اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

متوشلخ بن أخنوخ ، وهو إدريس بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه الصلاة والسلام.

قال وهب : وكلهم مؤمنون ، أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة.

وقال ابن عبّاس : أربعين سنة (١).

وقال عبد الله بن شداد : بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة.

قوله : (أَنْ أَنْذِرْ).

يجوز أن تكون المفسرة ، فلا يكون لها موضع من الإعراب ؛ لأن في الإرسال معنى الأمر فلا حاجة إلى إضمار الباء ، ويجوز أن تكون المصدرية ، أي : أرسلناه بالإنذار.

قال الزمخشريّ : والمعنى : أرسلناه بأن قلنا له : أنذر ، أي : أرسلناه بالأمر بالإنذار. انتهى.

وهذا الذي قدره حسن جدّا ، وهو جواب عن سؤال تقدّم في هذا الكتاب ، وهو قولهم : فإنّ «أن» المصدرية يجوز أن توصل بالأمر مشكل ؛ لأنه ينسبك منها وما بعدها مصدر ، وحينئذ فتفوت الدلالة على الأمر ؛ ألا ترى أنّك إذا قدّرت «كتبت إليهم بأن قم كتبت إليه

القيام» تفوت بالدلالة على الأمر حال التصريح بالمصدر ، فينبغي أن يقدر كما قاله الزمخشريّ ، أي : كتبت إليه بأن قلت له : قم ، أي : كتبت إليه بالأمر بالقيام.

وقال القرطبي (٢) : «أي : بأن أنذر قومك ، فموضع «أن» نصب بإسقاط الخافض».

وقرأ عبد الله (٣) : (أَنْذِرْ قَوْمَكَ) بغير «أن» بمعنى : «قلنا له : أنذر قومك». وقد تقدم معنى الإنذار في سورة «البقرة».

وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

قال ابن عبّاس : يعني عذاب النّار في الآخرة (٤).

وقال الكلبيّ : هو الطوفان (٥).

وقيل : أنذرهم بالعذاب على الجملة إن لم يؤمنوا ، فكان يدعو قومه وينذرهم ، فلا يجيبونه كما تقدّم.

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ، أي : مخوف مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٩٣).

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٩٣.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ١٦٥ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٧٢.

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٩٨) والقرطبي (١٨ / ١٩٣).

(٥) ينظر المصدر السابق.

٣٨١

قوله : (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) ، إما أن تكون تفسيرية ل «نذير» أو مصدرية ، والكلام فيها كالكلام في أختها كما تقدم ، والمعنى : وحّدوا الله واتّقوه ، أي : خافوه (وَأَطِيعُونِ) فيما آمركم به ؛ فإنّي رسول الله إليكم.

(يَغْفِرْ لَكُمْ) جزم «يغفر» لجواب الأمر.

قوله : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ). في «من» هذه أوجه :

أحدها : أنّها تبعيضية.

الثاني : أنّها لابتداء الغاية.

الثالث : أنّها لبيان الجنس ، وهو مردود لعدم تقدم ما تبينه.

الرابع : أنّها مزيدة. قال ابن عطية : وهو مذهب كوفيّ.

قال شهاب الدين (١) : ليس مذهبهم ذلك ؛ لأنهم يشترطون تنكير مجرورها ، ولا يشترطون غيره. والأخفش لا يشترط شيئا ، فزيادتها هنا ماش على قوله لا على قولهم.

قال القرطبي (٢) : وقيل : لا يصح كونها زائدة ؛ لأن «من» لا تزاد في الواجب ، وإنما هي هنا للتبعيض ، وهو بعض الذنوب ، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين.

وقال زيد بن أسلم : المعنى يخرجكم من ذنوبكم (٣).

وقال ابن شجرة : المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها.

قوله : (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ).

قال الزمخشريّ : فإن قلت : كيف قال : «يؤخّركم» مع إخباره بامتناع تأخيره؟.

قلت : قضي الله أنّ قوم نوح إن آمنوا عمّرهم ألف سنة ، وإن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة ، قيل لهم : إن آمنتم أخّرتم إلى الأجل الأطول ، ثم أخبرهم أنه إذا جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخّر انتهى.

وقد تعلّق بهذه الآية من يقول بالأجلين وتقدم جوابه.

وقال ابن عبّاس : أي : ينسىء في أعماركم (٤) ، ومعناه : أنّ الله ـ تعالى ـ كان قضى قبل خلقهم ، إن هم آمنوا بارك في أعمارهم وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب.

وقال مقاتل : يؤخركم إلى منتهى أعماركم في عافية فلا يعاقبكم بالقحط وغيره ، فالمعنى على هذا : يؤخركم من العقوبات والشدائد إلى آجالكم (٥).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٨٢.

(٢) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٩٤.

(٣) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٩٨) والقرطبي (١٨ / ١٩٣).

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٩٤).

(٥) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١٩٤).

٣٨٢

وقال الزجاج : «أي يؤخركم عن العذاب ، فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب».

وعلى هذا قيل : أجل مسمى عندكم تعرفونه لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا ، ذكره الفراء. وعلى القول الأول أجل مسمى عند الله.

قوله : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) ، أي : إذا جاء الموت لا يؤخّر بعذاب كان ، أو بغير عذاب ، وأضاف الأجل إليه سبحانه ؛ لأنه الذي أثبته ، وقد يضاف إلى القوم كقوله تعالى : (إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) [يونس : ٤٩] ؛ لأنه مضروب لهم ، و «لو» بمعنى «إن» أي: إن كنتم تعلمون.

وقال الحسن : معناه : لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخّر (١).

وعلى هذا يكون جواب «لو» محذوفا تقديره : لبادرتم إلى ما أمركم به أو لعلمتم كما قال الحسن.

قوله : (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) ، وهذان ظرفان ل «دعوت» ، والمراد : الإخبار باتصال الدعاء وأنّه لا يفتر عن ذلك وقيل : معناه سرا وجهرا «فلم يزدهم دعائي إلّا فرارا» ، أي : تباعدا من الإيمان ، وهذا استثناء مفرغ وهو مفعول ثان.

وقراءة العامة : بفتح الياء من «دعائي».

وأسكنها الكوفيّون ، ويعقوب والدوري عن أبي عمرو (٢).

قوله : (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ) ، أي : إلى سبب المغفرة ، وهي الإيمان بك والطاعة لك (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) لئلّا يسمعوا دعائي (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي : غطّوا بها وجوههم لئلّا يرون.

قال ابن عبّاس : جعلوا ثيابهم على رءوسهم لئلّا يسمعوا كلامي ، فاستغشاء الثّياب إذن زيادة في سدّ الآذان حتى لا يسمعوا ، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت ، أو ليعرفوه إعراضهم عنه(٣).

وقيل : هو كناية عن العداوة ، يقال : لبس فلان ثياب العداوة «وأصرّوا» على الكفر فلم يتوبوا ، «واستكبروا» عن قبول الحق ، وهو قولهم : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١].

قوله : «لتغفر» ، يجوز أن تكون للتعليل ، والمدعو إليه محذوف ، أي : دعوتهم

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٤٧) عن مجاهد بمعناه. وذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٩٤) عن الحسن.

(٢) ينظر السبعة ٦٥٢ ، والحجة ٦ / ٣٢٥ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٩٥.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢٤) وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.

٣٨٣

للإيمان بك لأجل مغفرتك لهم ، وأن تكون لام التّعدية ، ويكون قد عبّر عن السبب بالمسبب ، الذي هو حظهم ، والأصل دعوتهم للتوبة التي هي سبب في الغفران.

و «جعلوا» ، هو العامل في «كلّما» وهو خبر «إنّي».

قوله : «جهارا» ، يجوز أن تكون مصدرا من المعنى ؛ لأنّ المعنى يكون جهارا وغيره ، فهو من باب «قعد القرفصاء» ، وأن يكون المراد ب «دعوتهم» : جاهرتهم. وأن يكون نعت مصدر محذوف أي : دعاء جهارا.

وأن يكون مصدرا في موضع الحال ، أي : مجاهرا ، أو ذا جهار ، أو جعل نفس المصدر مبالغة.

قال الزمخشريّ : «فإن قلت : ذكر أنه دعاهم ليلا ونهارا ، ثم دعاهم جهارا ، ثمّ دعاهم في السرّ والعلن فيجب أن يكون ثلاث دعوات مختلفات ، حتى يصح العطف.

قلت : قد فعل ـ عليه‌السلام ـ كما يفعل الذي يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر في الابتداء بالأهون ، والترقي إلى الأشدّ فالأشدّ ، فافتتح في المناصحة بالسرّ فلما لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة ، فلمّا لم يقبلوا ثلّث بالجمع بين السرّ والإعلان ، ومعنى «ثمّ» للدلالة على تباعد الأحوال ؛ لأن الجهاد إذا غلظ من الإسرار ، والجمع بين الأمرين ، أغلظ من إفراد أحدهما».

وقال أبو حيان (١) : «وتكرر كثيرا له أنّ «ثمّ» للاستبعاد ، ولا نعلمه لغيره».

وقوله : «استكبارا». قال القرطبيّ (٢) : تفخيم.

فصل في معنى الآية

معنى : «جهارا» ، أي : مظهرا لهم الدعوة ، وهو منصوب ب «دعوتهم» بنصب المصدر.

(ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً).

أي : لم أبق مجهودا.

وقال مجاهد ـ رضي الله عنه ـ : معنى «أعلنت» صحت ، (وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) بالدعاء عن بعضهم من بعض (٣).

وقيل : (أَسْرَرْتُ لَهُمْ) أتيتهم في منازلهم وكلّ هذا من نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ مبالغة في الدعاء ، وتلطف في الاستدعاء.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٣٩.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٩٤.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٤٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢٤) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

٣٨٤

وفتح الياء من (إِنِّي أَعْلَنْتُ)(١) ، الحرميون وأبو عمرو ، وأسكنها الباقون.

قوله : (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) ، أي : سلوه المغفرة لذنوبكم بإخلاص الإيمان (إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) وهذا منه ـ تعالى ـ ترغيب في التوبة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «الاستغفار ممحاة للذنوب».

قوله : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً). أي : يرسل ماء السماء ، ففيه إضمار.

وقيل : السماء : المطر ، أي يرسل المطر ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٤٨٧٨ ـ إذا نزل السّماء بأرض قوم

رعيناه وإن كانوا غضابا (٢)

و «مدرارا» يجوز أن يكون حالا من «السّماء». ولم يؤنث ؛ لأن «مفعالا» لا يؤنث ، تقول : «امرأة مئناث ، ومذكار» ولا يؤنث بالتاء إلا نادرا ، وحينئذ يستوي فيه المذكر والمؤنث ، فتقول رجل مخدامة ، ومطرابة ، وامرأة مخدامة ومطرابة ، وأن يكون نعتا لمصدر محذوف ، أي : إرسالا مدرارا. وتقدم الكلام عليه في الأنعام (٣).

وجزم «يرسل» جوابا للأمر ، و «مدرارا» ذا غيث كثير.

فصل في حكاية قوم نوح

قال مقاتل : لما كذّبوا نوحا ـ عليه الصلاة والسلام ـ زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر ، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة ، فهلكت مواشيهم وزروعهم فصاروا إلى نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ واستغاثوا به ، فقال : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً) ، أي : لمن أناب إليه ، ثم رغبهم في الإيمان فقال : (يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً)(٤).

قال قتادة : علم نبيّ الله أنهم أهل حرص على الدنيا ، فقال : هلموا إلى طاعة الله ، فإنّ في طاعة الله درك الدنيا والآخرة (٥).

فصل في استنزال الرزق بالاستغفار

في هذه الآية والتي قبلها في «هود» دليل على أنّ الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار قال الشعبيّ : خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع فأمطروا فقالوا : ما رأيناك استسقيت فقال : لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر ، ثم قرأ : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ عَلَيْكُمْ مِدْراراً).

__________________

(١) ينظر : القرطبي (١٨ / ١٩٥)

(٢) تقدم.

(٣) آية رقم ٦.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٩٥).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٤٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢٤) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

٣٨٥

قال ابن الأثير : المجاديح واحدها «مجدح» والياء زائدة للإشباع ، والقياس أن يكون واحدها مجداح ، فأما مجدح فجمعه «مجادح» ، والمجدح : نجم من النجوم.

قيل : هو الدبران.

وقيل : هو ثلاثة كواكب ، كالأثافي تشبيها له بالمجدح ، الذي له ثلاث شعب ، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر ، فجعل الاستغفار مشبها بالأنواء ، مخاطبة لهم بما يعرفونه لا قولا بالأنواء ، وجاء بلفظ الجمع ؛ لأنه أراد الأنواء جميعها التي يزعمون أن من شأنها المطر.

وشكى رجل إلى الحسن الجدوبة ، فقال له : استغفر الله ، وشكى آخر إليه الفقر ، فقال له : استغفر الله ، وقال له آخر : ادع الله أن يرزقني ولدا ، فقال له : استغفر الله ، وشكى إليه آخر جفاف بساتينه فقال له : استغفر الله ، فقلنا له في ذلك ، فقال ما قلت من عندي شيئا ، إنّ الله تعالى يقول في سورة «نوح» : (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً).

فإن قيل : إنّ نوحا ـ عليه الصلاة والسلام ـ أمر الكفار أولا بالعبادة ، والطّاعة ، فأيّ فائدة في أن أمرهم بعد ذلك بالاستغفار.

فالجواب (١) : لمّا أمرهم بالعبادة قالوا له : إن كان الدين الذي كنّا عليه حقا ، فلم تأمرنا بتركه ، وإن كان باطلا ، فكيف يقبلنا بعد أن عصيناه ، فقال نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ : إنكم وإن كنتم قد عصيتموه ولكن استغفروا من تلك الذنوب فإنّه سبحانه كان غفارا.

فإن قيل : فلم قيل : إنه كان غفارا ، ولم يقل : إنّه غفار؟.

فالجواب : كأنه يقول : لا تظنوا أن غفرانه إنما حدث الآن بل هو أبدا هكذا عادته أنه غفار في حق من استغفر.

قوله : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً).

قيل : الرجاء هنا بمعنى الخوف ، أي : ما لكم لا تخافون لله عظمة ، وقدرة على أحدكم بالعقوبة ، أي : أيّ عذر لكم في ترك الخوف من الله ؛ قال الهذليّ : [الطويل]

٤٨٧٩ ـ إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها

 ........... (٢)

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٢٢.

(٢) صدر بيت لأبي ذؤيب الهذلي وعجزه :

وخالفها في بيت نوب عواسل

ينظر ديوانه ١٤٣٨ ، ومجاز القرآن ١ / ٢٧٥ ، ٢ / ٧٣ وفيه (نوب عوامل) بدل من (نوب عواسل) وجمهرة الأشعار ٩ ، والطبري ١١ / ١٥٦.

٣٨٦

وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء بن أبي رباح : ما لكم لا ترجون لله ثوابا ، ولا تخافون له عقابا (١).

وقال سعيد بن جبير عن ابن عبّاس : (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ) ، لا تخشون لله عقابا وترجون منه ثوابا (٢).

وقال الوالبي والعوفي عنه : ما لكم لا تعلمون لله عظمة.

وقيل : ما لكم لا تعتقدون لله عظمة.

وقال ابن عبّاس ومجاهد : ما لكم لا ترون لله عظمة (٣).

قال قطرب : هذه لغة حجازية ، وهذيل وخزاعة ومضر يقولون : لم أرج ، أي : لم أبال.

قوله : «وقارا» ، يجوز أن يكون مفعولا به على معان ، منها : ما لكم لا تأملون له توقيرا ، أي : تعظيما.

قال الزمخشريّ : والمعنى ما لكم لا تكونون على حال ، تأملون فيها تعظيم الله إيّاكم في دار الثواب «ولله» بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صلته. انتهى.

أي : لو تأخر «لله» عن «وقارا» لكان متعلقا به ، فيكون التوقير منهم لله تعالى وهو عكس المعنى الذي قصده ، ومنها : لا تخافون لله حلما وترك معاجلة بالعقاب فتؤمنوا.

ومنها : لا تخافون لله عظمة ، وعلى الأول يكون الرجاء على بابه ، وقد تقدم أن استعماله بمعنى الخوف مجاز ومشترك.

وأن يكون حالا من فاعل «ترجون» ، أي : موقرين الله تعالى ، أي : تعظمونه ، ف «لله» على هذا متعلق بمحذوف على أنه حال من «وقارا» أو تكون اللام زائدة في المفعول به ، وحسنه هنا أمران : كون العامل فرعا ، وكون المعمول مقدما ، و «و (لا تَرْجُونَ») حال.

وقد تقدم نظيره في المائدة (٤).

والوقار : العظمة ، والتوقير التعظيم ، ومنه قوله تعالى (وَتُوَقِّرُوهُ) [الفتح : ٩].

وقال قتادة : ما لكم لا ترجون لله عاقبة كأن المعنى : ما لكم لا ترجون لله عاقبة الإيمان(٥).

__________________

(١) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١٩٦).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٤٥) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠) عن ابن عباس ومجاهد.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢٤ ـ ٤٢٥) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والبيهقي في «الشعب» من طرق عنه.

(٤) آية رقم ٤٦.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٥٠).

٣٨٧

وقال ابن كيسان : ما لكم لا ترجون في عبادة الله ، وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيرا.

وقال ابن زيد : ما لكم لا تؤتون لله تعالى طاعة (١).

وقال الحسن : ما لكم لا تعرفون لله حقا ، ولا تشكرون له نعمة (٢).

وقيل : ما لكم لا توحدون الله لأن من عظمه فقد وحّده.

وقيل : إن الوقار هو : الثبات لله عزوجل ، ومنه قوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٣] أي : اثبتن ، والمعنى : ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى ، وأنه إلهكم ، لا إله لكم غيره ، قاله ابن بحر ، ثم دلّهم على ذلك فقال : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً).

يعني نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما ، ولحما ، ثم أنشأناه خلقا آخر.

وقيل : «أطوارا» صبيانا ، ثم شبانا ، ثم شيوخا ، وضعفاء ، ثم أقوياء.

وقيل : «أطوارا» ، أي : أنواعا ، صحيحا ، وسقيما ، وبصيرا ، وضريرا ، وغنيا ، وفقيرا.

وقيل : الأطوار : اختلافهم في الأخلاق ، والأفعال.

قوله : (وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً) ، جملة حالية من فاعل «ترجون».

والأطوار : الأحوال المختلفة.

قال الشّاعر : [البسيط]

٤٨٨٠ ـ فإن أفاق فقد طارت عمايته

والمرء يخلق طورا بعد أطوار (٣)

وانتصابه على الحال ، أي : منتقلين من حال إلى حال ، أو مختلفين من بين مسيء ، ومحسن ، وصالح ، وطالح.

قوله : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً).

لما ذكر لهم دليل التوحيد من أنفسهم ، أتبعه بدليل الآفاق فقال : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) ، أي : ألم تعلموا أنّ الذي قدر على هذا ، فهو الذي يجب أن يعبد ، ومعنى : «طباقا» قال ابن عباس والسدي : أي : بعضها فوق بعض كل سماء منها وطبقة على الأخرى كالقباب (٤).

فإن قيل : هذا يقتضي ألا يكون بينهما فرج ، وإذا كان كذلك فكيف تسلكها الملائكة؟.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٩٦).

(٣) البيت للنابغة ينظر ديوانه (٢١٩) واللسان (طور) ، والبحر المحيط ٨ / ٣٣١ ، وروح المعاني ٢٩ / ٩١.

(٤) ذكره الماوردي (٦ / ١٠٢) والقرطبي (١٨ / ١٩٧).

٣٨٨

فالجواب : أن الملائكة أرواح.

وأيضا قال المبرّد : معنى طباقا ، أي : متوازية لا أنها متماسة.

وقال الحسن : (خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً) على سبع أرضين بين كل أرض وأرض وسماء خلق وأمر (١).

وقوله : (أَلَمْ تَرَوْا) ، على جهة الإخبار ، لا المعاينة كما تقول : ألم ترني كيف صنعت بفلان كذا ، و «طباقا» نصب على أنه مصدر طابقه طباقا ، أو حال بمعنى : «ذات طباق» ، فحذف «ذات» وأقام «طباقا» مقامه ، وتقدم الكلام عليه في سورة «الملك».

وقال مكيّ : وأجاز الفرّاء في غير القرآن جر «طباق» على النعت ل «سماوات».

يعني أنه يجوز أن يكون صفة للعدد تارة ولمعدود أخرى.

قوله : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) ، أي : في السماوات ، والقمر إنّما هو في سماء واحدة منهن قيل : هو في السماء الدنيا ، وإنّما جاز ذلك لأن بين السماوات ملابسة فصح ذلك ، وتقول : زيد في المدينة ، وإنّما هو في زاوية من زواياها.

وقال ابن كيسان : إذا كان في إحداهنّ فهو فيهنّ.

وقال قطرب : «فيهنّ» بمعنى : «معهنّ».

وقاله الكلبيّ : أي : خلق الشمس والقمر مع خلق السماوات والأرض (٢).

وقال جلّ أهل اللغة في قول امرىء القيس : [الطويل]

٤٨٨١ ـ وهل ينعمن من كان آخر عهده

ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال (٣)

«في» بمعنى : «مع».

وقال النحاس : سألت أبا الحسن بن كيسان عن هذه الآية ، فقال : جواب النحويين : أنه إذا جعله في إحداهن ، فقد جعله فيهن ، كما تقول : أعطني الثياب المعلمة ، وإن كنت إنما أعلمت أحدها.

وجواب آخر : أنه يروى أن وجه القمر إلى داخل السماء ، وإذا كان إلى داخلها فهو متصل بالسماوات ، ومعنى : «نورا» ، أي : لأهل الأرض ، قاله السدي (٤).

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٩٧.

(٣) ينظر ديوانه ص (٢٧) ، وأدب الكاتب ص ٥١٨ ، وجمهرة اللغة ص ١٣١٥ ، وخزانة الأدب ١ / ٦٢ ، والجنى الداني ص ٢٥٢ ، وجواهر الأدب ص ٢٣٠ ، والدرر ٤ / ١٤٩ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٤٨٦ ، والخصائص ٢ / ٣١٣ ، ورصف المباني ص ٣٩١ ، وشرح الأشموني ٢ / ٢٩٢ ، ولسان العرب (فيا) ومغني اللبيب ١ / ١٦٩ ، وهمع الهرامع ٢ / ٣٠.

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٠٢) والقرطبي (١٨ / ١٩٧).

٣٨٩

وقال عطاء : نور لأهل السماوات والأرض.

وقال ابن عباس وابن عمر : وجهه يضيء لأهل الأرض ، وظهره يضيء لأهل السماء (١).

قوله : (وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً).

يحتمل أن يكون التقدير : وجعل الشمس فيهن ـ كما تقدم ـ والشمس ، قيل : في الرابعة ، وقيل : في الخامسة ، وقيل : في الشتاء في الرابعة وفي الصيف في السابعة والله أعلم.

وقوله : «سراجا». يعني مصباحا لأهل الأرض ، ليتوصلوا إلى التصرف لمعايشهم ، وفي إضاءتها لأهل السماء ، القولان الأولان ، حكاه الماورديّ.

وحكى القشيريّ عن ابن عباس : أن الشمس وجهه في السماوات وقفاه في الأرض (٢).

وقيل : على العكس.

وقيل لعبد الله بن عمر : ما بال الشمس تقلينا أحيانا وتبرد علينا أحيانا؟.

فقال : إنّها في الصيف في السماء الرابعة ، وفي الشتاء في السماء السابعة عند عرش الرحمن ، ولو كانت في السّماء الدنيا ، لما قام لها شيء (٣).

ولما كانت الشمس سببا لزوال الليل وهو ظل الأرض أشبهت السّراج ، وأيضا فالسراج له ضوء والقمر له نور ، والضوء أقوى من النور ، فجعل للشمس كما قال (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) [يونس : ٥].

قوله : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً). يعني آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ خلقه من أديم الأرض كلّها ، قاله ابن جريج. وقد تقدم بيانه.

و «نباتا». إما مصدر ل «أنبت» على حذف الزوائد ، ويسمى اسم مصدر ، لأن مصدر «أنبت» «إنباتا» فجعل الاسم الذي هو النبات في موضع المصدر وإمّا ب «نبتّم» مقدرا ، أي : «فنبتّم نباتا» ، فيكون منصوبا بالمضارع المقدر.

قال الزمخشريّ : أو نصب ب «أنبتكم» لتضمنه معنى : «نبتّم».

قال أبو حيّان (٤) : ولا أعقل معنى هذا الوجه بالثاني.

قال شهاب الدين (٥) : هذا الوجه المتقدم ، وهو أنه منصوب ب «أنبتكم» على حذف

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٩٧).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٤٠.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٨٤.

٣٩٠

الزوائد ومعنى قوله : لتضمنه معنى «نبتّم» ، أي : مشتمل عليه ، غاية ما فيه أنه حذفت زوائده.

قال القرطبيّ (١) : «وقال الخليل والزجاج : إنه محمول على المعنى ، لأن معنى «أنبتكم» جعلكم تنبتون نباتا.

وقيل : معناه أنبت لكم من الأرض النبات ، ف «نباتا» على هذا نصب على المفعول الصريح ، والأول أظهر».

قال ابن بحر : أنبتكم في الأرض بالكبر بعد الصغر ، وبالطول بعد القصر ، ثم يعيدكم فيها ، أي عند موتكم بالدفن (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) بالنشور والبعث يوم القيامة.

والإنبات : استعارة بليغة ، قيل : المراد أنبت أباكم.

وقيل : المراد أنبت الكلّ لأنهم من النطف ، وهي من الأغذية التي أصلها الأرض ، وهذا كالتفسير لقوله : (خَلَقَكُمْ أَطْواراً) ، ثم قال : (ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) ، وهذا إشارة إلى الطريقة المعهودة في القرآن ، من أنه تعالى لما كان قادرا على الابتداء ، فهو قادر على الإعادة ، وقوله : (وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً) ، أكده بالمصدر فإنه قال : يخرجكم حتما لا محالة.

قوله : (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً) ، أي : مبسوطة.

(لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً) أي : طرقا واسعة ، والسّبل : الطرق ، والفجاج : جمع فجّ ، وهو الطريق الواسعة ، قاله الفراء.

وقيل : الفجّ : المسلك بين الجبلين ، وفي «الأنبياء» ، قدّم الفجاج لتناسب الفواصل. وقد تقدم الكلام على ذلك.

قوله تعالى : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً)(٢٨)

قوله : (قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَساراً).

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٩٧.

٣٩١

ذكر أولا أنهم عصوا ثم ذكر أنهم ضموا إلى عصيانه طاعة رؤسائهم الذين يدعونهم إلى الكفر ، إنما زادهم أموالهم ، وأولادهم خسارا ؛ لأنهم سبب لخسارة الآخرة ، والدنيا في جنب الآخرة كالعدم ، فإذا خسرت الآخرة بسببها كانت كاللّقمة من الحلوى مسمومة ؛ ولذلك قال جماعة : ليس لله على الكافر نعمة ، وإنّما هي استدراج للعذاب.

قال المفسّرون : لبث فيهم نوح ـ عليه‌السلام ـ كما أخبر الله تعالى ألف سنة إلّا خمسين عاما داعيا لهم وهم على كفرهم وعصيانهم.

قال ابن عباس : دعا نوح الأبناء بعد الآباء ، فكان الآباء يأتون بأولادهم إلى نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ ويقولون لأبنائهم : إياكم وأن تطيعوا هذا الشيخ ؛ فيما يأمركم به ، حتى بلغوا سبع قرون ، ثم دعا عليهم بعد الإياس منهم ، ولبث (١) بعد الطوفان ستين عاما ، حتى كثر الناس وفشوا (٢).

قال الحسن : كان قوم نوح يزرعون في الشهر مرتين (٣) ، حكاه الماورديّ.

قوله (وَوَلَدُهُ) قرأ أهل «المدينة» و «الشام» وعاصم : «وولده» بفتح اللام والواو.

والباقون : «وولده» (٤) بضم الواو وسكون اللام ، وقد تقدم أنهما لغتان ك «بخل وبخل».

قال أبو حاتم : ويمكن أن يكون المضموم جمع المفتوح ك «خشب وخشب».

وأنشد لحسّان : [الكامل]

٤٨٨٢ ـ يا بكر آمنة المبارك ولدها

من ولد محضنة بسعد الأسعد (٥)

قوله : (وَمَكَرُوا) ، عطف على صلة «من» لأن المتبوعين هم الذين مكروا.

(وَقالُوا) للإتباع : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) ، وإنّما جمع الضمير حملا على المعنى ، بعد حملها على لفظها في (لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ) ، ويجوز أن يكون مستأنفا إخبارا عن الكفار.

قوله «كبّارا» ، العامة : على ضم الكاف وتشديد الباء ، وهو بناء مبالغة أبلغ من «كبار» بالضم والتخفيف.

قال عيسى : وهي لغة يمانية ؛ وأنشد : [الكامل]

٤٨٨٣ ـ والمرء يلحقه بفتيان النّدى

خلق الكريم وليس بالوضّاء (٦)

__________________

(١) في ب : وعاش.

(٢) تقدم تخريج هذا الأثر.

(٣) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٠٣).

(٤) ينظر : السبعة ٦٥٢ ، ٦٥٣ ، والحجة ٦ / ٣٢٥ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٩٥ ، وحجة القراءات ٧٢٥.

(٥) رواية الديوان :

يا بكر آمنة المبارك بكرها

ولدته محضنة لسعد الأسعد

ينظر ديوانه ٦٥ ، والبحر ٨ / ٣٤٤ ، والدر المصون ٦ / ٣٦٥.

(٦) البيت لأبي صدقة الدبيري ينظر الخصائص ٣ / ٢٦٦ ، والمحتسب ٢ / ٢٣٠ ، واللسان (وضأ) ، ـ

٣٩٢

وقول الآخر : [الكامل]

٤٨٨٤ ـ بيضاء تصطاد الغويّ وتستبي

بالحسن قلب المسلم القرّاء (١)

ويقال : رجل طوّال ، وجميل ، وحسّان ، وعظيم ، وعظّام.

وقرأ ابن عيسى وابن محيصن وأبو السمال (٢) وحميد ومجاهد : بالضم والتخفيف ، وهو بناء مبالغة أيضا دون الأول.

وقرأ زيد بن علي وابن محيصن أيضا : بكسر الكاف (٣) وتخفيف الباء.

قال أبو بكر : هو جمع كبير ، كأنه جعل «مكرا» ، مكان «ذنوب» ، أو «أفاعيل» ، يعني فلذلك وصفه بالجمع.

فصل في المقصود بالمكر في الآية

قيل مكرهم : هو تحريشهم سفلتهم على قتل نوح.

وقيل : هو تعزيزهم الناس بما أوتوا من الدنيا ، والولد ، حتى قالت الضعفة : لو لا أنهم على الحق لما أوتوا هذه النّعم.

وقال الكلبيّ : هو ما جعلوه لله من الصاحبة والولد (٤) ، وهذا بعيد ، لأن هذا إنما قاله النصارى وهم بعد قوم نوح عليه‌السلام بأزمان متطاولة.

وقال مقاتل : هو قول كبرائهم لأتباعهم : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) ، فمنعوا القوم عن التوحيد وأمروهم بالشرك (٥) ، واعلم أنه لما كان التوحيد أعظم المراتب ، لا جرم كان المنع منه أعظم الكبائر ، فلهذا وصفه الله تعالى بأنه كبار.

قال ابن الخطيب (٦) : وإنّما سماه مكرا لوجهين :

الأول : لما في إضافة الآلهة إليهم من الحيل الموجبة ، لاستمرارهم على عبادتها ؛ لأنها معبود آبائهم ، فلو قبلتم قول نوح لاعترفتم على أنفسكم بأنكم كنتم جاهلين ضالين ، وعلى آبائكم بأنهم كانوا كذلك ، ولما كان اعتراف الإنسان على نفسه وعلى أسلافه بالقصور والنقص والجهل بهذه الكلمة وهي لفظة «آلهتكم» وصدفكم عن الدين ؛ فلهذه الحجة الخفية سمّى الله كلامهم مكرا.

__________________

(١) البيت لأبي صدقة الدبيري ، ينظر اللسان (قرأ) ، والقرطبي ١٨ / ١٩٨ ، والبحر ٨ / ٣٥٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٥ ، وروح المعاني ٢٩ / ٩٥.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٧٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٥٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٥.

(٣) ينظر السابق.

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٠٣) والقرطبي (١٨ / ١٩٨).

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١٢٦.

٣٩٣

الثاني : أنه تعالى حكى عن المتبوعين أنهم كان لهم مال وولد ، فلعلهم قالوا لأتباعهم : إن آلهتكم خير من إله نوح ؛ لأن آلهتكم يعطونكم المال والولد ، وإله نوح [لا يعطيه شيئا لأنه فقير] فصرفوهم بهذا المكر عن طاعة نوح ، وهو مثل مكر فرعون إذ قال : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ) [الزخرف : ٥١] ، وقوله : (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ) [الزخرف : ٥٢ ، ٥٣].

قوله : (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً) [نوح : ٢٣] يجوز أن يكون من عطف الخاص على العام ، إن قيل : إن هذه الأسماء لأصنام ، وألا يكون إن قيل : إنها أسماء رجال صالحين على ما ذكر المفسّرون.

وقرأ نافع : «ودّا» (١) بضم الواو ، والباقون : بفتحها.

وأنشد بالوجهين قول الشاعر : [البسيط]

٤٨٨٥ ـ حيّاك ودّ فإنّا لا يحلّ لنا

لهو النّساء ، وإنّ الدّين قد عزما (٢)

وقول الآخر : [الطويل]

٤٨٨٦ ـ فحيّاك ودّ من هداك لعسّه

وخوص بأعلى ذي فضالة هجّه (٣)

قال القرطبي (٤) : قال الليث : «ودّ» ـ بفتح الواو ـ صنم كان لقوم نوح ، و «ودّ» ـ بالضم ـ صنم لقريش ، وبه سمي عمرو بن عبد ود.

وفي الصحاح (٥) : «والودّ» بالفتح : الوتد في لغة أهل نجد ، كأنهم سكنوا التاء وأدغموها في الدال. والود في قول امرىء القيس : [الرمل]

٤٨٨٧ ـ تظهر الودّ إذا ما أشجذت

وتواريه إذا ما تشتكر (٦)

قال ابن دريد : هو اسم جبل.

و «ود» : صنم كان لقوم نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ ثم صار لكلب ، وكان بدومة الجندل ، ومنه سموا بعبد ودّ.

قوله : (وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ). قرأهما العامة بغير تنوين ، فإن كانا عربيين : فالمنع من الصرف للعلمية والوزن ، وإن كانا أعجميين : فالعجمة والعلمية.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٥٣ ، والحجة ٦ / ٣٢٧ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٩٦ ، وحجة القراءات ٧٢٦.

(٢) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٩٩ ، والبحر ٨ / ٣٣٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٥.

(٣) ينظر البحر ٨ / ٣٣٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٥.

(٤) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٢٠٠.

(٥) ينظر الصحاح ٢ / ٥٤٩.

(٦) ينظر : ديوانه (١٤٤) ، ولسان العرب (ودد) ، والصحاح (ودد) ، والقرطبي ١٨ / ٢٠٠.

٣٩٤

وقرأ الأعمش (١) : «ولا يغوثا ويعوقا» مصروفين.

قال ابن عطية : «وذلك وهم ، لأن التعريف لازم ووزن الفعل». انتهى.

قال شهاب الدين (٢) : وليس بوهم لأمرين :

أحدهما : أنه صرفهما للتناسب إذ قبلهما اسمان مصروفان وبعده اسم مصروف كما صرف «سلاسل».

والثاني : أنه جاء على لغة من يصرف غير المنصرف مطلقا ، وهي لغة حكاها الكسائي ، ونقل أبو الفضل : الصرف فيهما عن الأشهب العقيلي ، ثم قال : جعلهما «فعولا» ، فلذلك صرفهما ، فأما في العامة : فإنهما صفتان من الغوث والعوق.

قال شهاب الدين (٣) : «وهذا كلام مشكل ، أما قوله : «فعولا» فليس بصحيح ، إذ مادة يغث ويعق مفقودة ، وأما قوله : صفتان من الغوث والعوق ، فليس في الصفات ولا في الأسماء «يفعل» والصحيح ما قدمته».

وقال الزمخشريّ : وهذه قراءة مشكلة لأنهما إن كانا عربيين أو أعجميين ، ففيهما المنع من الصرف ، ولعله وجد الازدواج ، فصرفهما لمصادفته أخواتهما منصرفات : ودّا وسواعا ونسرا ، كما قرىء وضحئها [الشمس : ١] بالإمالة لوقوعه مع الممالات للازدواج.

قال أبو حيّان (٤) : كأنه لم يطلع على أن صرف ما لا ينصرف لغة.

فصل في بيان هذه الأسماء

قال ابن عبّاس وغيره : وهي أصنام ، وصور كان قوم نوح يعبدونها ، ثم عبدتها العرب (٥) ، وهذا قول الجمهور.

وقيل : إنّها للعرب لم يعبدها غيرهم ، وكانت أكبر أصنامهم وأعظمها عندهم ، فلذلك خصّوا بالذكر بعد قوله : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً).

وقال عروة بن الزبير : اشتكى آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعنده بنوه : ود ، وسواع ، ويغوث ، ويعوق ، ونسر ، وكان ود أكبرهم ، وأبرّهم به (٦).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٦١٩ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٣٧٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٣٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٨٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٨٥.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٤٢.

(٥) أخرجه البخاري (٨ / ٥٣٥) كتاب التفسير ، باب : «ودّا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا» رقم (٤٩٢٠).

(٦) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ١٠٤) والقرطبي (١٨ / ١٩٩).

٣٩٥

قال محمد بن كعب : كان لآدم خمس بنين : ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، وكانوا عبّادا ، فمات رجل منهم فحزنوا عليه ، فقال الشيطان : أنا أصور لكم مثله ، إذا نظرتم إليه ذكرتموه ، قالوا : افعل ، فصوّره في المسجد ، من صفر ورصاص ، ثم مات آخر ، فصوره حتى ماتوا كلّهم ، وصوروهم وتناقصت الأشياء كما ينقص اليوم إلى أن تركوا عبادة الله تعالى بعد حين ، فقال لهم الشيطان : ما لكم لا تعبدون شيئا؟.

قالوا : وما نعبد؟.

قال آلهتكم وآلهة آبائكم ، ألا ترونها في مصلاكم؟ فعبدوها من دون الله ، حتى بعث الله نوحا ، فقالوا : (لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً) الآية (١).

وقال محمد بن كعب أيضا ومحمد بن قيس : بل كانوا قوما صالحين ، بين آدم ونوح وكان لهم أتباع يقتدون بهم فلما ماتوا زيّن لهم إبليس أن يصوروا صورهم ؛ ليتذكروا بها اجتهادهم ، وليتسلوا بالنظر إليها فصوّروهم ، فلما ماتوا هم وجاء آخرون قالوا : ليت شعرنا ، ما هذه الصور التي كان يعبدها آباؤنا؟ فجاءهم الشيطان فقال : كان آباؤكم يعبدونها فترحمهم وتسقيهم المطر ، فعبدوها فابتدىء عبادة الأوثان من ذلك الوقت (٢).

وبهذا المعنى فسر ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة : أنّ أم حبيبة وأم سلمة ذكرتا كنيسة رأينها بأرض الحبشة ، تسمى مارية فيها تصاوير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ أولئك كان إذا مات فيهم الرّجل الصّالح ، بنوا على قبره مسجدا ، ثمّ صوّروا فيه تلك الصّور أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة» (٣).

وذكر الثعلبيّ عن ابن عباس قال : هذه الأصنام أسماء رجال صالحين ، من قوم نوح فلمّا هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن ينصبوا في مجالسهم أنصابا ، ويسمونها بأسمائهم (٤).

وهذا بعيد ، لأن نوحا ـ عليه الصلاة والسلام ـ هو الآمر لهم بتركها وذلك يدل على أنّهم كانوا قبل نوح ، حتى أرسل نوح إليهم.

وروي عن ابن عباس : أنّ نوحا ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يحرس جسد آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ على جبل الهند فيمنع الكافرين أن يطوفوا بقبره ، فقال لهم الشيطان : إن هؤلاء ، يفخرون عليكم ويزعمون أنهم بنو آدم دونكم ، وإنما هو جسد ،

__________________

(١) ينظر المصدر السابق وأخرجه عبد بن حميد كما في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢٧).

(٢) ينظر المصدر السابق وأخرجه أبو الشيخ في «العظمة» كما في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢٧).

(٣) تقدم.

(٤) تقدم تخريجه.

٣٩٦

وأنا أصوّر لكم مثله تطوفون به ، فصوّر لهم هذه الأصنام الخمسة ، وحملهم على عبادتها ، فلمّا كان أيام الطوفان دفنها الطين ، والتراب ، والماء ، فلم تزل مدفونة ، حتى أخرجها الشيطان لمشركي العرب وكانت للعرب أصنام أخر ، فاللات كانت لقديد ، وأساف ونائلة وهبل ، لأهل مكة (١).

قال الماورديّ : فأما «ود» فهو أول صنم معبود سمي «ودّا» لودهم له ، وكان بعد قوم نوح لكلب بدومة الجندل ، على قول ابن عباس وعطاء ومقاتل ؛ وفيه يقول شاعرهم : [البسيط]

٤٨٨٨ ـ حيّاك ودّ فإنّا لا يحلّ لنا

لهو النّساء وإنّ الدّين قد عزما (٢)

وأما «سواع» فكان لهذيل بساحل البحر في قولهم.

وقال ابن الخطيب (٣) : «وسواع لهمدان».

وأما «يغوث» فكان لقطيف من مراد بالجوف من سبأ ، في قول قتادة.

وقال المهدويّ : لمراد ثم لغطفان.

وقال الثعلبيّ : واتخذت ـ أعلى وأنعم ـ وهما من طيىء ، وأهل جرش من مذحج يغوث ، فذهبوا به إلى مراد ، فعبدوه زمانا ، ثمّ بني ناجية ، أرادوا نزعه من «أنعم» ففروا به إلى الحصين أخي بني الحارث بن كعب بن خزاعة.

وقال أبو عثمان المهدويّ : رأيت «يغوث» وكان من رصاص ، وكانوا يحملونه على جمل أجرد ، ويسيرون معه ولا يهيجونه ، حتى يبرك بنفسه ، فإذا برك نزلوا ، وقالوا : قد رضي لكم المنزل فيه فيضربون عليه بناء ، وينزلون حوله.

وأما «يعوق» فكان لهمدان ببلخ ، في قول عكرمة وقتادة وعطاء ، ذكره الماورديّ.

وقال الثعلبيّ : وأما «يعوق» فكان لكهلان من سبأ ، ثم توارثه بنوه الأكبر فالأكبر ، حتى صار في الهمداني.

وفيه يقول غط الهمداني : [الوافر]

٤٨٨٩ ـ يريش الله في الدّنيا ويبري

ولا يبري يعوق ولا يريش (٤)

وقيل : كان «يعوق» لمراد ؛ وأما «نسر» ، فكان لذي الكلاع من حمير ، في قول قتادة ومقاتل.

وقال الواقدي : كان «ودّ» على صورة رجل ، و «سواع» على صورة امرأة ،

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٩٩) عن ابن عباس.

(٢) تقدم.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١٢٨.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ٢٠٠ ، والبحر ٨ / ٣٣٥.

٣٩٧

و «يغوث» على صورة أسد ، و «يعوق» على سورة فرس ، و «نسر» على سورة نسر من الطير ، والله أعلم.

قوله : (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) ، أي : الرؤساء فهو عطف على قوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) ، أو الأصنام ، وجمعهم جمع العقلاء ، معاملة لهم معاملة العقلاء لقوله تعالى : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم : ٣٦].

قوله : (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ). عطف على قوله : (رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) [على حكاية كلام نوح بعد «قال» وبعد الواو النائبة عنه ، أي قال : إنهم عصوني] ، وقال : (لا تَزِدِ) ، أي : قال هذين القولين ، فهما في محل نصب ، قاله الزمخشريّ. قال : «كقولك : قال زيد نودي للصلاة ، وصلّ في المسجد يحكي قوليه ، معطوفا أحدهما على صاحبه».

وقال أبو حيّان (١) : (وَلا تَزِدِ) معطوف على (قَدْ أَضَلُّوا) لأنها محكية ب «قال» مضمرة ، ولا يشترط التناسب في الجمل المتعاطفة ، بل تعطف خبرا على طلب ، وبالعكس خلافا لمن اشترط ذلك.

فصل في معنى (إِلَّا ضَلالاً)

معنى قوله : (إِلَّا ضَلالاً).

قال ابن بحر : أي : إلا عذابا ، لقوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) [القمر: ٤٧].

وقيل : إلّا خسرانا.

وقيل : إلّا فتنة بالمال.

قوله : (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ). «ما» مزيدة بين الجار والمجرور للتوكيد ، ومن لم ير زيادتها جعلها نكرة ، وجعل «خطيئاتهم» بدلا وفيه تعسف.

وتقدم الخلاف في قراءة «خطيئاتهم» في «الأعراف».

وقرأ أبو رجاء (٢) : «خطيّاتهم» جمع سلامة إلّا أنه أدغم الياء في الياء المنقلبة عن الهمزة.

وقال أبو عمرو : قوم كفروا ألف سنة فلم يكن لهم إلّا خطيّات ، يريد أنّ الخطايا أكثر من الخطيّات.

وقال قوم : خطايا وخطيات ، جمعان مستعملان في القلة ، والكثرة ، واستدلوا بقول الله تعالى : (ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) [لقمان : ٢٧].

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٤٢.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٦٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٦.

٣٩٨

وقال الشاعر : [الطويل]

٤٨٩٠ ـ لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضّحى

وأسيافنا يقطرن من نجدة دما (١)

وقرأ الجحدريّ (٢) وتروى عن أبيّ «خطيئتهم» بالإفراد ، والهمز.

وقرأ عبد الله (٣) «من خطيئاتهم ما أغرقوا» ، فجعل «ما» المزيدة بين الفعل وما يتعلق به.

و «من» للسببية تتعلق ب «أغرقوا».

وقال ابن عطية : لابتداء الغاية ، وليس بواضح.

وقرأ العامة : «أغرقوا» من «أغرق».

وزيد بن علي (٤) : «غرّقوا» بالتشديد.

وكلاهما للنقل ، تقول : «أغرقت زيدا في الماء ، وغرّقته به».

فصل في صحة «عذاب القبر»

قال ابن الخطيب (٥) : دل قوله : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) ، على إثبات عذاب القبر لأنه يدل على أنه حصلت تلك الحالة عقيب الإغراق ، ولا يمكن حمل الآية على عذاب الآخرة وإلّا بطلت دلالة هذه الفاء ، وأيضا فقوله «فأدخلوا» يدل على الإخبار عن الماضي ، وهذا إنّما يصدق لو وقع ذلك ، وقال مقاتل ، والكلبيّ : معناه أنهم سيدخلون في الآخرة نارا ، ثم عبر عن المستقبل بلفظ الماضي ؛ لصدق وقوع وعده كقوله : (وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٤٤].

قال ابن الخطيب (٦) : وهذا ترك للظاهر ، من غير دليل ، فإن قيل : إنما تركنا الظاهر لدليل ، وهو أن من مات في الماء ، فإنا نشاهده هناك ، فكيف يمكن أن يقال : إنهم في تلك الساعة أدخلوا نارا؟ فالجواب : إن هذا الإشكال ، إنّما جاء لاعتقاد أنّ الإنسان هو مجموع هذا الهيكل ، وهذا خطأ لأن الإنسان هو الذي كان موجودا من أول عمره ، مع أنّه كان صغير الجثّة في أول عمره ، ثم إن أجزاءه دائما في التحلل والذوبان ، ومعلوم أن الباقي غير المتبدل (٧) ، فهذا الإنسان عبارة عن ذلك الشيء الذي هو باق ، من أول عمره إلى الآن ، فلم لا يجوز أن يقال : نقل الأجزاء الباقية الأصلية التي في الإنسان عبارة عنها إلى النار وإلى العذاب.

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٧٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٣٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٦.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٣٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٦.

(٤) ينظر : السابق.

(٥) الفخر الرازي ٣٠ / ١٢٩.

(٦) ينظر الرازي ٣٠ / ١٢٩.

(٧) في أ : ما يذهب.

٣٩٩

ونقل القرطبيّ (١) عن القشيري أنه قال : هذه الآية تدل على عذاب القبر ، ومنكروه يقولون : صاروا مستحقين دخول النار ، أو عرض عليهم أماكنهم من النار ، كقوله تعالى : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا).

وقيل : أشار إلى ما في الخبر من قوله : «البحر نار في نار».

وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) ، قال : يعني عذبوا بالنار في الدنيا في حالة واحدة ، كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب (٢). ذكره الثعلبي.

وأنشد ابن الأنباري : [البسيط]

٤٨٩١ ـ الخلق مجتمع طورا ومفترق

والحادثات فنون ذات أطوار

لا تعجبنّ لأضداد قد اجتمعت

فالله يجمع بين الماء والنّار (٣)

قال المعربون : «فأدخلوا» يجوز أن يكون من التعبير عن المستقبل بالماضي ، لتحقق وقوعه كقوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] ، وأن يكون على بابه ، والمراد عرضهم على النّار في قبورهم كقوله في آل فرعون : (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا) [غافر : ٤٦].

قوله : (فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً) ، أي : من يدفع عنهم العذاب ، وهذا يدل على أنهم إنما عبدوا تلك الأصنام لتدفع عنهم الآفات ، وتجلب المنافع إليهم فلما جاءهم العذاب لم ينتفعوا بتلك الأصنام ، ولم يدفعوا عنهم العذاب وهو كقوله تعالى : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا) [الأنبياء : ٤٣].

(وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً).

قال الزمخشريّ : «ديّارا» من الأسماء المستعملة في النفي العام ، يقال : ما بالدار ديار وديور ، كقيّام وقيّوم ، وهو «فيعال» من الدارة أصله : «ديوار» ففعل به ما فعل بأصل «سيّد وميّت» ولو كان «فعّالا» لكان «دوّارا» انتهى.

يعني أنه كان ينبغي أن تصح واوه ولا تقلب ياء ، وهذا نظير ما تقدم له من البحث في «متحيّز» وأن أصله : «متحيوز» لا «متفعّل» إذ كان يلزم أن يكون «متحوّزا» لأنه من «الحوز». ويقال فيه أيضا : «دوّار» نحو «قيّام وقوّام».

وقال مكيّ : وأصله «ديوار» ثم أدغموا الواو في الياء مثل «ميّت» أصله «ميوت» ثم أدغموا الثاني في الأول ، ويجوز أن يكون أبدلوا من الواو ياء ، ثم أدغموا الياء الأولى في الثانية.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٢٠١.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٢٠١).

(٣) ينظر القرطبي ١٨ / ٢٠١.

٤٠٠