اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

فصل في تعلق الآية بما قبلها

في اتصال هذه الآية بما قبلها أنه تعالى أمره قبل هذه الآية بأربعة أشياء : إنذار القوم ، وتكبير الرب ، وتطهير الثياب ، وهجر الرجز ، ثم قال ـ جلّ ذكره ـ : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) ، أي : لا تمن على ربّك بهذه الأعمال الشاقة كالمستكثر لما يفعله بل اصبر على ذلك كله لوجه ربّك متقربا بذلك إليه غير ممتن به عليه.

قال الحسن ـ رحمه‌الله ـ : بحسناتك ، فتستكثرها (١).

وقال ابن عباس وقتادة وعكرمة : ولا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها (٢).

وقيل : لا تمنن على الناس بما تعلمهم من أمر الدين والوحي مستكثرا بذلك الإنعام ، فإنّما فعلت ذلك بأمر الله تبارك وتعالى ، فلا منة لك عليهم ، ولهذا قال تعالى : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ).

وقيل : لا تمنن عليهم بنبوتك ، أي : لتستكثر ، أي : لتأخذ منهم على ذلك أجرا تستكثر به مالك.

وقال مجاهد : لا تضعف أن تستكثر من الخير (٣) ، من قولك : حبل منين ، إذا كان ضعيفا ، ودليله قراءة ابن مسعود : ولا تمنن تستكثر من الخير وعن مجاهد أيضا ، والربيع : لا تعظم عملك في عينك أن تستكثر من الخير فإنه مما أنعم الله عليك (٤).

وقال ابن كيسان : لا تستكثر عملك فتراه من نفسك ، إنما عملك منة من الله عليك ، إذ جعل الله لك سبيلا إلى عبادته.

وقال زيد بن أسلم إذا أعطيت عطية فأعطها لربّك ، لا تقل : دعوت فلم يستجب لي.

وقيل : لا تفعل الخير لترائي به الناس.

فإن قيل هذا النهي مختص بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو يتناول الأمة؟.

فالجواب : أن ظاهر اللفظ قرينة الحال لا تفيد العموم ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنما نهي عن ذلك تنزيها لمنصب النبوة ، وهذا المعنى غير موجود في الأمة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٠٢).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٠١) عن ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٣٤) وقال رواه الطبراني وفيه عطية العوفي وهو ضعيف.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٢) عن عكرمة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٠٢) عن مجاهد.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٠٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٢) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

٥٠١

وقيل : المعنى في حقّ الأمة هو الرياء ، والله تعالى منع الكل من ذلك.

فإن قيل : هل هذا نهي تحريم أو تنزيه؟.

فالجواب : أن ظاهر النهي التحريم.

فصل في المقصود من الآية

قال القفال (١) : يحتمل أن يكون المقصود من الآية أن يحرم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعطي أحدا شيئا لطلب عوض سواء كان العوض زائدا أو ناقصا ، أو مساويا ، ويكون معنى قوله تعالى (تَسْتَكْثِرُ) ، أي : طالبا للكثرة كارها أن ينتقص المال بسبب العطاء ، فيكون الاستكثار ـ هاهنا ـ عبارة عن طلب العوض كيف كان ، وإنما حسنت هذه العبارة ، لأن الغالب أن الثواب زائد على العطاء ، فسمى طلب الثواب استكثارا ، حملا للشيء على أغلب أحواله ، كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ، ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها ، فسمي الولد ربيبا ، ثم اتسع الأمر ، وإن كان حين تتزوج أمه كبيرا ، ومن ذهب إلى هذا القول قال : السبب فيه أن يصير عطاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاليا عن انتظار العوض ، والتفات النفس إليه فيكون ذلك خالصا مخلصا لوجه الله تعالى.

قال القرطبي ـ رحمه‌الله (٢) ـ : «أظهر الأقوال قول ابن عباس «لا تعط لتأخذ أكثر مما أعطيت من المال» يقال : مننت فلانا كذا ، أي : أعطيته ، ويقال للعطية : المنة فكأنه أمر بأن تكون عطاياه لله ، لا لارتقاب ثواب من الخلق عليها ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما كان يجمع للدنيا ، ولهذا قال : «ما لي ممّا أفاء الله عليّ إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم» وكان ما يفضل عن نفقة عياله مصروفا إلى مصالح المسلمين ، ولهذا لم يورث».

قوله : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) التقديم على ما تقدم. وحسنه كونه رأس فاصلة موافيا لما تقدم.

(وَلِرَبِّكَ) يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن تكون لام العلة ، أي : لوجه ربّك فاصبر ، أي : على أذى الكفار وعلى عبادة ربك ، وعلى كل شيء مما لا يليق فترك المصبور عليه ، والمصبور عنه للعلم بهما ، والأحسن أن لا يقدر شيء خاص بل شيء عام.

والثاني : أن يضمن «صبر» معنى : «أذعن» ، أي : أذعن لربّك ، وسلم له أمرك صابرا ، لقوله تعالى : (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) [القلم : ٤٨].

قوله تعالى : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ)(١٠)

قوله : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ).

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١٧٢.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٤٥.

٥٠٢

قال الزمخشري : «الفاء» في قوله : (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ) للتسبيب ، كأنه قال : اصبر على أذاهم ، فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه. والفاء في «فإذا» متعلقة ب «أنذر» ، أي : فأنذرهم إذا نقر في الناقور. قاله الحوفيّ.

وفيه نظر من حيث أن الفاء تمنع من ذلك ، ولو أراد تفسير المعنى لكان سهلا ، لكنه في معرض تفسير الإعراب لا تفسير المعنى.

الثاني : أن يتتصب بما دل عليه قوله تعالى : (فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ).

قال الزمخشري : فإن قلت : بم انتصب «إذا» ، وكيف صح أن يقع «يومئذ» ظرفا ل (يَوْمٌ عَسِيرٌ)؟.

قلت : انتصب «إذا» بما دل عليه الجزاء ؛ لأن المعنى : فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين والذي أجاز وقوع «يومئذ» ظرفا ل (يَوْمٌ عَسِيرٌ) ، إذ المعنى فذلك يوم النقر وقوع يوم عسير لأن يوم القيامة يقع ، ويأتي حين ينقر في النّاقور ، انتهى.

ولا يجوز أن يعمل فيه نفس «عسير» ؛ لأن الصفة لا تعمل فيما قبل موصوفها عند البصريين ، ولذلك رد على الزمخشري قوله : أن (فِي أَنْفُسِهِمْ) متعلق ب «بليغا» في سورة «النساء» في قوله تعالى (وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) [النساء : ٦٣] والكوفيون يجوزون ذلك وتقدم تحريره.

الثالث : أن ينتصب بما دل عليه «فذلك» ؛ لأنه إشارة إلى النقر ، قاله أبو البقاء ، ثم قال : «و «يومئذ» بدل من «إذا» ، و «ذلك» مبتدأ ، والخبر (يَوْمٌ عَسِيرٌ) ، أي : نقر يوم».

الرابع : أن يكون «إذا» مبتدأ ، و «فذلك» خبره ، والفاء مزيدة فيه ، وهو رأي الأخفش.

وأما «يومئذ» ففيه أوجه :

أحدها : أن يكون بدلا من «إذا» ، وقد تقدم ذلك في الوجه الثالث.

الثاني : أن يكون ظرفا ل (يَوْمٌ عَسِيرٌ) كما تقدم في الوجه الثاني.

الثالث : أن يكون ظرفا ل «ذلك» لأنه أشار به إلى النقر.

الرابع : أنه بدل من «فذلك» ولكنه مبنيّ لإضافته إلى غير متمكن.

الخامس : أن يكون «فذلك» مبتدأ ، و (يَوْمٌ عَسِيرٌ) خبره ، والجملة خبر «فذلك».

قوله : «نقر» ، أي : صوت ، يقال : نقرت الرجل إذا صوت له بلسانك ، وذلك بأن تلصق لسانك بنقرة حنكك ، ونقرت الرجل : إذا خصصته بالدعوة كأنك نقرت له بلسانك مشيرا إليه ، وتلك الدعوة يقال لها : النقرى ، وهي ضد الدعوة الجفلى ؛ قال الشاعر : [الرمل]

٥٠٣

٤٩٥٥ ـ نحن في المشتاة ندعو الجفلى

لا ترى الآدب فينا ينتقر (١)

وقال امرؤ القيس : [الرجز]

٤٩٥٦ ـ أنا ابن ماويّة إذ جدّ النّقر (٢)

يريد : النقر ، أي الصوت ، والنقر في كلام العرب : الصوت ؛ قال امرؤ القيس : [الطويل]

٤٩٥٧ ـ أخفّضه بالنّقر لمّا علوته

ويرفع طرفا غير جاف غضيض (٣)

والناقور : «فاعول» منه كالجاسوس من التجسس ، وهو الشيء المصوّت فيه.

قال مجاهد وغيره : هو كهيئة البوق ، وهو الصور الذي ينفخ فيه الملك (٤).

والنقير : فرع الشيء الصلب ، والمنقار : الحديدة التي ينقر بها ، ونقرت عينه : بحثت على أخباره استعارة من ذلك ، ونقرته : أعبته.

ومنه قول امرأة لزوجها : مر بي على بني نظر ، ولا تمر بي على بنات نقر ، أرادت : ببني نظر الرجال لأنهم ينظرون إليها ، وبينات نقر : النساء ، لأنهن يعبنها وينقرن عن أحوالها.

قوله : (عَلَى الْكافِرِينَ). فيه خمسة أوجه :

أحدها : أن يتعلق ب «عسير».

الثاني : أن يتعلق بمحذوف على أنه نعت ل «عسير».

الثالث : أنه في موضع نصب على الحال من الضمير المستكنّ في «عسير».

الرابع : أن يتعلق ب «يسير» ، أي : غير يسير على الكافرين قاله أبو البقاء.

إلا أن فيه تقديم معمول المضاف إليه على المضاف ، وهو ممنوع ، وقد جوزه بعضهم إذ كان المضاف «غير» بمعنى النفي ، كقوله : [البسيط]

٤٩٥٨ ـ إنّ امرأ خصّني يوما مودّته

على التّنائي لعندي غير مكفور (٥)

__________________

(١) البيت لطرفة بن العبد في ديوانه ص ٥٥ ، والنوادر في اللغة لأبي زيد ٣٠٩ ، والاقتضاب ص ٢٥٧ ، واللسان (جعل) ، و (نقر). والدر المصون (٦ / ٤١٤).

(٢) نسب الرجز إلى عبيد الله بن ماوية ، ولفدكي بن عبد الله ، ولبعض السعديين ينظر الكتاب ٤ / ١٧٣ ، والدرر ٦ / ٣٠٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٥٩ ، وأسرار العربية ص ٤١٤ ، والإنصاف ٢ / ٧٣٢ ، وأوضح المسالك ٤ / ٣٤٦ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٤١ ، واللسان (حلق) ، ومغني اللبيب ٢ / ٤٣٤ ، وهمع الهوامع (٢ / ١٠٧ ، ١٠٨).

(٣) ينظر الديوان ص ٧٥ ، واللسان (طرف) ، و (غضض) ، والقرطبي ١٩ / ٤٦ ، والدر المصون (٦ / ٤١٤).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٠٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٢) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٥) تقدم.

٥٠٤

وتقدم تحرير هذا آخر الفاتحة.

الخامس : أن يتعلق بما دل عليه (غَيْرُ يَسِيرٍ) ، أي : لا يسهل على الكافرين.

قال الزمخشريّ : فإن قلت : فما فائدة قوله : (غَيْرُ يَسِيرٍ) ، و «عسير» مغن عنه؟.

قلت : لما قال ـ سبحانه وتعالى ـ : (عَلَى الْكافِرِينَ) فقصر العسر عليهم ، قال : (غَيْرُ يَسِيرٍ) ليؤذن بأنه لا يكون عليهم كما يكون على المؤمنين يسيرا هينا ، ليجمع بين وعيد الكافرين ، وزيادة غيظهم ، وتيسيرا للمؤمنين ، وتسليتهم ، ويجوز أن يراد أنه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا.

فصل في تعلق الآية بما بعدها

لما ذكر ما يتعلق بإرشاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر بعده وعيد الأشقياء قيل : المراد بهذه الآية هو النفخة الثانية.

وقيل : الأولى ، قال الحليمي في كتاب «المنهاج» : إنه تعالى سمى الصور اسمين ، وإن كان هو الذي ينفخ فيه النفختان معا ، فإن نفخة الإصعاق غير نفخة الإحياء ، وجاء في الأخبار أن في الصور ثقبا بعدد الأرواح كلّها ، وأنها تجمع في ذلك الثقب في النفخة الثانية ، فيخرج عن النفخ من كل ثقبة روح إلى الجسد الذي نزع منه ، فيعود الجسد حيا بإذن الله تعالى.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا مردود ، لأن الناقور اسم لما ينقر به لا لما ينقر فيه ، ويحتمل أن يكون الصور محتويا على ثقبين : ينقر في إحداهما ، وينفخ في الأخرى ، فإذا نفخ فيه للإصعاق جمع بين النقر ، والنفخ ، لتكون الصيحة أشد ، وأعظم ، وإذا نفخ فيه للإحياء ، لم ينقر فيه بل يقتصر على النفخ لأن المراد إرسال الأرواح من ثقب الصور إلى أجسادها بنقرها من أجسادها بالنفخة الأولى للنقير ، وهو نظير صوت الرعد ؛ فإنه إذا اشتد فربما مات بسماعه ، والصيحة الشديدة التي يصيحها رجل بصبي فيفزع منه فيموت.

قال ابن الخطيب : وفيه إشكال ، وهو أن هذا يقتضي أن يكون النقر إنما يحصل عند صيحة الإصعاق وذلك اليوم غير شديد على الكافرين ؛ لأنهم يموتون في تلك الساعة ، إنما اليوم الشديد على الكافرين صيحة الإحياء ، ولذلك يقول : (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) [الحاقة : ٢٧] ، أي : يا ليتنا بقينا على الموتة الأولى.

وقوله : «فذلك» ، أي : فذلك اليوم يوم شديد على الكافرين (غَيْرُ يَسِيرٍ) أي : غير سهل ، ولا هين وذلك أن عقدهم لا تنحل ، إلا إلى عقد أشد منها ، فإنهم يناقشون الحساب ويعطون كتبهم بشمائلهم ، وتسودّ وجوههم ، ويحشرون زرقا ، وتتكلم

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١٧٣.

٥٠٥

جوارحهم ، ويفضحون على رؤوس الأشهاد بخلاف المؤمنين الموحدين المذنبين فإنها تنحل إلى ما هو أخف ، حتى يدخلوا الجنة برحمة الله تعالى فإنهم لا يناقشون الحساب ، ويحشرون بيض الوجوه ، ثقال الموازين.

قال ابن الخطيب (١) : ويحتمل أن يكون عسيرا على المؤمنين ، والكافرين ، على ما روي أن الأنبياء ـ صلوات الله وسلامه عليهم ـ يفزعون يومئذ ، وأن الولدان يشيبون ، إلا أنه يكون على الكفار أشد فعلى الأول : لا يحسن الوقف على قوله (يَوْمٌ عَسِيرٌ) ، فإن المعنى : إنه على الكافرين عسير وغير يسير.

وعلى الثاني : يحسن الوقف ، لأنه في المعنى : أنه في نفسه عسير على الكل ثم الكافر فيه مخصوص بزيادة تخصه ، وهي أنه عليه عسير.

فصل في دليل الخطاب

قال ابن الخطيب (٢) : استدل بهذه الآية القائلون بدليل الخطاب ، قالوا : لو لا أن دليل الخطاب حجة (٣) وإلا فما فهم ابن عباس من كونه غير يسير على الكافرين كونه يسيرا على المؤمنين.

قوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ)(٣٠)

قوله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ، الواو في قوله : (وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) ، كقوله : «والمكذبين» في الوجهين المتقدمين في السورة قبلها.

وقوله تعالى : (وَحِيداً) فيه أوجه :

__________________

(١) الفخر الرازي ٣٠ / ١٧٤.

(٢) السابق.

(٣) ينظر : البحر المحيط للزركشي ٤ / ١٣ ، البرهان لإمام الحرمين ١ / ٤٤٩ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ٣٨ ، المنخول للغزالي ٢٠٨ ، حاشية البناني ١ / ٢٤٥ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ٢ / ٢٣ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ١ / ٣٢٦ ، تيسير التحرير لأمير بادشاه ١ / ٩٨ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى ٢ / ١٧٣ ، شرح التلويح على التوضيح لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني ١ / ١٤١ ، الوجيز للكراماستي ٢٤ ، ميزان الأصول للسمرقندي ١ / ٥٧٩ ، نشر البنود للشنقيطي ١ / ٩١ ، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج ١ / ١١٥.

٥٠٦

أحدها : أنه حال من الياء في «ذرني» ، أي : ذرني وحدي معه فأنا أكفيك في الانتقام منه.

الثاني : أنه حال من التاء في «خلقت» ، أي خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد فأنا أهلكه.

الثالث : أنه حال من «من».

الرابع : أنه حال من عائده المحذوف ، أي خلقته وحيدا ، ف «وحيدا» على هذا حال من ضمير المفعول المحذوف ، أي : خلقته وحده لا مال له ولا ولد ، ثم أعطيته بعد ذلك ما أعطيته ؛ قاله مجاهد (١).

الخامس : أن ينتصب على الذّمّ ، لأنه يقال : إن وحيدا كان لقبا للوليد بن المغيرة ، ومعنى «وحيدا» ذليلا.

قيل : كان يزعم أنه وحيد في فضله ، وماله ، وليس في ذلك ما يقتضي صدق مقالته لأن هذا لقب له شهر به ، وقد يلقب الإنسان بما لا يتصف به ، وإذا كان لقبا تعين نصبه على الذم.

فصل في معنى «ذرني»

معنى «ذرني» أي : دعني ، وهي كلمة وعيد وتهديد ، (وَمَنْ خَلَقْتُ) هذه واو المعية ، أي : دعني والذي خلقته وحيدا.

قال المفسرون : هو الوليد بن المغيرة المخزومي ، وإن كان الناس خلقوا مثل خلقه فإنما خص بالذكر لاختصاصه بكفر النعمة ، وأذى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان يسمى الوحيد في قومه.

قال ابن عباس : كان الوليد يقول : أنا الوحيد ابن الوحيد ، ليس لي في العرب نظير ، ولا لأبي المغيرة نظير ، فقال الله تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ) بزعمه «وحيدا» لأن الله تعالى صدقه ، بأنه وحيد (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : ورد هذا القول بعضهم بأنه تعالى لا يصدقه في دعواه بأنه وحيد لا نظير له ، ذكره الواحدي ، والزمخشري ، وهو ضعيف من وجوه :

الأول : لأنه قد يكون الوحيد علما فيزول السؤال ، لأن اسم العلم لا يفيد في المسمى صفة ، بل هو قائم مقام الإرشاد.

__________________

(١) ذكره القرطبي في تفسيره ١٩ / ٤٧.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٤٧).

(٣) الفخر الرازي ٣٠ / ١٧٥.

٥٠٧

الثاني : أن يكون ذلك بحسب ظنه ، واعتقاده ، كقوله ـ عزوجل ـ : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) [الدخان : ٤٩].

الثالث : أنه وحيد في كفره ، وعناده وخبثه ؛ لأن لفظ الوحيد ليس فيه أنه وحيد في العلو والشرف.

الرابع : أنه إشارة إلى وحدته عن نفسه.

قال أبو سعيد الضرير : الوحيد الذي لا أب له كما تقدم في «زنيم».

قوله تعالى : (وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً) ، أي : خولته ، وأعطيته مالا ممدودا.

قال ابن عباس : هو ما كان للوليد بين مكة والطائف من الإبل والنعم والخيول والعبيد والجواري.

وقال مجاهد وسعيد بن جبير وابن عباس ـ أيضا ـ : ألف دينار (١).

وقال قتادة : ستة آلاف دينار (٢).

وقال سفيان الثوري : أربعة آلاف دينار (٣).

وقال الثوري ـ أيضا ـ : ألف ألف دينار (٤).

وقال ابن الخطيب (٥) : المال الممدود : هو الذي يكون له مدد يأتي منه الجزء بعد الجزء دائما ، ولذلك فسره عمر ـ رضي الله عنه ـ غلة شهر بشهر وقال النعمان (٦) : الممدود بالزيادة كالزرع والضرع ، وأنواع التجارات.

قال مقاتل : كان له بستان لا ينقطع شتاء ولا صيفا ، كما في قوله ـ عزوجل ـ : (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [الواقعة : ٣٠] ، أي : لا ينقطع والذي يظهر أنه المال الكثير ، والتقديرات تحكم.

قوله : (وَبَنِينَ شُهُوداً) ، أي : حضورا لا يغيبون ، ولا يفارقونه ـ ألبتة ـ طيّب القلب

بحضورهم.

وقيل : معنى كونهم شهودا ، أي : يشهدون معه المجامع والمحافل.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٠٦) عن مجاهد وسعيد بن جبير ومثله عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٤) وعزاه إلى ابن المنذر.

(٢) ذكره الماوردي (٦ / ١٣٩) والقرطبي (١٩ / ٤٧).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٠٦).

(٤) ذكره السيوطي (٦ / ٤٥٤) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٥) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١٧٥.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٠٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٤) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه والدينوري في «المجالسة».

٥٠٨

وقيل : «شهودا» أي : صاروا مثله في شهود ما كان يشهد ، والقيام بما كان يباشره.

قال مجاهد وقتادة : كانوا عشرة (١).

وقال السديّ والضحاك : كانوا اثني عشر رجلا (٢) ، وعن الضحاك : سبعة ولدوا بمكة ، وخمسة بالطائف (٣).

وقال مقاتل : كانوا سبعة أسلم منهم ثلاثة : خالد ، وهشام ، والوليد بن الوليد ، قال : فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك قال ابن الخطيب كانوا سبعة الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص ، وعبد القيس ، وعبد شمس أسلم منهم ثلاثة : خالد ، وعمارة ، وهشام (٤).

قوله : (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) ، أي : بسطت له في العيش بسطا في الجاه العريض والرياسة في قومه.

والتمهيد عند العرب : التوطئة والتهيئة.

ومنه : مهد الصبيّ.

وقال ابن عباس : (وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً) أي : وسعّت له ما بين «اليمن» إلى «الشام» (٥) ، وهو قول مجاهد وعن مجاهد أيضا : أنه المال بعضه فوق بعض كما يمهد الفراش(٦).

قوله تعالى : (ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ كَلَّا). لفظة «ثمّ» ـ هاهنا ـ معناها : التعجب كقولك لصاحبك : أنزلتك داري وأطعمتك وأسقيتك ثم أنت تشتمني ، ونظيره : قوله تعالى : (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١] ، فمعنى «ثمّ» ـ هاهنا ـ الإنكار والتعجب ، أي : ثم الوليد يطمع بعد هذا كله أن أزيده في المال والولد ، وقد كفر بي! قاله الكلبي ومقاتل ، ثم قال : «كلّا» ليس يكون ذلك مع كفره بالنعم (٧).

قال الحسن وغيره : أي : ثمّ يطمع أن أدخله الجنة ، وكان الوليد يقول : إن كان محمد صادقا فما خلقت الجنة إلا لي ، فقال الله عزوجل ردا عليه وتكذيبا له : «كلّا» لست أزيده ، فلم يزل في نقصان بعد قوله : «كلّا» حتى افتقر ومات فقيرا (٨).

وقيل : أي : ثم يطمع أن أنصره على كفره ، «كلا» قطع للرجاء عما كان يطمع فيه من الزيادة ، فيكون متصلا بالكلام الأول.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٠٧) عن مجاهد.

(٢) ذكره القرطبي (١٩ / ٤٧).

(٣) ذكره الماوردي (٦ / ١٤٠) وينظر المصدر السابق.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٤٧).

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر المصدر السابق.

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ينظر المصدر السابق.

٥٠٩

وقيل : «كلّا» بمعنى «حقا» ، ويبتدىء بقوله «إنّه» يعني الوليد (كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) ، أي : معاندا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وما جاء به.

قال الزمخشريّ : (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا) استئناف جواب لسائل سأل : لم لا يزداد مالا ، وما باله ردع عن طبعه؟.

فأجيب بقوله : (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً) ، انتهى.

فيكون كقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الهرة : «إنّها ليست بنجس ، إنّها من الطوّافين عليكم» (١).

والعنيد : المعاند.

يقال : عاند فهو عنيد وعاند ، والمعاند : البعير الذي يجور عن الطريق ويعدل عن القصد ، والجمع : عند مثل : «راكع وركع» ، قاله أبو عبيدة ؛ وأنشد قول الحازميّ : [الرجز]

٤٩٥٩ ـ إذا ركبت فاجعلاني وسطا

إنّي كبير لا أطيق العنّدا (٢)

وقال أبو صالح : «عنيدا» معناه : مباعدا ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٤٩٦٠ ـ أرانا على حال تفرّق بيننا

نوى غربة إنّ الفراق عنود (٣)

وقال قتادة : جاحدا (٤).

وقال مقاتل : معرضا (٥).

وقيل : إنه المجاهر بعداوته.

وعن مجاهد : أنه المجانب للحق (٦).

قال الجوهري : ورجل عنود : إذا كان لا يخالط الناس ، والعنيد من التجبر ، وعرق عاند : إذا لم يرقأ دمه ، وجمع العنيد عند مثل رغيف ورغف ، والعنود من الإبل : الذي لا يخالط الإبل إنما هو في ناحية ، والعنيد في معنى المعاند كالجليس والأكيل والعشير.

فصل في بيان فيما كانت المعاندة

في الآية إشارة إلى أنه كان يعاند في أمور كثيرة :

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر المقتضب (١ / ٢١٨) ، وابن الشجري (١ / ٢٧٦) ، والاقتضاب ص ٤١٥ ، وشرح الجمل لابن عصفور ٢ / ٦٠٠ ، ومجاز القرآن ١ / ٢٩٠ ، والطبري ٢٩ / ٩٧ ، ومجمع البيان ١٠ / ٥٨٣ ، والقرطبي ١٨ / ٤٨.

(٣) ينظر اللسان (غرب) ، (وعند) ، والقرطبي (١٩ / ٤٨).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٠٨).

(٥) ذكره الماوردي (٦ / ١٤١) والقرطبي (١٩ / ٤٨).

(٦) ينظر المصدر السابق.

٥١٠

منها أنه كان يعاند في دلائل التوحيد ، والعدل ، والقدرة ، وصحة النبوة وصحة البعث.

ومنها : أن كفره كان عنادا لأنه كان يعرف هذه الأشياء بقلبه وينكرها بلسانه. وكفر المعاند أفحش أنواع الكفر.

ومنها : أن قوله «كان» يدل على أن هذه حرفته من قديم الزمان.

ومنها : أن هذه المعاندة ، كانت مختصة منه بآيات الله تعالى.

قوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) ، أي : سأكلفه ، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول : سألجئه ، والإرهاق في كلام العرب : أن يحمل الإنسان الشيء.

والصعود : جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفا ، ثم يهوي به كذلك فيه أبدا. رواه الترمذي.

وفي رواية : صخرة في جهنم ، إذا وضعوا أيديهم عليها ذابت ، فإذا رفعوها عادت.

وقيل : هذا مثل لشدة العذاب الشاق الذي لا يطاق ، كقوله : عقبة صعود وكؤود ، أي : اقة المصعد.

ثم إنه تعالى حكى كيفية عناده ، وهو قوله تعالى :

(إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) : يجوز أن يكون استئناف تعليل لقوله تعالى : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) ، ويجوز أن يكون بدلا من (إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً).

يقال : فكر في الأمر ، وتفكر إذا نظر فيه وتدبر ، ثم لما تفكر رتب في قلبه كلاما وهيأه ، وهو المراد من قوله (وَقَدَّرَ).

والعرب تقول : قدرت الشيء إذا هيأته.

فصل في معنى الآية

معنى الآية : أن الوليد فكر في شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والقرآن لما نزل : (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [غافر : ١ ـ ٣] ، سمعه الوليد يقرأها ، فقال : والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الإنس ، ولا من كلام الجنّ ، وإنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق وإنه ليعلو ، وما يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر ، فقالت قريش : صبأ الوليد لتصبونّ قريش كلها ، وكان يقال للوليد : ريحانة قريش ، فقال أبو جهل : أنا أكفيكموه فانطلق إليه حزينا ، فقال له : ما لي أراك حزينا ، فقال : وما لي لا أحزن ، وهذه قريش يجمعون لك نفقة يعينوك بها ، ويزعمون أنك زينت كلام محمد ، وتدخل على ابن أبي كبشة ، وابن أبي قحافة لتنال من فضل طعامهما ، فغضب الوليد ـ لعنه الله ـ وتكبّر ،

٥١١

وقال : أنا أحتاج إلى كسر محمد وصاحبه ، وأنتم تعلمون قدر مالي ، واللات والعزّى ما بي حاجة إلى ذلك وأنتم تزعمون أن محمدا مجنون ، فهل رأيتموه قط يخنق؟.

قالوا : لا والله ، قال : وتزعمون أنه كاهن ، فهل رأيتموه تكهن قط؟ ولقد رأينا للكهنة أسجاعا وتخالجا ، فهل رأيتموه كذلك؟.

قالوا : لا والله. وقال : تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه نطق بشعر قط؟ قالوا : لا والله.

قال : وتزعمون أنه كذّاب ، فهل جربتم عليه كذبا قط؟.

قالوا : لا والله. وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسمّى الصادق والأمين من كثرة صدقه ، فقالت قريش للوليد : فما هو؟ ففكّر في نفسه ثم نظر ثم عبس ، فقال : ما هذا إلا سحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وولده فذلك قوله تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ) أي في أمر محمد والقرآن (وَقَدَّرَ) في نفسه ماذا يمكنه أن يقول فيهما.

قوله : (فَقُتِلَ) ، أي : لعن.

وقيل : قهر وغلب.

وقال الزهري : عذب ، وهو من باب الدعاء.

قال ابن الخطيب (١) : وهذا إنما يذكر عند التعجب والاستعظام.

ومثله قولهم : قتله الله ما أشجعه ، وأخزاه الله ما أفجره ، ومعناه : أنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك ، وإذا عرف ذلك ، فنقول : هنا يحتمل وجهين :

الأول : أنه تعجب من قوة خاطره ، يعني أنه لا يمكن القدح في أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشبهة أعظم ولا أقوى مما ذكره هذا القائل.

الثاني : الثناء عليه على طريقة الاستهزاء ، يعني أن هذا الذي ذكره في غاية الركاكة والسقوط.

قوله : (كَيْفَ قَدَّرَ) ، أي : كيف فعل هذا ، كقوله تعالى : (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) [الإسراء : ٤٨] ثم قيل : بضرب آخر من العقوبة. (كَيْفَ قَدَّرَ) على أيّ حال قدّر. (ثُمَّ نَظَرَ) بأي شيء يردّ الحق ويدفعه.

قال ابن الخطيب (٢) : والمعنى أنه أولا فكّر. وثانيا : قدّر. وثالثا : نظر في ذلك المقدر ، فالنظر السابق للاستخراج ، والنظر اللاحق لتمام الاحتياط ، فهذه المرات الثلاث متعلقة بأحوال ثلاث.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣ / ١٧٧.

(٢) ينظر : السابق.

٥١٢

قوله تعالى : (ثُمَّ عَبَسَ) ، يقال : عبس يعبس عبسا ، وعبوسا : أي : قطب وجهه.

وقال الليث : عبس يعبس فهو عبس إذا قطب ما بين عينيه ، فإذا أبدى عن أسنانه في عبوسه قيل : كلح ، فإن اهتم لذلك ، وفكر فيه قيل : بسر ، فإن غضب مع ذلك قيل : بسل. واعلم أنه ذكر صفات جسمه بعد صفات قلبه ، وهذا يدل على عناده ، لأن من فكر في أمر حسن يظهر عليه الفرح لا العبوس ، والعبس أيضا : ما يبس في أذناب الإبل من البعر ، والبول ؛ قال أبو النجم : [الرجز]

٤٩٦١ ـ كأنّ في أذنابهنّ الشّوّل

من عبس الصّيف قرون الأيّل (١)

فصل في معنى الآية

معنى الآية : قطب وجهه في وجوه المؤمنين ، وذلك أنه لما قال لقريش أن محمدا ساحر مرّ على جماعة من المسلمين ، فدعوه إلى الإسلام ، فعبس في وجوههم.

وقيل : عبس على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين دعاه ، والعبس : مصدر «عبس» مخففا ، كما تقدم.

قوله : (وَبَسَرَ) ، يقال : بسر يبسر بسرا وبسورا : إذا قبض ما بين عينيه كراهة للشيء واسود وجهه منه ، يقال : وجه باسر ، أي منقبض مسود كالح متغير اللون ، قاله قتادة والسدي ؛ ومنه قول بشير بن الحارث : [المتقارب]

٤٩٦٢ ـ صبحنا تميما غداة الجفار

بشهباء ملمومة باسره (٢)

وأهل اليمن يقولون : بسر المركب بسرا ، أي : وقف لا يتقدم ، ولا يتأخر ، وقد أبسرنا : أي صرنا إلى البسور.

وقال الراغب : البسر استعجال الشيء قبل أوانه ، نحو : بسر الرجل حاجته طلبها في غير أوانها ، وماء بسر : متناول من غديره قبل سكونه ، ومنه قيل للذي لم يدرك من التمر : بسر ، وقوله تعالى : (عَبَسَ وَبَسَرَ) ، أي : أظهر العبوس قبل أوانه ، وقبل وقته.

قال : فإن قيل : فقوله تعالى : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ) [القيامة : ٢٤] ، ليس يفعلون ذلك قبل الموت ، وقد قلت : إن ذلك يكون فيما يقع قبل وقته.

قيل : أشير بذلك إلى حالهم قبل الانتهاء بهم إلى النار ، فخص لفظ البسر تنبيها على أن ذلك مع ما ينالهم من بعد ، يجري مجرى التكلف ، ومجرى ما يفعل قبل وقته ، ويدل على ذلك (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) [القيامة : ٢٥].

__________________

(١) ينظر اللسان (شول) ، و (عبس) ، و (أول) ، والقرطبي (١٩ / ٥٠).

(٢) ينظر اللسان (حضر) و (شهب) ، و (لمم) ، و (بسر) ، والقرطبي ١٩ / ٥٠ ، والدر المصون ٦ / ٤١٦.

٥١٣

وقد عطف في هذه الجمل بحروف مختلفة ، ولكل منها مناسبة ، أما ما عطف ب «ثمّ» فلأن بين الأفعال مهلة ، وثانيا : لأن بين النظر ، والعبوس ، وبين العبوس ، والإدبار تراخيا.

قال الزمخشريّ : (ثُمَّ نَظَرَ) عطف على «فكّر» و «قدّر» ، والدعاء اعتراض بينهما ، يعني بالدعاء قوله : «فقتل» ، ثم قال : فإن قلت : ما معنى «ثمّ» الداخلة على تكرير الدعاء؟.

قلت : الدلالة على أن الكرة الثانية أبلغ من الأولى ؛ ونحوه قوله : [الطويل]

٤٩٦٣ ـ ألا يا اسلمي ثمّ اسلمي ثمّت اسلمي

 ........... (١)

فإن قلت : ما معنى المتوسطة بين الأفعال التي بعدها؟.

قلت : للدلالة على أنه تأنّى في التأمل ، والتمهل ، وكأن بين الأفعال المتناسقة تراخ ، وتباعد ، فإن قلت : فلم قال : «فقال» ـ بالفاء ـ بعد عطف ما قبله ب «ثمّ»؟.

قلت : لأن الكلمة لما خطرت بباله بعد التطلب لم يتمالك أن نطق بها من غير تلبث ، فإن قلت : فلم لم يتوسط حرف العطف بين الجملتين؟.

قلت : لأن الأخرى جرت من الأولى مجرى التأكيد من المؤكد.

قوله تعالى : (ثُمَّ أَدْبَرَ) ، أي : ولى وأعرض ذاهبا عن سائر الناس إلى أهله.

(وَاسْتَكْبَرَ) حين دعي إلى الإيمان ، أي : تعظم.

(إِنْ هذا) أي : ما هذا الذي أتى به محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ) ، أي : تأثره عن غيره.

والسحر : الخديعة.

وقيل : السحر إظهار الباطل في صورة الحق.

والأثر : مصدر قولك : أثرت الحديث آثره ، إذا ذكرته عن غيرك ؛ ومنه قيل : حديث مأثور ، أي : ينقله خلف عن سلف ؛ قال الأعشى : [السريع]

٤٩٦٤ ـ إنّ الّذي فيه تماريتما

بيّن للسّامع والآثر (٢)

قال ابن الخطيب (٣) : فيه وجهان :

__________________

(١) صدر بيت لحميد بن ثور الهلالي وعجزه :

ثلاث تحيات وإن لم تكلم

ينظر ديوانه ص ١٣٣ ، ورصف المباني ص ٤٥٣ ، وشرح المفصل ٣ / ٣٩ ، والحماسة ٢ / ١٣٧ ، والكشاف ٤ / ٦٤٩ ، والدر المصون ٦ / ٤١٦.

(٢) ينظر ديوان الأعشى ص ٩٣ ، واللسان (أثر) ، والقرطبي ١٩ / ٥٠.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٧٨.

٥١٤

الأول : أنه من قولهم : أثرت الحديث آثره ، أثرا ، إذا حدثت به عن قوم في آثارهم ، أي : بعدما ماتوا ، هذا هو الأصل ، ثم صار بمعنى الرواية عما كان.

والثاني : يؤثر على جميع السحر ، وهذا يكون من الإيثار.

وقال أبو سعيد الضرير : يؤثر ، أي : يورث.

قوله تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) ، أي : هذا إلا كلام المخلوقين تختدع به القلوب كما يخدع بالسحر.

قال ابن الخطيب (١) : ولو كان الأمر كذلك لتمكنوا من معارضته إذ طريقتهم في معرفة اللغة متقاربة.

قال السديّ : يعني أنه من قول سيّار عبد لبني الحضرمي ، كان يجالس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنسبوه إلى أنه تعلم منه ذلك (٢).

وقيل : إنه أراد أنه تلقنه ممن ادعى النبوة قبله ، فنسج على منوالهم.

قال ابن الخطيب (٣) : وهذا الكلام يدل على أن الوليد كان يقول هذا الكلام عنادا ، لما روي في الحديث المتقدم : «أنه لما سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «حم» ثم خرج من عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : لقد سمعت من محمد كلاما ، ليس من كلام الجنّ ، ولا من كلام الإنس» الحديث ، فلمّا أقر بذلك في أول الأمر علمنا أن قوله ـ هاهنا ـ : (إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) ، إنّما ذكره عنادا ، أو تمردا لا اعتقادا.

قوله تعالى : (سَأُصْلِيهِ سَقَرَ) ، هذا بدل من قوله تعالى : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً). قاله الزمخشري.

فإن كان المراد بالصعود : المشقة ، فالبدل واضح ، وإن كان المراد : صخرة في جهنم ـ كما جاء في التفسير ـ فيعسر البدل ، ويكون فيه شبه من بدل الاشتمال ، لأن جهنم مشتملة على تلك الصخرة.

فصل في معنى الآية

المعنى : سأدخله سقر كي يصلى حرها ، وإنما سميت «سقر» من سقرته الشمس : إذا أذابته ولوحته ، وأحرقت جلدة وجهه ، ولا ينصرف للتعريف والتأنيث قال ابن عباس : «سقر» اسم للطبقة السادسة من «جهنم» (٤).

(وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ). هذا مبالغة في وصفها ، أي : وما أعلمك أي شيء هي؟ وهي

__________________

(١) السابق.

(٢) ينظر الرازي ٣٠ / ١٧٧.

(٣) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١٧٨.

(٤) ينظر الرازي ٣٠ / ١٧٧.

٥١٥

كلمة تعظيم ، وتهويل ، ثم فسر حالها ، فقال ـ جل ذكره ـ : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ) أي : لا تترك لهم لحما ، ولا عظما ، ولا دما إلا أحرقته.

قوله : (لا تُبْقِي) ، فيها وجهان :

أحدهما : أنها في محل نصب على الحال ، والعامل فيها معنى التعظيم ، قاله أبو البقاء.

يعني أن الاستفهام في قوله : (ما سَقَرُ) للتعظيم ، والمعنى : استعظموا سقر في هذه الحال.

ومفعول «تبقي ، وتذر» محذوف أي لا تبقي ما ألقي فيها ، ولا تذره ، بل تهلكه.

وقيل : تقديره لا تبقي على من ألقي فيها ، ولا تذر غاية العذاب إلا وصلته إليه.

والثاني : أنها مستأنفة.

قال ابن الخطيب (١) : واختلفوا في قوله : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ).

فقيل : هما لفظان مترادفان بمعنى واحد ، كرر للتأكيد والمبالغة ، كقولك صدّ عني وأعرض عني ، بل بينهما فرق ، وفيه وجوه :

الأول : لا تبقي من اللحم ، والعظم ، والدم شيئا ، ثم يعادون خلقا جديدا ، (وَلا تَذَرُ) أن تعاود إحراقهم بأشد مما كانت ، وهكذا أبدا ، رواه عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما (٢).

وقال مجاهد : لا تبقي فيها حيا ولا تذره ميتا بل تحرقهم كلما جدّدوا (٣). وقال السديّ : لا تبقي لهم لحما ولا تذر لهم عظما (٤). وقيل : لا تبقي من المعذبين ، ولا تذر من فوقها شيئا ، إلا تستعمل تلك القوة في تعذيبهم.

قوله تعالى : (لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ) ، قرأ العامة : بالرفع ، خبر مبتدأ مضمر ، أي هي لواحة ، وهذه مقوية للاستئناف في (لا تُبْقِي).

وقرأ الحسن ، وابن أبي عبلة وزيد بن (٥) علي وعطية العوفي ونصر بن عاصم وعيسى بن عمر : بنصبهما على الحال ، وفيها ثلاثة أوجه :

أحدها : أنها حال من «سقر» ، والعامل معنى التعظيم كما تقدم.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٧٨.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٥) وعزاه إلى ابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣١١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٥) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٥١) عن السدي.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٩٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٦٧ ، والدر المصون ٦ / ٤١٧.

٥١٦

والثاني : أنها حال من (لا تُبْقِي).

والثالث : من (لا تَذَرُ).

وجعل الزمخشري : نصبها على الاختصاص للتهويل.

وجعلها أبو حيان حالا مؤكدة.

قال : «لأن النار التي لا تبقي ولا تذر ، لا تكون إلّا مغيرة للأبشار».

و «لوّاحة» هنا مبالغة ، وفيها معنيان :

أحدهما : من لاح يلوح ، أي : ظهر ، أي : أنها تظهر للبشر ، [وهم الناس ، وإليه ذهب الحسن وابن كيسان ، فقال : «لوّاحة» أي : تلوح للبشر](١) من مسيرة خمسمائة عام ، وقال الحسن : تلوح لهم جهنم حتى يرونها عيانا ، ونظيرة : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) [النازعات : ٣٦].

والثاني : وإليه ذهب جمهور الناس ، أنها من لوّحه أي : غيّره ، وسوّده.

قال الشاعر : [الرجز]

٤٩٦٥ ـ تقول : ما لاحك يا مسافر

يا بنة عمّي لاحني الهواجر (٢)

وقال رؤبة بن العجّاج : [الرجز]

٤٩٦٦ ـ لوّح منه بعد بدن وسنق

تلويحك الضّامر يطوى للسّبق (٣)

وقال آخر : [الطويل]

٤٩٦٧ ـ وتعجب هند إن رأتني شاحبا

تقول لشيء لوّحته السّمائم (٤)

ويقال : لاحه يلوحه : إذا غير حليته.

قال أبو رزين : تلفح وجوههم لفحة تدعهم أشد سوادا من الليل ، قال تعالى : (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) [المؤمنون : ١٠٤].

وطعن القائلون بالأول في هذا القول ، فقالوا : لا يجوز أن يصفهم بتسويد الوجوه ، مع قوله : (لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ).

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) ينظر الكشاف ٤ / ١٨٣ ، وشرح شواهده ص ٤٢٤ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٥ ، ٢٧٥ ، والقرطبي ١٩ / ٥١ ، والبحر ٨ / ٣٦١ ، والدر ٦ / ٤١٧ ، وروح المعاني ٢٩ / ١٥٧.

(٣) ينظر ديوان رؤبة ص ١٠٤ ، والقرطبي ١٩ / ٥١.

(٤) ينظر اللسان (شحب) ، و (لوح) و (سمم) والقرطبي ١٩ / ٥١ ، والبحر ٨ / ٣٦١ ، والدر المصون ٦ / ٤١٧.

٥١٧

وقيل : اللوح شدة العطش ، يقال : لاحه العطش ولوحه : أي غيره ، قال الأخفش : والمعنى أنها معطشة للبشر ، أي : لأهلها ؛ وأنشد : [الطويل]

٤٩٦٨ ـ سقتني على لوح من الماء شربة

سقاها به الله الرّهام الغواديا (١)

يعني باللوح : شدة العطش. والرهام جمع رهمة ـ بالكسر ـ وهي المطرة الضعيفة وأرهمت السحابة : أتت بالرهام.

واللّوح ـ بالضم ـ الهواء بين السماء والأرض ، والبشر : إما جمع بشرة ، أي : مغيرة للجلود. قاله مجاهد وقتادة ، وجمع البشر : أبشار ، وإما المراد به الإنس من أهل النار ، وهو قول الجمهور.

واللام في «البشر» : مقوية ، كهي في («لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف : ٤٣].

وقراءة النصب في «لوّاحة» مقوية ، لكون «لا تبقي» في محل الحال.

قوله تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) ، هذه الجملة فيها الوجهان :

أعني : الحالية ، والاستئناف وفي هذه الكلمة قراءات شاذة ، وتوجيهات مشكلة.

فقرأ أبو جعفر (٢) وطلحة : «تسعة عشر» ـ بسكون العين من «عشر» ؛ تخفيفا ؛ لتوالي خمس حركات من جنس واحد ، وهذه كقراءة (أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً) [يوسف : ٤] وقد تقدمت. وقرأ أنس (٣) وابن عباس رضي الله عنهما (تِسْعَةَ عَشَرَ) بضم التاء ، «عشر» بالفتح.

وهذه حركة بناء ، لا يجوز أن يتوهم كونها إعرابا ، إذ لو كانت للإعراب لجعلت في الاسم الأخير لتنزل الكلمتين منزلة الكلمة الواحدة ، وإنما عدل إلى التسكين كراهة توالي خمس حركات.

وعن المهدوي : «من قرأ : (تِسْعَةَ عَشَرَ) فكأنه من التداخل ، كأنه أراد العطف ، فترك التركيب ، ورفع هاء التأنيث ، ثم راجع البناء ، وأسكن» انتهى.

فجعل الحركة للإعراب ، ويعني بقوله : أسكن راء «عشر» فإنه في هذه القراءة كذلك.

وعن أنس ـ رضي الله عنه (٤) ـ أيضا : «تسعة أعشر» بضم «تسعة» و «أعشر» بهمزة مفتوحة ، ثم عين ساكنة ، ثم شين مضمومة ، وفيها وجهان :

__________________

(١) البيت لسحيم عبد بني الحسحاس.

ينظر ديوانه (٢٠) ، والقرطبي ١٩ / ٥١ ، والبحر ٨ / ٣٦١ ، والدر المصون ٦ / ٤١٧.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٩٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٦٨ ، والدر المصون ٦ / ٤١٨.

(٣) ينظر : السابق.

(٤) ينظر : السابق.

٥١٨

قال أبو الفضل : يجوز أن يكون جمع «العشيرة» على «أعشر» ، ثم أجراه مجرى (تِسْعَةَ عَشَرَ).

وقال الزمخشريّ : جمع «عشير» مثل : يمين وأيمن.

وعن أنس ـ أيضا (١) ـ : (تِسْعَةَ عَشَرَ) بضم التاء وسكون العين وضم الشين وواو مفتوحة بدل الهمزة.

وتخريجها كتخريج ما قبلها ، إلا أنه قلب الهمزة واوا مبالغة في التخفيف ، والضمة ـ كما تقدم ـ للبناء لا للإعراب.

ونقل المهدوي : أنه قرىء : «تسعة وعشر» ، قال : «فجاء به على الأصل قبل التركيب وعطف «عشر» على «تسعة» ، وحذف التنوين ، لكثرة الاستعمال ، وسكون الراء من «عشر» على نية الوقف».

وقرأ سليمان بن قتة : بضم (٢) التاء وهمزة مفتوحة ، وسكون العين ، وضم الشين وجر الراء من «أعشر».

والضمة على هذا ضمة إعراب ، لأنه أضاف الاسم لها بعده فأعربهما إعراب المتضايفين وهي لغة لبعض العرب فيكون تركيب الأعداد ، ويعربونها كالمتضايفين ؛ كقوله : [الرجز]

٤٩٦٩ ـ كلّف من عنائه وشقوته

بنت ثماني عشرة من حجّته (٣)

قال أبو الفضل : ويجيء على هذه القراءة ، وهي قراءة من قرأ : «أعشر» مبنيا ، أو معربا من حيث هو جمع ، أن الملائكة الذين هم على «سقر» تسعون ملكا.

فصل في معنى الآية

معنى الآية : أنه يلي أمر تلك النار تسعة عشر من الملائكة يلقون فيها أهلها.

قيل : هم خزنة النار ، مالك وثمانية عشر ملكا.

وقيل : التسعة عشر نقيبا ، وقال أكثر المفسرين : تسعة عشر ملكا بأعيانهم.

قال القرطبي (٤) : وذكر ابن المبارك عن رجل من بني تميم ، قال كنا عند أبي العوام

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤١٨.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٦٨ ، والدر المصون ٦ / ٤١٨.

(٣) الرجز لنفيع بن طارق ينظر الحيوان ٦ / ٤٦٣ ، والدرر ٦ / ١٩٧ ، وشرح التصريح ٢ / ٢٧٥ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٨٨ ، والإنصاف ١ / ٣٠٩ ، وأوضح المسالك ٤ / ٢٥٩ ، وخزانة الأدب ٦ / ٤٣٠ ، ٤٣٢ ، وشرح الأشموني ٣ / ٦٢٧ ، واللسان (شقا) ، وهمع الهوامع ٢ / ١٤٩.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٥٢.

٥١٩

فقرأ هذه الآية ، فقال : ما تسعة عشر تسعة عشر ألف ملك أو تسعة عشر ملكا؟ قال : قلت : لا بل تسعة عشر ملكا ، قال : وأنى تعلم ذلك؟.

فقلت : لقول الله ـ عزوجل ـ : (وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا).

قال : صدقت ، هم تسعة عشر ملكا.

قال ابن جريج : نعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خزنة جهنم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أعينهم كالبرق ، وأنيابهم كالصّياصي ، وأشعارهم (١) تمسّ أقدامهم يخرج لهب النّار من أفواههم» (٢) ، الحديث.

قال ابن الأثير : «الصّياصي : قرون البقر».

وروى الترمذي عن عبد الله قال : قال ناس من اليهود لأناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟.

قالوا : لا ندري حتى نسأله فجاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا محمد غلب أصحابك اليوم ، فقال : وبماذا غلبوا؟.

قال : سألهم يهود ، هل يعلم نبيكم عدد خزنة جهنم؟.

قال : فماذا قالوا؟ قال : فقالوا : لا ندري حتى نسأل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أيغلب قوم سئلوا عما لا يعلمون ، فقالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ لكنهم قد سألوا نبيهم ، فقالوا : أرنا الله جهرة ، عليّ بأعداء الله ، إني سائلهم عن تربة الجنة ، وهي الدرمك ، فلما جاءوا ، قالوا : يا أبا القاسم ، كم عدد خزنة جهنم؟.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هكذا ، وهكذا» ، في مرة عشرة ، وفي مرة تسعة ، قالوا : نعم فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما تربة الجنّة»؟ فسكتوا ، ثم قالوا : أخبرنا يا أبا القاسم ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الخبز من الدّرمك» (٣).

قال ابن الأثير : الدرمك : هو الدقيق الحوارى.

قال القرطبيّ : الصحيح ـ إن شاء الله ـ أن هؤلاء التسعة عشر ، هم الرؤساء ، والنقباء ، وأما جملتهم فكما قال تعالى : (وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) ، وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بجهنّم يومئذ ، لها سبعون ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرّونها» (٤).

__________________

(١) في أ : أشفارهم.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٥٢).

(٣) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٤٠٢) ، وقال : رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح غير مجالد وثقه غير واحد.

وذكره في موضع آخر (١٠ / ٤١٥) وقال : رواه أحمد وإسناده حسن.

(٤) تقدم تخريجه.

٥٢٠