اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الممتحنة

مدنيّة ، وتسمى «الممتحنة» ـ بكسر الحاء ـ أي : المختبرة ، وأضيف الفعل إليها مجازا ، كما سميت سورة «براءة» المبعثرة والفاضحة والكاشفة لما كشفت من عيوب المنافقين.

ومن قال «بفتح الحاء» فإنه أضافها إلى المرأة التي نزلت فيها ، وهي أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط (١) ، قال تعالى : (فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ) [الممتحنة : ١٠].

وهي ثلاث عشرة آية ، وثلاث مائة وثمان وأربعون كلمة ، وألف وخمسمائة وعشرة أحرف.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ)(١)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) الآية.

وجه تعلق أول هذه السورة بآخر ما قبلها ، هو أن آخر تلك السورة تشتمل على الصفات الجميلة [اللائقة بحضرة الله ـ تعالى ـ من الوحدانية وغيرها](٢) ، وأول هذه السورة يشتمل على حرمة الاختلاط مع من لم يعترف بتلك الصفات.

قوله : (عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ).

هذان مفعولا الاتخاذ.

__________________

(١) ينظر القرطبي (١٨ / ٣٤).

(٢) يوجد في أمكان هذه العبارة : التي اختص الله بها وغيرها ، وما أثبتناه موافق للموجود ب «الفخر الرازي» ٢٩ / ٢٥٧.

٣

و «العدو» لما كان بزنة المصادر وقع على الواحد فما فوق.

وأضاف العدو لنفسه تغليظا في جرمهم (١).

روى مسلم عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : بعثنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا والزبير والمقداد ، فقال : «ائتوا روضة «خاخ» فإنّ بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها» فانطلقنا تعادي بنا خيلنا ، فإذا نحن بالمرأة ، وهي امرأة عبد الرحمن بن عوف ولدت إبراهيم بن عبد الرحمن ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، فقالت : ما معي كتاب ، فقلنا : لتخرجنّ الكتاب أو لنلقينّ الثياب فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى ناس من المشركين من أهل «مكة» يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : يا حاطب ما هذا؟ فقال : لا تعجل عليّ يا رسول الله ، إني كنت أمرأ ملصقا في قريش ـ قال سفيان : يقول : كنت حليفا ـ ولم أكن من أنفسها ، وكان ممن معك من المهاجرين من له قرابات يحمون أهليهم وأموالهم ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النّسب أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي ، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أما إنّه قد صدقكم» ، فقال عمر : يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال : إنّه شهد بدرا ، وما يدريك لعلّ الله اطلع على من شهد بدرا ، فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ) إلى قوله : (سَواءَ السَّبِيلِ)(٢).

قيل (٣) : اسم المرأة سارة من موالي قريش ، وكان في الكتاب : «أما بعد ، فإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم قد توجه إليكم بجيش كالليل يسير كالسيل ، وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله بكم ، وأنجز له وعده فيكم ، فإن الله وليه وناصره».

وقيل : إن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت [المدينة من مكة ورسول الله](٤) يتجهز لفتح مكة. قيل : كان هذا زمن الحديبية ، فقال لها رسول

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠١.

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ٥٠٢) كتاب التفسير ، باب : «لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ» حديث (٤٨٩٠) ومسلم (٤ / ١٩٤١) كتاب فضائل الصحابة ، باب : من فضائل أهل بدر وقصة حاطب بن أبي بلتعة رقم (١٦١ / ٢٣٩٤) والترمذي (٣٣٠٥) وأبو داود (٢٦٥٠) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٤٨٧) والحميدي في «مسنده» (١ / ٢٧) رقم (٤٩) والطبري في «تفسيره» (١٢ / ٥٦) والبيهقي في «الدلائل» (٥ / ١٦ ـ ١٧) عن علي بن أبي طالب.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٠١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وأبي عوانة وابن حبان وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في «الدلائل».

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ٣٥.

(٤) في أ : النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

٤

الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمهاجرة جئت يا سارة؟ قالت : لا ، قال : أمسلمة جئت؟ قالت : لا ، قال : فما جاء بك؟ قالت : كنتم الأهل والموالي والأصل والعشيرة ، وقد ذهبت الموالي ـ تعني قتلوا يوم بدر ـ وقد احتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني ، فقال عليه الصلاة والسلام : فأين أنت عن شباب أهل مكّة؟ ـ وكانت مغنية نائحة قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر ، فحث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب على إعطائها ، فكسوها وحملوها وأعطوها ، فخرجت إلى مكة ، وأتاها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى ، وقال : أعطيك عشرة دنانير ، وبردا على أن تبلغي هذا الكتاب إلى أهل «مكّة» ، وكتب في الكتاب : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يريدكم ، فخذوا حذركم ، فخرجت سارة ، ونزل جبريل عليه‌السلام فأخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بذلك ، فبعث عليّا والزبير والمقداد وأبا مرثد الغنوي ، وفي رواية : عليّا وعمار بن ياسر ، وفي رواية : عليّا وعمارا وعمرا والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد ، وكانوا كلهم فرسانا ، وقال لهم : انطلقوا حتى تأتوا روضة «خاخ» ، فإن بها ظعينة ، ومعها كتاب من حاطب إلى المشركين ، فخذوه منها وخلّوا سبيلها ، فإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها ، فأدركوها في ذلك المكان ، فقالوا : أين الكتاب؟ فحلفت بالله ما معها كتاب ، ففتشوا أمتعتها فلم يجدوا معها كتابا فهموا بالرجوع ، فقال علي : والله ما كذّبنا ولا كذّبنا وسلّ سيفه ، وقال أخرجي الكتاب وإلا والله لأجرّدنّك ولأضربن عنقك ، فلما رأت الجد أخرجته من ذؤابتها قد خبأته في شعرها ـ وفي رواية في حجزتها ـ فخلّوا سبيلها ، ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأرسل إلى حاطب ، فقال : هل تعرف هذا الكتاب؟ قال : نعم ، وذكر الحديث.

فصل في النهي عن موالاة الكفار (١)

هذه السورة أصل في النهي عن موالاة الكفّار ، وقد تقدم نظيره ، كقوله : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) [آل عمران : ٢٨]. وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) [آل عمران : ١١٨] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) [المائدة : ٥١].

روي أن حاطبا لما سمع (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) غشي من الفرح بخطاب الإيمان.

قوله : «تلقون». فيه أربعة أوجه (٢) :

أحدها : أنه تفسير لموالاتهم إياهم.

الثاني : أنه استئناف إخبار بذلك ، فلا يكون للجملة على هذين الوجهين محلّ من الإعراب.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٣٥.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠١.

٥

الثالث : أنها حال من فاعل «تتّخذوا» أي : لا تتخذوا ملقين المودّة.

الرابع : أنها صفة لأولياء.

قال الزمخشري (١) : «فإن قلت : إذا جعلته صفة وقد جرى على غير من هو له ، فأين الضمير البارز ، وهو قولك : تلقون إليهم أنتم بالمودّة؟.

قلت : ذاك إنما اشترطوه في الأسماء دون الأفعال ولو قيل : أولياء ملقين إليهم بالمودة على الوصف لما كان بدّ من الضمير البارز». وقد تقدمت هذه المسألة مستوفاة ، وفيها كلام مكي وغيره.

إلا أن أبا حيّان اعترض على كونها صفة أو حالا ، بأنهم نهوا عن اتخاذهم أولياء مطلقا في قوله : (لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ) ، والتقييد بالحال والوصف يوهم جواز اتخاذهم أولياء إذا انتفى الحال أو الوصف (٢).

قال شهاب الدين (٣) : «ولا يلزم ما قال ، لأنه معلوم من القواعد الشرعية ، فلا مفهوم لها ألبتة».

وقال الفرّاء : «تلقون» من صلة «أولياء».

وهذا على أصولهم من أن النكرة توصل لغيرها من الموصولات.

قوله : «بالمودّة». في الباء ثلاثة أوجه (٤) :

أحدها : أن الباء مزيدة في المفعول به ، كقوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) [البقرة : ١٩٥] ، وقوله : (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ) [الحج : ٢٥].

والثاني : أنها غير مزيدة ، والمفعول محذوف ، ويكون معنى الباء : السببية ، كأنه قيل : تلقون إليهم أسرار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخباره بسبب المودة التي بينكم وبينهم. قاله الزجاج (٥).

الثالث : أنها متعلقة بالمصدر الدال عليه «تلقون» أي : إلقاؤهم بالمودة.

نقله الحوفي عن البصريين [وجعل القول بزيادة الباء قول الكوفيين.

إلا أنّ هذا الذي نقله عن البصريين](٦) لا يوافق أصولهم ، إذ يلزم منه حذف المصدر وإبقاء معموله ، وهو لا يجوز عندهم ، وأيضا فإن فيه حذف الجملة برأسها ، فإن «إلقاءهم» مبتدأ ، و «بالمودّة» متعلق به ، والخبر أيضا محذوف ، وهذا إجحاف (٧).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥١٢.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٤ / ٥١٢.

(٣) الدر المصون ٦ / ٣٠١.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : معاني القرآن ٥ / ١٥٥.

(٦) سقط من أ.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٢.

٦

فصل في الكلام على الآية

قال ابن الخطيب (١) : في الآية مباحث.

الأول : اتخاذ العدو أولياء ، كيف يمكن ، والعداوة منافية للمحبة؟.

والجواب : لا يبعد أن تكون العداوة بالنسبة إلى أمر آخر ، ألا ترى إلى قوله تعالى : (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [الأنفال : ٢٨].

وقال عليه الصلاة والسلام : «أولادنا أكبادنا» (٢).

الثاني : لم قال : (عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ) ولم يقل بالعكس؟.

والجواب : أنّ العداوة بين المؤمن والكافر بسبب محبّة الله ومحبّة رسوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ فتكون محبة العبد من أصل الإيمان بحضرة الله تعالى لعلة ، ومحبة حضرة الله ـ تعالى ـ للعبد لا لعلة ، والذي لا لعلة مقدم على الذي لعلة ؛ ولأن الشيء إذا كانت له نسبة إلى الطرفين ، فالطرف الأعلى مقدم على الأدنى.

الثالث : قال : «أولياء» ، ولم يقل : ولي العدو أو العدو معرفا؟.

فالجواب : أن المعرف بحرف التعريف يتناول كل فرد ، فكذلك المعرف بالإضافة.

فصل

قال القرطبي (٣) : قوله : (تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) يعني بالظّاهر ، لأن قلب حاطب كان سليما بدليل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : «أمّا صاحبكم فقد صدق» ، وهذا نصّ في سلامة فؤاده ، وخلوص اعتقاده.

فصل فيمن تطلع على عورات المسلمين

قال القرطبي (٤) : من كثر تطلّعه على عورات المسلمين ، وينبه عليهم ، ويعرف عدوهم بأخبارهم لم يكن بذلك كافرا إذا كان فعله ذلك لغرض دنيوي ، واعتقاده على ذلك سليم ، كما فعل حاطب حين قصد بذلك اتخاذ اليد ، ولم ينو الردة عن الدين.

وإذا قيل : بأنه لا يكون كافرا بذلك فهل يقتل حدّا أم لا؟ فقال مالك وابن القاسم وأشهب : يجتهد الحاكم الإمام في ذلك.

__________________

(١) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٥٨.

(٢) ذكره العجلوني في «كشف الخفا» (١ / ٣٠٧) رقم (٨١٦) وقال : قال ابن كمال باشا في أربعينه قال عليه الصلاة والسلام حين أخذ الحسن والحسين ، وأيده محمد بن الحسن الشيباني بدخول أولاد البنات في الأمان إذا قالوا أمّنونا على أولادنا ، قال ذكره شمس الأئمة السرخسي في شرح التفسير الكبير.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٣٦.

(٤) ينظر السابق.

٧

وقال عبد الملك : إذا كانت عادته تلك قتل لأنه جاسوس ، وقد قال مالك : يقتل الجاسوس لإضراره بالمسلمين ، وسعيه بالفساد في الأرض ، ولعل ابن الماجشون إنما أخذ التكرار في هذا ؛ لأن حاطبا أخذ في أول فعله ، فإن كان الجاسوس كافرا ، فقال الأوزاعي : يكون نقضا لعهده ، وقال : الجاسوس الحربي يقتل ، والجاسوس المسلم والذمي يعاقبان إلا أن يظاهرا على الإسلام فيقتلان.

وقد روي عن عليّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتي بعين للمشركين اسمه : فرات بن حيّان ، فأمر به أن يقتل ، فصاح : يا معشر الأنصار ، أقتل وأنا أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله؟ فأمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فخلي سبيله ، ثم قال : «إنّ منكم من أكله إلى إيمانه ، منهم فرات بن حيّان» (١).

قوله : (وَقَدْ كَفَرُوا). فيه أوجه (٢) :

أحدها : الاستئناف.

الثاني : حال من فاعل «تتخذوا».

الثالث : حال من فاعل «تلقون» ، أي : لا تتولّوهم أو لا توادوهم وهذه حالهم.

وقرأ العامة : «بما» ـ بالباء ـ ، والجحدري وعاصم (٣) في رواية : «لما» ـ باللام ـ أي : لأجل ما جاءكم من الحق ، فعلى هذا الشيء المكفور به غير مذكور ، وتقديره : كفروا بالله ورسوله.

قوله : (يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ).

يجوز أن يكون مستأنفا ، وأن يكون تفسيرا لكفرهم ، فلا محلّ لها على هذين ، وأن يكون حالا من فاعل «كفروا».

قوله : «وإيّاكم». عطف على «الرّسول» وقدّم عليهم تشريفا له.

وقد استدل به من يجوز انفصال الضمير مع القدرة على اتصاله ، إذ كان يجوز أن يقال : يخرجونكم والرسول ، فيجوز : يخرجون إياكم والرسول في غير القرآن.

وهو ضعيف ، لأن حالة تقديم الرسول دلالة على شرفه ، لا نسلم أنه يقدر على اتصاله(٤).

وقد تقدم الكلام على هذه الآية عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) في سورة النساء [١١١].

__________________

(١) أخرجه البيهقي في «سننه» (٩ / ١٤٧).

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٢.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٩٤ ، والكشاف ٤ / ٥١٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥١ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٢.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٢.

٨

قوله : (أَنْ تُؤْمِنُوا) مفعول له ، وناصبه «يخرجون» أي : يخرجونكم لإيمانكم أو كراهة إيمانكم (١).

فصل

قال القرطبي (٢) : (أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللهِ) تعليل ل «يخرجون» والمعنى : يخرجون الرسول ، ويخرجونكم من «مكة» لأن تؤمنوا بالله ، أي : لأجل إيمانكم بالله.

قال ابن عباس : وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣).

وقيل : إن الكلام فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي.

وقيل : في الكلام حذف ، والمعنى : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي ، وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) [فلا تلقوا إليهم بالمودة.

وقيل : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي)](٤) شرط وجوابه مقدم ، والمعنى : إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء.

قال أبو حيان (٥) : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) جوابه محذوف عند الجمهور لتقدم (لا تَتَّخِذُوا) وتقدم ، وهو (لا تَتَّخِذُوا) عند الكوفيين ومن تابعهم.

قال الزمخشري (٦) : و (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ) متعلق ب (لا تَتَّخِذُوا) يعني : لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي ، وقول النحويين في مثله : هو جواب شرط ، جوابه محذوف لدلالة ما قبله عليه انتهى.

يريد : أنه متعلق به من حيث المعنى ، وأما من حيث الإعراب ، فكما قال جمهور النحويين.

قوله : (جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) يجوز أن ينتصبا على المفعول له ، أي : خرجتم لأجل هذين ، أو على المصدر بفعل مقدر أي : تجاهدون وتبتغون ، أو على أنهما في موضع الحال (٧).

قوله : «تسرّون».

يجوز أن يكون مستأنفا ، ولم يذكر الزمخشري (٨) غيره.

__________________

(١) ينظر السابق.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٣٦.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي (١٨ / ٣٦).

(٤) سقط من أ.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٥١ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٢.

(٦) ينظر : الكشاف ٤ / ٥١٢.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٢.

(٨) ينظر : الكشاف ٤ / ٥١٢.

٩

ويجوز أن يكون حالا ثانية مما انتصب عنه «تلقون» حالا.

ويجوز أن يكون بدلا من «تلقون». قاله ابن عطية (١).

والأشبه أن يكون بدل اشتمال ، لأن إلقاء المودة يكون سرّا وجهرا ، فأبدل منه هذا للبيان بأيّ نوع وقع الإلقاء (٢).

قال القرطبي (٣) : «تسرّون» بدل من «تلقون» ومبين عنه ، والأفعال تبدل من الأفعال كما قال تعالى : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) [الفرقان : ٦٨ ، ٩].

وأنشد سيبويه (٤) : [الطويل]

٤٧٥٩ ـ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تضرّما (٥)

ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر ، أي : أنتم تسرون. قاله ابن عطية (٦).

ولا يخرج عن معنى الاستئناف.

وقال أبو البقاء (٧) : «هو توكيد ل «تلقون» بتكرير معناه».

قال شهاب الدين (٨) : «وفيه نظر ، لأن الإلقاء أعم من أن يكون سرّا وجهرا».

وتقدم الكلام على الباء في قوله : «بالمودّة».

قوله : (وَأَنَا أَعْلَمُ).

هذه الجملة حال من فاعل «تسرّون» ، أي : وأيّ طائل لكم في إسراركم ، وقد علمتم أن الإسرار والإعلان سيان في علمي.

و «أعلم» ، يجوز أن يكون أفعل تفضيل ، وهو الظاهر ، أي : أنا أعلم من كل أحد بما يخفون ، وما يعلنون.

وأن يكون فعلا مضارعا.

قاله ابن عطية (٩) ، وعدّي بالباء ، لأنك تقول : علمت بكذا ، وعلمت كذا فتكون زائدة.

وقيل : وأنا أعلم من كل أحد كما يقال : فلان أعلم وأفضل من غيره (١٠).

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٩٤.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٢.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٣٦ ، ٣٧.

(٤) ينظر : الكتاب ٣ / ٨٦.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٩٤.

(٧) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢١٧.

(٨) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٢.

(٩) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٩٤ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٢.

(١٠) ينظر : القرطبي ١٨ / ٣٧.

١٠

[فإن قيل : لم قدم العلم بالإخفاء على العلم بالإعلان مع أن ذلك مستلزم لهذا من غير عكس؟.

فالجواب (١) هذا بالنسبة إلى علمنا ، لا بالنسبة إلى علمه ـ تعالى ـ إذ هما سيّان في علمه تعالى ؛ لأن المقصود بيان ما هو الإخفاء ، وهو الكفر ، فيكون مقدما.

فإن قيل : لم لم يقل : بما أسررتم ، ثم وما أعلنتم ، مع أنه أليق بما سبق في قوله : «تسرّون»؟ فالجواب : أن فيه من المبالغة ما ليس في ذلك ، فإنّ الإخفاء أبلغ من الإسرار بدليل قوله : (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) [طه : ٧] ، أي : أخفى من السّر](٢).

فصل في معاتبة حاطب

قال القرطبي (٣) : وهذا كله معاتبة لحاطب ، وهو يدل على فضله وكرامته ، ونصيحته للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصدق إيمانه ؛ فإن المعاتبة لا تكون إلا من محبّ لحبيب ؛ كما قال : [الوافر]

٤٧٦٠ ـ إذا ذهب العتاب فليس ودّ

ويبقى الودّ ما بقي العتاب (٤)

فصل في المراد بالمودة

والمراد بالمودّة في الآية النصيحة.

قال ابن عباس رضي الله عنهما : وأنا أعلم بما أخفيتم في صدوركم ، وما أظهرتم بألسنتكم من الإقرار والتوحيد (٥).

(وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ) أي : من يسر إليهم ويكاتبهم (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أيّ: أخطأ طريق الهدى (٦).

قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْهُ). في الضمير وجهان (٧) :

أظهرهما : أنه يعود على الإسرار ؛ لأنه أقرب مذكور.

والثاني : يعود على الاتّخاذ. قاله ابن عطية (٨).

قوله : (سَواءَ السَّبِيلِ).

يجوز أن يكون منصوبا على الظرف ، إن قلنا : ضلّ قاصر.

وأن يكون مفعولا به ، إن قلنا : هو متعد (٩).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٥٩.

(٢) سقط من أ.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٣٧.

(٤) ينظر اللسان (عتب) ، والقرطبي ١٨ / ٣٧.

(٥) ينظر : تفسير القرطبي (١٨ / ٣٦).

(٦) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٣٧.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٢.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٩٤.

(٩) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٢.

١١

[فإن قيل : ما الفائدة في قوله «منكم» ، ومن المعلوم أن من فعل هذا ، فقد ضل سواء السبيل؟.

فالجواب (١) : إن كان المراد من قوله : «منكم» هم المؤمنون فظاهر ، لأن من يفعل ذلك لا يلزم أن يكون مؤمنا](٢).

قوله تعالى : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ)(٢)

قوله : (إِنْ يَثْقَفُوكُمْ) يلقونكم ويصادفونكم ، ومنه المثاقفة ، أي : طلب مصادفة [الغرة](٣) في المسايفة وشبهها.

وقيل : «يثقفوكم» : يظفروا بكم ويتمكنوا منكم (يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ) أي : بالضّرب والشّتم (٤).

قوله : (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ).

في «ودوا» وجهان (٥) :

أحدهما : أنه معطوف على جواب الشرط ، وهو قوله : «يكونوا» و «يبسطوا» قاله الزمخشري (٦).

ثم رتب عليه سؤالا وجوابا ، فقال : «فإن قلت : كيف أورد جواب الشّرط مضارعا مثله ، ثم قال : «ودوا» بلفظ الماضي؟.

قلت : الماضي وإن كان يجري في باب الشرط مجرى المضارع في علم الإعراب ، فإن فيه نكتة ، كأنه قيل : ودوا قبل كل شيء كفركم وارتدادكم ، يعني أنهم يريدون أن يلحقوا مضار الدنيا والآخرة جميعا».

والثاني : أنه معطوف على جملة الشّرط والجزاء ، ويكون تعالى قد أخبر بخبرين بما تضمنته الجملة الشرطية ، وموادتهم كفر المؤمنين.

ورجح أبو حيان هذا ، وأسقط به سؤال الزمخشري وجوابه ، فقال (٧) : «وكأن الزمخشري فهم من قوله : «وودّوا» أنه معطوف على جواب الشرط ، والذي يظهر أنه ليس معطوفا عليه ؛ لأن ودادتهم كفرهم ليست مرتبة على الظفر بهم والتسليط عليهم ، بل هم

__________________

(١) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ٢٥٩.

(٢) سقط من أ.

(٣) في أ : العشيرة.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ٣٧.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٣.

(٦) ينظر : الكشاف ٤ / ٥١٣.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٥١ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٣.

١٢

وادّون كفرهم على كل حال سواء ظفروا بهم أم لم يظفروا» انتهى.

قال شهاب الدين (١) : «والظّاهر أنه عطف على الجواب ، وقوله : هم وادّون ذلك مطلقا مسلم ، لكن ودادتهم له عند الظّفر والتسليط (٢) أقرب وأطمع لهم فيهم».

وقوله : (لَوْ تَكْفُرُونَ).

يجوز أن يكون لما سيقع لوقوع ، وأن تكون المصدرية عند من يرى ذلك.

وتقدم تحريرهما في البقرة.

فصل في معنى الآية

والمعنى (٣) : ودوا لو تكفرون بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلا تناصحوهم ، فإنهم لا يناصحونكم.

قوله تعالى : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (٣)

قوله : (لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ).

لما اعتذر حاطب بأن له أرحاما وأولادا فيما بينهم بيّن الله ـ تعالى ـ أن الأهل والأولاد لا ينفعون شيئا يوم القيامة إن عصى من أجل ذلك.

(يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) فيدخل المؤمنين الجنة ، ويدخل الكافرين النار (٤)(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

قوله : (يَوْمَ الْقِيامَةِ) يجوز فيه وجهان (٥).

أحدهما : أن يتعلق بما قبله ، أي : لن ينفعكم يوم القيامة ، فيوقف عليه ، ويبتدأ (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ).

والثاني : أن يتعلق بما بعده ، أي : يفصل بينكم يوم القيامة ، فيوقف على «أولادكم» ويبتدأ (يَوْمَ الْقِيامَةِ).

والقراء في (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ) على أربع مراتب :

الأولى (٦) : لابن عامر : بضم الياء وفتح الفاء والصاد مثقلة.

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٣٠٣.

(٢) زاد في أبعد هذه الكلمة : عليهم ، بل هم موادون كفرهم.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ٣٧.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٣.

(٦) ينظر هذه القراءات الأربع في : السبعة ٦٣٣ ، والحجة ٦ / ٢٨٥ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٦٠ ، وحجة القراءات ٧٠٦ ، والعنوان ١٨٩ ، وشرح الطيبة ٦ / ٥٠ ، وشرح شعلة ٦٠١ ، وإتحاف ٢ / ٥٣٣.

١٣

الثانية : مثقلة إلا أنه بكسر الصاد للأخوين.

الثالثة : بفتح الياء وسكون الفاء وكسر الصاد مخففة لعاصم.

الرابعة : بضم الياء وسكون الفاء وفتح الصاد مخففة للباقين ، وهم نافع وابن كثير ، وأبو عمرو ، وهذا في السبعة.

وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة : بضم الياء وكسر الصاد مخففة وسكون الفاء مخففة من «أفصل».

وأبو حيوة أيضا : «نفصل» بضم النون ، من «أفصل».

والنخعي وطلحة : «نفصّل» بضم النون وفتح الفاء وكسر الصّاد مشددة.

وقرأ أيضا وزيد بن علي (١) : «نفصل» بفتح النون وسكون الفاء وكسر الصاد مخففة فهذه أربع ، فصارت ثماني قراءات.

فمن بناه للمفعول ، فالقائم مقام الفاعل إما ضمير المصدر ، أي : يفصل الفصل ، أو الظرف ، وبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن ، كقوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] في أحد الأوجه ، أو الظرف وهو باق على نصبه كقولك : جلس عندك. ثم قال : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ، وفيه سؤال ، وهو أنه لم لم يقل : خبير مع أنه أبلغ في العلم بالشيء (٢)؟.

والجواب : أنّ الخبير أبلغ في العلم ، والبصير أشهر منه فيه ، فإنه يجعله كالمحسوس بحس البصر.

قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٤) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٥) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦) عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللهُ قَدِيرٌ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(٧)

قوله تعالى : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ) الآية.

__________________

(١) ينظر في هذه القراءات : المحرر الوجيز ٥ / ٢٩٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥٢ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٤.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٦٠.

١٤

لما نهى عن موالاة الكفّار ذكر قصة إبراهيم ، وأن من سيرته التّبرؤ من الكفّار ، أي : فاقتدوا به إلّا في الاستغفار لأبيه (١).

والأسوة والإسوة ما يتأسّى به مثل القدوة والقدوة ، ويقال : هو أسوتك أي مثلك وأنت مثله وتقدم قراءة «أسوة» في سورة «الأحزاب» والكلام على مادتها (٢).

قوله : (فِي إِبْراهِيمَ). فيه أوجه (٣) :

أحدها : أنه متعلق ب «أسوة» ، تقول : لي أسوة في فلان ، ومنع أبو البقاء أن يتعلق بها لأنها قد وصفت (٤).

وهذا لا يبالى به لأنه يغتفر في الظرف ما لا يغتفر في غيره.

الثاني : أنه متعلق ب «حسنة» تعلق الظرف بالعامل.

الثالث : أنه نعت ثان ل «أسوة».

الرابع : أنه حال من الضمير المستتر في «حسنة».

الخامس : أن يكون خبر «كان» و «لكم» تبيين.

قوله : (وَالَّذِينَ مَعَهُ) يعني أصحاب إبراهيم من المؤمنين.

وقال ابن زيد : هم الأنبياء (٥).

قوله : (إِذْ قالُوا). فيه وجهان (٦) :

أحدهما : أنه خبر «كان».

والثاني : أنه متعلق بخبرها.

قالهما أبو البقاء (٧).

ومن جوز في «كان» أن تعمل في الظرف علقه بها ، والمراد بقومهم : الكفار.

قوله : (إِنَّا بُرَآؤُا).

هذه قراءة العامة ـ بضم الباء وفتح الراء وألف بين همزتين ـ جمع «بريء» ، نحو «كرماء» في نحو «كريم».

وعيسى أيضا وأبو جعفر بضم الباء وهمزة بعد ألف.

وفيه أوجه (٨) :

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٣٨.

(٢) سورة الأحزاب ، آية (٢١).

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٤.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢١٨.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ٣٨.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٤.

(٧) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢١٨.

(٨) ينظر : الدر المصون السابق ، وينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٩٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥٢.

١٥

أحدها : أنه جمع بريء أيضا ، والأصل كسر الباء ، وإنما أبدل من الكسرة ضمّة ك «رخال ، ورباب» قاله الزمخشري (١).

الثاني : أنه جمع «بريء» أيضا وأصله : «برآء» كالقراءة المشهورة إلّا أنه حذف الهمزة الأولى تخفيفا. قاله أبو البقاء (٢).

الثالث : أنه اسم جمع ل «بريء» نحو : «تؤام ، وظؤار» اسمي جمع ل «توأم ، وظئر».

وقرأ عيسى أيضا (٣) بفتح الباء وهمزة بعد ألف ، كالتي في «الزخرف» (٤) ، وصح ذلك لأنه مصدر ، والمصدر يقع على الجمع كوقوعه على الواحد.

قال الزمخشري (٥) : «والبراء والبراءة كالظماء والظماءة».

وقال مكي (٦) : وأجاز أبو عمرو وعيسى بن عمر : «براء» ـ بكسر الباء ـ جعلاه ك «كريم وكرام».

قال القرطبي (٧) : هو على وزن «فعال» مثل : «قصار وقصير» ، و «طوال وطويل» و «ظراف وظريف» ويجوز ترك الهمزة حتى تقول برآ وتنون.

وأجاز الفراء : بفتح الباء ، ثم قال : «وبراء» في الأصل مصدر.

كأنه لم يطلع على أنها قراءة منقولة.

فصل في الاقتداء بسيدنا إبراهيم

قال القرطبي (٨) : «الآية نصّ في الأمر بالاقتداء بإبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ في فعله ، وذلك يدلّ على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله».

قوله : (كَفَرْنا بِكُمْ) ، أي بما آمنتم به من الأوثان.

وقيل : بأفعالكم وكذبناها وأنكرنا أن يكونوا على حق ، (وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً) أي : هذا دأبنا معكم ما دمتم على كفركم حتى تؤمنوا بالله وحده ، فحينئذ تنقلب المعاداة موالاة.

فإن قيل : ما الفائدة في قوله : (تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) ، والإيمان إنما هو بالله وبغيره كقوله : (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) [البقرة : ٢٨٥].

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥١٤.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢١٨.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٩٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٥٢ ، والدر المصون ٦ / ٣٠٤.

(٤) ينظر تفسير سورة الزخرف ، آية (٢٦).

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٥١٤.

(٦) ينظر : المشكل ص ١٢١٨.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٣٨.

(٨) السابق.

١٦

فالجواب (١) : أن الإيمان بالله وحده مستلزم للإيمان بالملائكة والكتب والرسل.

قوله : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ) فيه أوجه (٢) :

أحدها : أنه استثناء متصل من قوله : «في إبراهيم» ولكن لا بد من حذف مضاف ليصح الكلام ، تقديره : في مقالات إبراهيم إلا قوله كيت وكيت.

الثاني : أنه مستثنى من (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) وجاز ذلك ؛ لأن القول أيضا من جملة الأسوة ؛ لأن الأسوة الاقتداء بالشخص في أقواله وأفعاله ، فكأنه قيل : لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا.

وهذا واضح ؛ لأنه غير محوج إلى تقدير مضاف وغير مخرج للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله إلى الانقطاع ، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره.

قال (٣) : فإن قلت : ممّ استثني قوله : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ)؟.

قلت : من قوله (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) ؛ لأنه أراد بالأسوة الحسنة قولهم الذي حق عليهم أن يتأسّوا به ، ويتخذوه سنة يستنون بها.

فإن قلت : فإن كان قوله (لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) مستثنى من القول الذي هو (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) فما

بال قوله : (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) وهو غير حقيق بالاستثناء ، ألا ترى إلى قوله : (قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) [الفتح : ١١].

قلت : أراد استثناء جملة قوله : «لأبيه» والقصد إلى موعد الاستغفار له ، وما بعده مبني عليه وتابع له ، كأنه قال : أنا أستغفر لك ، وما في طاقتي إلّا الاستغفار.

الثالث : قال ابن عطية (٤) : «ويحتمل أن يكون الاستثناء من التّبري والقطيعة التي ذكرت أي : لم تبق صلة إلا كذا ، والله أعلم».

الرابع : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن قول إبراهيم.

وهذا بناء من قائليه على أنّ القول لم يندرج تحت قوله : «أسوة» ، وهو ممنوع.

فصل

قال القرطبي (٥) : معنى قوله : (إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ) أي : فلا تتأسّوا به في الاستغفار ، فتستغفرون للمشركين ، فإنه كان عن موعدة منه له.

قاله قتادة ومجاهد وغيرهما (٦).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٦١.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٥.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥١٤.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٩٥.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٣٨.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٣٠) والقرطبي (١٨ / ٣٨).

١٧

وقيل : معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه ، ثم بين عذره في سورة «التوبة» ، وفي هذا دلالة على تفضيل نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سائر الأنبياء ؛ لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمرا مطلقا في قوله : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧] ، وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم عليه‌السلام استثني بعض أفعاله ، وذلك إنما جرى ؛ لأنه ظن أنه أسلم ، فلما بان أنه لم يسلم تبرّأ منه ، وعلى هذا يجوز الاستغفار لمن يظن أنه أسلم ، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظّن فلم توالوهم؟.

قوله : (وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ) هذا من قول إبراهيم لأبيه ، أي : ما أدفع عنك من عذاب الله شيئا إن أشركت به (١).

قوله : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا).

يجوز أن يكون من مقول إبراهيم والذين معه ، فهو من جملة الأسوة الحسنة ، وفصل بينهما بالاستثناء ، ويجوز أن يكون منقطعا مما قبله على إضمار قول ، وهو تعليم من الله تعالى لعباده ، كأنه قال لهم : قولوا : (رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا) أي : اعتمدنا (وَإِلَيْكَ أَنَبْنا) أي : رجعنا (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي : الرجوع في الآخرة (٢).

(رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا). أي : ولا تظهر عدوّنا علينا ، فيظنوا أنهم على حقّ ، فيفتنوا بذلك وقيل : لا تسلّطهم علينا ، فيقتلوننا ويعذبوننا (٣).

وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيديهم ، ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك.

وقيل : لا تبسط [عليهم](٤) الرزق دوننا ، فإن ذلك فتنة لهم.

وقيل : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً) أي : عذابا أي : سببا يعذب به الكفرة ، وعلى هذا ليست الآية من قول إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام (٥) : (وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ) أي : في إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي : في التّبرّي من الكفّار.

وقيل : كرر للتأكيد.

وقيل : نزل الثاني بعد الأول بمدة.

قال القرطبي (٦) : وما أكثر المكررات في القرآن على هذا الوجه.

قوله : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ).

__________________

(١) السابق ١٨ / ٣٩.

(٢) الدر المصون ٦ / ٣٠٥.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ٣٩.

(٤) في أ : لهم.

(٥) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ٢٦٢.

(٦) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٣٩.

١٨

بدل من الضمير في «لكم» بدل بعض من كل ، وقد تقدّم مثله في «الأحزاب» (١).

والضمير في «فيهم» عائد على «إبراهيم» ومن معه ، وكررت «الأسوة» تأكيدا (٢).

وفيه بيان أن هذه الأسوة لمن يخاف الله ، ويخاف عذاب الآخرة (٣) ، (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي: يعرض عن الإيمان ويتول الكفّار (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) عن خلقه ، أي : لم يتعبدهم لحاجته إليهم (الْحَمِيدُ) إلى أوليائه وأهل طاعته.

وقيل : الحميد في نفسه وصفاته (٤).

قوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً).

قال المفسرون (٥) : لمّا نزلت الآية الأولى عادى المسلمين أقرباؤهم من المشركين ، فعلم الله شدّة وجد المسلمين في ذلك فنزلت : (عَسَى اللهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً) أي : من كفار «مكة» ، وقد فعل الله ذلك ؛ لأن «عسى» من الله وعد ، ولا يخلف الله وعده ، وهذا بأن يسلم الكافر ، وقد أسلم قوم منهم بعد فتح «مكة» ، وخالطهم المسلمون كأبي سفيان بن حرب ، والحارث بن هشام ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام.

وقيل : المودة تزويج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان فلانت عندئذ عريكة أبي سفيان.

قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : كانت المودّة بعد الفتح تزويج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمّ حبيبة بنت أبي سفيان قال ابن عباس : وكانت تحت عبد الله بن جحش ، وكانت هي وزوجها من مهاجرة الحبشة ، فأما زوجها فتنصّر ، وسألها أن تتابعه على دينه ، فأبت وصبرت على دينها ، ومات زوجها على النصرانية ، فبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاشي فخطبها ، فقال النجاشي لأصحابه : من أولاكم بها؟ قالوا : خالد بن سعيد بن العاص ، قال : فزوجها من نبيكم ففعل وأمهرها النجاشي من عنده أربعمائة دينار (٦).

وقيل : خطبها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى عثمان بن عفّان ، فلما زوجه إياها بعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى النجاشي فيها ، فساق عنه المهر ، وبعث بها إليه ، فقال أبو سفيان وهو مشرك لما بلغه تزويج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابنته : وذلك الفحل لا يقدع أنفه.

قال ابن الأثير (٧) : «يقال : قدعت الفحل وهو أن يكون غير كريم ، فإذا أراد ركوب

__________________

(١) آية رقم (٢١).

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٠٥.

(٣) ينظر : الرازي ٢٩ / ٢٦٢.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ٣٩.

(٥) ينظر : القرطبي السابق.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٣٦) عن ابن عباس.

(٧) ينظر : النهاية ٤ / ٢٤.

١٩

الناقة الكريمة ضرب أنفه بالرمح وغيره حتى يرتدع وينكبّ ، ويروق بالراء».

قوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)(٨)

قوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) الآية.

هذه الآية رخصة من الله ـ تعالى ـ في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم (١).

قال ابن زيد : كان هذا في أول الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ثم نسخ (٢).

قال قتادة : نسختها : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)(٣) [التوبة : ٥].

وقيل : كان هذا الحكم لعلة ، وهي الصلح فلما زال الصّلح بفتح «مكة» نسخ الحكم ، وبقي الرسم يتلى.

وقيل : هي مخصوصة في خلفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ومن بينه وبينه عهد لم ينقضه. قاله الحسن.

قال الكلبي : هم خزاعة وبنو الحارث بن عبد مناف (٤) ، وهو قول أبي صالح.

وقال مجاهد : هي مخصوصة في الذين آمنوا ، ولم يهاجروا (٥).

وقيل : يعني به النساء والصبيان ؛ لأنهم ممن لا يقاتل ، فأذن الله في برهم.

وقال أكثر أهل التأويل : هي محكمة ، واحتجّوا بأن أسماء بنت أبي بكر سألت النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تصل أمّها حين قدمت عليها مشركة؟ قال : «نعم» (٦) خرجه البخاري ومسلم.

وقيل : إن الآية نزلت فيها.

وروى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه : أن أبا بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ طلق امرأته قتيلة في الجاهلية ، وهي أم أسماء بنت أبي بكر ، فقدمت عليهم في المدة التي

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤٠.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٣) عن ابن زيد.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٠٦) وعزاه إلى أبي داود في تاريخه وابن المنذر عن قتادة.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٤٠).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٢) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٠٦) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٦) تقدم تخريجه.

٢٠