اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قال الجاحظ : «هذا البيت مصنوع ، لأنّ الرمي لم يكن قبل البعث».

والقول بالرمي أصح لهذه الآية ، لأنها تخبر عن الجن ، أنّها أخبرت بالزيادة في الحرس وأنها امتلأت من الحرس ، والشهب.

وقال بشر بن أبي خازم : [الكامل]

٤٩٠٢ ـ والعير يرهقها الغبار وجحشها

ينقضّ خلفهما انقضاض الكوكب (١)

وروى الزهريّ عن علي بن الحسين عن ابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ قال : بينما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالس في نفر من الأنصار إذ رمي بنجم فاستنار فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما كنتم تقولون في مثل هذا في الجاهلية»؟.

قالوا : كنّا نقول : يموت عظيم ابن عظيم ، أو يولد عظيم [فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنها لا ترمى لموت أحد ولا لحياته ، ولكنّ ربّنا ـ تبارك وتعالى ـ إذا قضى أمرا في السّماء ، سبّح حملة العرش ، ثمّ سبّح أهل كلّ سماء ، حتّى ينتهي التّسبيح إلى هذه السّماء ، ويستخبر أهل السّماء : ماذا قال ربّكم ، فيخبرون ، ويخبر أهل كلّ سماء ، حتّى ينتهي الخبر إلى هذه السّماء فتخطفه الجنّ ، فيروونه كما جاءوا به فهو حقّ ولكنّهم يزيدون فيه» (٢)](٣).

وهذا يدلّ على أن هذه الشهب كانت موجودة قبل البعث ، وهو قول الأكثرين.

قال الجاحظ : فلو قال قائل : كيف تتعرض الجنّ لإحراق نفسها بسماع خبر بعد أن صار ذلك معلوما عندهم؟.

فالجواب : أنّ الله تعالى ينسيهم ذلك ، حتى تعظم المحنة كما ينسى إبليس في كل وقت أنه لا يسلم ، وأن الله ـ تعالى ـ قال له : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ) [الحجر : ٣٥] ، ولو لا هذا لما تحقق التكليف.

قال القرطبيّ (٤) : «والرّصد» ، قيل : من الملائكة ، أي : ورصدا من الملائكة ، وقيل : الرّصد هو الشهب ، والرصد : الحافظ للشيء ، والجمع أرصاد ، وفي غير هذا الموضع يجوز أن يكون جمعا كالحرس ، والواحد : راصد.

وقيل : الرّصد هو الشهاب ، أي : شهاب قد أرصد له ليرجم به فهو «فعل» بمعنى «مفعول» ك «الخبط والنفض».

قوله : (وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ) ، في (أَشَرٌّ أُرِيدَ) وجهان :

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٦ / ٦٢٥ ، والبحر ٨ / ٣٤٣.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) سقط من أ.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٠.

٤٢١

أحسنهما : الرفع بفعل مضمر على الاشتغال ، وإنما كان أحسن لتقدم طالب الفعل وهو أداة الاستفهام.

والثاني : أن الرفع على الابتداء.

ولقائل أن يقول : يتعين هذا الرفع بإضمار فعل لمدرك آخر ، وهو أنه قد عطف ب «أم» فعل ، فإذا أضمرنا فعلا رافعا ، كنا قد عطفنا جملة فعلية على مثلها ، بخلاف رفعه بالابتداء فإنه ـ حينئذ ـ يخرج «أم» عن كونها عاطفة إلى كونها منقطعة إلا بتأويل بعيد ، وهو أن الأصل : أشرّ أريد بهم ، أم خير ، فوضع لقوله : (أَمْ أَرادَ بِهِمْ) موضع خير.

وقوله : «أشرّ» ساد مسدّ مفعول «ندري» ، بمعنى أنه معلق به ، وراعى معنى «من» في قوله : (بِهِمْ رَبُّهُمْ) فجمع.

فصل في معنى الآية

قال ابن زيد : معنى الآية : أنّ إبليس قال : لا ندري هل أراد بهذا المنع أن ينزل على أهل الأرض عذابا ، أو يرسل إليهم رسولا (١).

وقيل : هو من قول الجنّ فيما بينهم من قبل أن يسمعوا قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : لا ندري أشرّ أريد بمن في الأرض بإرسال محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم يكذبونه ويهلكون بتكذيبه كما هلك من كذب من الأمم ، أم أراد أن يؤمنوا فيهتدوا ، فالشر والرشد على هذا الكفر والإيمان ، وعلى هذا كان عندهم علم بمبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولما سمعوا قراءته علموا أنهم منعوا من السماء حراسة للوحي.

وقيل : لا ، بل هذا قول قالوه لقومهم بعد أن انصرفوا إليهم منذرين ، أي : لما آمنوا أشفقوا أن لا يؤمن كثير من أهل الأرض فقالوا : إنّا لا ندري ، أيكفر أهل الأرض بما آمنا به أم يؤمنون؟.

قوله : (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ).

هذا من قول الجنّ ، أي : قال بعضهم لبعض لما دعوا أصحابهم إلى الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وإنا كنا قبل استماع القرآن منا الصالحون.

قوله : (وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ) ، يحتمل وجهين :

أحدهما : يحتمل أن «دون» بمعنى «غير» ، أي : ومنا غير الصالحين ، أي : كافرون ، وهو مبتدأ ، وإنما فتح لإضافته إلى غير متمكن كقوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [الأنعام : ٩٤] فيمن نصب على أحد الأقوال ، وإلى هذا نحا الأخفش.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٦٦).

٤٢٢

والثاني : أن «دون» على بابها من الظرف ، وأنها صفة لمحذوف ، تقديره : ومنا فريق أو فوج دون ذلك ، وحذف الموصوف مع «من» التبعيضية يكثر ، كقولهم : منّا ظعن ومنّا أقام ، أي : منا فريق ظعن ، ومنا فريق أقام.

ومعنى الآية : ومنا صالحون دون أولئك في الصلاح.

قوله : (كُنَّا طَرائِقَ) ، فيه أوجه :

أحدها : أن التقدير : كنا ذوي طرائق ، أي : ذوي مذاهب مختلفة.

الثاني : أن التقدير : كنا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة.

الثالث : أن التقدير : كنا ذوي طرائق مختلفة ؛ كقوله : [الكامل]

٤٩٠٣ ـ ............

كما عسل الطّريق الثّعلب (١)

الرابع : أن التقدير : كانت طريقتنا طرائق قددا ، على حذف المضاف الذي هو الطرائق ، وإقامة الضمير المضاف إليه مقامه ، قاله الزمخشريّ.

فقد جعل في ثلاثة أوجه مضافا محذوفا.

وقال : إنّه قدر في الأول : «ذوي».

وفي الثاني : مثل.

وفي الثالث : طرائق.

ورد عليه أبو حيّان (٢) قوله : (كُنَّا طَرائِقَ) ؛ كقوله : [الكامل]

٤٩٠٤ ـ ............

كما عسل الطّريق الثّعلب (٣)

بأن هذا لا يجوز إلا في ضرورة أو ندور ، فلا يخرج القرآن عليه ، يعني تعدى الفعل بنفسه إلى ظرف المكان المختص.

والقدد : جمع قددة ، والمراد بها الطريقة ، وأصلها السيرة ، يقال : قدّة فلان حسنة ، أي : سيرته ، وهو من قدّ السير ، أي : قطعه على استواء ، فاستعير للسيرة المعتدلة.

قال الشاعر : [البسيط]

٤٩٠٥ ـ ألقابض الباسط الهادي بطاعته

في فتنة النّاس إذ أهواؤهم قدد (٤)

وقال آخر : [البسيط]

٤٩٠٦ ـ جمعت بالرّأي منهم كلّ رافضة

إذ هم طرائق في أهوائهم قدد (٥)

__________________

(١) ينظر الكشاف ٦ / ٦٢٧ ، والبحر ٨ / ٣٤٣ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٥٠.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : القرطبي ١٩ / ١١ ، والبحر ٨ / ٣٣٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٤ وروح المعاني ٢٩ / ١١٠.

(٥) ينظر البحر ٨ / ٣٣٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٤.

٤٢٣

وقال لبيد في أخيه : [المنسرح]

٤٩٠٧ ـ لم تبلغ العين كلّ نهمتها

ليلة تمسي الجياد كالقدد (١)

والقدّ ـ بالكسر ـ سير يقدّ من جلد غير مدبوغ ، ويقال : ما له قد ولا قحف ، فالقد : إناء من جلد ، والقحف : إناء من خشب.

فصل في معنى الآية

قال سعيد بن المسيّب : معنى الآية «كنا مسلمين ، ويهود ونصارى ومجوسا» (٢).

وقال السدي : في الجن مثلكم قدرية ، ومرجئة وخوارج ، ورافضة ، وشيعة ، وسنية (٣).

وقال قوم : إنا بعد استماع القرآن مختلفون منا المؤمنون ، ومنا الكافرون.

وقيل : أي : ومنا الصالحون ومنا المؤمنون لم يتناهوا في الصلاح.

قال القرطبيّ (٤) رحمه‌الله : «والأول أحسن ، لأنه كان في الجن من آمن بموسى ، وعيسى ، وقد أخبر الله عنهم أنهم قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) [الأحقاف : ٣٠] ، وهذا يدل على إيمان قوم منهم بالتوراة ، وكان هذا مبالغة منهم في دعاء من دعاهم إلى الإيمان ، وأيضا لا فائدة في قولهم : نحن الآن منقسمون إلى مؤمن وإلى كافر ، والطرائق : جمع طريقة ، وهي مذهب الرجل ، أي : كنا فرقا ، ويقال : القوم طرائق أي : على مذاهب شتّى ، والقدد : نحو من الطرائق وهو توكيد لها واحده : قدّة ، يقال : لكل طريقة قدّة».

قوله : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً).

والظنّ هنا بمعنى العلم ، واليقين ، وهو خلاف الظن في قوله تعالى : (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً) ، (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا) ، أي : علما بالاستدلال والتفكر في آيات الله تعالى ، أنا في قبضته ، وسلطانه لن نفوته بهرب ، ولا غيره.

وقوله : (فِي الْأَرْضِ) ، حال ، وكذلك «هربا» مصدر في موضع الحال ، تقديره : لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها ، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء.

قوله : (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى) ، يعني القرآن (آمَنَّا بِهِ) ، وبالله ، وصدقنا محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم على رسالته ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم مبعوثا إلى الإنس والجنّ.

__________________

(١) ينظر : ديوانه (١٥٩) ، والقرطبي ٩ / ١١.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١١).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٥) وعزاه إلى أبي الشيخ. وذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١١).

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٥) وعزاه إلى أبي الشيخ. وذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١١).

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١١.

٤٢٤

قال الحسن ـ رضي الله عنه ـ بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإنس والجن ولم يبعث الله قط رسولا من الجنّ ولا من أهل البادية ولا من النّساء ، وذلك قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى)(١) [يوسف : ١٠٩].

وفي الحديث : «بعثت إلى الأحمر والأسود» ، أي : الإنس والجن (٢). وقد تقدم هذا الكلام في سورة الأنعام في قوله تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الآية : ١٣٠].

قوله : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً).

قال ابن عباس : لا يخاف أن ينقص من حسناته ، ولا أن يزاد في سيئاته (٣) ؛ لأن البخس : النقصان ، والرهق : العدوان ، وغشيان المحارم ، وقد تقدم في بيت الأعشى.

قوله : (فَلا يَخافُ) ، أي : فهو لا يخاف ، أي فهو غير خائف ؛ ولأن الكلام في تقدير مبتدأ وخبر فلذلك دخلت الفاء ، ولو لا ذلك لقيل : لا يخف ، قاله الزمخشريّ.

ثم قال : «فإن قلت : أي فائدة في رفع الفعل ، وتقدير مبتدأ قبله حتى يقع خبرا له ووجوب إدخال الفاء ، وكان كل ذلك مستغنى عنه بأن يقال : لا يخف؟.

قلت : الفائدة أنّه إذا فعل ذلك فكأنه قيل : «فهو لا يخاف» ، فكان دالا على تحقيق أن المؤمن ناج لا محالة وأنّه هو المختص بذلك دون غيره».

قال شهاب الدين (٤) : «وسبب ذلك أن الجملة تكون اسمية حينئذ ، والاسمية أدل على التحقيق والثبوت من الفعلية».

وقرأ ابن وثاب (٥) والأعمش : بالجزم ، وفيها وجهان :

أحدهما : ولم يذكر الزمخشريّ غيره : أن «لا» نافية ، والفاء حينئذ واجبة (٦).

والثاني : أنها نافية ، والفاء حينئذ زائدة ، وهذا ضعيف.

وقوله «بخسا» ، فيه حذف مضاف ، أي : جزاء بخس ، كذا قرره الزمخشريّ.

وهو مستغنى عنه.

وقرأ ابن (٧) وثاب : «بخسا» بفتح الخاء.

قال القرطبيّ (٨) : وقرأ الأعمش ويحيى وإبراهيم : «فلا يخف» جزما على جواب الشرط ، وإلغاء الفاء أيضا.

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١١٣) والقرطبي (١٩ / ١٢).

(٢) تقدم.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٢).

(٤) الدر المصون ٦ / ٣٩٤.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٢٨ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٨٢ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٤.

(٦) في أ : زائدة.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٤٤.

(٨) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٢.

٤٢٥

قوله : (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ). أي : وأنا بعد استماع القرآن مختلفون ، فمنا من أسلم ومنا من كفر ، والقاسط : الجائر لأنه عادل عن الحق ، والمقسط : العادل لأنه عادل إلى الحق ، قسط : إذا جار ، وأقسط : إذا عدل ؛ قال : [الكامل]

٤٩٠٨ ـ قوم هم قتلوا ابن هند عنوة

عمرا وهم قسطوا على النّعمان (١)

وقد تقدم في أول «النساء» أن «قسط» : ثلاثيا بمعنى «جار» ، و «أقسط» الرباعي بمعنى «عدل». وأن الحجاج قال لسعيد بن جبير : ما تقول فيّ؟.

قال : إنّك قاسط عادل ، فقال الحاضرون : ما أحسن ما قال ، فقال : يا جهلة ، جعلني كافرا جائرا ، وتلا قوله تعالى : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً). وقرأ (ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) [الأنعام : ١].

قوله : (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً).

أي : قصدوا طريق الحقّ ، وتوخوه ، وطلبوه باجتهاد ، ومنه التحري في الشيء.

قال الراغب : «حرى الشيء يحري ، أي : قصد حراه ، أي : جانبه ، وتحراه كذلك ، وحرى الشيء يحري ، نقص ، كأنّه لزم حراه ، ولم يمتد ؛ قال الشاعر : [الكامل]

٤٩٠٩ ـ ............

والمرء بعد تمامه يحري (٢)

ويقال : رماه الله بأفعى حارية ، أي : شديدة» انتهى.

وكأن أصله من قولهم : هو حريّ بكذا ، أي : حقيق به. و «رشدا» مفعول به.

والعامة قرأوا : «رشدا» ـ بفتحتين ـ ، والأعرج : بضمة وسكون.

قوله : (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ). أي : الجائرون عن طريق الحق والإيمان (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) أي : وقودا ، وقوله «فكانوا» أي : في علم الله تبارك وتعالى.

فإن قيل : ذكر عقاب القاسطين ولم يذكر ثواب المسلمين.

فالجواب (٣) : بل ذكر ثواب المؤمنين بقوله (تَحَرَّوْا رَشَداً) أي : تحرّوا رشدا عظيما لا يعلم كنهه إلّا الله تعالى ، ومثل هذا لا يتحقق إلا بالثّواب.

فإن قيل : فإنّ الجنّ مخلوقون من النّار ، فكيف يكونون حطبا للنار؟.

فالجواب : أنّهم وإن خلقوا من النار لكنهم تغيروا عن تلك الكيفية فيصيرون لحما ، ودما هكذا قيل.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٩ / ١٢ ، والبحر ٨ / ٣٤٤ ، وروح المعاني ٢٩ / ١١١.

(٢) ينظر مفردات الراغب ١٦٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٤.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٤٢.

٤٢٦

وهذا آخر كلام الجن.

قوله وألو (اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ) ، «أن» هي المخففة من الثقيلة ، وتقدم أنه يكتفى ب «لو» ، فأصله بين «أن» المخففة ، وخبرها إذا كان جملة فعلية في سورة «سبأ».

وقال أبو البقاء هنا : «ولو» عوض كالسّين ، وسوف ، وقيل : «لو» بمعنى «إن» و «إن» بمعنى اللام ، وليست بلازمة كقوله (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) [مريم : ٤٦] ، وقال في موضع آخر : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ) [المائدة : ٣٧] ذكره ابن فضالة في البرهان.

قال شهاب الدين (١) : «وهذا شاذّ لا يلتفت إليه ألبتة لأنه خلاف النحويين».

وقرأ العامة : بكسر «وأن لو» على الأصل.

وابن وثّاب والأعمش : بضمها (٢) ، تشبيها بواو الضمير. وقد تقدم تحقيقه في البقرة.

فصل في بيان أن الله أوحى إليهم أن الإيمان سبب البسطة في الرزق

هذا من كلام الله تعالى ، أي لو آمن هؤلاء الكفار لوسعنا عليهم في الدنيا وبسطنا لهم في الرزق ، وهذا محمول على الوحي ، أي أوحي إليّ أن لو استقاموا.

قال ابن بحر كل ما كان في هذه السورة من «أنّ» المثقلة فهي حكاية لقول الجن الذين سمعوا القرآن ، فرجعوا إلى قومهم منذرين ، وكل ما فيها من «أن» المفتوحة المخففة فهي وحي إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال ابن الأنباريّ : ومن كسر الحروف ، وفتح (وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا) أضمر يمينا تأويلها : والله أن لو استقاموا على الطريقة ، كما يقال في الكلام : والله إن قمت لقمت ، والله لو قمت قمت.

قال الشاعر : [الوافر]

٤٩١٠ ـ أما ـ والله ـ أن لو كنت حرّا

وما بالحرّ أنت ولا العتيق (٣)

ومن فتح ما قبل المخففة نسقها على تقدير : (أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ) ، وألو (اسْتَقامُوا) أو «على (آمَنَّا بِهِ») ويستغنى عن إضمار اليمين.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٩٥.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٤٤ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٥.

(٣) ينظر الإنصاف ١ / ١٢١ ، وخزانة الأدب ٤ / ١٤١ ، ١٤٣ ، ١٤٥ ، ١٠ / ٨٢ والجنى الداني ص ٢٢٢ ، وجواهر الأدب ص ١٩٧ ، والدرر ٤ / ٩٦ ، ٢١٩ ، ورصف المباني ص ١١٦ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٣٣ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١١١ ، ومغني اللبيب ١ / ٣٣ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٠٩ ، والمقرب ١ / ٢٠٥ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٨ ، ٤١.

٤٢٧

والضمير في قوله وألو (اسْتَقامُوا) ، قيل : يرجع إلى الجنّ الذين تقدم ذكرهم ووصفهم أي : هؤلاء القاسطون لو أسلموا لفعلنا بهم كذا وكذا.

وقيل : بل المراد الإنس لأن الترغيب في الانتفاع بالماء الغدق ، إنما يليق بالإنس ، لا بالجن وأيضا أن هذه الآية إنّما نزلت بعد ما حبس الله المطر عن أهل مكة سنين ، أقصى ما في الباب أنّه لم يتقدم ذكر الإنس ، ولكنه لما كان ذلك معلوما جرى مجرى قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١].

وقال القاضي : الأقرب أن الكل يدخلون فيه.

قال ابن الخطيب (١) : «ويدل على صحة قول القاضي ، أنه تعالى أثبت حكما معللا بعلة ، وهي الاستقامة فوجب أن يعم الحكم لعموم العلة».

والغدق ـ بفتح الدال وكسرها ـ : لغتان في الماء الغزير ، ومنه الغداق : للماء الكثير وللرجل الكثير الغدق ، والكثير النطق.

ويقال : غدقت عينه تغدق أي : هطل دمعها غدقا.

وقرأ العامة : «غدقا» بفتحتين.

وعاصم فيما يروي (٢) عنه الأعشى ، بفتح الغين وكسر الدال ، وقد تقدم أنهما لغتان.

قوله : وألو (اسْتَقامُوا).

قال ابن الخطيب (٣) : إن قلنا : إن الضمير راجع إلى الجنّ ففيه قولان :

أحدهما : أن المعنى لو ثبت أبوهم على عبادته وسجد لآدم ، ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف : ٩٦] الآية ، (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ) [المائدة : ٦٦] الآية ، وقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) [الطلاق : ٢]. وقوله : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ) ، إلى قوله : (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) [نوح : ١٠ ـ ١٢] الآية.

وإنّما ذكر الماء كناية عن طيب العيش وكثرة المنافع وهذا هو اللائق بالجنّ لا الماء المشروب.

الثاني : أن المعنى لو استقام الجنّ أي الذين سمعوا القرآن على طريقتهم التي كانوا عليها ، ولم ينتقلوا عن الإسلام لو سعنا عليهم الدنيا كقوله : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) [الزخرف : ٣٣] الآية.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٤٢.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٨٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٥.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٤٢.

٤٢٨

والقول الأول : اختيار الزجاج ، قال : لأنّه تعالى ذكر الطريقة معرفة بالألف واللام فيرجع إلى الطريقة المعروفة ، وهي طريقة الهدى.

ومعنى : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) أي : لنختبرهم هل يقومون بشكرها أم لا ، وإن قلنا : إنّ الضمير يعود على الإنس فالاحتمالان كما هما.

قوله : (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) ، دليل على أنه تبارك وتعالى يضل عباده. وأجاب المعتزلة ، بأنّ الفتنة هي الاختبار ، كما يقال : فتنت الذهب بالنار لا خلق الضلالة.

واستدلت المعتزلة بقوله تعالى (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) على أنه تعالى إنما يفعل لغرض.

وأجيبوا : بأن الفتنة بالاتفاق ليست مقصودة فدلّت هذه الآية على أن اللام ليست للغرض في حق الله تبارك وتعالى.

فصل في التحذير من الدنيا

روى مسلم عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من زهرة الدّنيا» قالوا : وما زهرة الدّنيا؟.

قال : «بركات الأرض» (١). وذكر الحديث.

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «فو الله ما الفقر أخشى عليكم ، وإنّما أخشى عليكم أن يبسط الله عليكم الدّنيا فتنافسوا فيها كما تنافس فيها من كان قبلكم ، فيهلككم كما أهلكهم» (٢).

قوله : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) ، أي : عن عبادته ، أو عن موعظته ، أو عن وحيه.

وقال ابن زيد : يعني القرآن (٣) ، وفي إعراضه وجهان :

الأول : عن القبول إن قيل إنها في الكفار والثاني عن العمل ، إن قيل إنّها في أهل الإيمان.

وقيل : (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ) ، أي : لم يشكره.

قوله : (يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً).

قرأ الكوفيون (٤) : «يسلكه» ـ بياء الغيبة ـ لإعادة الضمير على الله تعالى ، وباقي السبعة : بنون العظمة على الالتفات.

وهذا كما تقدم في قوله تعالى : (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) ، ثم قال : (بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) [الإسراء : ١].

__________________

(١) أخرجه مسلم (٢ / ٧٢٨) من حديث أبي سعيد الخدري.

(٢) أخرجه الإمام أحمد في «مسنده» (٢ / ٥٣٩).

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١١٨) والقرطبي (١٩ / ٢١٤).

(٤) ينظر : السبعة ٦٥٦ ، والحجة ٦ / ٣٣٢ ـ ٣٣٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٠١ ، وحجة القراءات ٧٢٩.

٤٢٩

وقرأ مسلم بن جندب (١) : «نسلكه» بنون العظمة مضمومة من «أسلكه».

وبعضهم (٢) : بالياء من تحت مضمومة ، وهما لغتان ، يقال : سلكه وأسلكه.

وأنشد : [البسيط]

٤٩١١ ـ حتّى إذا أسلكوهم في قتائدة (٣)

و «سلك ، وأسلك» يجوز أن يكونا فيهما ضمّنا معنى الإدخال ، فلذلك يتعديان لاثنين ويجوز أن يقال : يتعديان إلى أحد المفعولين ، بإسقاط الخافض ، كقوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ) [الأعراف : ١٥٥].

فالمعنى : ندخله عذابا ، أو نسلكه في عذاب ، هذا إذا قلنا : إن «صعدا» مصدر.

قال الزمخشريّ : يقال : صعدا وصعودا ، فوصف به العذاب لأنه يتصعد للمعذب ، أي : يعلوه ، ويغلبه ، فلا يطيقه ، ومنه قول عمر ـ رضي الله عنه ـ : ما تصعد شيء ما تصعدتني خطبة النّكاح يقول : ما شقّ عليّ ، ولا غلبني.

وأما إذا جعلناه اسما لصخرة في جهنم ، كما قاله ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ وغيره ، فيجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن يكون «صعدا» مفعولا به أي «يسلكه» في هذا الموضع ويكون «عذابا» مفعولا من أجله.

الثاني : أن يكون «عذابا» مفعولا ثانيا كما تقدم ، و «صعدا» بدلا من عذابا ، ولكن على حذف مضاف أي : عذاب صعد ، وقرأ العامة بفتحتين ، وقرأ ابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين ، وهو صفة تقتضي المبالغة كحطم ولبد ، وقرىء بضمتين وهو وصف أيضا ك «جنب» و «شلل».

فصل

ومعنى عذابا صعدا : أي شاقا شديدا.

[وقيل عن ابن عباس :] هو جبل في جهنم (٤) ، قال الخدريّ : كلما جعلوا أيديهم عليه ذابت (٥).

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٤٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٨٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٥.

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٧٠) والحاكم (٢ / ٥٠٤) من طريق عكرمة عن ابن عباس.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٦) وزاد نسبته إلى هناد وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٤).

٤٣٠

وعن ابن عباس : إن المعنى مشقّة من العذاب (١) ، لأن الصعد في اللغة هو المشقة ، تقول: تصعدني الأمر إذا شقّ عليك ، ومنه قول عمر المتقدم ، والمشي في الصعود يشق ، وصعود العقبة الكئود.

وقال عكرمة : هي صخرة في جهنم ملساء يكلف صعودها ، فإذا انتهى إلى أعلاها حدر إلى جهنم.

وقال : يكلّف الوليد بن المغيرة أن يصعد جبلا في النار من صخرة ملساء يجذب من أمامه بسلاسل ، ويضرب من خلفه بمقامع ، حتّى يبلغ أعلاها ولا يبلغ في أربعين سنة فإذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها ، ثم يكلف صعودها ، فذلك دأبه أبدا ، وهو قوله : (سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً) [المدثر : ١٧].

قوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ). قد تقدم أن السبعة أجمعت على الفتح ، بتقدير : وأوحي إليّ أن المساجد لله.

وقال الخليل : أي ولأن المساجد ، فحذف الجارّ ، ويتعلق بقوله (فَلا تَدْعُوا).

وجعلوه كقوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) [قريش : ١] فإنه متعلق بقوله : (فَلْيَعْبُدُوا) كقوله : (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) [الأنبياء : ٩٢].

وقرأ طلحة (٢) وابن هرمز : «وإنّ المساجد» ـ بالكسر .. ، وهو يحتمل الاستئناف والتعليل ، فيكون في المعنى كتقدير الخليل.

فصل في المراد ب «المساجد»

المساجد : قيل هي جمع «مسجد» ـ بالكسر ـ وهو موضع السجود ، وقد تقدم أن قياسه الفتح.

وقيل : هو «مسجد» ـ بالفتح ـ مرادا بها الأعضاء الواردة في الحديث : «الجبهة والأنف والركبتان واليدان والقدمان» ، وهو قول سعيد بن المسيب.

والمعنى : إن هذه الأعضاء أنعم الله بها عليكم فلا تسجد لغيره فتجحد نعمة الله ، وقال عطاء : مساجدك أعضاؤك التي أمرت بالسجود عليها لا تذللها لغير خالقها.

قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ «أمرت أن أسجد على سبعة أعظم» وذكر الحديث ، وقال عليه الصلاة والسلام : «إذا سجد العبد سجد معه سبعة أعضاء» (٣) وقيل : بل جمع مسجد ، وهو مصدر بمعنى السجود ، ويكون الجمع لاختلاف الأنواع.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٤٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٦.

(٣) أخرجه البخاري (٢ / ٢٩٧) كتاب الأذان ، باب : السجود على الأنف حديث (٨١٢) ومسلم (١ / ٣٥٤) كتاب الصلاة ، باب : أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر (٢٣٠ / ٤٩٠) من حديث ابن عباس.

٤٣١

وقال القرطبي (١) : «المراد بها البيوت التي تبنيها أهل الملل للعبادة».

قال سعيد بن جبير رضي الله عنه : قالت الجن : كيف لنا أن نأتي المساجد ونشهد معك الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) ، أي : بنيت لذكر الله ولطاعته(٢).

وقال ابن عبّاس : المساجد هنا مكة التي هي القبلة ، وسميت مكة مساجد ، لأن كلّ أحد يسجد إليها (٣).

قال القرطبيّ (٤) : «والقول بأنها البيوت المبنية للعبادة ، وهذا أظهر الأقوال ، وهو مروي عن ابن عباس».

قال ابن الخطيب (٥) : «قال الواحديّ : وواحد المساجد ـ على الأقوال كلّها ـ «مسجد» ـ بفتح الجيم ـ إلا على قول من يقول : إنها المواضع التي بنيت للصلاة ، فإنّ واحدها «مسجد» ـ بكسر الجيم ـ لأنّ المواضع ، والمصادر كلّها من هذا الباب ـ بفتح العين ـ إلا في أحرف معدودة وهي : المسجد ، والمطلع ، والمنسك ، والمسكن ، والمنبت ، والمفرق ، والمسقط ، والمجزر ، والمحشر ، والمشرق ، والمغرب وقد جاء في بعضها الفتح ، وهي : المنسك والمطلع والمسكن والمفرق ، وهو جائز في كلّها وإن لم يسمع».

قوله : «لله». إضافة تشريف وتكريم ، ثم خص بالذّكر منها البيت العتيق ، فقال تعالى: (وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ) [الحج : ٢٦]. وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد» (٦).

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلّا المسجد الحرام» (٧).

وقد روي من طريق آخر لا بأس بها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلّا في المسجد الحرام ، فإنّ صلاة فيه خير من مائة ألف صلاة في مسجدي هذا» (٨).

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٧١) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٦).

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١١٩) والقرطبي (١٩ / ١٥).

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٤.

(٥) ينظر الرازي ٣٠ / ١٤٤.

(٦) تقدم.

(٧) أخرجه البخاري ٣ / ٦٣ كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة : (١١٩٠) ومسلم (٢ / ١٠١٢) كتاب الحج باب فضل الصلاة بمسجدي مكة والمدينة (٥٠٥ / ١٣٩٤) ومالك في الموطأ ١ / ١٩٦ في كتاب القبلة ، باب : ما جاء في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٨) هذا الحديث ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٥) وقال : لو صح ولم يصححه كما قال المؤلف عقب الحديث.

٤٣٢

قال القرطبي (١) : «وهذا حديث صحيح».

فصل في نسبة المساجد إلى غير الله

فإن قيل : المساجد وإن كانت لله ملكا وتشريفا فإنّها قد تنسب إلى غيره تعالى تعريفا كما قيل في الحديث : «سابق بين الخيل التي لم تضمر من الثنية إلى مسجد بني زريق».

ويقال : مسجد فلان ، لأنه حبسه ، ولا خلاف بين الأمة في تحبيس المساجد والقناطر والمقابر ، وإن اختلفوا في تحبيس غير ذلك.

فصل في معنى الآية

معنى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) لا يذكر فيها إلا الله تعالى فإنّه يجوز قسمة الأموال فيها ، ويجوز وضع الصدقات فيها ، على رسم الاشتراك بين المساكين ، والأكل فيها ، ويجوز حبس الغريم فيها والنوم ، وسكن المريض فيه ، وفتح الباب للجار إليها وإنشاد الشعر فيه إذا عري عن الباطل.

قوله : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً). وهذا توبيخ للمشركين ، في دعواهم مع الله غيره في المسجد الحرام.

وقال مجاهد : كانت اليهود ، والنصارى إذا دخلوا كنائسهم ، وبيعهم أشركوا بالله تعالى ، فأمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة الحق إذا دخلوا المساجد كلها ، فلا تشركوا فيها صنما وغيره مما يعبد (٢).

وقيل : المعنى أفردوا المساجد لذكر الله ، ولا تجعلوا لغير الله فيها نصيبا ، وفي الحديث : «من نشد ضالّة في المسجد فقولوا : لا ردّها الله عليك ، فإنّ المساجد لم تبن لهذا».

وقال الحسن : من السنة إذا دخل رجل المسجد أن يقول : لا إله إلا الله ، لأن قوله تعالى (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) في ضمنه أمر بذكر الله ودعائه.

وروى الضحاك عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان إذا دخل المسجد قدّم رجله اليمنى وقال : «وأنّ المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ، اللهمّ إني عبدك وزائرك وعلى كلّ مزور حقّ لزائره ، وأنت خير مزور ، فأسألك برحمتك أن تفكّ رقبتي من النّار» فإذا خرج من المسجد قدم رجله اليسرى وقال : «الّلهمّ صبّ عليّ الخير صبا

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ١٥.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٥) عن مجاهد.

٤٣٣

ولا تنزع عنّي صالح ما أعطيتني أبدا ، ولا تجعل معيشتي كدّا ، واجعل لي في الأرض جدا» (١).

قوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً).

يجوز الفتح ، أي : أوحى الله إليه أنه ، ويجوز الكسر على الاستئناف ، و (عَبْدُ اللهِ) هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن حسب ما تقدم أول السورة. «يدعوه» ، أي : يعبده.

وقال ابن جريج : «يدعوه» ، أي : قام إليهم داعيا إلى الله تعالى ، فهو في موضع الحال ، أي : يوحد الله.

(كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً).

قال الزّبير بن العوام : هم الجنّ حين استمعوا القرآن من النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : كاد يركب بعضهم بعضا ازدحاما عليه ويسقطون حرصا على سماع القرآن العظيم (٢).

وقيل : كادوا يركبونه حرصا ، قاله الضحاك (٣).

وقال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : رغبة في سماع القرآن (٤).

يروى عن مكحول : أن الجنّ بايعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الليلة ، وكانوا سبعين ألفا ، وفرغوا من بيعته عند الفجر (٥).

وعن ابن عباس أيضا : أن هذا من قول الجنّ لما رجعوا إلى قومهم أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وائتمامهم به في الركوع والسجود (٦).

وقيل : كاد الجنّ يركب بعضهم بعضا حرصا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال الحسن وقتادة وابن زيد : «لمّا قام عبد الله» محمد بالدعوة تلبدت الإنس ، والجن على هذا الأمر ليطفئوه فأبى الله تعالى إلّا أن ينصره ويتم نوره (٧) ، واختار الطبريّ

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٢٠) والقرطبي (١٩ / ١٥).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٧) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن الزبير.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٧٢).

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ١٦).

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٧٢) والترمذي (٣٣٢٣) والحاكم (٢ / ٥٠٤) من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٧) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن مردويه والضياء في «المختارة».

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٧٢ ـ ٢٧٣) عن قتادة وابن زيد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٧) عن قتادة وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

٤٣٤

أن يكون المعنى كادت العرب يجتمعون على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتظاهرون على إطفاء النور الذي جاء به.

قال مجاهد : اللّبد : الجماعات (١).

قوله «لبدا». قرأ هشام (٢) : بضم اللام ، والباقون : بكسرها.

فالأولى : جمع «لبدة» ـ بضم اللام ـ نحو «غرفة وغرف».

وقيل : بل هو اسم مفرد صفة من الصفات نحو «حطم» وعليه قوله تعالى (مالاً لُبَداً) [البلد : ٦].

وأما الثانية : فجمع «لبدة» ـ بالكسر ـ نحو «قربة وقرب».

واللبدة : الشيء المتلبد ، أي : المتراكب بعضه على بعض ، ومنه قولهم «لبدة الأسد». كقول زهير : [الطويل]

٤٩١٢ ـ لدى أسد شاك السّلاح مقذّف

له لبد أظفاره لم تقلّم (٣)

ومنه : اللبد ؛ لتلبّد بعضه فوق بعض ، ولبد : اسم نسر لقمان بن عاد ، عاش مائتي سنة ، حتى قالوا : أطال الله الأمد على لبد.

والمعنى : كادت الجنّ يكونون عليه جماعات متراكمة متزاحمين عليه كاللبد.

وقرأ الحسن (٤) والجحدريّ : «لبدا» ـ بضمتين ـ ورواها جماعة عن أبي عمرو.

وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أنه جمع «لبد» نحو «رهن» جمع «رهن».

والثاني : أنه جمع «لبود» نحو «صبور ، وصبر» وهو بناء مبالغة أيضا.

وقرأ ابن محيصن (٥) : بضمة وسكون ، فيجوز أن تكون هذه مخففة من القراءة التي قبلها ويجوز أن يكون وصفا برأسه.

وقرأ الحسن (٦) والجحدريّ أيضا : «لبّدا» ـ بضم اللام وتشديد الباء ، وهي غريبة جدا.

وقيل : وهو جمع «لابد» ك «ساجد وسجّد ، وراكع وركّع».

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٧٣).

(٢) ينظر : السبعة ٦٥٧ ، والحجة ٦ / ٣٣٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٠٢ ، وحجة القراءات ٧٢٩.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٨٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٦.

(٥) ينظر السابق.

(٦) ينظر السابق.

٤٣٥

وقرأ أبو رجاء (١) : بكسر اللام ، وكسر الباء ، وهي غريبة أيضا.

وقيل : اللّبد ـ بضم اللام وفتح الباء ـ : الشيء الدائم ، واللبد أيضا : الذي لا يسافر ولا يبرح ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٤٩١٣ ـ من امرىء ذي سماح لا تزال له

بزلاء يعيا بها الجثّامة اللّبد (٢)

ويروى : اللّبد ، قال أبو عبيد : وهو أشبه ، ويقال : ألبدت القربة جعلتها في لبيد.

ولبيد : اسم شاعر من بني عامر.

قوله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (٢١) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٢) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (٢٣) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً)(٢٤)

قوله : (إِنَّما أَدْعُوا) ، قرأ عاصم وحمزة : بلفظ الأمر التفاتا ، أي : قل يا محمد ، والباقون (٣) : «قال» إخبارا عن «عبد الله» وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الجحدريّ : وهي في المصحف كذلك. وقد تقدم لذلك نظائر في (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي)(٤) آخر «الإسراء» ، وكذا في أول «الأنبياء» (٥) وآخرها (٦) ، وآخر «المؤمنون» (٧).

قال المفسرون : سبب نزول هذه الآية أنّ كفار قريش قالوا له : إنّك جئت بأمر عظيم ، وقد عاديت الناس كلهم ، فارجع عن هذا ونحن نجيرك ، فنزلت.

قوله : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً).

قرأ الأعرج (٨) : «رشدا» ـ بضمتين ـ. وجعل الضر عبارة عن الغي ؛ لأن الضرر سبب عن الغي وثمرته ، فأقام المسبب مقام السبب ، والأصل : لا أملك غيا ، ولا رشدا ، فذكر الأهم.

وقيل : بل في الكلام حذف ، والأصل : لا أملك لكم ضرا ولا نفعا ولا غيّا ولا رشدا فحذف من كل واحد ما يدل مقابله عليه.

فصل في معنى الآية

المعنى لا أقدر أن أدفع عنكم ضرا ولا أسوق لكم خيرا.

__________________

(١) ينظر السابق.

(٢) ينظر : القرطبي ١٩ / ١٧.

(٣) ينظر السبعة ٦٥٧ ، والحجة ٣٣٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٠٢ ، وحجة القراءات ٧٢٩.

(٤) آية ٩٣.

(٥) آية ٤.

(٦) آية ١١٢.

(٧) آية ١١٨.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٨٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٧.

٤٣٦

وقيل : (لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا) ، أي : كفرا (وَلا رَشَداً) أي : هدى ، أي : إنما عليّ التبليغ.

وقيل : الضّرّ : العذاب ، والرشد : النعيم ، وهو الأول بعينه.

وقيل : الضرّ : الموت ، والرشد الحياة.

قوله : (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) ، أي : لن يدفع عني عذابه أحد إن استحفظته وذلك أنهم قالوا : اترك ما تدعو إليه ، ونحن نجيرك.

وروى أبو الجوزاء عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : انطلقت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الجن حتى أتى الحجون فخطّ علينا خطّا ، ثم تقدم إليهم فازدحموا عليه فقال سيد يقال له وردان : أنا أزجلهم عنك ، فقال : (إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ أَحَدٌ) ، ذكره الماورديّ رحمه‌الله عليه ، قال : ويحتمل معنيين :

أحدهما : لن يجيرني مع إجارة الله لي أحد.

الثاني : لن يجيرني مما قدره الله تعالى علي أحد ، (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)(١) أي : ملجأ الجأ إليه ، قاله قتادة ، وعنه نصيرا ومولى.

وقال السدي : حرزا (٢) ، وقال الكلبيّ : مدخلا في الأرض مثل السّرب (٣) ، وقيل : مذهبا ولا مسلكا ، حكاه ابن شجرة ؛ قال الشاعر : [البسيط]

٤٩١٤ ـ يا لهف نفسي ولهفي غير مجزية

عنّي وما من قضاء الله ملتحد (٤)

و «ملتحدا» مفعول «أحد» لأنها بمعنى «أصيب».

قوله (إِلَّا بَلاغاً) ، فيه وجوه :

أحدها : أنه استثناء منقطع ، أي : لكن إن بلغت عن الله رحمتي ، لأن البلاغ من الله ـ تبارك وتعالى ـ لا يكون داخلا تحت قوله : (وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً). لأنه لا يكون من دون الله ـ عزوجل ـ وبعنايته وتوفيقه.

والثاني : أنّه متصل ، وتأويله ، أن الإجارة مستعارة للبلاغ ، أو هو سببها أو بسبب رحمته تعالى ، والمعنى لن أجد شيئا أميل إليه وأعتصم به إلا أن أبلغ وأطيع فيجيرني ، وإذا كان متصلا جاز نصبه من وجهين :

أحدهما : أن يكون بدلا من «ملتحدا» لأن الكلام غير موجب ، وهذا اختيار الزّجاج.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٨) وعزاه إلى ابن مردويه والبيهقي في «الدلائل».

(٢) ذكره القرطبي (١٩ / ١٨).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر : القرطبي ١٩ / ١٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٧ ، وروح المعاني ٢٩ / ١١٦.

٤٣٧

والثاني : أنه منصوب على الاستثناء.

الثالث : أنه مستثنى منقطع من قوله (لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا).

قال قتادة : أي : لا أملك إلا بلاغا إليكم (١) ، وقرره الزمخشري ، فقال : أي : لا أملك لكم إلا بلاغا من الله ، وقيل : (إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللهِ) جملة معترضة اعترض بها لتأكيد نفي الاستطاعة وعلى هذا فالاستثناء منقطع.

الرابع : أنّ الكلام ليس استثناء ، بل شرطا ، والأصل : «إن لا» ف «إن» شرطية وفعلها محذوف ، لدلالة مصدره ، والكلام الأول عليه ، و «لا» نافية ، والتقدير : «إن لا أبلغ بلاغا من الله فلن يجيرني من الله أحد».

وجعلوا هذا كقول الآخر : [الوافر]

٤٩١٥ ـ فطلّقها فلست لها بكفء

وإلّا يعل مفرقك الحسام (٢)

أي : وإن لا تطلقها يعل ، فحذف الشرط ونفى الجواب ، وفي هذا الوجه ضعف من وجهين :

أحدهما : أن حذف الشرط دون أدلته قليل جدا.

والثاني : أنّه حذف الجزءان هنا ، أعني الشرط والجزاء.

فيكون كقول الشاعر : [الرجز]

٤٩١٦ ـ قالت بنات العمّ : يا سلمى وإن

كان فقيرا معدما ، قالت : وإن (٣)

أي قالت : وإن كان فقيرا معدما فقد رضيته.

وقد يقال : إن الجواب مذكور عند من يرى جواز تقديمه ، وإما في قوة المنطوق به لدلالة ما قبله عليه.

وقال الحسن : (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ). فإن فيه النجاة والأمان (٤).

قوله (مِنَ اللهِ). فيه وجهان :

أحدهما : أن «من» بمعنى «عن» لأن «بلغ» يتعدى بها ، ومنه قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ألا بلّغوا عنّي» (٥).

والثاني : أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «بلاغ».

قال الزمخشري : «من» ليست للتبليغ وإنما هي بمنزلة «من» في قوله تعالى (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة : ١] ، بمعنى : «بلاغا كائنا من الله».

__________________

(١) ينظر : القرطبي (١٩ / ١٨).

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : القرطبي ١٩ / ١٩.

(٤) ينظر : القرطبي (١٩ / ١٨).

(٥) تقدم.

٤٣٨

قوله (وَرِسالاتِهِ). فيه وجهان :

أحدهما : أنها منصوبة نسقا على «بلاغا» ، كأنه قيل : لا أملك لكم إلا التبليغ ، والرسالات ولم يقل الزمخشري غيره.

والثاني : أنها مجرورة نسقا على الجلالة ، أي : إلا بلاغا عن الله وعن رسالاته ، قدره أبو حيّان وجعله هو الظاهر (١) ، ويجوز في جعله «من» بمعنى «عن» ، والتجوز في الحروف رأي الكوفيين ومع ذلك فغير متعارف عندهم.

قوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، في التوحيد ، والعبادة (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) ، العامة : على كسر «إن» جعلوها جملة مستأنفة بعد فاء الجزاء.

قال الواحديّ : «إن» مكسورة الهمزة لأن ما بعد فاء الجزاء موضع ابتداء.

ولذلك حمل سيبويه قوله : (وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللهُ مِنْهُ) [المائدة : ٩٥] ، (وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً) [البقرة : ١٢٦] (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) على أن المبتدأ فيها مضمر تقديره : فجزاؤه أنّ له نار جهنّم ، أو فحكمه أنّ له نار جهنّم.

قال ابن خالويه : «سمعت ابن مجاهد يقول : لم يقرأ به أحد ، وهو لحن ، لأنه بعد فاء الشرط ، قال : سمعت ابن الأنباري يقول : هو صواب ، ومعناه : فجزاؤه أنّ له نار جهنّم».

قال شهاب الدين (٢) : ابن مجاهد ، وإن كان إماما في القراءات إلا أنه خفي عليه وجهها ، وهو عجيب جدا كيف غفل عن قراءتي (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [الأنعام : ٥٤] في «الأنعام» ، لا جرم أن ابن الأنباري استصوب القراءة لطول باعه في العربية.

قوله «خالدين». حال من الهاء في «له» ، والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى «من» فلذلك جمع ؛ لأن المعنى لكل من فعل ذلك فوحد أولا اللفظ ، ثم جمع المعنى.

فصل في رد كلام المعتزلة

استدل جمهور المعتزلة بهذه الآية الكريمة على أن فسّاق أهل الصلاة يخلدون في النار ؛ لأن هذا العموم أقوى في الدلالة على المطلوب من سائر العمومات ، وأيضا : فقوله «أبدا» ينفي قول المخالف بأن المراد بالخلود المكث الطويل.

والجواب (٣) : أنّ السياق في التبليغ عن الله ، والرسالة ، ثم قال تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) وإذا كان هنا محتملا سقط الاستدلال ، أو نقول : هذه الصورة لا بد

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٥٤.

(٢) الدر المصون ٦ / ٣٩٨.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٤٦.

٤٣٩

وأن تندرج في العموم ، وترك التبليغ عن الله تعالى أعظم ، فلا يجوز أن تساويه الذنوب التي ليست مثله في العقوبة ، فلا يتعدى هذا الحكم إلى غيره من الذنوب ، أو نقول : إن الله تعالى لم يقيد في سائر عمومات الوعيد في القرآن بالتأبيد إلا في هذه الآية الكريمة فلا بد وأن يكون لهذا التخصيص فائدة ، ومعنى ، وليس المعنى إلا أن يكون هذا الذنب أعظم الذّنوب ، وإذا كان السبب في هذا التخصيص هذا المعنى ، علمنا أن هذا الوعيد مختص بهذا الذنب ، فلا يتعدى إلى غيره من الذنوب فدلت هذه الآية على أن حال سائر المذنبين مخالف لذلك ، أو نقول : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ) إلا في الكفر وإلا في الزنا وإلا في شرب الخمر ، فإن مذهب القائلين بالوعيد أنّ الاستثناء إخراج ما لولاه كان داخلا تحت اللفظ ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون قوله تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ) متناولا لكل من أتى بكل المعاصي.

فإن قيل : يستحيل العموم هنا لأن من جملة المعاصي التجسيم والتعطيل ، والقائل بالتجسيم يمتنع أن يكون مع ذلك قائلا بالتعطيل.

قلنا : يخص هذا بدليل الفعل فيحمل على جميع ما لا يستحيل اجتماعه.

فصل في أن الأمر للوجوب

دلت هذه الآية على أن الأمر مقيد بالوجوب لأن تارك المأمورية عاص لقوله : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طه : ٩٣] ، (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) [مريم : ٦] ، (وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) [الكهف : ٦٩].

والعاصي مستحق للعقاب لقوله تعالى (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ).

قوله : (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ).

قال الزمخشريّ : فإن قلت : بم تعلق حتى ، وجعل ما بعده غاية له؟.

قلت : بقوله : (يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً) على أنهم يتظاهرون عليه بالعداوة ، ويستضعفون أنصاره ، ويستقلون عددهم (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ) من يوم بدر ، وإظهار الله عليهم ، أو من يوم القيامة (فَسَيَعْلَمُونَ) حينئذ (مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً).

قال : ويجوز أن يتعلق بمحذوف دلت عليه الحال من استضعاف الكفار ، واستقلالهم لعددهم ، كأنه قال لا يزالون على ما هم عليه ، حتى إذا رأوا ما يوعدون ، قال المشركون : متى هذا الوعد؟ إنكارا له.

فقال : «قل» : إنه كائن لا ريب فيه.

قال أبو حيان (١) : قوله : بم تعلق ، إن عنى تعلق حرف الجر فليس بصحيح لأنها

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٥٤.

٤٤٠