع.

وقال قتادة : السعي أن تسعى بقلبك وعملك (٤).

فصل في أن الآية خطاب للمكلفين

هذه الآية خطاب للمكلفين [بالإجماع](٥) ويخرج منه المرضى والزمنى والمسافرون والعبيد والنساء بالدليل والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة (٦).

لما روى الدار قطني عن أبي الزبير عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلّا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبيّ أو مملوك ، فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله ـ عزوجل ـ عنه ، (وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ)(٧).

قال العلماء رضي الله عنهم : لا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر لا يمكنه معه الإتيان إليها كالمرض الحابس أو خوف الزيادة في المرض أو خوف جور

__________________

(١) يروى جل مكان جد.

ينظر : القرطبي ١٨ / ٦٧ ، واللسان (سعى).

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٦٧.

(٣) تقدم.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٢٨) وعزاه إلى عبد بن حميد والبيهقي في «شعب الإيمان» عن قتادة.

(٥) في أ : بالجمعة.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٦٨.

(٧) أخرجه الدار قطني (٢ / ٣) كتاب الجمعة ، باب : من تجب عليه الجمعة رقم (١) والبيهقي (٣ / ١٨٤) من طريق ابن لهيعة ثني معاذ بن محمد الأنصاري عن أبي الزبير عن جابر به.

قال شمس الحق آبادي في «التعليق المغني» : وفيه ابن لهيعة عن معاذ بن محمد الأنصاري وهما ضعيفان.

وللحديث شاهد من حديث طارق بن شهاب مرسلا ، أخرجه أبو داود (١٠٥٦) والدار قطني (٢ / ٣) والبيهقي (٣ / ١٨٣) وقال البيهقي : هذا الحديث وإن كان فيه إرسال فهو مرسل جيد فطارق من خيار التابعين وممن رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإن لم يسمع منه ولحديثه هذا شواهد.

٨٦

السلطان عليه في مال أو ولد دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع.

وروى المهدوي عن مالك أنهما ليسا بعذر.

ومن له ولي حميم قد حضرته الوفاة ، ولم يكن عنده من يقوم بأمره فهو معذور ، وقد فعل ذلك ابن عمر رضي الله عنه ، ومن تخلف عنها لغير عذر فصلى قبل الإمام أعاده ولا يجزيه أن يصلي قبله وهو عاص في تخلفه ذلك مع إمكانه.

فصل في وجوب السعي

وجوب السعي يختص بالقريب الذي يسمع النداء ، فأما البعيد الذي لا يسمع النداء فلا يجب عليه السعي.

واختلف الناس في القريب والبعيد (١).

فقال ابن عمرو وأبو هريرة رضي الله عنهما وأنس : تجب الجمعة على من كان في المصر على ستة أميال.

وقال ربيعة : أربعة أميال.

وقال مالك والليث : ثلاثة أميال.

وقال الشافعيّ : اعتبار سماع الأذان أن يكون المؤذن صيّتا ، والأصوات هادئة ، والريح ساكنة ، وموقف المؤذن عند سور البلد.

وروت عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن الناس كانوا ينتابون الجمعة من منازلهم من العوالي فيأتون في الغبار ويصيبهم الغبار فيخرج منهم الريح ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو اغتسلتم ليومكم هذا»(٢).

قال العلماء : والصوت إذا كان رفيعا والناس في هدوء وسكون ، فأقصى سماع الصوت ثلاثة أميال ، والعوالي من «المدينة» أقربها على ثلاثة أميال.

وقال أحمد بن حنبل وإسحاق : تجب الجمعة على من سمع النداء لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنّما الجمعة على من سمع النّداء» (٣).

وقال أبو حنيفة وأصحابه : تجب الجمعة على من في المصر سمع النداء أو لم يسمعه ولا تجب على من هو خارج المصر ولو سمع النداء ، حتى سئل : وهل تجب الجمعة على أهل «زبارة» وهي بينها وبين الكوفة مجرى نهر؟ فقال : لا.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٦٨.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي (١٨ / ٦٨).

(٣) أخرجه الدار قطني (٢ / ٦) والبيهقي (٢ / ١٧٣) من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا.

٨٧

وروي عن ربيعة أيضا : أنها تجب على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة.

فصل في وجوب الجمعة بالنداء (١)

دلّت هذه الآية على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء ، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إذا حضرت الصّلاة فليؤذّن أحدكما وليؤمّكما أكبركما»(٢).

وروى أنس بن مالك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس» (٣).

وروي عن أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ وأحمد بن حنبل : أنها تصلى قبل الزوال ، واستدل أحمد بحديث سلمة بن الأكوع : «كنا نصلّي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ننصرف وليس للحيطان ظلّ».

وحديث ابن عمر : «ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة».

وأخرج مسلم مثله عن سهل.

قال القرطبي (٤) : وحديث سلمة محمول على التكبير ، لقول سلمة : «كنا نجمّع مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا زالت الشّمس ثم نرجع ونتتبّع الفيء».

فصل

نقل عن بعض الشافعية أن الجمعة فرض على الكفاية ، وجمهور الأمة على أنها فرض عين(٥) لقوله تعالى : (إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ).

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لينتهينّ أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمنّ الله على قلوبهم ثمّ ليكوننّ من الغافلين» (٦).

وروى ابن ماجه في «سننه» قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من ترك الجمعة ثلاث مرّات طبع الله على قلبه» (٧) ، إسناده صحيح.

__________________

(١) ينظر القرطبي ١٨ / ٦٨.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه البخاري (٢ / ٤٤٩) كتاب الجمعة ، باب : وقت الجمعة إذا زالت الشمس رقم (٩٠٤) والترمذي (٢ / ٣٧٧) رقم (٥٠٣ ، ٥٠٤) وأحمد (٣ / ١٢٨) من حديث أنس.

(٤) ينظر القرطبي ١٨ / ٦٨.

(٥) ينظر السابق.

(٦) أخرجه مسلم (٢ / ٥٩١) كتاب الجمعة ، باب : التغليظ في ترك الجمعة رقم (٤٠ / ٨٦٥) والدارمي (١ / ٣٦٨ ـ ٣٦٩) والبيهقي (٣ / ١٧١) من حديث أبي هريرة وابن عمر.

(٧) أخرجه ابن ماجه (١ / ٣٥٧) كتاب إقامة الصلاة ، باب : فيمن ترك الجمعة بغير عذر رقم (١١٢٦) من حديث جابر. ـ

٨٨

وقال ابن العربي (١) : ثبت عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الرّواح إلى الجمعة واجب على كلّ مسلم».

فصل في العدد الذي تنعقد به الجمعة (٢)

اختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة.

فذهب قوم إلى أن كل قرية اجتمع فيها أربعون رجلا أحرارا عاقلين مقيمين لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفا إلا ظعن حاجة تجب عليهم إقامة الجمعة فيها ، وهو قول عبيد الله بن عبد الله وعمر بن عبد العزيز ، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق ، قالوا : لا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلا على هذه الصفة ، وشرط عمر بن عبد العزيز مع الأربعين أن يكون فيهم وال ، وعند أبي حنيفة تنعقد بأربعة والوالي شرط.

وقال الأوزاعي وأبو يوسف : تنعقد بثلاثة إذا كان فيهم وال.

وقال الحسن وأبو ثور : تنعقد باثنين كسائر الصلوات.

وقال ربيعة : تنعقد باثني عشر رجلا.

فصل في اجتماع العيد والجمعة (٣)

إذا اجتمع العيد والجمعة سقط فرض الجمعة عند أحمد لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عنها ، ولما روي أن عثمان أذن في [يوم](٤) عيد لأهل العوالي أن يتخلفوا عن الجمعة.

وقال غيره : لا يسقط فرض الجمعة لأن الأمر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام ، وقول الصحابي ليس بحجة إذا خولف فيه ولم يجمع معه عليه.

وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) [الأعلى : ١] و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) [الغاشية : ١] قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضا في الصّلاتين» أخرجه أبو داود والترمذي والنّسائي وابن ماجه.

قوله : (إِلى ذِكْرِ اللهِ).

أي : الصلاة.

__________________

ـ وقال البوصيري في «الزوائد» (١ / ٣٧٥) : هذا إسناد صحيح ورجاله ثقات ورواه الحاكم من طريق ابن أبي ذئب بإسناده ومتنه.

(١) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٨٠٨.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٧٣.

(٣) السابق ١٨ / ٧٠.

(٤) سقط من أ.

٨٩

وقيل : الخطبة والمواعظ. قاله سعيد بن جبير.

قال ابن العربي (١) : والصحيح أنه واجب في الجميع ؛ لأنها تحرم البيع ، ولو لا وجوبها ما حرمته ؛ لأن المستحبّ لا يحرم المباح.

قال القرطبي (٢) : وإذا قلنا : إنّ المراد بالذّكر الصّلاة فالخطبة من الصّلاة ، والعبد يكون ذاكرا لله بقلبه كما يكون مسبحا لله بفعله.

قال الزمخشري (٣) : «فإن قلت : كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها غير ذلك؟.

قلت : ما كان من ذكر رسول الله والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير ، فهو في حكم ذكر الله ، فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم وهم أحقاء بعكس ذلك».

فصل في السفر يوم الجمعة

ذهب بعضهم إلى أنه إذا أصبح يوم الجمعة مقيما فلا يسافر حتى يصلي الجمعة ، وذهب بعضهم إلى الجواز ، لما روى ابن عباس رضي الله عنهما قال : بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن رواحة في سرية فوافق ذلك يوم الجمعة ، فغدا أصحابه وقال أتخلف فأصلي مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم ألحقهم ، فلما صلى مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآه فقال : «ما منعك أن تغدو مع أصحابك» ، قال: أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم ، فقال : «لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت» (٤) فصلى غدوتهم.

وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا عليه أهبة السفر ، يقول : لو لا أن اليوم الجمعة لخرجت ، فقال له عمر : اخرج فإن الجمعة لا تحبس عن سفر (٥).

قوله : (وَذَرُوا الْبَيْعَ).

يدل على تحريم البيع في وقت الجمعة على من كان مخاطبا بفرضها ، والبيع لا

__________________

(١) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٨٠٥.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٧٠.

(٣) الكشاف ٤ / ٥٣٥.

(٤) أخرجه الترمذي ٢ / ٤٠٥ ـ ٤٠٦ ، في كتاب الصلاة ، باب : ما جاء في السفر يوم الجمعة (٥٢٧) ، وقال حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ورواه أحمد مختصرا ١ / ٢٥٦ ، (٢٣١٧) ، من طريق أبي خالد الأحمر عن حجاج عن الحكم. ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٣ / ١٨٧ من طريق الحسن بن عياش عن الحجاج. ورواه أيضا حماد بن سلمة وأبو معاوية عن حجاج بن أرطأة والحجاج ينفرد به وللحديث شاهد بإسناد جيد يدل على صحة رواية الحجاج والحكم عن مقسم فقد رواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر (ص ٢٩٨) ، من طريق ابن لهيعة عن زبان بن فائد عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) أخرجه الشافعي (١ / ١٥٤) وذكره البغوي في «شرح السنة» (٢ / ٥٦٥.

٩٠

يخلو عن شراء فاكتفى بذكر أحدهما ، كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [النحل : ٨١] وخص البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق ، ومن لا يجب عليه حضور الجمعة ، فلا ينهى عن البيع والشراء.

وفي وقت التحريم قولان (١) :

أحدهما : أنه من بعد الزّوال إلى الفراغ منها. قاله الضحاك ، والحسن ، وعطاء.

الثاني : أنه من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصّلاة. قاله الشافعي.

قال القرطبي : «ومذهب مالك أن البيع يفسخ إذا نودي للصلاة ، ولا يفسخ العتق والنكاح والطلاق وغيره ، إذ ليس من عادة الناس اشتغالهم به كاشتغالهم بالبيع ، قال : وكذلك الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ» (٢).

قال ابن العربي (٣) : «والصحيح فسخ الجميع ؛ لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعا مفسوخ».

وحمل بعضهم النهي على الندب لقوله تعالى : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) ، وهو مذهب الشافعي ؛ فإن البيع عنده ينعقد ولا يفسخ.

وقال الزمخشري (٤) : إن عامة العلماء على أن ذلك النهي لا يؤدي إلى فساد البيع ، قالوا : لأن البيع لم يحرم لعينه ، ولكن لما فيه عن الذّهول عن الواجب ، فهو كالصلاة في الدار والثوب المغصوب ، والوضوء بماء مغصوب.

قال القرطبي (٥) : «والصّحيح فساده وفسخه لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ «كلّ عمل ليس عليه أمرنا فهو ردّ» (٦) أي : مردود.

ثم قال : «ذلكم» أي : ذلك الذي ذكرت من حضور الجمعة وترك البيع (خَيْرٌ لَكُمْ) من المبايعة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) مصالح أنفسكم.

قوله : (فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ).

هذا أمر إباحة كقوله : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢] ، والمعنى : إذا فرغتم من الصلاة (فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) للتجارة والتصرف في حوائجكم (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) أي : من رزقه (٧).

وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال :

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٧٠.

(٢) القرطبي ١٨ / ٧٠.

(٣) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٨٠٦.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٣٦.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٧١.

(٦) تقدم.

(٧) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٧١.

٩١

اللهم إني أجبت دعوتك ، وصلّيت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك رزقا حلالا وأنت خير الرازقين.

وقال جعفر بن محمد في قوله تعالى : (وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ) : إنه العمل في يوم السبت.

وقال سعيد بن المسيب : طلب العلم.

وقيل : صلاة التطوع (١).

وقال ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ، إنما هي عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة الأخ في الله تعالى (٢).

فصل

في فضل يوم الجمعة أحاديث كثيرة.

منها ما روي عن أبي هريرة قال : خرجت إلى الطور فلقيت كعب الأحبار ، فجلست معه ، فحدثني عن التوراة وحدثته عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان فيما حدثته أن قلت له : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «خير يوم طلعت فيه الشّمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه هبط من الجنة ، وفيه مات ، وفيه تيب عليه ، وفيه تقوم السّاعة ، وما من دابّة إلّا وهي مسبّحة في يوم الجمعة من حين تصبح حتّى تطلع الشّمس شفقا من السّاعة إلّا الجنّ والإنس وفيها ساعة لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلّي فيسأل الله شيئا إلّا أعطاه إيّاه».

قال كعب : ذلك في كل سنة يوم؟ فقلت : بل في كل جمعة ، قال : فقرأ كعب التوراة فقال : صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال أبو هريرة : ثم لقيت عبد الله بن سلام فحدثته بمجلسي مع كعب الأحبار وما حدثته في يوم الجمعة ، قال عبد الله بن سلام : قد علمت أية ساعة هي؟ هي في آخر ساعة من يوم الجمعة.

قال أبو هريرة : وكيف تكون آخر ساعة من يوم الجمعة ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يصادفها عبد مسلم ، وهو يصلّي» وتلك السّاعة لا يصلّى فيها؟ فقال عبد الله بن سلام : ألم يقل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من جلس مجلسا ينتظر الصّلاة فهو في صلاة حتّى يصلّيها»؟ (٣).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٧١.

(٢) ورد هذا مرفوعا من حديث أنس بن مالك وابن عباس أما حديث أنس فأخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٩٧) وحديث ابن عباس ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٣٠) وعزاه إلى ابن مردويه.

(٣) أخرجه مالك في الموطأ ١ / ١٠٨ ـ ١١٠ ، في كتاب الجمعة (١٦) ، وأحمد في المسند ٢ / ٤٨٦ ، وأبو داود ١ / ٦٣٤ ـ ٦٣٥ ، في الصلاة ، باب : تفريع أبواب الجمعة ، باب : فضل يوم الجمعة (١٠٤٦) والترمذي ٢ / ٣٦٢ ـ ٣٦٣ ، أبواب الصلاة ، باب : ما جاء في الساعة التي ترجى في يوم ـ

٩٢

قال أبو هريرة : بلى. قال : «فهو ذاك».

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من اغتسل يوم الجمعة واستنّ ومسّ طيبا إن كان عنده ولبس من أحسن ثيابه ثمّ خرج حتّى يأتي المسجد ولم يتخطّ رقاب النّاس ثمّ ركع ما شاء الله أن يركع وأنصت إذا خرج الإمام ، كانت كفّارة لما بينهما وبين الجمعة الأخرى الّتي كانت قبلها»(١).

وقال أبو هريرة : وزيادة ثلاثة أيام ؛ لأن الله تعالى يقول : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) [الأنعام : ١٦٠].

وروى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إذا كان يوم الجمعة كان على كلّ باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون [النّاس على منازلهم](٢) ، الأوّل فالأوّل ، فإذا خرج الإمام طويت الصّحف واستمعوا الخطبة» (٣).

وقال : «من اغتسل يوم الجمعة ، ثمّ راح في السّاعة الأولى ، فكأنّما قرّب بدنة ، ومن راح في السّاعة الثّانية فكأنّما قرّب بقرة ، ومن راح في السّاعة الثّالثة فكأنّما قرّب كبشا ، ومن راح في السّاعة الرّابعة فكأنّما قرّب دجاجة [ومن راح في الساعة الخامسة ، فكأنما قرب عصفورا](٤) ، ومن راح في السّاعة السادسة ، فكأنّما قرّب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذّكر» (٥).

قوله : (وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي : بالطاعة واللسان ، وبالشكر على ما أنعم به عليكم من التوفيق لأداء فرائضه (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [كي تفلحوا](٦).

وقال سعيد بن جبير : الذكر طاعة الله ، فمن أطاع الله فقد ذكره ؛ ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن كان كثير التسبيح (٧).

__________________

ـ الجمعة (٤٩١) ، والنسائي ٣ / ١١٣ ـ ١١٥ ، في كتاب الجمعة ، باب : ذكر الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة وأخرجه البيهقي ٣ / ٢٥٠ في كتاب الجمعة ، باب : الساعة التي في يوم الجمعة.

(١) أخرجه أبو داود ١ / ٩٤ ـ ٩٥ ، في كتاب الطهارة ، باب : في الغسل يوم الجمعة (٣٨٣) ، وأخرجه أحمد في المسند ٣ / ٨١ ؛ والحاكم في المستدرك ١ / ٣٨٣ ، وصححه ووافقه الذهبي.

(٢) في أ : المصلين الساعين من منازلهم إلى الجمعة.

(٣) أخرجه البخاري ٢ / ٤٧٢ ، في كتاب الجمعة ، باب : الاستماع إلى الخطبة (٩٢٩) ، (٣٢١١) وأخرجه مسلم ٢ / ٥٨٧ ، في كتاب الجمعة ، باب : فضل التهجير يوم الجمعة ٢٤ / ٨٥٠ ، والشافعي ١ / ١٥٥.

(٤) هذه الزيادة عند النسائي ، باب : التبكير إلى الجمعة وانظر : نصب الراية ٣ / ٩٩.

(٥) أخرجه البخاري ٢ / ٤٢٥ ، في كتاب الجمعة ، باب : فضل الجمعة (٨٨١) ، ومسلم ٢ / ٥٨٢ ، في الجمعة باب : الطيب والسواك (١٠ / ٨٥٠) ، ومالك في الموطأ ١ / ١٠١ ، في الجمعة ، باب : العمل في غسل يوم الجمعة (١).

(٦) سقط من أ.

(٧) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٧.

٩٣

قال ابن الخطيب (١) : فإن قيل : ما الفرق بين ذكر الله أولا وذكر الله ثانيا؟.

فالجواب : أن الأول من جملة ما لا يجتمع مع التجارة أصلا إذ المراد منه الخطبة والصلاة والثاني من جملة ما يجتمع مع التجارة كما في قوله تعالى : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا (٢) بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٧].

قوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها).

روى مسلم عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من «الشام» فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثني عشر رجلا ، وفي رواية : أنا فيهم ، فنزلت هذه الآية : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً)(٢).

وذكر الكلبي : أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من «الشام» في مجاعة وغلاء سعر (٣) وكان معه جميع ما يحتاج إليه الناس من برّ ودقيق وغيره فنزلت عند أحجار الزيت وضرب بالطبل ليعلم الناس بقدومه فخرج الناس إلا اثني عشر رجلا وقيل إلا أحد عشر رجلا وحكى البغوي قال : فلما رأوه قاموا إليه خشية أن يسبقوا إليه قال الكلبي وكانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليه وبقي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانية رجال حكاه الثعلبي عن ابن عباس وذكر الدارقطني من حديث جابر قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع فالتفتوا إليها وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس معه إلّا أربعين رجلا أنا منهم قال : وأنزل الله تعالى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) قال الدارقطني لم يقل في هذه الآثار إلّا أربعين رجلا غير علي بن عاصم بن حصين وخالفه أصحاب حصين فقالوا لم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلّا اثني عشر رجلا. واحتج بهذا الحديث من يرى أن الجمعة تنعقد باثني عشر رجلا وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة وذكر الزمخشري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا».

وروي في حديث مرسل عن أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد وفيه أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبق معه إلا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وأبو عبيدة عامر بن الجراح وسعيد بن زيد وبلال وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايتين وفي الرواية الأخرى عمار بن ياسر قال القرطبي ولم يذكر جابرا وذكر مسلم أنه كان فيهم والدار قطني أيضا فيكونون ثلاثة عشر وإن كان عبد الله بن مسعود بينهم فهم أربعة عشر.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٠.

(٢) أخرجه البخاري ٢ / ٤٩٠ ، في كتاب الجمعة ، باب : إذا نفر الناس عن الإمام (٩٣٦) و (٢٠٥٨) ، (٢٠٦٤) ، (٤٨٩٩) ، ومسلم ٢ / ٥٩٠ ، في كتاب الجمعة ، باب : «وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً» (٣٦ / ٨٦٣).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٧٢) عن الكلبي.

٩٤

وروى البغوي قال : وكان ذلك قبل أن يسلم دحية ، قال : فخرج الناس إليه ، ولم يبق في المسجد إلا اثنا عشر رجلا وامرأة ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو قام هؤلاء لقد سومت لهم الحجارة من السماء» فأنزل الله هذه الآية (١).

فصل

وذكر أبو داود في مراسيله : السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة ، وقد كانوا خليقا بفضلهم ألّا يفعلوا ، فقال : حدثنا محمود بن خالد ، قال : حدثنا الوليد ، قال : أخبرني أبو معاذ بكير بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب وقد صلى الجمعة ، فدخل رجل فقال : إن دحية بن خليفة قدم بتجارته ، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفوف ، فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء ، فأنزل الله ـ عزوجل ـ (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً) فقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة فكان لا يخرج أحد لرعاف أو إحداث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام ، فيأذن له النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم يشير إليه بيده ، فكان في المنافقين من يثقل عليه الخطبة والجلوس في المسجد ، فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق في جنبه مستترا به حتى يخرج ، فأنزل الله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً) [النور : ٦٣] الآية (٢).

قال السّهيلي : وهذا الخبر وإن لم ينقل من وجه ثابت فالظن الجميل بأصحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم يوجب أن يكون صحيحا. والله أعلم.

وقال قتادة : وقد بلغنا أنهم فعلوه ثلاث مرات ، كل مرة عير تقدم من «الشام» وكل ذلك يوافق يوم الجمعة (٣).

وقيل : إن خروجهم لقدوم دحية الكلبي بتجارة ونظرهم إلى العير تمر لهو لا فائدة فيه ، إلا أنه كان مما لا إثم فيه لو وقع على ذلك الوجه ، ولكنه لما اتصل به الإعراض عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم والانفضاض عن حضرته غلظ وكبر ، ونزل فيه من القرآن وتهجينه باسم اللهو ما نزل. وكان معه جميع ما يحتاج إليه الناس من بر ودقيق وغيره ، فنزل عند أحجار الزيت ، وضرب بالطبل [ليؤذن](٤) الناس بقدومه ، فخرج الناس إلا اثنا عشر رجلا.

__________________

(١) ينظر تفسير البغوي (٤ / ٣٤٥).

(٢) أخرجه أبو داود في «المراسيل» (ص ١٠٥) رقم (٦٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٣١) وعزاه إلى أبي داود في مراسيله عن مقاتل بن حيان.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٧٢) عن قتادة.

(٤) في أ : ليعلم.

٩٥

وقيل : أحد عشر رجلا.

وحكى البغوي قال (١) : «فلما رأوه قاموا خشية أن يسبقوا إليه».

قال الكلبي : كانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليه وبقي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثمانية رجال ، وحكاه الثعلبي عن ابن عباس (٢).

وذكر الدارقطني من حديث جابر قال : «بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع فالتفتوا إليها ، وانفضوا إليها ، وتركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس معه إلا أربعين رجلا أنا فيهم» ، قال : وأنزل الله على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : («وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً).

قال الدارقطني : لم يقل في هذا الاسناد : «إلا أربعين رجلا» غير علي بن عاصم عن حصين ، وخالفه أصحاب حصين ، فقالوا : لم يبق مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا اثنا عشر رجلا.

واحتج بهذا الحديث من يرى أن الجمعة تنعقد باثني عشر رجلا ، وليس فيه بيان أنه أقام بهم الجمعة. وذكر الزمخشري (٣) أن النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «والّذي نفسي بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا».

وروي في حديث مرسل عن أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد ، وفيه : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبق معه إلا أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وطلحة والزبير ، وسعد بن أبي وقاص ، وعبد الرحمن بن عوف ، وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعيد بن زيد ، وبلال وعبد الله بن مسعود في إحدى الروايتين ، وفي الرواية الأخرى عمار بن ياسر (٤).

قال القرطبي (٥) : «لم يذكر جابرا.

وذكر مسلم : أنه كان فيهم.

والدارقطني أيضا فيكونون ثلاثة عشر ، وإن كان عبد الله بن مسعود فيهم فهم أربعة عشر».

قوله : (انْفَضُّوا إِلَيْها).

أعاد الضمير على التجارة دون اللهو لأنها الأهم في السبب (٦).

قال ابن عطية (٧) : «وقال : إليها ، ولم يقل : إليهما ، تهمّما بالأهم ، إذ كانت هي

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٣٤٦.

(٢) ينظر القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٧٢) عن قتادة.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٣٦.

(٤) ينظر : القرطبي (١٨ / ٧٢) عن قتادة.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٧٢.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٨.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣١٠.

٩٦

سبب اللهو ، ولم يكن اللهو سببها ، وتأمل أن قدمت التجارة على اللهو في الرؤية ؛ لأنها أهم ، وأخرت مع التفضيل لتقع النفس أولا على الأبين» انتهى.

وفي قوله : «لم يقل : إليهما» ثم أجاب بما ذكر نظر ، لأن العطف «بأو» لا يثنى معه الضمير ولا الخبر ولا الحال ، ولا الوصف ؛ لأنها لأحد الشيئين ، ولذلك تأول الناس : (إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما) [النساء : ١٣٥] كما تقدم في موضعه.

وإنما الجواب عنه : أنه وحّد الضمير ؛ لأن العطف ب «أو» ، وإنما جيء بضمير التجارة دون ضمير اللهو ، وإن كان جائزا للاهتمام كما قاله ابن عطية وغيره.

وقال الزمخشري قريبا من ذلك فإنه قال (١) : فإن قلت : كيف قال : إليها ، وقد ذكر شيئين؟ فالجواب : تقديره : إذا رأوا تجارة انفضوا إليها أو لهوا انفضوا إليه ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه ، وكذلك قراءة من قرأ : انفضوا إليه. انتهى.

فقوله : «قلت : تقديره» إلى آخره ، يشعر بأنه كان حق الكلام أن يثنى الضمير ولكنه حذف ، وفيه ما تقدم من المانع من ذلك أمر صناعي وهو العطف ب «أو».

وقرأ ابن أبي (٢) عبلة : «إليه».

أعاد الضمير إلى اللهو ، وقد نصّ على جواز ذلك الأخفش سماعا من العرب ، نحو : إذا جاءك زيد أو هند فأكرمه ، وإن شئت فأكرمها.

وقرأ بعضهم (٣) : «إليهما» بالتثنية.

وتخريجها كتخريج : «إن يكن غنيّا أو فقيرا فالله أولى بهما» كما تقدم تحريره.

والمراد باللهو الطبل.

وقيل : كانت العير إذا قدمت «المدينة» استقبلوها بالتصفيق والصفير.

قوله : «وتركوك».

جملة حالية من فاعل «انفضّوا» و «قد» مقدرة عند بعضهم (٤).

فصل في أن الخطبة فريضة في صلاة الجمعة (٥)

الخطبة فريضة في صلاة الجمعة ، ويجب أن يخطب قائما فإن هذه الآية تدل على أن القيام شرط ، ويخطب متوكئا على قوس أو عصا ، لما روى ابن ماجه في سننه «أن

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٣٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٦٥ ، والدر المصون ٦ / ٣١٨.

(٣) السابق.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٨.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٧٤.

٩٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا خطب في الحرب خطب على قوس ، وإذا خطب في الجمعة خطب على عصا» (١).

وأن يخطب على منبر ؛ لأنه أبلغ في إعلام الحاضرين ، ويسلم إذا صعد المنبر على الناس. لما روى ابن ماجه عن جابر بن عبد الله : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا صعد المنبر سلم» (٢).

ولم ير ذلك مالك.

وهل تشترط الطهارة في الخطبة؟

فيه قولان مبنيان على أن الجمعة ظهر مقصورة ، أو فريضة مستقلة.

فإن قيل : بأنها ظهر مقصورة.

فقيل : الخطبتان عوض عن الركعتين الأخريين ، وعلى هذا فيشترط لهما الطهارة.

وإن قيل : بأنها فريضة مستقلة فالخطبتان وعظ وتذكير ، وذلك لا يشترط لها طهارة ، وأقل ما يجزىء في الخطبة أن يحمد الله ـ تعالى ـ ويصلي على نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويوصي بتقوى الله ، ويقرأ آية من القرآن ، وكذلك في الخطبة الثانية إلا أن الواجب بدلا من قراءة الآية الدعاء في قول أكثر الفقهاء.

وقال أبو حنيفة : لو اقتصر على التحميد ، أو التسبيح ، أو التكبير أجزأه.

وقال أبو يوسف ومحمد : الواجب ما تناوله اسم الخطبة.

قال ابن عبد البر : وهذا أصح ما قيل في ذلك.

قال القرطبي (٣) : «والسكوت للخطبة واجب على من سمعها وجوب سنّة».

قوله : (ما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ).

«ما» موصولة مبتدأ ، و «خير» خبرها (٤).

__________________

(١) أخرجه ابن ماجه (١ / ٣٥٢) كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها ، باب : ما جاء في الخطبة يوم الجمعة رقم (١١٠٧) والبيهقي (٣ / ٢٠٦) من طريق عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد ثني أبي عن أبيه عن جده به.

قال البوصيري في «الزوائد» (١ / ٣٦٩) : هذا إسناد ضعيف لضعف عبد الرحمن فمن فوقه ضعفاء.

وللحديث شاهد من حديث الحكم بن حزن ، أخرجه أبو داود (١ / ١٧٢) والبيهقي (٣ / ٢٠٦) وأحمد (٤ / ٢١٢).

(٢) أخرجه ابن ماجه (١ / ٣٥٢) المصدر السابق حديث رقم (١١٠٩) والبيهقي (٣ / ٢٠٤) من حديث جابر.

قال البوصيري في «الزوائد» (١ / ٣٧٠) : هذا إسناد ضعيف لضعف ابن لهيعة. وله شاهد من حديث ابن عمر ذكره الهيثمي في «المجمع» (٢ / ١٨٧) وقال : رواه الطبراني في «الأوسط» وفيه عيسى بن عبد الله الأنصاري وهو ضعيف وذكره ابن حبان في الثقات.

(٣) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٧٦.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٨.

٩٨

والمعنى (١) : ما عند الله من ثواب صلاتكم خير من لذّة لهوكم ، وفائدة تجارتكم.

وقيل : ما عندكم من رزقكم الذي قسمه لكم خير مما أصبتموه من لهوكم وتجارتكم.

وقرأ أبو رجاء (٢) العطاردي : «قل ما عند الله خير من اللهو ومن التجارة للذين آمنوا».

(وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ).

أي : خير من رزق وأعطى ، فمنه فاطلبوا واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيري الدنيا والآخرة.

قال ابن الخطيب (٣) : قوله (وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) من قبيل أحكم الحاكمين وأحسن الخالقين ، والمعنى : إن أمكن وجود الرازقين فهو خير الرازقين.

وقيل : لفظ الرّازق لا يطلق على غيره إلا بطريق المجاز.

فإن قيل : التّجارة واللهو من قبيل ما لا يرى غالبا ، فكيف يصحّ قوله : (وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً)؟.

فالجواب : ليس المراد إلا ما يقرب منه اللهو والتجارة ، كقوله : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦] إذ الكلام غير مسموع.

وروى الثعلبي عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الجمعة كتب له عشر حسنات بعدد من ذهب إلى الجمعة من مصر من أمصار المسلمين ومن لم يذهب» (٤).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٧٨.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) ينظر : التفسير الكبير ٣٠ / ١١.

(٤) تقدم.

٩٩

سورة المنافقون

مكية ، وهي إحدى عشرة آية ، ومائة وثمانون كلمة ، وسبعمائة وستة وسبعون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ)(٦)

قوله تعالى : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ).

«إذا» : شرط ، قيل : جوابه «قالوا».

وقيل : محذوف ، و «قالوا» : حال أي إذا جاءوك قائلين كيت وكيت فلا تقبل منهم.

وقيل : الجواب (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) ، وهو بعيد ، و «قالوا» أيضا : حال (١).

فصل في تعلق هذه السورة بالتي قبلها

قال ابن الخطيب (٢) : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن تلك السورة مشتملة على ذكر بعثة الرسول ، وذكر من كان يكذّبه قلبا ولسانا فضرب لهم المثل بقوله : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣١٩.

(٢) ينظر : التفسير الكبير ٣٠ / ١٢.

١٠٠