اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

قال شهاب الدين (١) : قوله أدغموا الثاني في الأول ، هذا لا يجوز ؛ إذ القاعدة المستقرة في المتقاربين قلب الأول لا الثاني ، ولا يجوز العكس إلا شذوذا أو لضرورة صناعية ، أما الشذوذ فكقوله : (وَادَّكَرَ) [يوسف : ٤٥] بالذال المعجمة ، و (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر : ١٥] بالذال المعجمة أيضا وأما الضرورة الصناعية فنحو : امدح هذا ، لا تقلب الهاء حاء ، لئلا يدغم الأقوى في الأضعف وهذا يعرفه من عانى التصريف ، والديار : نازل الدار ، يقال : ما بالدار ديار ، وقيل : الديار صاحب الدار.

وقال البغويّ : «الدّيار يعني أحدا يدور في الأرض ، فيذهب ويجيء «فعّال» من الدوران».

فصل في دعاء نوح على قومه

لما أيس نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ من أتباعهم إياه دعا عليهم.

قال قتادة : دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] ، فأجاب الله دعوته وأغرق أمته ، وهذا كقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ منزل الكتاب هازم الأحزاب ، اهزمهم وزلزلهم» (٢).

وقيل : سبب دعائه أنّ رجلا من قومه حمل ولدا صغيرا على كتفه فمرّ بنوح ، فقال : احذر هذا فإنه يضلك ، فقال : يا أبت ، أنزلني فأنزله فرماه فشجّه ، فحينئذ غضب ودعا عليهم.

وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد : إنّما قال هذا ، حين أخرج الله كلّ مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم ، وأعقم أرحام أمهاتهم وأيبس أصلاب رجالهم قبل العذاب بأربعين سنة (٣) ، وقيل : بسبعين سنة ، فأخبر الله نوحا أنهم لا يؤمنون ، ولا يلدون مؤمنا كما قال تعالى : (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ) [هود : ٣٦] ، فحينئذ دعا عليهم نوح ، فأجاب الله دعاء فأهلكهم كلّهم ، ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب ، لأن الله تعالى قال : (وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ) [الفرقان : ٣٧]. ولم يوجد التكذيب من الأطفال.

فصل في بيان أنه لا يدعى على كافر معين

قال ابن العربي : دعا نوح على الكافرين أجمعين ودعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على من تحزب على المؤمنين وألّب عليهم ، وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة فأمّا

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٨٧.

(٢) تقدم.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٢٠١).

٤٠١

كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه ؛ لأن مآله عندنا مجهول ، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة وإنما خص النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالدعاء على عتبة وشيبة وأصحابه لعلمه بمآلهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم.

قوله : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَ).

العامة : على فتح الدال على أنه تثنية والد ؛ يريد : أبويه.

واسم أبيه : لمك بن متوشلخ ، واسم أمه : شمخى بنت أنوش ، وكانا مؤمنين.

وحكى الماورديّ : اسم أمه : منجل.

وقرأ الحسن بن علي (١) ـ رضي الله عنهما ـ ويحيى بن يعمر والنخعيّ : ولولدي ، تثنية ولد يعني : ابنيه ساما وحاما.

وقرأ ابن جبير (٢) والجحدري : «ولوالدي» ـ بكسر الدال ـ يعني أباه.

فيجوز أن يكون أراد أباه الأقرب الذي ولده ، وخصّه بالذّكر لأنه أشرف من الأم ، وأن يريد جميع من ولده من لدن آدم إلى زمن من ولده.

قال الكلبيّ : كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمن.

وذكر القرطبي (٣) عن ابن عباس رضي الله عنه قال : لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما الصلاة والسلام (٤).

قوله (وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً).

قال ابن عباس رضي الله عنه : أي : مسجدي ومصلاي (٥) ، «مؤمنا» ، أي : مصدّقا بالله ، ف «مؤمنا» حال ، وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن بهم ، فجعل المسجد سببا للدعاء بالمغفرة.

وقيل : المراد بقوله «بيتي» ، أي : سفينتي.

وقال ابن عباس : أي : دخل في ديني (٦).

فإن قيل : فعلى هذا يصير قوله : «مؤمنا» مكررا.

فالجواب (٧) : إنّ من دخل في دينه ظاهرا قد يكون مؤمنا ، وقد لا يكون مؤمنا ، فالمعنى : ولمن دخل دخولا مع تصديق القلب.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٧٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٣٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٧.

(٢) ينظر السابق.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٢٠٢.

(٤) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ٢٠١).

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر المصدر السابق.

(٧) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١٣٠.

٤٠٢

قوله : (وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ، خصّ نفسه أولا بالذكر والدعاء ، ثم المتصلين به لأنّهم أولى ، وأحق بدعائه ، ثم عمّ المؤمنين ، والمؤمنات إلى يوم القيامة ، قاله الضحاك (١).

وقال الكلبيّ : من أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢).

وقيل : من قومه ، والأول أظهر. ثم ختم الكلام مرة أخرى بالدعاء على الكافرين [فقال : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) ، أي : هلاكا ، ودمارا ، والمراد بالظالمين : الكافرين](٣) فهي عامة في كل كافر ومشرك.

وقيل : أراد مشركي قومه ، و «تبارا» مفعول ثاني ، والاستثناء مفرغ ، والتبار : كل شيء أهلك فقد تبر ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ) [الأعراف : ١٣٩].

وقيل : التّبار الخسران.

قال المفسّرون : فاستجاب الله دعاءه فأهلكهم.

روى الثعلبيّ عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة نوح ، كان من المؤمنين الّذين تدركهم دعوة نوح عليه‌السلام» (٤).

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ٢٠١).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) سقط من : أ.

(٤) عزاه الزيلعي في تخريج الكشاف ٤ / ٩٥ للثعلبي وابن مردويه والواحدي في الوسيط وقد تقدم تخريج هذا الحديث.

٤٠٣

سورة الجن

مكّية ، وهي ثمان وعشرون آية ومائتان وخمس وثمانون كلمة وثمانمائة وسبعون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً)(١٩)

قوله : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ) ، هذه قراءة العامة ، أعني كونها من «أوحى» رباعيا.

وقرأ العتكي عن أبي عمرو (١) وابن أبي عبلة وأبو إياس : «وحى» ثلاثيا.

وهما لغتان ، يقال : وحى إليه كذا وأوحى إليه بمعنى واحد ، فقلبت الواو همزة ،

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٦٢٢ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٣٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٨.

٤٠٤

ومنه قوله تعالى (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) [المرسلات : ١١] ؛ وأنشد العجاج : [الرجز]

٤٨٩٢ ـ وحى لها القرار فاستقرّت (١)

وقرأ زيد (٢) بن علي والكسائي في رواية وابن أبي عبلة أيضا : «أحي» بهمزة مضمومة لا واو بعدها ، وخرجت على أن الهمزة بدل من الواو المضمومة ، نحو «أعد» في «وعد» فهذا فرع قراءة «وحى» ثلاثيا.

قال الزمخشريّ : وهو من القلب المطلق جوابا في كل واو مضمومة ، وقد أطلقه المازنيّ في المكسورة أيضا : ك «إشاح ، وإسادة» ، و «إعاأ (أَخِيهِ») [يوسف : ٧٦].

قال أبو حيّان (٣) : وليس كما ذكر بل في ذلك تفصيل ، وذلك أن الواو المضمومة قد تكون أولا ، وحشوا ، وآخرا ، ولكل منها أحكام ، وفي بعض ذلك خلاف ، وتفصيل مذكور في كتب النحو. وتقدم الكلام في ذلك مشبعا في أول الكتاب.

ثم قال أبو حيّان بعد ما تقدم عن المازنيّ : وهذا تكثير وتبجح.

قوله : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) ، هذا هو القائم مقام الفاعل لأنّه هو المفعول الصريح ، وعند الكوفيين والأخفش يجوز أن يكون القائم مقامه الجار ، والمجرور ، فيكون هذا باقيا على نصبه ، والتقدير : أوحي إليّ استماع نفر (مِنَ الْجِنِّ) صفة ل «نفر».

فصل في تفسير الآية

قال ابن عباس وغيره : قل يا محمد لأمتّك أوحي إليّ على لسان جبريل ، أنّه استمع نفر من الجنّ ، والنّفر : الجماعة ما بين الثلاثة إلى العشرة ، واختلفوا ، هل رآهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أم لا؟.

فظاهر القرآن يدل على أنّه لم يرهم لقوله تعالى : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) ، وقوله : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) [الأحقاف : ٢٩].

وفي صحيح مسلم ، والترمذي عن ابن عباس قال : انطلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشيطان ، وبين خبر السماء ، وأرسل عليهم الشهب فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا : ما لكم؟.

فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء ، وأرسلت علينا الشهب قالوا : ما ذلك إلا من شيء حدث ، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها ، فمرّ النفر الذين أخذوا نحو «تهامة» وهو وأصحابه بنخلة قاصدين إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه الفجر فلمّا سمعوا

__________________

(١) ينظر : ديوانه (٥) ، والمحتسب ٢ / ٣٣١ ، واللسان (وحى) ، إعراب القرآن ٥ / ٤٥ ، مجمع البيان ١٠ / ٥٥٢.

(٢) ينظر المحرر الوجيز ٥ / ٣٧٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٨.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٤٦.

٤٠٥

القرآن قالوا : هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء ، فرجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) فأنزل الله على نبيه المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) الآية (١).

قال القرطبيّ (٢) : وفي هذا الحديث دليل على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم ير الجنّ ولكن حضروه وسمعوا قرآنه.

فإن قيل : الذين رموا بالشّهب هم الشياطين والذين سمعوا القرآن هم الجنّ ، فما وجه الجمع؟ فالجواب من وجهين :

الأول : أنّ الجن كانوا مع الشياطين ، فلما رمي الشياطين أخذوا الجنّ الذين كانوا منهم في تجسس الخبر.

الثاني : أنّ الذين رموا بالشهب كانوا من الجن ، إلا أنهم قيل لهم : شياطين كما قيل : شياطين الإنس والجنّ ، فإنّ الشيطان كل متمرد ، وبعيد من طاعة الله تعالى.

قال ابن الخطيب (٣) رحمه‌الله : واختلف في أولئك الجنّ الذين سمعوا القرآن من هم؟.

فروى عاصم عن ذر قال : قدم رهط زوبعة وأصحابه على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم انصرفوا ، فذلك قوله تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ).

وقيل : كانوا من الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وعامة جنود إبليس منهم.

وقيل : كانوا سبعة ، ثلاثة من أرض «حرّان» وأربعة من أرض «نصيبين» : قرية من قرى اليمن غير التي بالعراق رواه أيضا عنهم عاصم عن ذر.

وقيل : إنّ الجنّ الذين أتوه بمكة جنّ نصيبين ، والذين أتوه بنخلة جنّ نينوى.

وقال عكرمة : كانوا اثني عشر ألفا من جزيرة الموصل (٤).

ومذهب ابن مسعود أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالمسير إليهم ليقرأ القرآن عليهم ويدعوهم إلى الإسلام ، روى ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أمرت أن أتلو القرآن على الجنّ فمن

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٥٣٧) كتاب التفسير ، باب : سورة قل أوحي حديث رقم (٤٩٢١) ومسلم (٤٤٩) والترمذي (٣٣٢٠) والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٤٩٩) والحاكم (٢ / ٥٠٣) وصححه من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢٩) وزاد نسبته إلى أحمد وعبد بن حميد وابن المنذر والطبراني وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي كلاهما في «الدلائل».

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٤.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٣٥.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٥).

٤٠٦

يذهب معي؟ فسكتوا ، ثمّ قال النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثانية ، ثمّ قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الثالثة ، فقلت : أنا أذهب معك يا رسول الله ، فانطلق ، حتى أتى الحجون عند شعب ابن أبي دب خط عليّ خطّا فقال : لا تجاوزه ، ثمّ مضى إلى الحجون فاتّخذوا عليه أمثال الحجل كأنّهم رجال الزّطّ ، قال ابن الأثير في «النهاية» : «الزّطّ : قوم من السودان والهنود» يقرعون في دفوفهم ، كما تقرع النّسوة في دفوفها ، حتّى غشاه ، فغاب عن بصري ، فقمت ، فأومأ بيده إليّ أن اجلس ثمّ تلا القرآن صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلم يزل صوته يرتفع ، ولصقوا في الأرض ، حتّى صرت لا أراهم» (١).

وفي رواية أخرى ، قالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أنت؟.

قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أنا نبيّ ، قالوا : فمن يشهد لك على ذلك؟.

فقال الحبيب المجتبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذه الشّجرة ، تعالي يا شجرة فجاءت تجرّ عروقها لها قعاقع ، حتى انتصبت بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لها صلى‌الله‌عليه‌وسلم : على ما ذا تشهدين فيّ؟.

فقالت أشهد أنّك رسول الله قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لها : اذهبي ، فرجعت فذهبت مكانها كما جاءت ، حتى صارت كما كانت (٢).

وقال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ : فلمّا عاد إليّ قال : أردت أن تأتيني ، قلت : نعم يا رسول الله قال : ما كان ذلك لك ، قال : هؤلاء الجنّ أتوا يستمعون القرآن ثمّ ولّوا إلى قومهم منذرين ، فسألوني الزّاد ، فزوّدتهم العظم والبعر ، فلا يستطيبنّ أحدكم بعظم ، ولا بعر (٣).

وفي رواية : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ وضع رأسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حجر ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ فرقد ، ثمّ استيقظ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : هل من وضوء؟.

قال : لا ، إلّا أنّ معي إداوة نبيذ ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل هو إلّا تمر وماء «فتوضّأ منه» (٤).

__________________

(١) أخرجه الطبراني في «الكبير» (١٠ / ٧٧) من حديث ابن مسعود.

(٢) حديث شهادة الشجرة بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أخرجه أبو يعلى (١٠ / ٣٤) رقم (٥٦٦٢) وابن حبان (٢١١٠ ـ موارد) والبزار (٣ / ١٣٣ ـ ١٣٤ كشف) رقم (٢٤١١) والطبراني في «الكبير» (١٢ / ٤٣١ ـ ٤٣٢) رقم ١٣٥٨٢) من حديث ابن عمر.

وذكره الهيثمي في «المجمع» (٨ / ٢٩٥) وقال : رواه الطبراني ورجاله الصحيح ورواه أيضا أبو يعلى والبزار.

وذكره ابن حجر في «المطالب العالية» (٤ / ١٦) وعزاه إلى أبي يعلى.

وفي الباب عن عمر بن الخطاب. أخرجه أبو يعلى (١ / ١٩١) رقم (٢١٥) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٩ / ١٣) وقال : رواه البزار وأبو يعلى وإسناد أبي يعلى حسن.

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه أبو داود (١ / ٦٩) كتاب الطهارة ، باب : الوضوء بالنبيذ حديث (٨٤) والترمذي (١ / ١٤٧) أبواب الطهارة ، باب : ما جاء في الوضوء بالنبيذ حديث (٨٨) وابن ماجه (١ / ١٣٥) كتاب الطهارة ، ـ

٤٠٧

قال ابن الخطيب (١) : وطريق الجمع بين المذهبين مذهب ابن عباس ومذهب ابن مسعود من وجوه :

أحدها : لعل ما ذكره ابن عباس وقع أولا فأوحى الله تعالى إليه بهذه السورة ، ثم أمر بالخروج إليهم بعد ذلك كما روى ابن مسعود رضي الله عنهما.

وثانيها : أن بتقدير أن تكون واقعة الجن مرة واحدة إلا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما رآهم ، وما عرف أنّهم ماذا قالوا ، وأي شيء فعلوا ، فالله تعالى أوحى إليه أنه كان كذا وكذا ، وقالوا كذا.

وثالثها : أن الواقعة كانت مرة واحدة ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وسلم رآهم ، وسمع كلامهم ، وهم آمنوا به ، ثم رجعوا إلى قومهم ، قالوا لقومهم على سبيل الحكاية : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) ، وكان كذا وكذا فأوحى الله تعالى إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما قالوه لأقوامهم.

قال ابن العربي : «ابن مسعود أعرف من ابن عباس ، لأنه شاهده ، وابن عباس سمعه ، وليس الخبر كالمعاينة».

قال القرطبي (٢) : وقيل : إن الجنّ أتو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دفعتين.

أحدهما : بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود.

والثانية : بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس.

قال البيهقيّ : الذي حكاه عبد الله إنما هو في أول ما سمعت الجنّ قراءة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلمت بحاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه عبد الله بن عباس ثم أتاه داعي الجنّ مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود.

فصل في لفظ «قل»

قال ابن الخطيب : اعلم أنّ قوله تعالى : «قل» أمر لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يظهر لأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ما أوحى إليه تعالى في واقعة الجنّ ، وفيه فوائد :

أحدها : أن يعرفوا بذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث إلى الجن ، كما بعث إلى الإنس.

وثانيها : أن تعلم قريش أنّ الجنّ مع تمردهم لما سمعوا القرآن عرفوا إعجازه فآمنوا بالرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

__________________

ـ باب : الوضوء بالنبيذ حديث (٣٨٤) من طريق أبي فزارة عن ابن زيد عن ابن مسعود به.

قال الترمذي : وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا يعرف له رواية غير هذا الحديث وانظر بحث الزيلعي في نصب الراية (١ / ١٣٧) حول ضعف هذا الحديث.

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٣٥.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٤ ـ ٥.

٤٠٨

وثالثها : أن يعلم القوم أنّ الجنّ مكلفون كالإنس.

ورابعها : أن تعلم أنّ الجنّ يستمعون كلاما تفهمه من لغتنا.

وخامسها : أن يظهر المؤمن منهم بدعوى غيره من الجنّ إلى الإيمان ، وفي هذه الوجوه مصالح كثيرة إذا عرفها الناس.

فصل في بيان أصل الجن

اختلف العلماء في أصل الجنّ ، فروى الحسن البصريّ أنّ الجنّ ولد إبليس ، والإنس ولد آدم ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون ، وهم شركاء في الثّواب والعقاب ، فمن كان من هؤلاء وهؤلاء كافر فهو شيطان ، روى الضحاك عن ابن عباس أن : الجن هم ولد الجان ، وليسوا شياطين ومنهم المؤمن ومنهم الكافر ، والشياطين ولد إبليس ، لا يموتون إلّا مع إبليس ، وروي أن ذلك النفر كانوا يهودا.

وذكر الحسن أنّ منهم يهودا ونصارى ومجوسا ومشركين.

فصل في دخول الجنة الجنة

اختلفوا في دخول الجنّ الجنة على حسب الاختلاف في أصلهم ، فمن زعم أنهم من الجانّ لا من ذرية إبليس قال : يدخلون الجنّة بإيمانهم ، ومن قال : إنهم من ذرية إبليس فله فيهم قولان :

أحدهما : وهو قول الحسن : يدخلونها (١).

الثاني : وهو قول مجاهد : لا يدخلونها (٢).

فصل فيمن أنكر الجن

قال القرطبيّ (٣) : وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة : الجن ، وقالوا : إنهم بسائط ، ولا يصح طعامهم ، اجتراء على الله والقرآن والسنة ترد عليهم ، وليس في المخلوقات بسائط مركب من زوج ، إنما الواحد سبحانه وتعالى ، وغيره مركب ، ليس بواحد كيفما تصرف حاله ، وليس يمتنع أن يراهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صورهم كما يرى الملائكة وأكثر ما يتصورون هنا في صور الحيات.

ففي الحديث : «أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنصاف النّهار أن يرجع إلى أهله» الحديث.

وفيه : «فإذا حية عظيمة مطوية على الفراش فأهوى إليها بالرمح فانتظمها» وذكر الحديث.

__________________

(١) ذكره الماوردي (٦ / ١٠٩) والقرطبي (١٩ / ٥).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٦.

٤٠٩

وفي الحديث : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ لهذه البيوت عوامر فإذا رأيتم منها شيئا فحرّجوا عليها ثلاثا ، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر» (١).

وقال : «اذهبوا فادفنوا صاحبكم».

وذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة كقوله في الصحيح : «إنّ بالمدينة جنّا قد أسلموا» ، وهذا لفظ مختص بها فتختص بحكمها.

قال القرطبي : قلنا : هذا يدل على أنّ غيرها من البيوت مثلها ؛ لأنه لم يعلل بحرمة «المدينة» ؛ فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها وإنّما علل بالإسلام وذلك عام في غيرها ، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجنّ الذين لقي وكانوا من جنّ الجزيرة وعضد هذا قوله : «ونهى عن عوامر البيوت» وهذا عام وقد مضى في سورة البقرة.

قوله تعالى : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) ، أي : قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم كقوله تعالى (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ) [الأحزاب : ٣٧] ، (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) [القصص : ٢٩] (فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) [الأحقاف : ٢٩] ، ووصف القرآن ب «عجبا» إما على المبالغة ، أي : خارجا عن حد أشكاله إما في فصاحة كلامه ، وإما في بلاغة مواعظه ، أو عجبا من عظم بركته ، أو عزيزا لا يوجد مثله وإما على حذف مضاف أي ذا عجب ، وإمّا بمعنى اسم الفاعل ، أي : معجب. قوله «يهدي» صفة أخرى ، أي : هاديا.

(إِلَى الرُّشْدِ). قرأ العامة : «الرشد» بضمة وسكون ، وابن عمر (٢) : بضمها وعنه أيضا : فتحهما. وتقدم هذا في الأعراف. والمعنى : يهدي إلى الصواب.

وقيل : إلى التوحيد.

قوله تعالى : (فَآمَنَّا بِهِ) ، أي : بالقرآن ، أي : فاهتدينا به ، وصدقنا أنه من عند الله ، (وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) ، أي : لا نرجع إلى إبليس ، ولا نطيعه ، ولا نعود إلى ما كنا عليه من الإشراك ، وهذا يدل على أنّ أولئك الجنّ كانوا مشركين.

قوله : (وَأَنَّهُ تَعالى). قرأ الأخوان وابن عامر وحفص : بفتح «أنّ» ، وما عطف عليها بالواو في اثنتي عشرة كلمة ، والباقون (٣) : بالكسر.

وقرأ أبو بكر (٤) وابن عامر : «وإنّه لمّا قام عبد الله يدعوه» بالكسر ، والباقون : بالفتح.

__________________

(١) أخرجه مسلم (٤ / ١٧٥٦ ـ ١٧٥٧) كتاب السلام ، باب : قتل الحيات وغيرها حديث (١٤٠ / ٢٢٣٦) من حديث أبي سعيد.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٧٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٩.

(٣) ينظر : السبعة ٦٥٦ ، والحجة ٦ / ٣٣٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٤٠٠ ، وحجة القراءات ٧٢٧.

(٤) ينظر السابق.

٤١٠

واتفقوا على الفتح في قوله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ).

وتلخيص هذا أن «أنّ» المشددة في هذه السورة على ثلاثة أقسام :

قسم : ليس معه واو العطف ، فهذا لا خلاف بين القراء في فتحه أو كسره على حسب ما جاءت به التلاوة واقتضته العربية ، كقوله (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ) ، لا خلاف في فتحه لوقوعه موقع المصدر ، وكقوله (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) ، لا خلاف في كسره لأنه محكي بالقول.

القسم الثاني : أن يقترن بالواو ، وهو أربع عشرة كلمة ، إحداها : لا خلاف في فتحها وهو قوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) وهذا هو القسم الثاني.

والثالث : «وأنه لما قام» يكسرها ابن عامر وأبو بكر ، وفتحها الباقون. كما تقدم تحرير ذلك كله.

والاثنتا عشرة : وهي قوله (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ) [الجن : ٣] (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ) [الجن: ٤] ، (وَأَنَّا ظَنَنَّا) [الجن : ٥] ، (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ) [الجن : ٦] ، (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا) [الجن : ٧] ، (وَأَنَّا لَمَسْنَا) [الجن : ٨] ، (وَأَنَّا كُنَّا) [الجن : ٩] ، (وَأَنَّا لا نَدْرِي) [الجن : ١٠] ، (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ) [الجن : ١١] ، (وَأَنَّا ظَنَنَّا) [الجن : ١٢] ، (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا) [الجن : ١٣] ، (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ) [الجن : ١٤].

فهذا ضبطها من حيث القراءات ، وأما توجيه ذلك فاختلف الناس فيه.

فقال أبو حاتم في الفتح : هو معطوف على مرفوع «أوحي» ، فتكون كلها في موضع رفع لما لم يسم فاعله.

ورد ذلك من حيث أنّ أكثرها لا يصح دخولها تحت معمول «أوحي» ، ألا ترى أنه لو قيل «أوحي إلينا أنا لمسنا السماء ، وأنا كنا ، وأنا لا ندري وأنا منا الصالحون ، وأنا لما سمعنا الهدى ، وأنا منا المسلمون» لم يستقم معناه.

وقال مكيّ : وعطف «أن» على (آمَنَّا بِهِ) أتم في المعنى من العطف على (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) لأنّك لو عطفت «وأنا ظننا ، وأنا لما سمعنا ، وأنه كان رجال من الإنس ، وأنا لمسنا» وشبه ذلك على (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) لم يجز ؛ لأنه ليس مما أوحي إليه إنّما هو أمر أخبروا به عن أنفسهم ، والكسر في هذا أبين وعليه جماعة من القرّاء.

الثاني : أن الفتح في ذلك عطف على محل «به» من (آمَنَّا بِهِ).

قال الزمخشريّ : «كأنه قال : صدقناه وصدقنا أنه تعالى جد ربنا ، وأنه يقول سفيهنا ، وكذلك البواقي».

إلا أن مكيا ضعف هذا الوجه فقال : «والفتح في ذلك على الجمل على معنى :

٤١١

(آمَنَّا بِهِ) ، فيه بعد في المعنى ؛ لأنهم لم يخبروا أنهم آمنوا ، بأنهم لما سمعوا الهدى آمنوا به ، ولم يخبروا أنّهم آمنوا أنه كان رجال ، إنما حكى الله عنهم أنهم قالوا ذلك مخبرين به عن أنفسهم لأصحابهم ، فالكسر أولى بذلك».

وهذا الذي قاله غير لازم ، فإن المعنى على ذلك صحيح ، وقد سبق الزمخشري إلى هذا التخريج الفرّاء والزجاج ، إلا أن الفراء استشعر إشكالا وانفصل عنه ، فإنه قال : فتحت «أن» لوقوع الإيمان عليها ، وأنت تجد الإيمان يحسن في بعض ما فتح دون بعض فلا يمنع من إمضائهن على الفتح ، فإنه يحسن فيه ما يوجب فتح «أن» نحو : صدقنا ، وشهدنا ، كما قالت العرب : [الوافر]

٤٨٩٣ ـ وزجّجن الحواجب والعيونا (١)

فنصب «العيون» لإتباعها «الحواجب» ، وهي لا تزجج إنما تكحل ، فأضمر لها الكحل. انتهى فأشار إلى شيء مما ذكره وأجاب عنه.

وقال الزجاج : «لكن وجهه أن يكون محمولا على (آمَنَّا بِهِ) وصدقناه وعلمناه ، فيكون المعنى : صدقنا أنه تعالى جد ربّنا ما اتخذ صاحبة».

الثالث : أنه معطوف على الهاء في «به» ، أي : آمنا به وبأنه تعالى جد ربنا ، وبأنه كان يقول ـ إلى آخره ـ وهو مذهب الكوفيين.

وهو ، وإن كان قويا من حيث المعنى ، إلا أنه ممنوع من حيث الصناعة لأنه لا يعطف على الضمير المجرور ، إلا بإعادة الجار.

وتقدم تحرير هذين القولين في سورة «البقرة» عند قوله : (وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) [البقرة : ٢١٧].

على أن مكيا قد قوى هذا المدرك ، وهو حسن جدا ، فقال : هو يعني العطف على الضمير المجرور دون إعادة الجار في «أن» أجود منه في غيرها لكثرة حذف حرف الجر «إلى» مع «أن».

ووجه الكسر : العطف على «إن» في قوله : (إِنَّا سَمِعْنا) فيكون الجميع معمولا للقول فقالوا : (إِنَّا سَمِعْنا) ، وقالوا : «إنّه تعالى جدّ ربّنا» إلى آخرها.

وقال بعضهم : الجملتان من قوله تعالى : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ) ، (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا) معترضتان بين قول الجن ، وهما من كلام الباري تعالى.

والظاهر أنه من كلامهم قاله بعضهم لبعض.

__________________

(١) تقدم.

٤١٢

ووجه الكسر والفتح في قوله : (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ) ما تقدم.

ووجه إجماعهم على فتح (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) وجهان :

أحدهما : أنه معطوف على (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) فيكون موحى أيضا.

والثاني : أنه على حذف حرف الجر ، وذلك الحرف متعلق بفعل النهي ، أي : فلا تدعوا مع الله أحدا ، لأن المساجد لله. ذكرهما أبو البقاء.

وقال الزمخشريّ : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) ـ بالفتح ـ لأنه فاعل «أوحي» ، و (إِنَّا سَمِعْنا) ، بالكسر لأنه مبتدأ ، محكي بعد القول ، ثمّ يحمل عليهما البواقي ، فما كان من الوحي فتح ، وما كان من قول الجنّ كسر ، وكلهم من قولهم الثنتين الأخريين وهما : («وَأَنَّ الْمَساجِدَ) ، (وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ») ، ومن فتح كلهن ، فعطفا على محلّ الجار والمجرور في «آمنّا به» ، أي : صدقناه وصدقنا به.

والهاء في (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ) ، وأنه تعالى وما بعد ذلك ضمير الأمر والشأن ، وما بعده خبر «أن».

قوله : (جَدُّ رَبِّنا). قرأ العامة : جد ربنا بالفتح ل «ربّنا».

والمراد به هنا العظمة.

وقيل : قدرته وأمره.

وقيل : ذكره.

والجدّ أيضا : الحظّ ، ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» والجدّ أيضا : أبو الأب ، والجدّ أيضا ـ بالكسر ـ ضد التواني في الأمر.

وقرأ عكرمة (١) : بضم ياء «ربّنا» وتنوين «جدّ» على أن يكون «ربنا» بدلا من «جد».

والجد : العظيم. كأنه قيل : وأنه تعالى عظم ربنا ، فأبدل المعرفة من النكرة.

وعنه أيضا (٢) : «جدا» على التمييز و «ربنا» فاعل ب «تعالى» وهو منقول من الفاعلية ؛ إذ التقدير : (جَدُّ رَبِّنا) ثم صار تعالى ربنا جدا أي عظمة نحو تصبب زيد عرقا أي عرق زيد ، وعنه أيضا وعن قتادة كذلك إلا أنه بكسر الجيم ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه نعت لمصدر محذوف ، وربنا فاعل ب «تعالى» ، والتقدير : تعالى ربّنا تعاليا جدا ، أي : حقا لا باطلا.

والجدّ : ـ بكسر الجيم ـ ضد الهزل.

__________________

(١) ينظر المحرر الوجيز ٥ / ٣٧٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤١ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٠.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٤١ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٠.

٤١٣

والثاني : أنه منصوب على الحال ، أي : تعالى ربنا حقيقة وتمكنا ، قاله ابن عطية.

وقرأ حميد (١) بن قيس : «جد ربنا» ـ بضم الجيم ـ مضافا ل «ربّنا» ، وهو بمعنى العظيم حكاه سيبويه.

وهو في الأصل من إضافة الصفة لموصوفها ، إذ الأصل : ربنا العظيم ، نحو : «جرد قطيفة» الأصل : قطيفة جرد ، وهو مؤول عند البصريين.

وقرأ ابن السميقع (٢) : «جدا ربنا» بألف بعد الدال مضافا ل «ربّنا».

والجدا والجدوى : النفع والعطاء ، أي : تعالى عطاء ربّنا ونفعه.

فصل في معنى «الجد»

قال القرطبيّ (٣) : الجد في اللغة : العظمة والجلال ، ومنه قول أنس ـ رضي الله عنه ـ : «كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا» أي : عظم وجل فمعنى (جَدُّ رَبِّنا) أي : عظمته وجلاله ، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة (٤) ، وعن مجاهد أيضا : ذكره (٥).

وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا : غناه (٦).

ومنه قيل للحظ جد ورجل مجدود : أي : محظوظ ، وفي الحديث : «ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» ، قال أبو عبيد والخليل : أي ذا الغنى منك الغنى ، إنما تنفعه الطاعة.

وقال ابن عباس رضي الله عنه : قدرته (٧) وقال الضحاك : فعله (٨).

وقال القرظي والضحاك : آلاؤه ونعماؤه على خلقه (٩).

وقال أبو عبيد والأخفش : ملكه وسلطانه.

وقال السدي : أمره (١٠).

وقال سعيد بن جبير : (وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا) ، أي : تعالى ربنا.

__________________

(١) ينظر السابق.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٤١ ، والقرطبي ١٩ / ٧.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٧.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٥٩ ـ ٢٦٠) عن مجاهد وعكرمة وقتادة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٠) عن عكرمة وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٠) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٦٠) عن الحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٠) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٧) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٠) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٨) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١١٠).

(٩) ينظر المصدر السابق وتفسير القرطبي (١٩ / ٧).

(١٠) ينظر المصدر السابق.

٤١٤

وقيل : إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أبو الأب ، ويكون هذا من الجنّ.

وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع : ليس لله تعالى جد وإنما قالته العرب للجهالة فلا يوحدونه (١).

قال القشيريّ : ويجوز إطلاق لفظ الجدّ في حق الله تعالى إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن ، غير أنه لفظ موهم ، فتجنّبه أولى.

قال القرطبيّ (٢) : «ومعنى الآية : وأنه تعالى جدّ ربّنا أن يتخذ ولدا أو صاحبة للاستئناس بهما ، أو الحاجة إليهما ، والربّ يتعالى عن ذلك كما يتعالى عن الأنداد والنظراء».

وقوله عزوجل : (مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) ، مستأنف ، فيه تقرير لتعالي جده.

قوله : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً).

الهاء في «أنه» للأمر أو الحديث ، و «سفيهنا» يجوز أن يكون اسم «كان» و «يقول» الخبر ، ولو كان مثل هذه الجملة غير واقعة خبرا ل «كان» لامتنع تقديم الخبر حينئذ ، نحو «سفيهنا يقول» ، لو قلت : (يَقُولُ سَفِيهُنا) على التقديم والتأخير ، لم يجز فيه والفرق أنه في غير باب «كان» يلتبس بالفعل والفاعل ، وفي باب «كان» يؤمن ذلك.

ويجوز أن يكون «سفيهنا» فاعل «يقول» والجملة خبر «كان» واسمها ضمير الأمر مستتر فيها ، وقد تقدم هذا في قوله : (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ) [الأعراف : ١٣٧] وقوله تعالى : (شَطَطاً) تقدم في سورة الكهف (٣) مثله.

قال القرطبيّ (٤) : «ويجوز أن يكون «كان» زائدة ، والسفيه : هو إبليس ، في قول مجاهد وابن جريج وقتادة. ورواه أبو بردة عن أبي موسى عن أبيه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥) وقيل : المشركون من الجنّ.

قال قتادة : عصاه سفيه الجن كما عصاه سفيه الإنس (٦) والشطط والإشطاط : الغلو في الكفر.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٧.

(٣) آية رقم ١٤.

(٤) الجامع لأحكام القرآن (١٩ / ٨).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٦٢) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٠) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

أما حديث أبي موسى فقد ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٠) وقال : أخرجه الديلمي وابن مردويه بسند واه.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٦٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٠) وعزاه إلى عبد بن حميد.

٤١٥

قال أبو مالك : هو الجور وقال الكلبي : هو الكذب وأصله البعد ويعبر به عن الجور لبعده عن العدل وعن الكذب لبعده عن الصدق (١) ؛ قال الشاعر : [الطويل]

٤٨٩٤ ـ بأيّة حال حكّموا فيك فاشتطّوا

وما ذاك إلّا حيث يمّمك الوخط (٢)

قوله : (وَأَنَّا ظَنَنَّا) أي : حسبنا (أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً).

«أن» مخففة ، واسمها مضمر والجملة المنفية خبرها ، والفاعل بينهما هنا حرف النفي ، و «كذبا» مفعول به ، أو نعت مصدر محذوف ، أي : قولا كذبا.

وقرأ الحسن (٣) والجحدري وأبو عبد الرحمن ويعقوب : «تقوّل» ـ بفتح القاف والواو المشددة ـ وهو مضارع «تقوّل» أي : كذب ، والأصل : تتقوّل ، فحذف إحدى التاءين ، نحو «تذكرون». وانتصب «كذبا» في هذه القراءة على المصدر ؛ لأن التقول كذب ، فهو نحو قولهم : «قعدت جلوسا».

ومعنى الآية : وأنّا حسبنا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا ، فلذلك صدقناهم في أن لله صاحبة وولدا حتى سمعنا القرآن وتبينا به الحق.

وقيل : انقطع الإخبار عن الجنّ ـ هاهنا ـ فقال الله تعالى جل ذكره لا إله إلا هو ـ : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ) فمن فتح ، وجعله من قول الجنّ ردّها إلى قوله : (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) ، ومن كسرها جعلها من قول الله تعالى.

والمراد به ما كانوا يفعلونه ، من قول الرجل إذا نزل بواد : أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه ، فيبيت في جواره حتى يصبح ، قاله الحسن وابن (٤) زيد وغيرهما.

وقيل : كانوا في الجاهلية إذ أقحطوا ، بعثوا رائدهم ، فإذا وجد مكانا فيه كلأ وماء رجع إلى أهله فسار بهم حتى إذا انتهوا إلى تلك الأرض نادوا نعوذ بك بربّ هذا الوادي أن تصيبنا فيه آفة ، يعنون من الجن ، فإن لم يفزعهم أحد نزلوا ، وإن أفزعهم الجن رجعوا.

قال مقاتل : أول من تعوذ بالجنّ قوم من أهل اليمن ، ثم من بني حنيفة ، ثم فشا ذلك في العرب ، فلّما جاء الإسلام عاذوا بالله وتركوهم (٥).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٨).

(٢) ينظر : القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٨).

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٨٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤١ ، والدر المصون ٦ / ٣٩١.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٦٣) عن الحسن ومجاهد وابن زيد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٢) عن الحسن وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر كما ذكره عن مجاهد وعزاه أيضا إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٨).

٤١٦

وقال كردم بن أبي السائب : خرجت مع أبي إلى المدينة أول ما ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فآواني المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتصف الليل جاء الذئب ، فحمل حملا من الغنم ، فقال الراعي : يا عامر الوادي جارك الله ، فنادى مناد : يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة ، فأنزل الله تعالى على رسوله السيد الكامل المكمل سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة : «وأنّه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجنّ فزادوهم رهقا» ، أي : زاد الجنّ الإنس رهقا ، أي: خطيئة ، وإنما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة رضي الله عنهم (١).

والرّهق : الإثم في كلام العرب وغشيان المحارم ، ورجل رهق إذا كان كذلك ، ومنه قوله : (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) [يونس : ٢٧] ؛ وقال الأعشى : [البسيط]

٤٨٩٥ ـ لا شيء ينفعني من دون رؤيتها

هل يشتفي عاشق ما لم يصب رهقا (٢)

يعني إثما ، ورجل مرهق ، أي : يغشاه السائلون.

قال الواحديّ : الرّهق : غشيان الشيء ، ومنه قوله تعالى : (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ).

وأضيفت الزيادة إلى الجن إذ كانوا سببا لها.

وقال مجاهد أيضا : «فزادوهم» أي : أن الإنس زادوا الجنّ طغيانا بهذا التعوذ ، حتى قالت الجنّ : «سدنا الإنس والجن» (٣).

وقال قتادة أيضا ، وأبو العالية والربيع وابن زيد : ازداد الإنس بهذا فرقا وخوفا من الجن(٤).

وقال سعيد بن جبير : كفرا.

ولا يخفى أنّ الاستعاذة بالجنّ دون الاستعاذة بالله شرك وكفر.

وقيل : لا يطلق لفظ الرجال على الجنّ ، فالمعنى : وأنه كان رجال من الإنس يعوذون من شرّ الجنّ برجال من الإنس وكان الرجل من الإنس يقول مثلا : أعوذ بحذيفة بن بدر من جنّ هذا الوادي.

قال القشيريّ : وفي هذا تحكم إذ لا يبعد إطلاق لفظ الرّجال على الجن.

وقوله : (مِنَ الْإِنْسِ) صفة ل «رجال» وكذلك قوله (مِنَ الْجِنِّ).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٦٣) عن قتادة وابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٢) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٢) ينظر : القرطبي ١٩ / ٨ ، والبحر ٨ / ٣٤١ ، وروح المعاني ٢٩ / ١٠٦.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٢) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٦٤) عن الربيع بن أنس وابن زيد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٣) عن الربيع بن أنس وعزاه إلى عبد بن حميد.

٤١٧

قوله تعالى : (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً).

الكلام في (أَنْ لَنْ) كالكلام في الأول ، و «أن» وما في خبرها ، سادة مسدّ مفعولي الظن والمسألة من باب الإعمال ، لأن «ظنّوا» يطلب مفعولين ، و «ظننتم» كذلك ، وهو من إعمال الثاني للحذف من الأول.

والضمير في (أَنَّهُمْ ظَنُّوا) للإنس ، وفي «ظننتم» ، للجن ، ويجوز العكس.

فصل في الخطاب في الآية

هذا من قول الله تعالى للإنس ، أي : وإن الجن ظنوا أن لن يبعث الله الخلق كما ظننتم.

قال الكلبيّ : ظنت الجنّ كما ظنت الإنس أن لن يبعث الله رسولا من خلقه يقيم به الحجة عليهم وكل هذا توكيد للحجة على قريش ، أي : إذا آمن هؤلاء الجن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأنتم أحق بذلك (١).

قوله : (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ). هذا من قول الجنّ ، أي : طلبنا خبرها كما جرت عادتنا (فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً) ، أي ملئت حفظا يعني : الملائكة.

فاللّمس : المس ، فاستعير للطلب ، لأن الماس متقرب ، يقال : لمسه والتمسه ونحوه الجس يقال : جسوه بأعينهم وتجسسوه.

والمعنى : طلبنا بلوغ السّماء واستماع كلام أهلها.

قوله : (فَوَجَدْناها) ، فيها وجهان :

أظهرهما : أنها متعدية لواحد ؛ لأن معناها : أصبنا وصادفنا ، وعلى هذا فالجملة من قوله «ملئت» في موضع نصب على الحال على إضمار «قد».

والثاني أنها متعدية لاثنين ، فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني.

و «حرسا» نصب على التمييز نحو «امتلأ الإناء ماء».

والحرس : اسم جمع ل «حارس» نحو «خدم» ل «خادم» و «غيب» لغائب ، ويجمع تكسيرا على «أحراس» ؛ كقول امرىء القيس : [الطويل]

٤٨٩٦ ـ تجاوزت أحراسا وأهوال معشر

حراص عليّ لو يسرّون مقتلي (٢)

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٦٥) عن الكلبي.

وذكره القرطبي في «تفسيره» (١٩ / ٩).

(٢) ينظر ديوانه ص (١٣) ، وجمهرة اللغة ص ٧٣٦ ، وخزانة الأدب ١١ / ٢٣٨ ، ٢٣٩ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٥١ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٦٥ ، ووصف المباني ص ٢٩٢ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٢.

٤١٨

والحارس : الحافظ الرقيب ، والمصدر الحراسة ، و «شديدا» صفة ل «حرس» على اللفظ ؛ كقوله : [الرجز]

٤٨٩٧ ـ أخشى رجيلا أو ركيبا عاديا (١)

ولو جاء على المعنى لقيل : «شداد» بالجمع ، لأن المعنى : ملئت ملائكة شداد ، كقولك السلف الصالح ، يعني : الصالحين.

قال القرطبيّ (٢) : «ويجوز أن يكون حرسا مصدرا على معنى : حرست حراسة شديدة».

قوله : «وشهبا». جمع «شهاب» ك «كتاب وكتب».

وقيل : المراد النجوم ، أو الحرس أنفسهم ، وهو انقضاض الكواكب المحرقة لهم عن استراقة السمع ، وقد تقدم في سورة «الحجر ، والصافات».

وإنّما عطف بعض الصفات على بعض عند تغاير اللفظ ، كقوله : [الطويل]

٤٨٩٨ ـ ............

وهند أتى من دونها النّأي والبعد (٣)

وقرأ الأعرج (٤) : «مليت» بياء صريحة دون همزة.

قوله : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ) ، المقاعد : جمع «مقعد» اسم مكان ، والضمير في «منها» ، أي : من السماء ، والمقاعد مواضع يقعد في مثلها لاستماع الأخبار من السماء ، وذلك أنّ مردة الجن كانوا يفعلون ذلك ليستمعوا من الملائكة أخبار السماء فيلقوها إلى الكهنة فحرسها الله ـ تعالى ـ حين بعث رسوله بالشهب المحرقة ، فقالت الجن حينئذ : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) يعني بالشهاب الكواكب المحرقة.

قوله «الآن». هو ظرف حالي ، واستعير هنا للاستقبال ، كقوله الشاعر : [الوافر]

٤٨٩٩ ـ ............

سأسعى الآن إذ بلغت إناها (٥)

فاقترن بحرف التنفيس ، وقد تقدم هذا في البقرة عند قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ)(٦).

__________________

(١) صدر بيت لعبد يغوث بن وقاص الحارثي ، وعجزه :

والذئب أخشاه وكلبا عاويا

ينظر اللسان (رجل) والكشاف ٤ / ١٢٤ ، والبحر ٨ / ٣٤٢ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٢.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٩ / ٩.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٨١ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤٢ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٢.

(٥) عجز بيت وصدره :

فإني لست خاذلكم ولكن

ينظر الدسوقي على المغني ١ / ١٤٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٤٢.

(٦) آية ١٨٧.

٤١٩

و «رصدا» إما مفعول له ، وإما صفة له «شهابا» أي «ذا رصد» وجعل الزمخشري : «الرصد» اسم جمع ك «حرس» ، فقال : والرصد : اسم جمع للراصد ك «حرس» على معنى: ذوي شهاب راصدين بالرجم وهم الملائكة ويجوز أن يكون صفة ل «شهاب» بمعنى الراصد ، أو كقوله : [الوافر]

٤٩٠٠ ـ ............

 ... ومعى جياعا(١)

فصل في بيان متى كان قذف الشياطين

اختلفوا : هل كانت الشياطين تقذف قبل البعث أو كان ذلك أمرا حدث لمبعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم؟.

فقال قوم : لم تحرس السماء في زمن الفترة فيما بين عيسى ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ خمسمائة عام ، وإنّما كان من أجل بعثة النبي فلما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعوا من السموات كلّها وحرست بالملائكة والشهب ، قاله الكلبيّ ، ورواه عطية عن ابن عباس ، ذكره البيهقي.

وقال عبد الله بن عمرو : لما كان اليوم الذي نبّىء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم منعت الشياطين ورموا بالشّهب (٢).

وقال عبد الملك بن سابور : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ، ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ فلما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرست السماء ورميت الشياطين بالشهب ، ومنعت من الدنو من السماء.

قال نافع بن جبير : كانت الشياطين في الفترة تستمع فلا ترى ، فلما بعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم رميت بالشهب ، ونحوه عن أبي بن كعب قال : لم يرم بنجم ، منذ رفع عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى نبّىء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فرمي بها (٣).

وقيل : كان ذلك قبل البعث ، وإنّما زادت بمبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إنذارا بحاله.

وهو معنى قوله : «قد ملئت» ، أي : زيد في حرسها.

وقال أوس بن حجر ـ وهو جاهلي ـ : [الكامل]

٤٩٠١ ـ فانقضّ كالدّرّيّ يتبعه

نقع يثور تخاله طنبا (٤)

__________________

(١) جزء من عجز بيت للقطامي وتمام البيت :

كأن نسوع رحلي حين ضمت

حوالب غرزا ...

ينظر اللسان (غرز) ، والكشاف ٤ / ٦٢٥ وفيه «كأن قتود» بدل «كأن نسوع».

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٤) وعزاه إلى الواقدي وأبي نعيم في «الدلائل».

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٣٤) وعزاه إلى الواقدي وأبي نعيم في «الدلائل».

(٤) ينظر : القرطبي ١٩ / ١٠ ، والكشاف ٤ / ٦٢٦ ، والبحر ٨ / ٣٤٣ ، وروح المعاني ٢٩ / ١٠٩.

٤٢٠