اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

وقرأ هشام (١) : بإسكانها تخفيفا.

قوله : (وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) ، قرأ الكوفيون (٢) وابن كثير : بنصبهما ، والباقون : بجرهما.

وفي الجر إشكال يأتي إن شاء الله تعالى.

فالنصب : نسق على «أدنى» ؛ لأنه بمعنى وقت أدنى ، أي : أقرب ، استعير الدنو لقرب المسافة في الزمان ، وهذا مطابق لما في أول السورة من التقسيم ، وذلك أنه إذا قام أدنى من ثلثي الليل ، فقد صدق عليه أنه قام الليل إلا قليلا ، لأن الزمان لم يقم فيه ، فيكون الثلث ، وشيئا من الثلثين ، فيصدق عليه قوله : (إِلَّا قَلِيلاً).

وأما قوله : (وَنِصْفَهُ) فهو مطابق لقوله : «ولا نصفه» ، وأما قوله : (وَثُلُثَهُ) فإنّ قوله : (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) قد ينتهي النقص في القليل إلى أن يكون الوقت ثلثي الليل ، وأما قوله : (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) فإنّه إذا زاد على النصف قليلا كان الوقت أقل من الثلثين. فيكون قد طابق أدنى من ثلثي الليل ، ويكون قوله تعالى : (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) شرطا لمبهم ما دل عليه قوله : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً) ، وعلى قراءة النصب : فسر الحسن «تحصوه» بمعنى تطيقوه ، وأما قراءة الجر : فمعناها أنه قيام مختلف مرة أدنى من الثلثين ، ومرة أدنى من الثلث وذلك لتعذر معرفة البشر بمقدار الزمان مع عذر النوم ، وقد أوضح هذا كله الزمخشري ، فقال : وقرىء : «نصفه وثلثه» بالنصب ، على أنك تقوم أقل من الثلثين ، وتقوم النصف والثلث ، وهو مطابق لما مر فيه أول السورة في التخيير بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص وهو الثلث ، وبين قيام الزائد عليه وهو الأدنى من الثلثين.

وقرىء بالجر أي تقوم أقل من الثلثين وأقل من النصف والثلث ، وهو مطابق للتخيير بين النصف ، وهو أدنى من الثلثين ، والثلث ، وهو أدنى من النصف ، والربع وهو أدنى من الثلث ، وهو الوجه الأخير ، انتهى.

يعني بالوجه الأخير ما قدمه أول السورة من التأويلات. وقال أبو عبد الله الفارسي : وفي قراءة النصب إشكال إلا أن يقدر نصفه تارة ، وثلثه تارة ، وأقل من النصف ، والثلث تارة ، فيصح المعنى.

فصل في بيان أن هذه الآية تفسير للقيام في أول السورة

قال القرطبيّ (٣) : هذه الآية تفسير لقوله تعالى : (إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) أو زد عليه ـ كما تقدم ـ وهي الناسخة لفريضة قيام الليل كما تقدم ، ومعنى قوله تعالى «تقوم» أي : تصلي ، و «أدنى» ، أي : أقل.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٥٨ ، والحجة ٦ / ٣٣٧ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٠٧.

(٢) ينظر : السابق ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٠٧.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٣٥.

٤٨١

وقرأ ابن السميقع وأبو حيوة وهشام عن أهل الشام : «ثلثي» بإسكان اللام ، و (نِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) بالخفض : قراءة العامة ـ كما تقدم ـ ، عطفا على «ثلثي» والمعنى : تقوم أدنى من ثلثي الليل ، ومن نصفه ، وثلثه ، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ، لقوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) فكيف تقيمون نصفه أو ثلثيه ، وهو لا تحصونه؟! وأما قراءة النصف عطفا على «أدنى» ، والتقدير : تقوم أدنى من ثلثيه وتقوم نصفه وثلثه. قال الفراء : وهو أشبه بالصواب ؛ لأنه قال : أقلّ من الثلثين ، ثم ذكر نفس القلة لا أقل من القلة.

قال القشيريّ : وعلى هذه القراءة يحتمل أنهم كانوا يصيبون الثلث والنصف لخفة القيام عليهم بذلك القدر ، وكانوا يزيدون ، وفي الزيادة إصابة المقصود ، فأما الثلثان فكان يثقل عليهم قيامه فلا يصيبونه ، وينقصون منه ، ويحتمل أنهم أمروا بالقيام نصف الليل ، ورخص لهم في الزيادة والنقصان ، وكانوا ينتهون في الزيادة إلى قريب من الثلثين ، وفي النصف إلى قريب من الثلث ، ويحتمل أنّهم قدر لهم النصف وأنقص إلى الثلث ، والزيادة إلى الثلثين ، وكان فيهم من يفي بذلك ، وفيهم من يترك ذلك إلى أن نسخ عنهم ، وقيل : إنّما فرض عليهم الربع ، وكانوا ينقصون من الربع.

قال القرطبيّ (١) : «وهذا تحكّم».

قوله : (وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ). رفع بالعطف على الضمير في «تقوم» ، وجوز ذلك الفصل بالظرف ، وما عطف عليه.

قوله : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ).

قال الزمخشريّ : «تقديم اسم الله ـ عزوجل ـ مبتدأ مبنيا عليه «يقدر» هو الدال على معنى الاختصاص بالتقدير».

ونازعه أبو حيّان في ذلك ، وقال (٢) : «لو قيل : زيد يحفظ القرآن ، لم يدل ذلك على اختصاصه».

وقيل : الاختصاص في الآية مفهوم من السياق ، والمعنى : ليعلم مقادير الليل ، والنهار على حقائقها ، وأنتم تعلمون بالتحري ، والاجتهاد الذي يقع فيه الخطأ.

قوله : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ، (أَنْ لَنْ) و (أَنْ سَيَكُونُ) كلاهما مخففة من الثقيلة والفاصل للنفي ، وحرف التنفيس.

والمعنى : علم أن لن تطيقوا معرفة حقائق ذلك ، والقيام به ، أي : أن الله هو الذي يعلم مقادير الليل والنهار على حقيقته.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٣٥.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٦٧.

٤٨٢

وقيل : المعنى : لن تطيقوا قيام الليل ، والأصح الأول ، لأن قيام الليل ما فرض كله قط.

قال مقاتل وغيره : لما نزل (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) شق ذلك عليهم ، وكان الرجل لا يدري متى نصف الليل ، من ثلثه ، فيقوم حتى يصبح مخافة أن يخطىء ، وانتفخت أقدامهم ، وانتقعت ألوانهم ، فخفف الله عليهم ، وقال : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) ، أي : علم أنكم إن زدتم ثقل عليكم ، واحتجتم إلى تكليف ما ليس فرضا ، وإن نقصتم شق معرفة ذلك عليكم (١).

قوله : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) ، أي : فعاد عليكم بالعفو ، وهذا يدل على أنه كان فيهم من ترك بعض ما أمر به.

وقيل : (فَتابَ عَلَيْكُمْ) من فرض القيام أو عن عجزكم ، وأصل التوبة الرجوع ـ كما تقدم ـ فالمعنى : رجع لكم من تثقيل إلى تخفيف ، ومن عسر إلى إيسار ، وإنما أمروا بحفظ الأوقات بالتحري ، فخفف عنهم ذلك التحري.

وقيل : معنى قوله : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ، أي : يخلقهما مقدرين ، كقوله تعالى: (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) [الفرقان : ٢].

قال ابن العربي : تقدير الخلقة لا يتعلق به حكم وإنما يربط الله به ما يشاء من وظائف التكليف. قوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ).

قيل : المراد نفس القراءة ، أي : فاقرأوا فيما تصلون به بالليل ما خف عليكم.

قال السديّ : مائة آية (٢).

وقال الحسن : من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجه القرآن (٣).

وقال كعب : من قرأ في ليلة مائة آية كتب من القانتين (٤).

وقال سعيد بن جبير : خمسون آية (٥).

قال القرطبي (٦) : قول كعب أصح ، لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «من قام بعشر

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٣٥ ـ ٣٦) عن مقاتل.

(٢) ينظر المصدر السابق وقد ورد هذا مرفوعا من حديث ابن عباس ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٣٣) وقال : رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن طاووس ولم أعرفه وبقية رجاله وثقوا.

وذكره أيضا السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٨) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٩٤) وذكره القرطبي (١٩ / ٣٦).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٣٦).

(٦) الجامع لأحكام القرآن (١٩ / ٣٦).

٤٨٣

آيات لم يكتب من الغافلين ، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين» (١). خرجه أبو داود الطيالسي.

وروى أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «من قرأ خمسين آية في يوم أو في ليلة لم يكتب من الغافلين ، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين ، ومن قرأ مائتي آية لم يحاجّه القرآن إلى يوم القيامة ، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر» (٢).

فقوله : «من المقنطرين» ، أي : أعطي قنطارا من الأجر.

وجاء في الحديث : أن القنطار : ألف ومائتا أوقية ، والأوقية خير مما بين السماء والأرض.

وقال أبو عبيدة : القناطير ، واحدها قنطار ، ولا تجد العرب تعرف وزنه ، ولا واحد للقنطار من لفظه.

وقال ثعلب : المعمول عليه عند العرب أنه أربعة آلاف دينار ، فإذا قالوا : قناطير مقنطرة فهي اثنا عشر ألف دينار.

وقيل : إن القنطار : ملء جلد ثور ذهبا.

وقيل : ثمانون ألفا.

وقيل : هي جملة كثيرة مجهولة من المال ، نقله ابن الأثير.

وقيل : المعنى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، أي : فصلوا ما تيسر عليكم ، والصلاة تسمى قرآنا ، قال تعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) [الإسراء: ٧٨] ، أي : صلاة الفجر.

قال ابن العربي : «والأول أصح ، لأنه أخبر عن الصلاة وإليها يرجع القول».

قال القرطبيّ (٣) : «الأول أصح حملا للخطاب على ظاهر اللفظ ، والقول الثاني مجاز لأنه من تسمية الشيء ببعض ما هو من أعماله».

فصل في بيان أن الآية ناسخة

قال بعض العلماء : قوله تعالى (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) نسخ قيام الليل ونصفه ،

__________________

(١) أخرجه أبو داود (١٣٩٨) وابن خزيمة (٢ / ١٨١) رقم (١١٤٤) وابن حبان (٦٦٢ ـ موارد) وابن السني في «عمل اليوم الليلة» رقم (٧٠١) من حديث عبد الله بن عمرو.

وله شاهد من حديث ابن عمر بمثله إلا أنه قال في الجملة الأخيرة : «ومن قرأ بمائتي آية كتب من الفائزين» أخرجه الدارمي (٢ / ٤٦٥ ـ ٤٦٦) والحاكم (١ / ٥٥٥ ـ ٥٥٦) وصححه ورده الذهبي بقوله : قلت : إسناده واه.

(٢) أخرجه ابن السني ف ي «عمل اليوم والليلة» رقم (٦٩٤) من حديث أنس.

(٣) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٣٦.

٤٨٤

والنقصان من النصف ، والزيادة عليه ، ثم يحتمل قول الله ـ عزوجل ـ : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) معنيين :

أحدهما : أن يكون فرضا ثانيا لأنه أزيل به فرض غيره.

والآخر : أن يكون فرضا منسوخا أزيل بغيره كما أزيل به غيره ، وذلك بقول الله ـ تعالى ـ : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [الإسراء : ٧٩] ، فاحتمل قوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) أي : تتهجد بغير الذي فرض عليك مما تيسر منه.

قال الشافعيّ : فكان الواجب طلب الاستدلال بالسنة على أحد المعنيين فوجدنا سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تدل على أن لا واجب من الصلاة إلا الخمس.

فصل في أن النسخ هنا خاص بالأمة

قال القشيريّ : والمشهور أنّ نسخ قيام الليل كان في حق الأمة ، وبقيت الفريضة في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقيل : إنما النسخ : التقدير بمقدار ، وبقي أصل الوجوب كقوله تعالى : (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [البقرة : ١٩٦] ، فالهدي لا بد منه ، كذلك لا بد من الصلاة في الليل ولكن فوض تقديره إلى اختيار المصلي ، وعلى هذا فقال قوم : فرض قيام الليل بالقليل باق ، وهو مذهب الحسن.

قال الشافعيّ : بل نسخ بالكلية ، فلا تجب صلاة الليل أصلا ، ولعل الفريضة التي بقيت في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هي هذه ، وهو قيامه ، ومقداره مفوض إلى خيرته ، وإذا ثبت أن القيام ليس فرضا ، فقوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) ، معناه : اقرأوا إن تيسر عليكم ذلك وصلوا إن شئتم.

وقال قوم : إنّ النسخ بالكلية تقرر في حق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا ، فما كانت صلاة الليل واجبة عليه ، وقوله : (نافِلَةً لَكَ) محمول على حقيقة النفل ، ومن قال : نسخ المقدار وبقي أصل وجوب قيام الليل لم ينسخ ، فهذا النسخ الثاني وقع ببيان مواقيت الصلاة كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) [الإسراء : ٧٨] الآية ، وقوله تعالى : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) [الروم : ١٧] الآية ، ما في الخبر من أن الزيادة على الصلوات الخمس تطوع.

وقيل : وقع النسخ بقوله تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) ، والخطاب للنبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم وللأمة كما أن فرضية الصلاة ، وإن خوطب بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ) فهي عامة له ولغيره.

وقد قيل : إن فريضة قيام الليل امتدت إلى ما بعد الهجرة ، ونسخت بالمدينة لقوله

٤٨٥

تعالى : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) ، وإنما فرض القتال بالمدينة ، فعلى هذا بيان المواقيت جرى بمكة ، فقيام الليل نسخ بقوله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [الإسراء : ٧٩].

وقال ابن عباس : لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة نسخ قول الله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) ، وجوب قيام الليل (١).

فصل في علة تخفيف قيام الليل

قوله : (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) بيّن سبحانه علة تخفيف قيام الليل ، فإن الخلق منهم المريض ، ويشق عليه قيام الليل ، ويشق عليه أن تفوته الصلاة ، والمسافر في التجارات قد لا يطيق قيام الليل ، والمجاهد كذلك ، فخفّف الله عن الكل لأجل هؤلاء.

وقال ابن الخطيب (٢) : لمّا علم الله تعالى أعذار هؤلاء ، يعني المريض ، والمسافر ، والمجاهد ، فلو لم يناموا بالليل لتوالت عليهم أسباب المشقة ، وهذا السبب ما كان موجودا في حق النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال تعالى : (إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) فلا جرم لم ينسخ وجوب التهجد في حقه عليه الصلاة والسلام.

و «أن» في قوله : «أن سيكون» مخففة من الثقيلة ، أي : علم أنه سيكون.

قوله : «وآخرون» عطف على «مرضى» ، أي : علم أن سيوجد منكم قوم مرضى ، وقوم آخرون مسافرون ، ف «يضربون» نعت ل «آخرون» وكذلك «يبتغون» ، ويجوز أن يكون «يبتغون» حالا من فاعل «يضربون» ، و «آخرون» عطف على «آخرون» و «يقاتلون» صفته.

فصل في بيان أن الكسب الحلال كالجهاد

سوى الله تعالى في هذه الآية (٣) بين درجة المجاهدين ، والملتمسين للمال الحلال للنفقة على نفسه ، وعياله ، والإحسان ، فكان هذا دليلا على أن كسب المال بمنزلة الجهاد ؛ لأنّ جمعه من الجهاد في سبيل الله.

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ما من جالب يجلب طعاما من بلد إلى بلد ، فيبيعه بسعر يومه إلّا كانت منزلته عند الله تعالى منزلة الشّهداء» ثمّ قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)(٤).

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٦٥.

(٣) في أ : السورة.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٩) وعزاه إلى ابن مردويه.

٤٨٦

وقال ابن مسعود : أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا ، فباعه بسعر يومه كان له عند الله منزلة الشهداء ، وقرأ : (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)(١).

وقال ابن عمر : ما خلق الله موتة أموتها بعد الموت في سبيل الله أحبّ إليّ من الموت بين شعبتي رحلي ، أبتغي من فضل الله ، ضاربا في الأرض (٢).

وقال طاووس : الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله (٣).

قوله : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) ، أي : صلّوا ما أمكن فأوجب الله تعالى من صلاة الليل ، ما تيسّر ، ثم نسخ ذلك بإيجاب الصلوات الخمس على ما تقدم.

وقال عبد الله بن عمرو : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا عبد الله ، لا تكن مثل فلان كان يقوم اللّيل ، فترك قيام اللّيل» ، ولو كان فرضا ما أقره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا أخبر بمثل هذا الخبر عنه ، بل كان يذمه غاية الذم (٤).

فصل في القدر الذي يقرأ به في صلاته

إذا ثبت أنّ قيام الليل ليس بفرض ، وأن قوله (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) محمول على ظاهره من القراءة في الصلاة ، فاختلف العلماء في قدر ما يلزمه أن يقرأ به في الصلاة.

فقال مالك والشافعيّ : فاتحة الكتاب لا يجوز العدول عنها ولا الاقتصار على بعضها ، وقدره أبو حنيفة بآية واحدة من أي القرآن كانت ، وعنه ثلاث آيات لأنها أقل سورة ، وقيل المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة.

قال الماورديّ : فعلى هذا القول يكون مطلق الأمر محمولا على الوجوب ليقف بقراءته على إعجازه وما فيه من دلائل التوحيد ، وبعث الرسل ، ولا يلزمه إذا قرأه وعرف إعجازه ، ودلائل التوحيد أن يحفظه ؛ لأن حفظ القرآن من القرب المستحبة دون الواجبة والأكثرون على أنه للاستحباب ، لأنه لو وجب علينا قراءته لوجب حفظه. وفي قدر الواجب أقوال :

الأول : قال الضحاك : جميع القرآن ، لأن الله تعالى يسره على عباده (٥).

الثاني : قال جويبر : ثلث القرآن (٦).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٣٧).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) تقدم تخريجه.

(٥) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٣٣) والقرطبي (١٩ / ٣٩).

(٦) ينظر المصدر السابق.

٤٨٧

الثالث : قال السديّ : مائتا آية (١).

الرابع : قال ابن عباس : مائة آية (٢).

الخامس : قال أبو خالد الكناني : ثلاث آيات كأقصر سورة (٣).

قوله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، يعني الخمس المفروضة ، وهي الخمس لوقتها ، (وَآتُوا الزَّكاةَ) الواجبة في أموالكم.

قاله عكرمة وقتادة ، وقال الحارث العكلي : صدقة الفطر ، لأن زكاة الأموال وجبت بعد ذلك (٤) ، وقيل : صدقة التطوع.

وقيل : كل فعل خير.

وقال ابن عباس : طاعة الله الإخلاص (٥).

قوله : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً). القرض الحسن ما أريد به وجه الله تعالى خالصا من المال الطيب وقال زيد بن أسلم : القرض الحسن ، النفقة على الأهل (٦) ، وقيل : صلة الرّحم ، وقرى الضيف ، وقال عمر بن الخطاب : هو النفقة في سبيل الله (٧).

قوله : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) تقدم بيانه في سورة «البقرة».

قوله : (هُوَ خَيْراً) ، العامة على نصب الخير مفعولا ثانيا ، و «هو» إما تأكيد للمفعول الأول ، أو فصل.

وجوّز أبو البقاء : أن يكون بدلا ، وهو غلط ، لأنه كان يلزم أن يطابق ما قبله في الإعراب فيقال : إياه.

وقرأ أبو السمال (٨) وابن السميقع : «خير» على أن يكون «هو» مبتدأ ، و «خير» خبره ، والجملة مفعول ثان ل «تجدوه».

قال أبو زيد : هي لغة تميم ، يرفعون ما بعد الفصل.

وأنشد سيبويه : [الطويل]

٤٩٤٣ ـ تحنّ إلى ليلى وأنت تركتها

وكنت عليها بالملا أنت أقدر (٩)

والقوافي مرفوعة ، ويروى : «أقدرا» بالنصب.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر المصدر السابق.

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٩١ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٥٩ ، والدر المصون ٦ / ١٤٠.

(٩) تقدم.

٤٨٨

[وقال الزمخشريّ : وهو فصل](١) ، وجاز ، وإن لم يقع بين معرفتين ، لأن «أفعل من» أشبه في امتناعه من حرف التعريف ، المعرفة.

قال شهاب الدين (٢) : «هذا هو المشهور ، وبعضهم يجوزه في غير أفعل من النكرات».

وقال القرطبي (٣) : «ونصب «خيرا ، وأعظم» على المفعول الثاني ل «تجدوه» و «هو» فصل عند البصريين ، وعماد عند الكوفيين ، لا محلّ له من الإعراب ، و «أجرا» تمييز».

فصل في معنى الآية

المعنى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْراً) من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت. قاله ابن عباس (٤).

وقال الزجاج : «خير لكم من متاع الدنيا».

قوله : (وَأَعْظَمَ أَجْراً) ، قال أبو هريرة : يعني الجنّة (٥) ، ويحتمل أن يكون (أَعْظَمَ أَجْراً) لإعطائه بالحسنة عشرا (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) أي سلوه المغفرة لذنوبكم (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لما كان على التوبة رحيم لكم بعدها ، قاله سعيد بن جبير (٦) وقيل : غفور لمن لم يصرّ على الذنوب.

وقال مقاتل : غفور لجميع الذنوب لأن قوله «غفور» يتناول التائب والمصر ، بدليل أنه يصح استثناء كل واحد منهما وحده ، والاستثناء حكمه إخراج ما لولاه لدخل.

وأيضا : غفران التائب واجب عند الخصم فلا يحصل المدح بأداء الواجب ، والغرض من الآية تقرير المدح فوجب حمله على الكل تحقيقا للمدح.

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة يا أيّها المزّمّل رفع عنه العسر في الدّنيا والآخرة» (٧) ، والله أعلم.

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) الدر المصون ٦ / ٤١٠.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٣٩.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣٠ / ١٦٦).

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٣٩).

(٦) ينظر المصدر السابق.

(٧) تقدم تخريجه مرارا.

٤٨٩

سورة المدثر

مكية ، وهي ستّ وخمسون آية ، ومائتان وخمس وخمسون كلمة ، وألف وعشرة أحرف.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) (٧)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ؛ يا أيها الذي قد دثر ثيابه ، أي : تغشى بها ونام.

وقرأ العامة : بتشديد الدال وكسر الثاء ، اسم فاعل من «تدثّر» وأصله : المتدثر فأدغم ك «المزمّل». وفي حرف أبي (١) : «المتدثر» على الأصل المشار إليه.

وقرأ عكرمة (٢) : بتخفيف الدال ، اسم فاعل من «دثّر» ـ بالتشديد ـ ويكون المفعول محذوفا أي : المدثر نفسه ، كما تقدم.

وعنه أيضا : فتح الثاء.

ومعنى «تدثّر» لبس الدّثار ، وهو الثوب الذي فوق الشّعار ، «والشّعار» : ما يلي الحسد ، وفي الحديث : «الأنصار شعار والنّاس دثار».

و «سيف داثر» : بعيد العهد بالصّقال.

ومنه قيل للمنزل الدارس : داثر لذهاب أعلامه وفلان داثر المال ، أي : حسن القيام به.

قوله : «قم» ، إما أن يكون من القيام المعهود ، فيكون المعنى : قم من مضجعك ، وإما من «قام» بمعنى الأخذ في القيام ، كقوله : [الطويل]

٤٩٤٤ ـ فقام يذود النّاس عنها بسيفه

 ..........(٣)

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٩٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٦٢ ، والدر المصون ٦ / ٤١١.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٦٢ ، والدر المصون ٦ / ٤١١.

(٣) تقدم.

٤٩٠

وقوله : [الوافر]

٤٩٤٥ ـ على ما قام يشتمني لئيم

 ...........(١)

في أحد القولين ، فيكون المعنى : قيام عزم وتصميم ، والقول الآخر : أن «قام» مزيدة ، وفي جعلها بمعنى الأخذ في القيام نظر ؛ لأنه حينئذ يصير من أخوات «عسى» فلا بد له من خبر يكون فعلا مضارعا مجردا.

قوله : (فَأَنْذِرْ) ، مفعوله محذوف ، أي : أنذر قومك عذاب الله ، والأحسن أن لا يقدر له ، أي : أوقع الإنذار.

فصل في معنى الآية

المعنى : يا أيها الذي قد دثّر ثيابه ، أي : تغشى بها ونام.

وقيل : ليس المراد التدثر بالثوب ، فإن قلنا : التدثر ، ففيه وجوه :

أحدها : أن هذا من أوائل ما نزل من القرآن.

روى جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «كنت على جبل حراء ، فنوديت يا محمّد ، إنّك لرسول ، فنظرت عن يميني ، ويساري ، فلم أر أحدا فنظرت فوقي فرأيت الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السّماء والأرض ، فخفت فرجعت إلى خديجة ، فقلت : دثّروني ، وصبّوا عليّ ماءا باردا ، فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)(٢).

وثانيها : أن أبا جهل ، وأبا لهب ، وأبا سفيان ، والوليد بن المغيرة ، والنضر بن الحارث ، وأميّة بن خلف ، والعاص بن وائل والمطعم بن عدي ، اجتمعوا وقالوا : إنّ وفود العرب مجتمعون في أيام الحج ، وهم يسألون عن أمر محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد اختلفتم في الإخبار عنه ، فمن قائل هو مجنون. وقائل : كاهن. وقائل : ساحر ، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد ، فيستدلون باختلاف الأجوبة على أنها أجوبة باطلة ، فسمّوا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه ، وتسميه العرب به فقدم رجل منهم فقال : إنه شاعر ، فقال الوليد : سمعت كلام عبيدة بن الأبرص [وكلام أمية بن أبي الصلت ، وكلامه ما يشبه كلامهما ، فقالوا : كاهن ، فقال :] الكاهن يصدق ويكذب ، وما كذب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه البخاري (١ / ٢٥ ـ ٢٦) كتاب : بدء الوحي رقم (٢) ومسلم (٤ / ١٨١٦ ـ ١٨١٧) كتاب الفضائل : باب عرق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في البرد (٨٧ ـ ٢٣٣٣) والطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٩٦) والترمذي (٥ / ٣٩٩) رقم (٣٣٢٥). وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٠) وزاد نسبته إلى الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد وعبد بن حميد وابن الضريس وابن المنذر وابن مردويه.

٤٩١

قط ، فقال آخر : إنه مجنون ، فقال الوليد : الجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط ، ثم قام الوليد فانصرف إلى بيته ، فقال الناس : صبأ الوليد بن المغيرة ، فدخل عليه أبو جهل فقال : ما لك يا أبا عبد شمس ، هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونكه ، زعموا أنك قد احتجت وصبأت ، فقال الوليد : ما لي إليه حاجة ، ولكني فكرت في محمد ، فقلت : إنه ساحر لأن الساحر هو الذي يفرق بين الأب وابنه ، وبين الأخ وأخيه ، وبين المرأة وزوجها ، فشاع ذلك في الناس ، فصاحوا يقولون : محمد ساحر والناس مجتمعون ، فوقعت الصيحة في الناس فلما سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك اشتد عليه ورجع إلى بيته محزونا ، فتدثر بقطيفة فأنزل الله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

وثالثها : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان نائما ، متدثرا بثيابه ، فجاءه جبريل ـ عليه‌السلام ـ وأيقظه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) كأنه قال : اترك التدثر بالثياب ، واشتغل بهذا المنصب الذي نصبك الله تعالى له.

وإن قلنا : ليس المراد منه التدثر بالثياب ففيه وجوه :

الأول : قال عكرمة : يا أيها المدثر بالنبوة ، والرسالة (١) انقلها ، من قولهم : ألبسه الله لباس التقوى وزيّنه برداء العلم.

قال ابن العربي : «وهذا مجاز بعيد ، لأنه لم يكن تنبأ بعد ، وإن قلنا : إنها أول القرآن لم يكن نبيا بعد إلا إن قلنا : إنها ثاني ما نزل».

الثاني : أن المدثر بالثوب يكون كالمتخفي فيه ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان في جبل حراء كالمتخفي من النّاس ، فكأنه قال : يا أيها المدثّر بدثار الاختفاء قم بهذا الأبر واخرج من زاوية الخمول ، واشتغل بإنذار الخلق ، والدعوة إلى معرفة الحقّ.

الثالث : أنه تعالى جعله رحمة للعالمين ، فكأنه قيل له : يا أيها المدثّر بأثواب العلم العظيم ، والخلق الكريم ، والرحمة الكاملة : (قُمْ فَأَنْذِرْ) عذاب ربّك.

فصل في لطف الخطاب في الآية

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله وعبر عنه بصفته ، ولم يقل : يا محمد ، كما تقدم في المزمل.

فصل في معنى «فأنذر»

ومعنى قوله تعالى : (فَأَنْذِرْ) ، أي : خوّف أهل مكة ، وحذرهم العذاب إن لم يسلموا.

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٣٥) والقرطبي (١٩ / ٤١).

٤٩٢

وقيل : الإنذار هنا : إعلامهم بنوته ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأنها مقدمة الرسالة.

وقيل : هو دعاؤهم إلى التوحيد لأنه المقصود.

وقال الفراء : قم فصلّ ومر بالصلاة.

قوله : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) ، قدم المفعول ، وكذا ما بعد ، إيذانا بالاختصاص عند من يرى ذلك ، أو للاهتمام به.

قال الزمخشري : «واختص ربّك بالتكبير».

ثم قال : «ودخلت الفاء لمعنى الشرط كأنه قيل : ومهما تكن فلا تدع تكبيره» وقد تقدم الكلام في مثل هذه الفاء في البقرة عند قوله تعالى (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠].

قال أبو حيان : «وهو قريب مما قدره النحاة في قولك : «زيدا فاضرب» ، قالوا : تقديره : «تنبّه فاضرب زيدا» فالفاء هي جواب الأمر ، وهذا الأمر إما مضمن معنى الشرط ، وإما الشرط محذوف على الخلاف الذي فيه عند النحاة».

قال أبو الفتح الموصلي : يقال : «زيدا اضرب ، وعمرا اشكر» وعنده أن الفاء زائدة.

وقال الزجاج : ودخلت الفاء لإفادة معنى الجزائية ، والمعنى : قم فكبّر ربّك ، وكذلك ما بعده.

فصل في معنى الآية

معنى قوله : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) ، أي سيدك ومالكك ومصلح أمرك فعظمه ، وصفه بأنه أكبر من أن يكون له صاحبة ، أو ولد ، وفي الحديث : أنهم قالوا : بم تفتتح الصلاة؟ فنزلت : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ)(١). أي : صفه بأنه أكبر.

قال ابن العربي : وهذا القول وإن كان يقتضي بعمومه تكبير الصلاة فإنه مراد به تكبيره بالتقديس ، والتنزيه بخلع الأنداد ، والأصنام دونه ، ولا تتخذ وليا غيره ، ولا تعبد سواه ، وروي أن أبا سفيان قال يوم أحد : «أعل هبل» ، فقال : صلى‌الله‌عليه‌وسلم «قولوا الله أعلى وأجلّ» (٢) ، وقد صار هذا القول بعرف الشرع في تكثير العبادات كلها أذانا ، وصلاة بقوله «الله أكبر» وحمل عليه لفظ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوارد على الإطلاق في موارد منها قوله : «تحريمها التّكبير ، وتحليلها التّسليم» (٣) ، والشّرع يقتضي معرفة ما يقتضي بعمومه ، ومن موارده

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥١) وعزاه إلى ابن مردويه عن أبي هريرة.

(٢) تقدم.

(٣) أخرجه أبو داود (١ / ٤٩) كتاب الطهارة : باب فرض الطهارة حديث (٦١) والترمذي (١ / ٨ ـ ٩) كتاب الطهارة : باب مفتاح الصلاة الطهور وابن ماجه (١ / ١٠١) كتاب الطهارة : باب مفتاح الصلاة الطهور حديث (٢٧٥) والشافعي في الأم (١ / ١٠٠) كتاب الصلاة : باب ما يدخل به في الصلاة من التكبير ، وأحمد (١ / ١٢٣ ، ١٢٩) والدارمي (١ / ١٧٥) كتاب الوضوء : باب مفتاح الصلاة الطهور.

٤٩٣

أوقات الإهلال بالذبائح تخليصا له من الشرك ، وإعلانا باسمه بالنسك ، وإفرادا لما شرع من أمره بالسفك.

والمنقول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في التكبير في الصلاة هو لفظ «الله أكبر».

وقال المفسرون : لما نزل قوله تعالى : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) قام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : الله أكبر ، فكبرت خديجة ـ رضي الله عنها ـ وعلمت أنه وحي من الله تعالى ذكره القشيري.

وقال الكلبيّ : فعظم ربّك عما يقوله عبدة الأوثان (١).

قال مقاتل : هو أن يقال : الله أكبر (٢).

وقيل : المراد منه التكبير في الصلاة.

فإن قيل : هذه السورة نزلت في أول البعث ، ولم تكن الصلاة واجبة.

فالجواب : لا يبعد أنه كانت له ـ عليه الصلاة والسلام ـ صلوات تطوع فأمر أن يكبّر ربّه فيها قال ابن الخطيب (٣) : وعندي أنه لما قيل له : (قُمْ فَأَنْذِرْ) قيل بعد ذلك : (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) عن اللغو والرفث.

قوله : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ).

قيل : المراد الثياب الملبوسة ، فعلى الأول يكون المعنى : وعملك فأصلح ، قاله مجاهد وابن زيد والسديّ ، وروى منصور عن أبي رزين ، قال : يقول : وعملك فأصلح ، وإذا كان الرجل خبيث العمل ، قالوا : إن فلانا خبيث الثياب ، وإذ كان الرجل حسن العمل ، قالوا : إنّ فلانا طاهر الثياب ، ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يحشر المرء في ثوبيه الّذي مات فيهما» (٤) ، يعني : عمله الصالح والطالح ، ذكره الماوردي.

ومن قال المراد به القلب ، فالمعنى : قلبك فطهر ، قاله ابن عباس وسعيد بن جبير رضي الله عنهما ؛ ومنه قول امرىء القيس : [الطويل]

٤٩٤٦ ـ ............

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل (٥)

أي : قلبي من قلبك.

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣٠ / ١٦٨).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١٦٨.

(٤) ذكره بهذا اللفظ الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٣٦) ولم أجده لكن له شاهد من حديث أبي سعيد الخدري أخرجه أبو داود (٣١١٤) وعبد الرزاق (٦٢٣) والحاكم (١ / ٣٤٠) وصححه والبيهقي (٣ / ٣٨٤).

(٥) عجز بيت وصدره :

فإن يك قد ساءتك منّي خليقة

ينظر ديوانه ص ١٣ ، وزاد المسير ٨ / ٤٠ ، والقرطبي ١٩ / ٤٢.

٤٩٤

قال الماورديّ : ولهم في تأويل الآية وجهان :

أحدهما : المعنى : وقلبك فطهر من الإثم والمعاصي قاله ابن عباس وقتادة (١).

الثاني : وقلبك فطهر من القذر ، أي : لا تقذر فتكون دنس الثياب وهو ما يروى عن ابن عباس أيضا (٢) ، واستشهدوا بقول غيلان بن سلمة الثقفي : [الطويل]

٤٩٤٧ ـ فإنّي بحمد الله لا ثوب غادر

لبست ولا من غدرة أتقنّع (٣)

ومن قال : المراد به النفس ، قال : معناه ونفسك فطهر ، أي : من الذنوب ، والعرب تكني عن النفس بالثياب. قاله ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ ؛ ومنه قول عنترة : [الكامل]

٤٩٤٨ ـ فشككت بالرّمح الطّويل ثيابه

ليس الكريم على القنا بمحرّم (٤)

وقول امرىء القيس المتقدم. ومن قال : بأنه الجسم قال : المعنى وجسمك فطهر من المعاصي الظاهرة ، ومنه قول ليلى تصف إبلا : [الطويل]

٤٩٤٩ ـ رموها بأثواب خفاف فلا ترى

لها شبها إلّا النّعام المنفّرا (٥)

أي : ركبوها فرموها بأنفسهم.

ومن قال : المراد به الأهل ، قال : معناه : وأهلك طهرهم من الخطايا بالموعظة والتأديب ، والعرب تسمي الأهل ثوبا وإزارا ولباسا ، قال تعالى (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) [البقرة: ١٨٧].

قال الماورديّ : ولهم في تأويل الآية وجهان :

الأول : معناه : ونساءك فطهر باختيار المؤمنات العفائف.

الثاني : الاستمتاع بهن في القبل دون الدبر في الطهر إلا في الحيض حكاه ابن بحر.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٩٨ ـ ٢٩٩) عن ابن عباس وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥١) عن مجاهد وعزاه إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٩٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥١) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في «الوقف والابتداء» وابن مردويه من طريق عكرمة عن ابن عباس.

(٣) يروى لا ثوب فاجر مكان لا ثوب غادر. ويروى ولا من خزية أتقنع ، مكان ولا من غدرة أتقنع.

ينظر : اللسان (ثوب) ، ومجمع البيان ١٠ / ٥٨٠ ، وزاد المسير ٨ / ٤٠٠ ، والقرطبي ١٩ / ٤٢.

(٤) ويروى بالرمح الأصم مكان بالرمح الطويل.

ينظر ديوانه ص ٢٦ ، وشرح المعلقات السبع للزوزني ص ١٤٨ ، والقرطبي ١٩ / ٤٢.

(٥) ينظر : زاد المسير ٨ / ٤٠٠ ، والقرطبي ١٩ / ٤٣ ، والفائق ١ / ٢٨ ، والمعاني الكبير ١ / ٤٨٦ ، واللسان (ثوب).

٤٩٥

قال ابن الخطيب (١) : «وحمل الآية على هذا التأويل يعسر لأنه على هذا الوجه لا يحسن اتصال الآية بما قبلها».

ومن قال المراد به الخلق قال معناه : وخلقك فحسّن قاله الحسن والقرظي ؛ لأن خلق الإنسان مشتمل على أحواله اشتمال ثيابه على نفسه ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٤٩٥٠ ـ فلا أب وابنا مثل مروان وابنه

إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا (٢)

والسبب في حسن هذه الكناية وجهان :

الأول : أن الثوب كالشيء الملازم للإنسان فلهذا جعلوا الأثواب كناية عن الإنسان ، فيقال: المجد في ثوبه والعفة في إزاره.

الثاني : أنه من طهر باطنه غالبا طهر ظاهره ، ومن قال : المراد به الدين فمعناه : ودينك فطهر.

جاء في الصحيح : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ورأيت النّاس وعليهم ثياب منها ما يبلغ الثّديّ ، ومنها دون ذلك ، ورأيت عمر بن الخطّاب ، وعليه إزار يجرّه ، قالوا : يا رسول الله فما أوّلت ذلك؟ قال : الدّين» (٣).

وروي عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ في قوله تعالى : (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) قال : معناه لا تلبس ثيابك على عذرة (٤) ؛ قال ابن أبي كبشة : [الطويل]

٤٩٥١ ـ ثياب بني عوف طهارى نقيّة

وأوجههم عند المشاهد غرّان (٥)

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١٧٠.

(٢) نسب البيت إلى الربيع بن ضبع الفزاري ، وإلى الفرزدق ، وإلى رجل من عبد مناة ينظر الكتاب ٢ / ٢٨٥ ، وشرح التصريح ١ / ٢٤٣ ، شرح شواهد الإيضاح ص ٢٠٧ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٣٥٥ ، وخزانة الأدب ٤ / ٦٧ ، ٦٨ وأمالي ابن الحاجب ١ / ٤١٩ ، ٢ / ٥٩٣ ، ٨٤٧ ، والدرر ٦ / ١٧٢ ، وأوضح المسالك ٢ / ٢٢ ، وجواهر الأدب ص ٢٤١ ، وشرح الأشموني ١ / ١٥٣ ، وشرح قطر الندى ص ١٦٨ ، وشرح المفصل ٢ / ١٠١ ، ١١٠ ، واللامات ص ١٠٥ ، واللمع ص ١٣٠ ، والمقتضب ٤ / ٣٧٢.

(٣) أخرجه البخاري (١ / ٩٣) كتاب الإيمان : باب تفاضل أهل الإيمان (٢٣) ومسلم (٤ / ١٨٩٥) كتاب الفضائل : باب فضل عمر حديث (١٥ / ٢٣٩٠) والترمذي (٤ / ٤٦٧) كتاب الرؤيا : باب في رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم رقم (٢٢٨٥) والنسائي (٨ / ١١٣ ـ ١١٤) كتاب الإيمان وشرائعه ، باب : زيادة الإيمان رقم (٥٠١١) من حديث أبي سعيد الخدري.

(٤) تقدم.

(٥) البيت ليس لابن أبي كبشة ، وإنما هو لامرىء القيس من قصيدة يمدح يها عويمر بن شجنة بن عطارد من بني تميم. ينظر ديوانه (٨٣) ، ورواية الديوان «غمّان» مكان «غران». ويروى الشطر الثاني في غير الديوان : وأوجههم بيض المسافر غرّان.

ينظر : القرطبي ١٩ / ٤٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٦٣.

٤٩٦

يعني بطهارة ثيابهم : سلامتهم عن الدناءات ويعني بعزة وجوههم : تنزيههم عن المحرمات ، أو جمالهم في الخلقة ، أو كليهما. قاله ابن العربي.

وقال سفيان بن عيينة : لا تلبس ثيابك على كذب ولا جور ولا غدر ولا إثم ، قاله عكرمة.

ومن قال : إن المراد به الثياب الملبوسة ، فلهم أربعة أوجه :

الأول : وثيابك فأنق.

الثاني : وثيابك فشمّر ، أي قصّر ، فإن تقصير الثياب أبعد من النجاسة فإذا جرّت على الأرض لم يؤمن أن يصيبها نجاسة ، قاله الزجاج وطاووس.

الثالث : وثيابك فطهر من النجاسة بالماء ، قاله محمد بن سيرين وابن زيد والفقهاء.

الرابع : لا تلبس ثيابك إلا من كسب الحلال ليكون مطهرة من الحرام.

وعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ لا يكون ثيابك التي تلبس من ملبس غير طاهر.

قال ابن العربي : وليس بممتنع أن تحمل الآية على عمومها ، من أن المراد بها الحقيقة ، والمجاز ، وإذا حملناها على الثياب الطاهرة المعلومة ، فهي تتناول معنيين :

أحدهما : تقصير الأذيال ، فإنها إذا أرسلت تدنست ، ولهذا قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ لغلام من الأنصار ، وقد رأى ذيله مسترخيا : ارفع إزارك ، فإنه أتقى ، وأبقى ، وأنقى.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه ، لا جناح عليه فيما بينه وبين الكعبين وما كان أسفل من ذلك ففي النّار» (١). فقد جعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الغاية في لباس الإزار الكعب ، وتوعد ما تحته بالنار ، فما بال رجال يرسلون أذيالهم ، ويطيلون ثيابهم ، ثم يتكلفون رفعها بأيديهم وهذه حالة الكبر ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا ينظر الله تعالى إلى من جرّ ثوبه خيلاء» ، وفي رواية : «من جرّ إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة» (٢) قال أبو بكر ـ رضي الله

__________________

(١) أخرجه مالك في الموطأ ٢ / ٩١٤ ـ ٩١٥ ، في كتاب اللباس : باب ما جاء في إسبال الرجل ثوبه ، وأحمد في المسند ٣ / ٩٧ ، وأبو داود ٤ / ٣٥٣ في اللباس : باب في قدر موضع الإزار ٤٠٩٣ ، وذكره المنذري في مختصر سنن أبي داود ٦ / ٥٥ ـ ٥٦ ، (٣٩٣٥) ، وعزاه للنسائي وأخرجه ابن ماجه ٢ / ١١٨٣ ، في اللباس : باب طول القميص (٣٥٧٦).

(٢) أخرجه البخاري ١٠ / ٢٦٦ في اللباس : باب من جرا إزاره من غير خيلاء (٥٧٨٤) ، وفيه من الفقه أنه لا حرج على من انجر إزاره بغير قصده مطلقا ؛ وأما ما أخرجه ابن أبي شيبة عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يكره جر الإزار على كل حال. فقال ابن بطال : هو من تشديداته وإلا فقد روى هو حديث الباب فلم يخف عليه الحكم قال الحافظ : بل كراهة ابن عمر محمولة على من قصد ذلك سواء كان عن مخيلة أم لا وهو المطابق لروايته ، ولا يظن بابن عمر رضي الله عنه أنه يؤاخذ من لم يقصد شيئا وإنما يريد بالكراهة من انجر إزاره بغير اختياره ثم تمادى على ذلك ولم يتداركه وهذا ـ

٤٩٧

عنه ـ : يا رسول الله إني أجد شقّ إزاري يسترخي إلا أني أتعاهد ذلك منه ، فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لست ممّن يصنعه خيلاء».

والمعنى الثاني : غسلها بالماء من النجاسة ، وهو الظاهر.

قال المهدوي : واستدل به بعض العلماء على وجوب طهارة الثوب ، وليس ذلك بفرض عند مالك وأهل المدينة ، وكذلك طهارة البدن ، للإجماع على جواز الصلاة بالاستجمار من غير غسل.

قال ابن الخطيب (١) : إذا حملنا لفظ التطهير على حقيقته ، فنقول : المراد منه أنهصلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بتطهير ثيابه من الأنجاس والأقذار ، وعلى هذا التقدير ففي الآية ثلاثة احتمالات :

الأول : قال الشافعي ـ رضي الله عنه ـ : المقصود من الآية الإعلام بأن الصلاة لا تجوز إلا في ثياب طاهرة من الأنجاس.

وثانيها : قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : كان المشركون لا يصونون ثيابهم عن النجاسات ، فأمره الله تعالى بأن يصون ثيابه عن النجاسات.

وثالثها : روي أنهم ألقوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلى شاة ، فشق عليه فرجع إلى بيته حزينا وتدثر في ثيابه ، فقال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ) ولا تمنعك تلك السفاهة عن الإنذار (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ) على أن لا ينتقم منهم (وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ) عن تلك النجاسات والقاذورات.

قوله : (وَالرُّجْزَ). قرأ حفص ومجاهد وعكرمة وابن محيصن : بضم الراء ، والباقون (٢) : بكسرها.

فقيل : لغتان بمعنى ، وعن أبي عبيدة : الضم أقيس اللغتين ، وأكثرهما.

وقال مجاهد : هو بالضم اسم صنم ، ويعزى للحسن البصري أيضا ، وبالكسر ويذكر : اسم للعذاب ، وعلى تقدير كونه العذاب ، فلا بد من حذف مضاف ، أي : اهجر أسباب العذاب المؤدية إليه ، أقام السبب مقام المسبب ، وهو مجاز شائع بليغ.

وقال السديّ : «الرّجز» ، بنصب الراء : الوعيد.

وقال مجاهد وعكرمة : المراد بالرجز : الأوثان ، لقوله تعالى : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ)(٣) [الحج : ١٠] ، وقال ابن عباس أيضا : والمأثم فاهجر ، أي

__________________

ـ متفق عليه وإن اختلفوا هل الكراهة فيه للتحريم أو للتنزيه وفي الحديث أيضا : اعتبار أحوال الأشخاص في لأحكام باختلافها ، وهو أصل مطرد غالبا. الفتح ١٠ / ٢٦٧.

(١) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١٦٩.

(٢) ينظر : السبعة ٦٥٩ ، والحجة ٦ / ٣٣٨ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤١٠ ، وحجة القراءات ٧٣٣.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٠٠) عن مجاهد وعكرمة والزهري وقد ورد مرفوعا من حديث جابر. أخرجه الحاكم (٢ / ٢٥٧) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٥٢) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

٤٩٨

فاترك ، وكذلك روى مغيرة عن إبراهيم النخعي ، قال : الرجز : الإثم.

وقال قتادة : الرجز إساف ، ونائلة (١).

وأصل «الرّجز» : العذاب ، قال تعالى : (لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ) [الأعراف : ١٣٤].

وقال تعالى : (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) [الأعراف : ١٦٣].

قوله : (وَلا تَمْنُنْ) ، العامة : على فك الإدغام والحسن وأبو السمال (٢) والأشهب العقيلي : بالإدغام.

وقد تقدم أن المجزوم ، والموقوف من هذا النوع يجوز فيهما الوجهان ، وتقدم تحقيقه في «المائدة» ، عند قوله تعالى (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) [المائدة : ٥٤].

والمشهور أنه من المنّ ، وهو الاعتداد على المعطى بما أعطاه ، وقيل : معناه «ولا تضعف» من قولهم : حبل متين ، أي : ضعيف.

قوله : (تَسْتَكْثِرُ) ، العامة على رفعه ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه في موضع الحال ، أي : لا تمنن مستكثرا ما أعطيت.

وقيل : معناه لا تأخذ أكثر مما أعطيت.

الثاني : على حذف «أن» يعني أن الأصل ولا تمنن أن تستكثر ، فلما حذفت «أن» ارتفع الفعل ، كقوله : [الطويل]

٤٩٥٢ ـ ألا أيّهذا الزّاجري أحضر الوغى

 ............(٣)

في إحدى الروايتين. قاله الزمخشريّ.

ولم يبين ما محل «أن» وما في خبرها. وفيه وجهان :

أظهرهما ـ وهو الذي يريده ـ هو أنها إما في محل نصب ، أو جر على الخلاف فيها ؛ حذف حرف الجر وهو هنا لام العلة ، تقديره : ولا تمنن لأن تستكثر.

والثاني : أنها في محل نصب فقط مفعولا بها ، أي : لا تضعف أن تستكثر من الخير ، قاله مكي.

وقد تقدم أن «تمنن» بمعنى تضعف ، وهو قول مجاهد.

إلا أنّ أبا حيان قال (٤) ـ بعد كلام الزمخشريّ ـ : «وهذا لا يجوز أن يحمل القرآن عليه لأنه لا يجوز ذلك إلا في الشعر ، ولنا مندوحة عنه مع صحته معنى».

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٤٤) عند قتادة.

(٢) ينظر : الكشاف (٤ / ٦٤٦) ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٩٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٦٤ ، والدر المصون ٦ / ٤١٢.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٧٢.

٤٩٩

والكوفيون يجيزون ذلك ، وأيضا : فقد قرأ الحسن والأعمش (١) : «تستكثر» أيضا على إضمار «أن» ، كقولهم : «مره يحفرها».

وأبلغ من ذلك التصريح بأن في قراء عبد الله (٢) : «ولا تمنن أن تستكثر».

وقرأ الحسن (٣) ـ أيضا ـ وابن أبي عبلة تستكثر جزما ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون بدلا من الفعل قبله. كقوله : (يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ) ف «يضاعف» بدلا من «يلق» ؛ وكقوله : [الطويل]

٤٩٥٣ ـ متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا

تجد حطبا جزلا ونارا تأجّجا (٤)

ويكون من المنّ الذي في قوله تعالى : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤].

الثاني : أن يشبه «ثرو» بعضد فيسكن تخفيفا. قاله الزمخشري.

يعني : أنه يأخذ من مجموع «تستكثر» [ومن الكلمة التي بعده وهو الواو ما يكون فيه شبها بعضد ، ألا ترى أنه قال : أن يشبه ثرو ، فأخذ بعض «تستكثر»] وهو الثاء ، والراء وحرف العطف من قوله : (وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ) ؛ وهذا كما قالوا في قول امرىء القيس : [السريع]

٤٩٥٤ ـ فاليوم أشرب غير مستحقب

إثما من الله ولا واغل (٥)

بتسكين «أشرب» ـ أنهم أخذوا من الكلمتين ربغ ك «عضد» ثم سكن.

وقد تقدم في سورة «يوسف» في قراءة قنبل : «من يتّقي» ، بثبوت الياء ، أن «من» موصولة ، فاعترض بجزم «يصبر»؟.

فأجيب بأنه شبه ب «رف» ، أخذوا الباء والراء من «يصبر» والفاء من «فإنّه» ، وهذه نظير تيك سواء.

الوجه الثالث : أن يعتبر حال الوقف ، ويجرى الوصل مجراه ، قاله الزمخشري أيضا.

يعني أنه مرفوع ، وإنما سكن تخفيفا ، أو أجري الوصل مجرى الوقف.

قال أبو حيان (٦) : «وهذان لا يجوز أن يحمل عليهما مع وجود أرجح منهما ، وهو البدل معنى وصناعة».

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٤٦ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٩٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٦٤ ، والدر المصون ٦ / ٤١٢.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) ينظر السابق.

(٤) تقدم.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٧٢.

٥٠٠