اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

حرف ابتداء ، فما بعدها ليس في موضع جر خلافا للزجاج ، وابن درستويه ، فإنهما زعما أنها إذا كانت حرف ابتداء فالجملة الابتدائية بعدها في موضع جر ، وإن عنى بالتعلق اتصال ما بعدها بما قبلها وكون ما بعدها غاية لما قبلها ، فهو صحيح ، وأما تقديره : أنها تتعلق بقوله : (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) فهو بعيد جدا لطول الفصل بينهما بالجمل الكثيرة وقدر بعضهم ذلك المحذوف ، فقال : تقديره : دعهم حتّى إذا رأوا.

وقال التبريزي : جاز أن يكون غاية لمحذوف ، ولم يبيّن ما هو.

قال أبو حيان (١) : «والذي يظهر لي أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم لكينونة النار لهم كأنه قيل : إن العاصي يحكم له بكينونة النار ، والحكم بذلك هو وعيد حتى إذا رأوا ما حكم بكينونته لهم فسيعلمون».

قوله : (مَنْ أَضْعَفُ). يجوز في «من» أن تكون استفهامية فترفع بالابتداء ، و «أضعف» خبره ، والجملة في موضع نصب سادّة مسدّ المفعولين لأنها معلقة للعلم (٢) قبلها.

وأن تكون موصولة ، و «أضعف» خبر مبتدأ مضمر ، أي : هو أضعف ، والجملة صلة وعائد وحسن الحذف طول الصلة بالتمييز ، والموصول مفعول للعلم بمعنى العرفان.

قال القرطبي (٣) : «حتى» هنا مبتدأ ، أي (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) من عذاب الآخرة أو ما يوعدون من عذاب الدنيا ، وهو القتل يوم بدر (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً). و «من» يظهر أنها غاية لما تضمنته الجملة التي قبلها من الحكم ، بكينونة النار لهم ، كأنه قيل : إن العاصي أهم أم المؤمنون؟ ، و «أقلّ عددا» معطوف.

قوله تعالى : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (٢٥) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (٢٦) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (٢٧) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً)(٢٨)

قوله : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) ، يعني : قيام الساعة لا يعلمه إلّا الله فهو غيب لا أعلم منه إلا ما يعلمنيه الله تعالى جلت قدرته.

قوله : (أَقَرِيبٌ) ، خبر مقدم ، و (ما تُوعَدُونَ) مبتدأ مؤخر ، ويجوز أن يكون «قريب» مبتدأ لاعتماده على الاستفهام و (ما تُوعَدُونَ) فاعل به ، أي : أقريب الذي توعدون ، نحو «أقائم أبواك» ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة فالعائد محذوف ، وأن تكون مصدرية فلا عائد ، و «أم» الظاهر أنها متصلة.

وقال الزمخشريّ : «فإن قلت : ما معنى قوله : (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) ، والأمد

__________________

(١) السابق ٨ / ٣٥٥.

(٢) في أ : للفعل.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٨.

٤٤١

يكون قريبا وبعيدا ، ألا ترى إلى قوله تعالى (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) [آل عمران: ٣٠] ، قلت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستقرب الموعد ، فكأنه قال : ما أدري أهو حالّ متوقع في كلّ ساعة ، أم مؤجل ضربت له غاية؟».

وقرأ العامة : بإسكان الياء من «ربّي».

وقرأ الحرميان (١) وأبو عمرو : بالفتح.

فصل في تعلق الآية بما قبلها

قال مقاتل : لما سمعوا قوله تعالى : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً). قال النضر بن الحارث : متى يكون هذا الذي توعدنا به؟.

فقال الله تعالى : (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) إلى آخره (٢) ، والمعنى أنّ وقوعه متيقن ، وأما وقت وقوعه فغير معلوم.

وقوله تعالى : (أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً) ، أي : غاية وبعدا ، وهذا كقوله تعالى : (إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ).

فإن قيل : أليس أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال : «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» (٣) ، فكان عالما بقرب وقوع القيامة ، فكيف قال ـ هاهنا ـ : لا أدري أقريب أم بعيد؟.

فالجواب (٤) : أن المراد بقرب وقوعه ، هو أن ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى فهذا القدر من القرب معلوم ، فأما معرفة القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم.

قوله : (عالِمُ الْغَيْبِ) ، العامة : على رفعه ، إما بدلا من «ربّي» وإما بيانا له وإما خبرا لمبتدأ مضمر ، أي هو عالم.

وقرىء : بالنصب (٥) على المدح.

وقرأ السديّ (٦) : علم الغيب ، فعلا ماضيا ناصبا للغيب.

قوله : (فَلا يُظْهِرُ). العامة : على كونه من «أظهر» ، و «أحدا» مفعول به.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٥٧ ، والحجة ٦ / ٣٣٤ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٠٣.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣٠ / ١٤٨).

(٣) أخرجه البخاري (٨ / ٥٦٠) كتاب التفسير ، باب : من سورة النازعات رقم (٤٩٣٦) ، (٥٣٠١ ، ٦٥٠٣) ومسلم (٤ / ٢٦٨) كتاب الفتن ، باب : قرب الساعة حديث (١٣٢ / ٢٩٥٠) من حديث جابر.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٤٨.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٤٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٩.

(٦) ينظر : السابق ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٨٥.

٤٤٢

وقرأ الحسن (١) : «يظهر» بفتح الياء والهاء من «ظهر» ثلاثيا ، و «أحد» فاعل به.

فصل في تفسير الغيب

الغيب ما غاب عن العباد (٢).

وقد تقدم الكلام عليه أول البقرة.

قوله : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ). يجوز أن يكون استثناء منقطعا ، أي لكن من ارتضاه فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه بالوحي ، و «من» في قوله : (مِنْ رَسُولٍ) لبيان المرتضين وقوله : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) بيان لذلك.

وقيل : هو متصل ، و «رصدا» تقدم الكلام عليه.

ويجوز أن تكون «من» ، شرطية ، أو موصولة مضمنة معنى الشرط ، وقوله «فإنّه» خبر المبتدأ على القولين ؛ وهو من الاستثناء المنقطع أيضا ، أي : لكن ، والمعنى : لكن من ارتضاه من الرسل ، فإنّه يجعل له ملائكة رصدا يحفظونه.

فصل في الكرامات

قال الزمخشريّ : «في إهذه الآية إبطال الكرامات ؛ لأن الذين تضاف إليهم الكرامات ، وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل ، وقد خصّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيها أيضا إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء ، وأدخل في السخط».

قال الواحديّ : وفيها دليل على أن من ادعى أنّ النجوم تدل على ما يكون من حياة ، أو موت ، أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن.

قال ابن الخطيب (٣) : واعلم أن الواحديّ يجوز الكرامات ، وأن يلهم الله أولياءه وقوع بعد الوقائع في المستقبل ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم ، فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله الزمخشريّ ، فإن جوّز الكرامات لزمه تجويز علم النجوم وتفريقه بينهما تحكم محض.

قال ابن الخطيب : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه ، إذ لا صيغة عموم في عينه لأنه لفظ مفرد مضاف فيحمل على غيب واحد ، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله (أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ) الآية.

فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذ؟.

__________________

(١) ينظر : السابق.

(٢) في أ : العيان.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٤٨.

٤٤٣

قلنا : لعله إذا قربت القيامة يظهر ، وكيف لا ، وقد قال : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان : ٢٥] فتعلم الملائكة حينئذ قيام القيامة ، أو هو استثناء منقطع ، أي : من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ، ومن خلفه حفظة يحفظونه بأمر الله من شر مردة الجنّ والإنس ، ويدل على أنه ليس المراد منه ألا يطلع أحد على شيء من المغيبات أنه ثبت بما يقارب التواتر أن «شقّا وسطيحا» كانا كاهنين وقد عرفا بحديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل ظهوره وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتّى يرجع إليهما كسرى ، وربيعة بن مضر ، فثبت أن الله تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات ، وأيضا أهل الملل على أن معبر الرؤيا ، يخبر عن أمور مستقبلة ، ويكون صادقا فيه ، وأيضا : قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها فوقعت على وفق كلامها.

قال ابن الخطيب (١) : وأخبرني أناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل فكانت على وفق خبرها.

وبالغ أبو البركات في كتاب «المعتبر» في شرح حالها وقال : تفحصت عن حالها ثلاثين سنة ، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخبارا مطابقا ، وأيضا فإنّا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة ، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضا ، وقد ترى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف ، فإن قلنا : إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرناه.

فصل في معنى الآية

قال القرطبيّ (٢) : المعنى «فلا يظهر على غيبه أحدا إلّا من ارتضى من رسول» فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه ، لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات كما ورد في التنزيل في قوله : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) [آل عمران : ٤٩].

وقال ابن جبير : «إلّا من ارتضى من رسول» هو جبريل ـ عليه‌السلام ـ وفيه بعد ، والأولى أن يكون المعنى لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى ، أي : اصطفاه للنبوة فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالا على نبوته.

فصل في استئثار الله بعلم الغيب

ذكر القرطبيّ (٣) أن العلماء قالوا : لما تمدح الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب واستأثره

__________________

(١) السابق ٣٠ / ١٤٩.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٩.

(٣) السابق.

٤٤٤

دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ، ودلالة صادقة على نبوتهم ، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصى وينظر في الكواكب ويزجر بالطير من ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وبتخمينه وكذبه.

قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفوا الأحوال والرتب فيهم الملك ، والسوقة ، والظالم ، والجاهل ، والعالم ، والغني ، والفقير ، والكبير مع اختلاف طوالعهم ، وتباين مواليدهم ، ودرجات نجومهم ، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة ، فإن قال : إنما أغرقهم الطالع الفلاني الذي ركبوا فيه ، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام هذه الطوالع كلّها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم ، وما يقتضيه طالعه المخصوص به ، فلا فائدة إذ ذاك في عمل المواليد ، ولا دلالة فيها على شقي ، ولا سعيد ، ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم ؛ ولقد أحسن القائل : [الكامل]

٤٩١٧ ـ حكم المنجّم أنّ طالع مولدي

يقضي عليّ بميتة الغرق

قل للمنجّم صبحة الطّوفان هل

ولد الجميع بكوكب الغرق؟ (١)

وقيل لعلي ـ رضي الله عنه ـ لما أراد لقاء الخوارج : أتلقاهم والقمر لفي العقرب؟ فقال : فأين قمرهم (٢)؟ وكان ذلك في آخر الشهر (٣). فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها ، وما فيها من البلاغة في الرد على من يقول بالتنجيم ، وقال له مسافر بن عوف : يا أمير المؤمنين ، لا تسر في هذه الساعة وسر بعد ثلاث ساعات يمضين من النهار ، فقال له علي ـ رضي الله عنه ـ : ولم؟.

قال : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك ، وأصاب أصحابك بلاء ، وضر شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت ، وظهرت وأصبت ما طلبت ، فقال علي ـ رضي الله عنه ـ : ما كان لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا لأصحابه منجم ، ولا لنا من بعده. ثم قال : فمن صدقك في هذا القول لن آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ندا ، وضدا ، اللهمّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ثم قال للمتكلم : نكذبك ، ونخالفك ، ونسير في الساعة التي تنهانا عنها ، ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس ، إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدوا به في ظلمات البر والبحر ، إنما المنجم كافر ، والكافر في النار ، والمنجم كالساحر ، والساحر في النار ، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم ، أو تعمل بها لأخلدنك في

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٩ / ١٩.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٩).

(٣) في أ : السنة.

٤٤٥

الحبس ما بقيت ، وبقيت ، ولأحرمنّك العطاء ، ما كان لي سلطان ، ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم ، وهي وقعة «النّهروان» الثابتة في «صحيح مسلم» ، ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها ، وظفرنا ، وظهرنا لقال : إنّما كان ذلك تنجيمي وما كان لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم منجم ، ولا لنا من بعده ، وقد فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان ، ثم قال: يا أيها الناس ، توكلوا على الله وثقوا به ، فإنه يكفي ممن سواه.

قوله : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) ، يعني : ملائكة يحفظونه من أنيقرب منه شيطان ، فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة.

قال الضحاك : ما بعث الله نبيا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين ، أن يتشبهوا له بصورة الملك فإذا جاءه شيطان في صورة الملك ، قالوا : هذا شيطان فاحذره ، وإن جاء الملك قالوا : هذا رسول ربّك (١).

وقال ابن عباس وابن زيد : «رصدا» ، أي : حفظة يحفظون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمامه ، وورائه من الجن ، والشياطين (٢).

وقال قتادة وسعيد بن المسيّب : هم أربعة من الملائكة حفظة يحفظون الوحي بما جاء من عند الله (٣).

وقال الفرّاء : فالمراد جبريل كان إذا نزل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يستمع الجن الوحي ، فيلقونه إلى كهنتهم ، فيسبقوا به الرسول.

وقال السديّ : «رصدا» أي : حفظة يحفظون الوحي ، مما جاء من عند الله ، وما ألقاه الشيطان قالوا : إنه من الشيطان ، و «رصدا» نصب على المفعول.

قال الجوهريّ (٤) : «والرّصد : القوم يرصدون كالحرس ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وربما قالوا : أرصاد ، والراصد للشيء : الراقب له ، يقال : رصده يرصده رصدا ورصدا ، والترّصّد : الترقب ، والمرصد : موضع الرصد».

قوله : (لِيَعْلَمَ). متعلق ب «يسلك».

والعامة : على بنائه للفاعل ، وفيه خلاف. أي : ليعلم محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الرسل قبله قد أبلغوا الرسالة ، قاله مقاتل وقتادة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٧٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٩) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٧٦).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٧٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٨) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في «العظمة».

(٤) ينظر : الصحاح ٢ / ٤٧٤.

٤٤٦

قال القرطبيّ (١) : «وفيه حذف تتعلق به اللام ، أي : أخبرناه بحفظنا الوحي ، ليعلم أن الرسل قبله كانوا على مثل حاله من التبليغ بالحق والصدق».

وقيل : ليعلم محمد أن قد أبلغ جبريل ومن معه إليه رسالة ربه.

قاله ابن جبير ، قال : ولم ينزل الوحي إلا ومعه أربعة حفظة من الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ.

وقيل : ليعلم الرسول أن الرسل سواه بلغوا.

وقيل : ليعلم الله ، [أي : ليظهر علمه للناس أنّ الملائكة بلغوا رسالات ربهم.

وقيل : ليعلم الرسول ، أي رسول كان أنّ الرسل سواه بلغوا](٢).

وقيل : ليعلم إبليس أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم سليمة من تخليطه واستراق أصحابه.

وقال ابن قتيبة : أي : ليعلم الجن أن الرسل قد بلغوا ما أنزل إليهم ، ولم يكونوا هم المبلغين باستراق السمع عليهم.

وقال مجاهد : ليعلم من كذب الرسل أن المرسلين ، قد بلغوا رسالات ربهم (٣).

وقيل : ليعلم الملائكة. وهذان ضعيفان ، لإفراد الضمير.

والضمير في «أبلغوا» عائد على «من» في قوله : (مَنِ ارْتَضى) راعى لفظها أولا ، فأفرد في قوله (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) ، ومعناها ثانيا ، فجمع في قوله «أبلغوا» إلى آخره.

وقرأ ابن عباس (٤) ومجاهد وزيد بن علي وحميد ويعقوب ليعلم مبنيا للمفعول أي ليعلم الناس أن الرسل قد بلغوا رسالاته.

وقرأ ابن أبي عبلة (٥) والزهري : «ليعلم» ـ بضم الياء وكسر اللام ـ أي : ليعلم الله رسوله بذلك.

وقرأ أبو حيوة (٦) : «رسالة» بالإفراد ، والمراد الجمع.

وقرأ ابن أبي عبلة (٧) : «وأحيط ، وأحصي» مبنيين للمفعول ، «كل» رفع ب «أحصي». قوله : «عددا» ، يجوز أن يكون تمييزا منقولا من المفعول به ، والأصل : أحصى عدد كل شيء ، كقوله تعالى : (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً) [القمر : ١٢] ، أي : عيون الأرض على خلاف سبق.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٢٠.

(٢) سقط من أ.

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٢٣).

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٨٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٠.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٤٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٠.

(٦) ينظر : السابق.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٨٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤٩ ، والدر المصون ٦ / ٤٠٠.

٤٤٧

ويجوز أن يكون منصوبا على المصدر من المعنى ، لأن «أحصى» بمعنى «عد» ، فكأنه قيل : وعد كل شيء عددا.

أو يكون التقدير : وأحصى كلّ شيء إحصاء ، فيرد المصدر إلى الفعل ، أو الفعل إلى المصدر.

ومنع مكي كونه مصدرا للإظهار ، فقال : «عددا» نصب على البيان ، ولو كان مصدرا لأدغم.

يعني : أن قياسه أن يكون على «فعل» بسكون العين ؛ لكنه غير لازم ، فجاء مصدره بفتح العين.

ولما كان «ليعلم» مضمنا معن ى «قد علم ذلك» جاز عطف «وأحاط» على ذلك المقدر.

قال القرطبي (١) : «عددا» ، نصب على الحال ، أي : أحصى كل شيء.

فصل في معنى الإحاطة في الآية

المعنى : أحاط علمه بما عند الرسل ، وما عند الملائكة.

وقال ابن جبير : المعنى ليعلم الرسل أن ربهم قد أحاط بما لديهم ، فيبلغوا رسالاته (وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) أي : علم كل شيء وعرفه فلم يخف عليه منه شيء ، وهذه الآية تدل على أنه تعالى عالم بالجزئيات ، وبجميع الموجودات.

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الجنّ أعطي بعدد كلّ جنّي وشيطان صدّق بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكذّب به عتق رقبة» (٢). والله تعالى أعلم بالصواب.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٢١.

(٢) تقدم تخريجه.

٤٤٨

سورة المزمل

مكية في قول الحسن رضي الله عنه وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة : إلا آيتين منها : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) ، والتي تليها (١) [الآية : ١٠ ، ١١] ، ذكره الماورديّ وغيره.

وقال الثعلبيّ : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ) [المزمل : ١٠ ، ١١] ، إلى آخر السورة ، فإنه نزل بالمدينة (٢). وهي سبع وعشرون آية ، ومائتان وخمس وثمانون كلمة ، وثماني مائة وثمانية وثلاثون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً)(٤)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ، أصله «المتزمّل» فأدغمت التاء في الزاي ، يقال : تزمّل يتزمل تزملا ، فإذا أريد الإدغام : اجتلبت همزة الوصل ، وبهذا الأصل قرأ أبي بن (٣) كعب.

وقرأ عكرمة (٤) : «المزمّل» ـ بتخفيف الزاي وتشديد الميم ـ اسم فاعل ، وعلى هذا فيكون فيه وجهان :

أحدهما : أن أصله «المزتمل» بوزن «مفتعل» فأبدلت التاء ميما وأدغمت ، قاله أبو البقاء ، وهو ضعيف.

والثاني : أنه اسم فاعل من «زمل» مشددا ، وعلى هذا ، فيكون المفعول محذوفا ، أي : المزمل جسمه. وقرىء (٥) كذلك إلا أنه بفتح الميم اسم مفعول منه أي : الملفّف ،

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٢٤).

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٢٢).

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٨٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٥٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٠١.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٣٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٥٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٠١.

٤٤٩

والتزمل : التلفف ، يقال : تزمل زيد بكساء ، أي : التف به ؛ وقال ذو الرّمّة : [الطويل]

٤٩١٨ ـ وكائن تخطّت ناقتي من مفازة

ومن نائم عن ليلها متزمّل (١)

وقال امرؤ القيس : [الطويل]

٤٩١٩ ـ كأنّ ثبيرا في أفانين ودقه

كبير أناس في بجاد مزمّل (٢)

وهو كقراءة بعضهم المتقدمة.

فصل في بيان لمن الخطاب في الآية

هذا خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفيه ثلاثة أقوال :

الأول : قال عكرمة : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) بالنبوة المتزمل بالرسالة (٣) ، وعنه : يا أيها الذي زمل هذا الأمر (٤) ، أي : حمله ثم فتر ، وكان يقرأ : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ـ بتخفيف الزاي وفتح الميم وتشديدها ، على حذف المفعول ، وكذلك : «المدثر» ، والمعنى : المزمل نفسه والمدثر نفسه ، والذي زمله غيره.

الثاني : قال ابن عباس : يا أيها المزمل بالقرآن (٥).

الثالث : قال قتادة : يا أيها المزمل بثيابه (٦).

قال النخعيّ : كان متزملا بقطيفة عائشة رضي الله عنها بمرط طوله أربعة عشر ذراعا نصفه عليّ ، وأنا نائمة ونصفه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يصلي ، والله ما كان خزا ولا قزا ولا مرعزاء ولا إبريسم ولا صوفا ، كان سداه شعرا ولحمته وبرا (٧) ، ذكره الثعلبي.

قال القرطبيّ (٨) : «وهذا القول من عائشة يدل على أنّ السورة مدنية ، فإنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يبن بها إلّا بالمدينة ، والقول بأنها مكية لا يصح».

__________________

(١) ينظر : ديوانه (١٦٠٠) والكشاف ٤ / ٦٣٤ ، والبحر ٨ / ٣٥٢ ، والدر المصون ٦ / ٤٠١.

(٢) ينظر : ديوانه ص ٢٥ ، وتذكرة النحاة ص ٣٠٨ ، ٣٤٦ ، وخزانة الأدب ٥ / ٩٨ ، ٩٩ ، ١٠٠ ، ١٠٢ ، ٩ / ٣٧ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٨٣٣ ، واللسان (زمل) ، (خزم) ، ومغني اللبيب ٢ / ٥١٥ ، والأشباه والنظائر ٢ / ١٠ ، والمحتسب ٢ / ١٣٥.

(٣) ينظر : القرطبي (١٩ / ٢٢).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٧٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤١) وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن نصر.

(٥) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٢٥) والقرطبي (١٩ / ٢٢).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٧٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤١) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن نصر.

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٢٢) عن النخعي.

(٨) ينظر : الجامع لأحكام القرآن (١٩ / ٢٣).

٤٥٠

وقال الضحاك : تزمل لمنامه.

وقيل : بلغه من المشركين سوء قول فيه ، فاشتد عليه فتزمل ، وتدثر ، فنزل : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ).

وقيل : كان هذا في ابتداء أمر ما أوحي إليه فإنه لما سمع صوت الملك ، ونظر إليه أخذته الرعدة ، فأتى أهله ، وقال : زمّلوني ، دثّروني.

روي معناه عن ابن عباس ، قال : أول ما جاءه جبريل خافه ، وظن أن به مسا من الجنّ ، فناداه ، فرجل من الجبل مرتعدا وقال : زمّلوني ، زمّلوني (١).

وقال الكلبيّ : إنما تزمل النبي بثيابه ليتهيأ للصلاة (٢) ، وهو اختيار الفراء.

وقيل : إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان نائما بالليل متزملا في قطيفة فنودي بما يهجر تلك الحالة ، فقيل له : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قم واشتغل بالعبودية.

وقيل : معناه يا من تحمل أمرا عظيما ، والزمل : الحمل.

قال البغويّ : قال الحكماء : كان هذا الخطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في أول الوحي قبل تبليغ الرسالة ، ثم خوطب بعد بالنبي ، والرسول.

فصل في نفي كون «المزمل» اسما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

قال السهيليّ : ليس المزمل باسم من أسماء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما ذهب إليه بعض الناس ، وعدوه في أسمائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما «المزمّل» اسم مشتق من حالته التي كان عليها حين الخطاب ، وكذلك كان المدثّر.

وفي خطابه بهذا الاسم فائدتان : إحداهما : الملاطفة ، فإن العرب إذا قصدت ملاطفة المخاطب وترك المعاتبة ، سموه باسم مشتق من حالته التي هو عليها لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلي ـ رضي الله عنه ـ حين غاضب فاطمة ـ رضي الله عنها ـ فأتاه وهو نائم وقد لصق جنبه بالتراب ، فقال له : «قم أبا تراب» ، إشعارا له بأنه غير عاتب عليه ، وملاطفة له وإشعارا بترك العتب ، [وملاطفا له وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة : قم يا نومان ملاطفة له ، وإشعارا بترك العتب والتأنيب] ـ وكان نائما ـ فقول الله تعالى لمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ) فيه تأنيس له ، وملاطفة ليستشعر أنه غير عاتب عليه.

والفائدة الثانية : التنبيه لكل متزمل راقد ليله ليتنبه إلى قيام الليل ، وذكر الله تعالى فيه لأن الاسم المشتق من الفعل يشترك فيه مع المخاطب كل من عمل ذلك العمل ، واتصف بتلك الصفة.

__________________

(١) ينظر : القرطبي (١٩ / ٢٢) عن النخعي.

(٢) ينظر المصدر السابق.

٤٥١

قوله : (قُمِ اللَّيْلَ). العامة : على كسر الميم لالتقاء الساكنين.

وأبو السمال (١) : بضمها ، إتباعا لحركة القاف.

وقرىء (٢) : بفتحها طلبا للخفة.

قال أبو الفتح : الغرض : الهرب من التقاء الساكنين ، فبأيّ حركة تحرك الأول حصل الغرض.

قال شهاب الدين (٣) : «إلا أن الأصل : الكسر ، لدليل ذكره النحويون ، و «الليل» ظرف للقيام وإن استغرقه الحدث الواقع فيه ، هذا قول البصريين ، وأما الكوفيون فيجعلون هذا النوع مفعولا به».

قال القرطبي (٤) : «وهو من الأفعال القاصرة الغير متعدية إلى مفعول ، فأما ظرف المكان والزمان فسائغ فيه ، إلا أن ظرف المكان لا يتعدى إليه إلا بواسطة ، لا تقول : «قمت الدار» حتى تقول : «قمت وسط الدّار ، وخارج الدار» ، وقد قيل هنا : إن «قم» معناه : صل ، عبر به هنا واستعير له حتى صار عرفا بكثرة الاستعمال».

فصل في حد الليل

الليل : حده من غروب الشمس إلى طلوع الفجر وقد تقدم بيانه في البقرة.

قال القرطبيّ (٥) : «واختلف هل كان قيامه فرضا أو نفلا؟ والدلائل تقوي أن قيامه كان فرضا لأن الندب لا يقع على بعض الليل دون بعض لأن قيامه ليس مخصوصا بوقت دون وقت».

واختلف هل كان فرضا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وحده ، أو عليه وعلى من كان قبله من الأنبياء ، أو عليه وعلى أمته ، ثلاثة أقوال :

الأول : قول سعيد بن جبير لتوجه الخطاب إليه.

الثاني : قول ابن عباس ، قال : كان قيام الليل فريضة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأنبياء قبله.

الثالث : قول عائشة وابن عباس أيضا وهو الصحيح أنه كان فرضا عليه وعلى أمته ، لما روى «مسلم» : «أن سعد بن هشام بن عامر قال لعائشة رضي الله عنها : أنبئيني عن قيام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقالت : ألست تقرأ : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قلت : بلى ، قالت : فإن الله ـ عز

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٨٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٥٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٠١.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٣٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٥٣ ، والدر المصون ٦ / ٤٠١.

(٣) الدر المصون ٦ / ٤٠١.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٢٣.

(٥) السابق ١٩ / ٢٤.

٤٥٢

وجل ـ افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه حولا ، وأمسك الله ـ عزوجل ـ خاتمتها اثني عشر شهرا في السماء ، حتى أنزل الله ـ عزوجل ـ في آخر السورة التخفيف ، فصار قيام الليل تطوعا بعد أن كان فريضة» (١).

وروى وكيع ، ويعلى عن ابن عباس قال : لما نزلت : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان حتى نزل آخرها ، وكان بين نزول أولها وآخرها نحو من سنة (٢).

وقال سعيد بن جبير : مكث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه عشر سنين يقومون الليل ، فنزلت بعد عشر سنين (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) [المزمل : ٢٠] فخفف الله عنهم (٣).

وقيل : كان قيام الليل واجبا ، ثم نسخ بالصلوات الخمس.

وقيل : عسر عليهم تمييز القدر الواجب فقاموا الليل كلّه فشق ذلك عليهم فنسخ بقوله في آخرها (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) وكان بين الوجوب ونسخه سنة.

وقيل : نسخ التقدير بمكة وبقي التهجد ، حتى نسخ بالمدينة.

وقيل : لم يجب التهجد قط لقوله (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ) [الإسراء : ٧٩] ، ولأنه لو وجب عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوجب على أمته لقوله تعالى فاتبعوه [الأعراف : ١٥٨] ، والنسخ على خلاف الأصل ، ولأنه فرض تعيين المقدار أي المكلف وذلك ينافي الوجوب.

قوله : (إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً). للناس في هذا كلام كثير ، واستدلال على جواز استثناء الأكثر ، والنصف ، واعتراضات وأجوبة.

قال شهاب الدين (٤) : وها أنا أكذر ذلك محررا له بعون الله تعالى : اعلم أن في هذه الآية ثمانية أوجه :

__________________

(١) أخرجه مسلم (١ / ٢٥٢ ـ ٥١٣) صلاة المسافرين : باب جامع صلاة الليل حديث رقم (١٣٩ / ٧٤٦).

(٢) أخرجه الحاكم (٢ / ٥٠٥) من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة عن ابن عباس.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤١) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن نصر والطبراني.

وقد أخرجه أبو داود (١ / ١٤٦) كتاب الصلاة : باب نسخ قيام الليل والتيسير فيه حديث (١٣٠٥) من طريق سماك الحنفي عن ابن عباس بنحوه.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٧٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٠١.

٤٥٣

أحدها : أن «نصفه» بدل من «اللّيل» بدل بعض من كل ، و (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء من النصف ، كأنه قيل : [قم أقل من نصف الليل ، والضمير في «منه» و «عليه» عائد على النصف ، والمعنى : التخيير بين أمرين : بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت](١) ، وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف ، والزيادة عليه ، قاله الزمخشريّ.

وناقشه أبو حيّان : «بأنه يلزم منه تكرار اللفظ ، ويصير التقدير : قم نصف الليل إلا قليلا من نصف الليل ، قال : وهذا تركيب ينزه القرآن عنه».

قال شهاب الدين (٢) : والوجه فيه إشكال ، لكن لا من هذه الحيثية ، فإن الأمر فيها سهل بل لمعنى آخر ـ سأذكره إن شاء الله تعالى قريبا ـ ، وجعل أبو البقاء هذا الوجه مرجوحا فإنه قال : والثاني : هو بدل من «قليلا» ـ يعني النصف ـ قال : وهو أشبه بظاهر الآية لأنه قال : (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ) ، (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) ، والهاء فيهما للنصف ، فلو كان الاستثناء من النصف لصار التقدير : قم نصف الليل إلا قليلا ، أو انقص منه قليلا ، والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل.

قال شهاب الدين : «والجواب عنه : أن بعضهم قد عين هذا القليل ، فعن الكلبي ، ومقاتل : هو الثلث فلم يكن القليل غير مقدر ، ثم إن في قوله تناقضا فإنه قال : «والقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يعقل» ، فأعاد الضمير على القليل ، وفي الأول أعاده على النصف ، ولقائل أن يقول : قد ينقدح هذا الوجه بإشكال قوي ، وهو أنه يلزم منه تكرار المعنى الواحد ، وذلك أن قوله : قم نصف الليل إلا قليلا ، بمعنى انقص من نصف الليل ، لأن ذلك القليل ، هو بمعنى النقصان وأنت إذا قلت : «قم نصف الليل إلا القليل من النصف ، وقم نصف الليل ، أو انقص من النصف» وجدتهما بمعنى واحد ، وفيه دقة فتأمله ، ولم يذكر الحوفيّ غير هذا الوجه المتقدم ، وقد عرف ما فيه ، وممن ذهب إليه أيضا الزجاج فإنه قال : «نصفه» بدل من «الليل» و (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء من النصف ، والضمير في «منه» و «عليه» عائد للنصف ، والمعنى : قم نصف الليل ، أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث ، أو زد عليه إلى الثلثين ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل ، أو نصفه ، أو ثلثه».

قال شهاب الدين : «والتقديرات التي يبرزونها ظاهرة حسنة إلا أن التركيب لا يساعد عليها لما عرفت من الإشكال المذكور آنفا».

الثاني : أن يكون «نصفه» بدلا من «قليلا» وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء ، وابن عطية.

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) الدر المصون ٦ / ٤٠٢.

٤٥٤

قال الزمخشريّ : «وإن شئت جعلت «نصفه» بدلا من «قليلا» وكان تخييرا بين ثلاث: بين قيام النصف بتمامه ، وبين قيام الناقص منه ، وبين قيام الزائد عليه ، وإنّما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل».

وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أشبه من جعله بدلا من «اللّيل» كما تقدم.

إلا أن أبا حيان اعترض هذا ، فقال (١) : «وإذا كان «نصفه» بدلا من (إِلَّا قَلِيلاً) ، فالضمير في «نصفه» إما أن يعود على المبدل منه ، أو على المستثنى منه ، وهو «الليل» لا جائز أن يعود على المبدل منه ؛ لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول ، إذ التقدير : إلا قليلا نصف القليل ، وهذا لا يصح له معنى ألبتّة ، وإن عاد الضمير إلى «اللّيل» فلا فائدة في الاستثناء من «الليل» ، إذ كان يكون أخصر ، وأفصح ، وأبعد عن الإلباس : قم الليل نصفه ، وقد أبطلنا قول من قال : (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء من البدل ، وهو «نصفه» وأنّ التقدير : قم الليل نصفه إلا قليلا منه ، أي من النصف ، وأيضا ففي دعوى أن «نصفه» بدل من (إِلَّا قَلِيلاً) ، والضمير في «نصفه» عائد على «الليل» ، إطلاق القليل على النصف ، ويلزم أيضا أن يصير التقدير : إلا نصفه فلا تقمه ، أو انقص من النصف الذي لا تقومه ، وهذا معنى لا يصلح ، وليس المراد من الآية قطعا».

قال شهاب الدين (٢) : يقول بجواز عوده على كل منهما ، ولا يلزم محذور ، أما ما ذكره من أنه يكون استثناء مجهول من مجهول فممنوع ، بل هو استثناء معلوم من معلوم ؛ لأنا بينا أن القليل قدر معين وهو الثلث ، والليل ليس بمجهول ، وأيضا فاستثناء المبهم قد ورد ، قال الله تعالى: (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) [النساء : ٦٦] ، وقال تعالى : (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) [البقرة : ٢٤٩] ، وكان حقه أن يقول : لأنه بدل مجهول من مجهول ، وأما ما ذكره من أنه «أخصر منه ، وأوضح» كيت وكيت ، أما الأخصر ، فمسلم وأما أنه يلبس ، فممنوع ، وإنما عدل عن اللفظ الذي ذكره لأنه أبلغ ، وبهذا الوجه استدل من قال : يجوز استثناء النصف ، والأكثر ، [ووجه الدلالة على الأول أنه جعل قليلا مستثنى من الليل ثم فسّر ذلك القليل بالنصف ، فكأنه قيل قم الليل إلا نصفه](٣) ووجه الدلالة على الثاني ، أنه عطف (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) على (انْقُصْ مِنْهُ) ، فيكون قد استثنى الزائد على النصف ، لأن الضمير في «منه» وفي «عليه» عائد على النصف وهو استدلال ضعيف لأن الكثرة إنّما جاءت بالعطف ، وهو نظير أن يقول : له عندي عشرة إلا خمسة درهما درهما ، فالزيادة على النصف بطريق العطف ، لا بطريق أن الاستثناء أخرج الأكبر بنفسه.

الثالث : إن «نصفه» بدل من «الليل» [أيضا كما تقدّم في الوجه الأول ، إلا أن

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٣١٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٠٢.

(٣) سقط من ب.

٤٥٥

الضمير في «منه» و «عليه» عائد على الأقل من النصف ،](١) وإليه ذهب الزمخشريّ ، فإنه قال : «وإن شئت قلت : لما كان معنى (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ) إذا أبدلت النصف من الليل يكون المعنى : قم أقل من نصف الليل ، فيرجع الضمير في «منه» و «عليه» ، إلى الأقل من النصف ، فكأنه قيل : قم أقل من نصف الليل ، أو قم أنقص من ذلك الأقل ، أو أزيد منه قليلا ، فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث».

الرابع : أن يكون «نصفه» بدلا من «قليلا» كما تقدم ؛ إلا أنك تجعل القليل الثاني ربع الليل ، وقد أوضح الزمخشري هذا أيضا ، فقال : «ويجوز إذا أبدلت «نصفه» من «قليلا» وفسرته به أن تجعل «قليلا» الثاني بمعنى نصف النصف بمعنى الربع ، كأنه قيل : أو انقص منه قليلا نصفه ، وتجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع ، كأنه قيل : أو زد عليه قليلا نصفه ، ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث ، فيكون تخييرا بين النصف ، والثلث ، والربع» انتهى.

واختار ابن الخطيب هذا الوجه مع الوجه الثاني ، فقال (٢) : وقد أكثر الناس في هذه الآية ، وفيها وجهان ملخصان :

أحدهما : أن القليل في قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) ، هو الثلث ، لأن قوله تعالى في آخر السورة: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) ، يقتضي أن أكثر المقادير الواجبة هو الثلثان ، فيكون قيام الثلث جائزا ، وهو قوله : (إِلَّا قَلِيلاً) فكأنه قيل : قم ثلثي الليل ، ثم قال : «نصفه» فمعناه : أو قم نصفه ، من باب قولهم : «جالس الحسن ، أو ابن سيرين» على الإباحة ، فحذف العاطف ، فالتقدير : قم الثلثين ، أو قم النصف ، أو انقص من النصف ، أو زد عليه ، فعلى هذا يكون الثلثان أقصى الزيادة ، والثلث أقصى النقصان ، فيكون الواجب هو الثلث ، والزائد عليه مندوبا ، فإن قيل : فيلزم على قراءة الخفض في «نصفه» و «ثلثه» أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ترك من الواجب الأدنى ، لأنه تعالى قال : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) فيكون المعنى أنك تقوم أقل من الثلثين ، وأقل من النصف وأقل من الثلث ، فإذا كان الثلث واجبا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تاركا للواجب؟.

قلنا : المقدر للشيء قد ينقص منه لعدم انضباطه لأنه باجتهاد فربما أخطأ ، فهو كقوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) [المزمل : ٢٠].

الثاني : أن «نصفه» تفسير ل «قليلا» لأن النصف قليل بالنسبة إلى الكل لأن المكلف بالنصف لا يخرج عن العهدة بيقين ، إلا بزيادة شيء قليل عليه فيصير في الحقيقة نصفا وشيئا ، فيكون الباقي بعد ذلك أقل من النصف ، فالمعنى : قم نصف الليل ، أو انقص منه

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) الفخر الرازي ٣٠ / ١٥٢.

٤٥٦

نصفه ، وهو الربع ، أو زد عليه نصفه ، وهو الربع ، فيصير المجموع ثلاثة أرباع ، فيكون مخيرا بين أن يقوم تمام النصف ، أو ربع الليل ، أو ثلاثة أرباعه ، وحينئذ يزول الإشكال بالكلية ، لأن الربع أقل من الثلث ، وذلك أن قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ) يدل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يقم ثلثي الليل ، ولا نصفه ولا ثلثه ، لأن الواجب لما كان هو الربع فقط ، لم يلزم ترك قيام الثلث.

الوجه الخامس : أن يكون (إِلَّا قَلِيلاً) استثناء من القيام ، فيجعل «الليل» اسم جنس ، ثم قال : (إِلَّا قَلِيلاً) ، أي : إلا الليالي التي تخلّ فيها ، أي تترك في قيامها القدر البين ونحوه ، وهذا النظر يحسن مع القول بالندب ، قاله ابن عطية ، احتمالا من عنده وهذا خلاف الظاهر ، وهو تأويل بعيد.

السادس : قال الأخفش : الأصل قم الليل إلا قليلا أو نصفه ، قال : كقولك : «أعطه درهما درهمين ثلاثة».

وهذا ضعيف جدا ، لأن فيه حذف حرف العطف ، وهو ممنوع ، لم يرد منه إلا شيء شاذ ممكن تأويله ، كقولهم : «أكلت لحما سمكا تمرا».

وقول الآخر : [الخفيف]

٤٩٢٠ ـ كيف أصبحت كيف أمسيت ممّا

ينزع الودّ في فؤاد الكريم (١)

أي : «لحما وسمكا وتمرا» ، وكذا : كيف أصبحت ، وكيف أمسيت ، وقد خرج الناس هذا على بدل النداء.

السابع : قال التبريزي : الأمر بالقيام ، والتخيير في الزيادة ، والنقصان وقع على الثلثين في آخر الليل ، لأن الثلث الأول وقت العتمة ، والاستثناء وارد على المأمورية ، فكأنه قال : قم ثلثي الليل إلا قليلا أي ما دون نصفه (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ) ، أي على الثلثين ، فكان التخيير في الزيادة ، والنقصان واقعا على الثلثين ، وهذا كلام غريب لا يظهر من هذا التركيب.

الثامن : أن «نصفه» منصوب على إضمار فعل ، أي : قم نصفه ، حكاه مكي عن غيره ، فإنه قال : «نصفه» بدل من «الليل».

وقيل : «انتصب على إضمار : قم نصفه».

قال شهاب الدين (٢) : «وهذا في التحقيق ، هو وجه البدل الذي ذكره أولا ، لأن البدل على نية تكرار العامل».

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٤٠٤.

٤٥٧

فصل في نسخ الأمر بقيام الليل

اختلفوا في الناسخ للأمر بقيام الليل ، فعن ابن عباس وعائشة : أن الناسخ قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) إلى آخرها ، وقيل : قوله تعالى : (عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) وعن ابن عباس أيضا : أنه منسوخ بقوله «علم أن سيكون منكم مرضى» (١) ، وعن عائشة أيضا ، والشافعي وابن كيسان : هو منسوخ بالصلوات الخمس (٢) ، وقيل : الناسخ قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ).

قال أبو عبد الرحمن السلمي : لما نزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) قاموا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم ثم نزل قوله تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ)(٣).

قال بعض العلماء : وهو فرض نسخ به فرض كان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة لفضله كما قال تعالى : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ).

قال القرطبيّ (٤) : «والقول الأول يعم جميع هذه الأقوال ، وقد قال تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) [البقرة : ٤٣]. فدخل فيها قول من قال : إن الناسخ الصلوات الخمس ، وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل كانت فريضة على كلّ مسلم ، ولو على قدر حلب شاة ، وعن الحسن أيضا أنه قال في هذه الآية : الحمد لله تطوع بعد الفريضة ، وهو الصحيح ـ إن شاء الله تعالى ـ لما جاء في قيامه من الترغيب ، والفضل في القرآن ، والسنة».

قالت عائشة رضي الله عنها : كنت أجعل للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به فلما رأى جماعتهم كره ذلك ، وخشي أن يكتب عليهم قيام الليل ، فدخل البيت كالمغضب ، فجعلوا يتنحنحون ، ويتفلون ، فخرج إليهم فقال : «أيّها النّاس تكلّفوا من العمل ما تطيقون ، فإنّ الله لا يملّ من الثواب حتّى تملّوا من العمل ، وإنّ خير العمل أدومه ، وإن قلّ» ، فنزلت (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)(٥) ، فكتب عليهم ، وأنزل بمنزلة الفريضة حتى إن كان أحدهم ليربط الحبل ، فيتعلق به ، فمكثوا ثمانية أشهر ، فنزل قوله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ) ، فردهم الله إلى الفريضة ، ووضع عنهم قيام الليل ، إلا ما تطوعوا به.

قال القرطبيّ (٦) : ومعنى حديث عائشة رضي الله عنها ثابت في الصحيح ، إلى

__________________

(١) سيأتي تخريجه.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٢٥).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٨٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر ومحمد بن نصر.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٢٥.

(٥) أخرجه البخاري (١ / ١٠٩ ـ ١١٠) ومسلم (٨٧٢) ومالك في «الموطأ» (١ / ١١٨ وأبو داود (١ / ٢١٨) من حديث عائشة.

(٦) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٢٥.

٤٥٨

قوله : «وإن قلّ» وباقيه يدل على أن قوله تعالى (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) نزل بالمدينة ، وأنهم مكثوا ثمانية أشهر يقومون ، وقد تقدم عنها في «صحيح مسلم» حولا.

وحكى الماورديّ عنها قولا ثالثا : وهو ستة عشر شهرا لم يذكر غيره عنها ، وذكر عن ابن عباس رضي الله عنه : أنه كان بين أول «المزمّل» وآخرها سنة ، قال : فأما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد كان فرضا عليه ، وقيل في نسخه عنه قولان :

أحدهما : أنه كان فرضا عليه إلى أن مات.

والثاني : أنه نسخ عنه كما نسخ عن أمته ، وفي مدة فرضه إلى أن نسخ قولان :

أحدهما : المدة المفروضة على أمته في القولين الماضيين ، يريد قول ابن عباس حولا (١) ، وقول عائشة ستة عشر شهرا (٢).

الثاني : «أنها عشر سنين إلى أن خفف عنه بالنسخ».

قوله : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) ، أي : لا تعجل في قراءة القرآن بل اقرأة على مهل وهينة ، وبينه تبيينا مع تدبر المعاني.

قال المبرد : أصله من قولهم : «ثغر رتل ورتل» بفتح العين وكسرها إذا كان حسن التنضيد ، ورتلت الكلام ترتيلا : إذا جملت (٣) فيه ، ويقال : ثغر رتل إذا كان بين الثنايا افتراق قليل.

فقوله تعالى : (تَرْتِيلاً) تأكيد في إيجاب الأمر به ، وأنه مما لا بد منه للقارىء.

روى الحسن : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر برجل يقرأ آية ويبكي ، فقال : «ألم تسمعوا إلى قول الله تعالى : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) ، هذا الترتيل» (٤).

وروى «أبو داود» عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يؤتى بقارىء القرآن يوم القيامة ، فيوقف في أول درج الجنّة ، ويقال له : اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتّل في الدّنيا فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها» (٥).

قوله تعالى : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً)(٩)

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

(٣) في أ : تمهلت.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٢) وعزاه إلى ابن أبي شيبة.

(٥) أخرجه أحمد (٢ / ٤٧١) والترمذي (٢٩١٥) وأبو داود (١٤٦٤) والحاكم (١ / ٥٥٢ ـ ٥٥٣) والبيهقي (٢ / ٥٣) وابن حبان (١٧٩٠ ـ موارد) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح وسكت عنه الحاكم وقال الذهبي صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة (١٠ / ٤٩٨) رقم (١٠١٠٥) عن ابن عمرو موقوفا.

٤٥٩

قوله : (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً) ، الجملة من قوله : (إِنَّا سَنُلْقِي) مستأنفة.

وقال الزمخشريّ : «وهذه الآية (١) اعتراض» ثم قال : «وأراد بهذا الاعتراض أن ما كلفه من قيام الليل من جملة التكاليف الثقيلة الصعبة التي ورد بها القرآن ، لأن الليل وقت السبات ، والراحة ، والهدوء فلا بد لمن أحياه من مضادة لطيفة ، ومجاهدة لنفسه» انتهى.

يعني بالاعتراض من حيث المعنى ، لا من حيث الصناعة ، وذلك أن قوله : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً) مطابق لقوله : (قُمِ اللَّيْلَ) ، فكأنه شابه الاعتراض من حيث دخوله بين هذين المناسبتين.

فصل في معنى الآية

المعنى : سنلقي عليك بافتراض صلاة الليل (قَوْلاً ثَقِيلاً) يثقل حمله ، لأن الليل للمنام فمن أجر بقيام أكثره ، لم يتهيأ له ذلك إلا بحمل مشقة شديدة على النفس ، ومجاهدة الشيطان فهو أمر يثقل على العبد.

وقيل : المعنى سنوحي إليك القرآن وهو ثقيل العمل بشرائعه قال قتادة : ثقيل ـ والله ـ فرائضه وحدوده (٢).

وقال مجاهد : حلاله وحرامه (٣).

وقال الحسن : العمل به (٤).

وقال أبو العالية : ثقيل بالوعد ، والوعيد ، والحلال والحرام (٥).

وقال محمد بن كعب : «ثقيل على المنافقين لأنه يهتك أسرارهم ، ويبطل أديانهم» (٦).

وقيل : على الكفار لما فيه من الاحتجاج عليهم والبيان لضلالتهم وسب آلهتهم.

وقال السديّ : ثقيل بمعنى كريم ، مأخوذ من قولهم : فلان ثقيل عليّ ، أي يكرم عليّ (٧).

وقال الفراء : «ثقيلا» أي : رزينا.

__________________

(١) في أ : الجهلة.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٨١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٣) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن نصر.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٢٦) عن مجاهد.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٤٣) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن نصر.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٢٦).

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

٤٦٠