اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

الناس ، فيسوقون كلّ فريق إلى ما يليق بهم ، وتمّ الكلام عند قوله : «يبصّرونهم». قوله : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) ، أي : يتمنّى الكافر (لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ) ، أي : من عذاب جهنم ، وقيل : المراد بالمجرم كلّ مذنب ، وتقدم الكلام على قراءتي «يومئذ» فتحا وجرّا في «هود» والعامة : على إضافة «عذاب» ل «يومئذ».

وأبو حيوة (١) : بتنوين «عذاب» ، ونصب «يومئذ» ، على الظرف.

قال ابن الخطيب (٢) : وانتصابه بعذاب ؛ لأن فيه معنى تعذيب.

وقال أبو حيّان (٣) هنا : «والجمهور يكسرها ـ أي : ميم يومئذ ـ والأعرج وأبو حيوة : يفتحها» انتهى.

وقد تقدم أنّ الفتح قراءة نافع ، والكسائي.

قوله : (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ).

قال ثعلب : الفصيلة : الآباء الأدنون.

وقال أبو عبيدة : الفخذ.

وقال مجاهد وابن زيد : عشيرته الأقربون (٤).

وقد تقدم ذكر ذلك عند قوله : (شُعُوباً وَقَبائِلَ)(٥).

وقال المبرّد : الفصيلة : القطعة من أعضاء الجسد ، وهي دون القبيلة ، وسمّيت عترة الرجل فصيلته تشبيها بالبعض منه.

قال ابن الخطيب (٦) : فصيلة الرجل : أقرباؤه الأقربون الذين فصل عنهم ، وينتمي إليهم ؛ لأن المراد من الفصيلة المفصولة ؛ لأن الولد يكون مفصولا من الأبوين ، قال عليه الصلاة والسلام: «فاطمة قطعة منّي» (٧) فلما كان مفصولا منهما ، كانا أيضا مفصولين منه ، فسمّيا فصيلة لهذا السبب.

وكان يقال للعباس رضي الله عنه : فصيلة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن العمّ قائم مقام الأب.

وقوله : (الَّتِي تُؤْوِيهِ) ، أي : ينصرونه.

وقال مالك : أمّه التي تربيه ، حكاه الماورديّ ، ورواه عنه أشهب.

قال شهاب الدين : ولم يبدله السوسي عن أبي عمرو ، قالوا : لأنه يؤدي إلى لفظ هو أثقل منه ، والإبدال للتخفيف.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٦٧ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٦.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١١٢.

(٣) البحر المحيط ٨ / ٣٣٤.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٣١) عن مجاهد وابن زيد.

(٥) آية ١٣ من سورة الحجرات.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١١٢.

(٧) أخرجه البخاري (٧ / ١٣١ ـ ١٣٢) كتاب فضائل الصحابة : باب مناقب فاطمة (٣٧٦٧) والبيهقي (٧ / ٦٤) من حديث المسور بن مخرمة.

٣٦١

وقرأ الزهريّ : «تؤويه (١) ، وتنجيه» بضم هاء الكناية ، على الأصل.

و «ثمّ ننجيه» عطف على «يفتدي» فهو داخل في خبر «لو» وتقدم الكلام فيها ، هل هي مصدرية أم شرطية في الماضي ، ومفعول «يودّ» محذوف ، أي : يودّ النّجاة.

وقيل : إنها هنا بمعنى «أن» وليس بشيء ، وفاعل «ينجيه» إما ضمير الافتداء الدالّ عليه «يفتدي» ، أو ضمير من تقدم ذكرهم ، وهو قوله : (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ).

و (مَنْ فِي الْأَرْضِ) مجرور عطفا على «بنيه» وما بعده ، أي : يودّ الافتداء بمن في الأرض أيضا و «حميما» إما حال ، وإما تأكيد ، ووحد باعتبار اللفظ.

فصل فيما يترتب على معنى «فصيلته» من أحكام

إذا وقف على فصيلته ، أو أوصى لها فمن ادعى العموم حمله على عشيرته ، ومن ادعى الخصوص حمله على الآباء الأدنى فالأدنى ، والأول أكثر في النطق ، قاله القرطبي (٢) و «تؤويه» تضمه وتؤمنه من خوف إن كان به ، (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) ، أي : ويود لو فدي بهم لافتدى (ثُمَّ يُنْجِيهِ) أي : ويخلصه ذلك الفداء ، فلا بدّ من هذا الإضمار ، كقوله : (وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) [الأنعام : ١٢١] ، أي : وإن أكله لفسق.

وقيل : (يَوَدُّ الْمُجْرِمُ) يقتضي جوابا بالفاء كقوله : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).

والجواب في هذه الآية (ثُمَّ يُنْجِيهِ) لأنّها من حروف العطف ، أي يودّ المجرم لو يفتدي ، وينجيه الافتداء.

قوله تعالى : (كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى)(١٨)

قوله : «كلا». ردع وزجر.

قال القرطبيّ (٣) : «وإنما تكون بمعنى «حقّا» ، وبمعنى «لا» وهي هنا تحتمل الأمرين ، فإذا كانت بمعنى «حقّا» فإن تمام الكلام «ينجيه» وإذا كانت بمعنى «لا» كان تمام الكلام عليها. إذ ليس ينجيه من عذاب الله إلا الافتداء».

قوله : (إِنَّها لَظى نَزَّاعَةً) في الضّمير ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه ضمير النار ، وإن لم يجر لها ذكر لدلالة لفظ عذاب عليها.

والثاني : أنه ضمير القصة.

الثالث : أنه ضمير مبهم يترجم عنه الخبر ، قاله الزمخشريّ. وقد تقدم تحقيق ذلك في قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا)(٤).

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٦٧ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٢٦ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٦.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٨٦.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٨٦.

(٤) آية ٢٩ من سورة الأنعام.

٣٦٢

فعلى الأول يجوز في «لظى ، نزّاعة» أوجه :

أحدها : أن يكون «لظى» خبر «إن» أي إن النار لظى ، و (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) خبر ثان ، أو خبر مبتدأ مضمر ، أي هي نزاعة ، أو تكون «لظى» بدلا من الضمير المنصوب و «نزّاعة» خبر «إنّ».

وعلى الثاني : تكون (لَظى نَزَّاعَةً) جملة من مبتدأ وخبر في محل رفع خبرا ل «إنّ» ، مفسرة لضمير القصة ، وكذا على الوجه الثالث.

ويجوز أن تكون «نزّاعة» صفة ل «لظى» إذا لم نجعلها علما ، بل بمعنى اللهب ، وإنما أنّث النعت ، فقيل : «نزّاعة» لأن اللهب بمعنى النار. قاله الزمخشريّ.

وفيه نظر ؛ لأن «لظى» ممنوعة من الصرف اتفاقا.

قال أبو حيان (١) بعد حكايته الثالث عن الزمخشري : «ولا أدري ما هذا المضمر الذي ترجم عنه الخبر ، وليس هذا من المواضع التي يفسّر فيها المفرد الضمير ، ولو لا أنه ذكر بعد هذا أو ضمير القصة لحملت كلامه عليه».

قال شهاب الدين (٢) : متى جعله ضميرا مبهما ، لزم أن يكون مفسرا بمفرد ، وهو إما «لظى» على أن تكون «نزّاعة» خبر مبتدأ مضمر ، وإما «نزّاعة» على أن تكون «لظى» بدلا من الضمير وهذا أقرب ، ولا يجوز أن تكون (لَظى ، نَزَّاعَةً) مبتدأ وخبر ، والجملة خبر ل «إنّ» على أن يكون الضمير مبهما ، لئلّا يتحد القولان ، أعني هذا القول ، وقول : إنّها ضمير القصة ولم يعهد ضمير مفسر بجملة إلا ضمير الشأن والقصة.

وقرأ العامة : «نزّاعة» بالرفع.

وقرأ حفص ، وأبو حيوة والزّعفرانيّ ، واليزيديّ ، وابن مقسم : «نزّاعة» بالنصب (٣). وفيها وجهان :

أحدهما : أن ينتصب على الحال ، واعترض عليه أبو علي الفارسي ، وقال : حمله على الحال بعيد ، لأنه ليس في الكلام ما يعمل في الحال.

قال القرطبيّ (٤) : «ويجوز أن يكون حالا على أنه حال للمكذبين بخبرها».

وفي صاحبها أوجه :

أحدها : أنه الضمير المستكنّ في «لظى» ؛ وإن كانت علما فهي جارية مجرى المشتقات ك «الحارث والعباس» ، وذلك لأنها بمعنى التلظّي ، وإذا عمل العلم الصريح

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٣٣٤.

(٢) الدر المصون ٦ / ٣٧٧.

(٣) ينظر : السبعة ٦٥٠ ، والحجة ٦ / ٣١٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٩٠ ، وحجة القراءات ٧٢٣.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٨٦.

٣٦٣

والكنية في الظروف ، فلأن يعمل العلم الجاري مجرى المشتقات في الأحوال أولى ، ومن مجيء ذلك قوله : [السريع أو الرجز]

٤٨٦١ ـ أنا أبو المنهال بعض الأحيان (١)

ضمنه بمعنى أنا المشهور في بعض الأحيان.

الثاني : أنّه فاعل «تدعو» وقدمت حاله عليه ، أي : تدعو حال كونها نزّاعة.

ويجوز أن تكون هذه الحال مؤكدة ، لأنّ «لظى» هذا شأنها ، وهو معروف من أمرها ، وأن تكون مبنية ؛ لأنه أمر توقيفيّ.

الثالث : أنه محذوف هو والعامل تقديره : تتلظّى نزاعة ، ودل عليه «لظى».

الثاني من الوجهين الأولين : أنها منصوبة على الاختصاص ، وعبّر عنه الزمخشريّ بالتهويل. كما عبّر عن وجه رفعها على خبر ابتداء مضمر ، والتقدير : أعني نزاعة وأخصّها.

وقد منع المبرد نصب «نزّاعة» ، قال : لأن الحال إنما يكون فيما يجوز أن يكون وألّا يكون و «لظى» لا تكون إلا نزّاعة. قاله عنه مكّيّ.

وردّ عليه بقوله تعالى : (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً) [البقرة : ٩١] ، (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً) [الأنعام : ١٢٦] قال : فالحق لا يكون إلا مصدقا ، وصراط ربّك لا يكون إلّا مستقيما.

قال شهاب الدين (٢) : المبرّد بني الأمر على الحال المبنية ، وليس ذلك بلازم ؛ إذ قد وردت الحال مؤكدة كما أورده مكيّ ، وإن كان خلاف الأصل ، واللظى في الأصل : اللهب ، ونقل علما لجهنم ، ولذلك منع من الصرف.

وقيل : هو اسم للدّركة الثانية من النار ، والشّوى : الأطراف جمع شواة ، ك «نوى ، ونواة» ؛ قال الشاعر : [الوافر]

٤٨٦٢ ـ إذا نظرت عرفت النّحر منها

وعينيها ولم تعرف شواها (٣)

يعني : أطرافها.

وقيل : الشّوى : الأعضاء التي ليست بمقتل ، ومنه : رماه فأشواه ، أي لم يصب مقتله ، وشوى الفرس : قوائمه ، لأنه يقال : عبل الشّوى.

وقيل : الشّوى : جمع شواة وهي جلدة الرأس ؛ وأنشد الأصمعي : [مجزوء الكامل]

٤٨٦٣ ـ قالت قتيلة : ما له

قد جلّلت شيبا شواته (٤)

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٧٧.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٨٧.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٨٦ ، والبحر ٨ / ٣٢٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٧.

٣٦٤

وقيل : هو جلد الإنسان ، والشّوى أيضا : رذال المال ، والشيء اليسير.

فصل في معنى الآية

قال ثابت البناني والحسن : (نَزَّاعَةً لِلشَّوى) : أي لمكارم وجهه (١). وعن الحسن أيضا : إنه الهام (٢).

وقال أبو العالية : لمحاسن وجهه (٣).

وقال قتادة : لمكارم خلقته وأطرافه (٤).

وقال الضحاك : تفري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئا (٥).

وقال الكسائي : هي المفاصل.

وقيل : هي القوائم والجلود.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

٤٨٦٤ ـ سليم الشّظى ، عبل الشّوى ، شنج النّسا

له حجبات مشرفات على الفال (٦)

قوله : (تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ). يجوز أن يكون خبرا ل «إنّ» أو خبرا لمبتدأ محذوف ، أو حال من «لظى» أو من «نزّاعة» على القراءتين فيها ؛ لأنها تتحمل ضميرا.

فصل في المراد بالآية

المعنى : تدعو «لظى» من أدبر في الدنيا عن الطّاعة لله «وتولّى» عن الإيمان ودعاؤها أن تقول : يا مشرك إليّ يا كافر إليّ.

وقال ابن عباس : تدعو الكافرين والمنافقين بأسمائهم بلسان فصيح : إليّ يا كافر ، إليّ يا منافق ، ثم تلتقطهم كما تلتقط الطّير الحبّ.

وقال ثعلب : «تدعو» ، أي : تهلك ، تقول العرب : دعاك الله ، أي : أهلكك الله.

وقال الخليل : إنّه ليس كالدّعاء «تعالوا» ولكن دعوتها إياهم تمكنها منهم ، ومن تعذيبهم.

وقيل : الدّاعي : خزنة جهنّم أضيف دعاؤهم إليها.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤١٩) عن ثابت وعزاه إلى ابن المنذر وذكره القرطبي (١٨ / ١٨٧) عن ثابت والحسن.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٣٢).

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٩٤) والقرطبي (١٨ / ١٨٧).

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٦) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٥) ينظر تفسير الماوردي (٦ / ٩٣) والبغوي (٤ / ٣٩٤) والقرطبي (١٨ / ١٦٧).

(٦) ينظر : ديوانه (٣٦) ، ولسان العرب (شظي) والقرطبي ١٨ / ١٨٧.

٣٦٥

وقيل : هو ضرب مثل ، أي : أنها تدعوهم بلسان الحال ، أي : إنّ مصير من أدبر ، وتولى إليها ، فكأنّها الدّاعية لهم.

ومثله قول الشاعر : [الكامل]

٤٨٦٥ ـ ولقد هبطنا الواديين فواديا

يدعو الأنيس به الغضيض الأبكم (١)

الغضيض الأبكم : الذباب ، وهو لا يدعو ، وإنّما طنينه نبّه عليه فدعا له.

قال القرطبيّ (٢) : «والقول الأول هو الحقيقة لظاهر القرآن ، والأخبار الصحيحة».

قال القشيريّ : ودعا لظى بخلق الحياة فيها حين تدعو ، وخوارق العادة غدا كثيرة.

قوله : (وَجَمَعَ فَأَوْعى). أي : جمع المال فجعله في وعاء ، ومنع منه حق الله تعالى ، فكان جموعا منوعا.

قال ابن الخطيب (٣) : «جمع» إشارة إلى حبّ الدنيا ، والحرص عليها ، «وأوعى» إشارة إلى الأمل ، ولا شكّ أنّ مجامع آفات الدين ليست إلّا هذه.

وقيل : «جمع» المعاصي «فأوعى» أي : أكثر منها حتى أثقلته ، وأصرّ عليها ، ولم يتب منها.

قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)(٣٥)

قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً).

قال الضحاك : المراد بالإنسان هنا الكافر.

وقيل : عام لأنه استثنى منه المصلين ، فدلّ على أن المراد به الجنس ، فهو كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) [العصر : ٢ ، ٣]. و «هلوعا» حال مقدرة.

والهلع مفسّر بما بعده ، وهو قوله «إذا ، وإذا».

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٨٧.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٨٧.

(٣) الفخر الرازي ٣٠ / ١١٣.

٣٦٦

قال ثعلب : سألني محمد بن عبد الله بن طاهر : ما الهلع؟.

فقلت : قد فسّره الله ، ولا يكون أبين من تفسيره ، وهو الذي إذا ناله شر أظهر شدة الجزع ، وإذا ناله خير بخل به ومنعه. انتهى.

وأصله في اللغة على ما قال أبو عبيد : أشدّ الحرص وأسوأ الجزع ، وهو قول مجاهد وقتادة وغيرهما.

وقد هلع ـ بالكسر ـ يهلع هلعا وهلاعا فهو هلع وهالع وهلوع ، على التكثير.

وقيل : هو الجزع والاضطراب السريع عند مسّ المكروه ، والمنع السّريع عند مسّ الخير من قولهم : «ناقة هلواع» ، أي : سريعة السير ، قال المفسرون : معناه : أنه لا يصبر في خير ولا شر ، حتى يفعل فيهما ما لا ينبغي.

روى السدّي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : الهلواع ، الحريص على ما لا يحل له (١).

وقال عكرمة : هو الضّجور (٢).

وقال الضحاك : هو الذي لا يشبع (٣).

والمنوع : هو الذي إذا أصاب حق المال منع منه حق الله تعالى.

وقال ابن كيسان : خلق الله الإنسان يحبّ ما يسرّه ، ويرضيه ، ويهرب مما يكرهه ، ثم تعبّده الله بإنفاق ما يحب والصبر على ما يكره.

وقال أبو عبيدة : الهلواع الذي إذا مسّه الخير لم يشكر ، وإذا مسّه الضّرّ لم يصبر.

وقال عليه الصلاة والسلام : «شرّ ما أعطي العبد شحّ هالع ، وجبن خالع» (٤).

والعرب تقول : ناقة هلواعة ، وهلواع إذا كانت سريعة السّير خفيفة ؛ قال : [الكامل]

٤٨٦٦ ـ صكّاء ذعلبة إذا استدبرتها

حرج إذا استقبلتها هلواع (٥)

الذّعلب والذّعلبة : النّاقة السّريعة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٣٤) عن ابن عباس.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢٠) عن عكرمة وعزاه إلى ابن المنذر.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢٠) وعزاه إلى ابن المنذر.

(٤) أخرجه أبو داود (٢٥١١) وأحمد (٢ / ٢٣٠) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٦ / ٨ ـ ٩) وابن حبان (٨٠٨ ـ موارد) وأبو نعيم في «الحلية» (٩ / ٥٠) والبيهقي (٩ / ١٧٠) والقضاعي في «مسند الشهاب» (٢ / ٢٧٠) رقم (١٣٣٨) من حديث أبي هريرة.

وقال الحافظ العراقي في «تخريج الإحياء» (٣ / ٢٥٣) رواه أبو داود بسند جيد.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٨٨.

٣٦٧

فصل في إعراب الآية

«جزوعا ، ومنوعا» فيهما ثلاثة أوجه :

أحدها : أنهما منصوبان على الحال من الضمير في «هلوعا» ، وهو العامل فيهما ، والتقدير : هلوعا حال كونه جزوعا ، وقت مسّ الشّرّ ، ومنوعا وقت مس الخير ، والظّرفان معمولان لهاتين الحالتين.

وعبّر أبو البقاء عن هذا الوجه بعبارة أخرى فقال : «جزوعا» حال أخرى ، والعامل فيها «هلوعا».

فقوله : «أخرى» يوهم أنها حال ثانية وليست متداخلة لو لا قوله : والعامل فيها هلوعا.

والثاني : أن يكونا خبرين ل «كان» ، أو «صار» مضمرة ، أي : إذا مسّه الشّرّ كان ، أو صار جزوعا ، وإذا مسّه الخير كان أو صار منوعا ، قاله مكيّ.

وعلى هذا ف «إذا» شرطية ، وعلى الأول ظرف محض ، العامل فيه ما بعده كما تقدم.

الثالث : أنّهما نعت ل «هلوعا» ، قاله مكيّ ، إلّا أنّه قال : وفيه بعد ؛ لأنك تنوي به التقديم بعد «إذا» انتهى.

وهذا الاستبعاد ليس بشيء ، فإنّه غاية ما فيه تقديم الظرف على عامله.

وإنّما المحذور تقديمه معمول النعت على المنعوت.

فصل في كلام القاضي

قال القاضي : قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) نظير قوله : (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) [الأنبياء : ٣٧] ، وليس المراد أنّه مخلوق على هذه الصفة ؛ لأن الله ـ تعالى ـ ذمّه عليها ، والله ـ تعالى ـ لا يذمّ فعله ، ولأنه استثنى المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم في ترك الخصلة المذمومة ، ولو كانت هذه الخصلة ضرورية حاصلة بخلق الله تعالى ، لما قدروا على تركها.

قال ابن الخطيب (١) : واعلم أنّ الهلع لفظ واقع على أمرين :

أحدهما : الحالة النفسانية التي لأجلها يقدم الإنسان على إظهار الجزع والفزع.

والثاني : تلك الأفعال الظاهرة من القول والفعل الدالة على تلك الحالة النفسانية ،

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١١٤.

٣٦٨

فلا شك أنّها تحدث بخلق الله ـ تعالى ـ لأنّ من خلقت نفسه على تلك الحالة لا يمكنه إزالة تلك الحالة من نفسه ، بل الأفعال الظّاهرة من القول والفعل يمكنه تركها والإقدام عليها فهي أمور اختيارية.

وأما الحالة النفسانية التي هي الهلع في الحقيقة ، فهي مخلوقة على سبيل الاضطرار.

فصل في المراد بالشر والخير في الآية

قوله : (إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً).

قيل : المراد بالخير والشر : الغنى والفقر ، أو الصحة والمرض ، والمعنى : أنّه إذا صار فقيرا أو مريضا أخذ في الجزع والشكاية ، وإذا صار غنيا ، أو صحيحا أخذ في منع المعروف ، وشحّ بماله.

فإن قيل : حاصل هذا الكلام أنّه نفور عن المضار لطلب الراحة ، وهذا هو اللائق بالعقل ، فلم ذمّه الله عليه.

فالجواب : إنّما ذمّه الله عليه لقصور نظره على الأمور العاجلة ، والواجب عليه أن يكون شاكرا راضيا في كل حال.

قوله : (إِلَّا الْمُصَلِّينَ).

قال النخعيّ : المراد ب «المصلين» : الذين يؤدون الصلاة المكتوبة (١).

وقال ابن مسعود : هم الذين يصلونها لوقتها ، فأمّا تركها فكفر (٢).

وقيل : هم الصحابة وقيل : هم المؤمنون عامّة.

قوله : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) ، أي : على مواقيتها.

وقال عقبة بن عامر : الذين إذا صلّوا لم يلتفتوا يمينا ولا شمالا (٣).

و «الدائم» الساكن ، ومنه : «نهى عن البول في الماء الدائم» ، أي : الساكن.

وقال ابن جريج والحسن : هم الذين يكثرون فعل التّطوع منها (٤).

فإن قيل : كيف قال : (عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) وقال في موضع آخر : (عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) [المؤمنون : ٩].

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٣٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤٢٠) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٤٠) وعزاه إلى ابن أبي شيبة.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٨٨).

(٤) ينظر المصدر السابق.

٣٦٩

قال ابن الخطيب (١) : دوامهم عليها ألا يتركوها في وقت من الأوقات ، ومحافظتهم عليها ترجع إلى الاهتمام بحالها ، حتى يأتي بها على أكمل الوجوه من المحافظة على شرائطها ، والإتيان بها في الجماعة وفي المساجد الشريفة والاجتهاد في تفريغ القلب عن الوسواس والرياء والسمعة ، وألّا يلتفت يمينا ولا شمالا ، وأن يكون حاضر القلب فاهما للأذكار ، مطلعا على حكم الصّلاة متعلق القلب بدخول أوقات الصلوات.

قوله : (وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ).

قال قتادة وابن سيرين : يريد الزكاة المفروضة (٢).

وقال مجاهد (٣) : سوى الزكاة ، وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس : صلة الرّحم وحمل الكل (٤).

والأول أصح ؛ لأنه وصف الحق بأنه معلوم ، والمعلوم هو المقدر ، وسوى الزكاة ليس بمعلوم إنما هو قدر الحاجة ، وذلك يقل ويكثر.

وقال ابن عباس : من أدّى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا يتصدق (٥) ، وأيضا فالله ـ تعالى ـ استثناه ممن ذمّه ، فدلّ على أنّ الذي لا يعطي هذا الحقّ يكون مذموما ، ولا حقّ على هذه الصفة إلا الزكاة.

وقوله : (لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ). تقدّم في الذّاريات.

قوله : (وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) [المعارج : ٢٦] ، أي : بيوم الجزاء ، وهو يوم القيامة ، أي : يؤمنون بالبعث ، والنشور.

(وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) ، أي : خائفون ، والإشفاق : الخوف إما من ترك واجب ، وإما من فعل محظور ، ثم أكّد ذلك الخوف بقوله :

(إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ).

قال ابن عباس : لمن أشرك أو كذّب أنبياءه (٦).

وقيل : لا يأمنه أحد ، بل الواجب على كل أحد أن يخافه ويشفق منه.

(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) تقدّم تفسيره في سورة «المؤمنون» [المؤمنين : ٥ ، ٦ ، ٧].

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١١٤.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٣٦).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» ٣٠ / ١١٥.

(٦) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٨٩).

٣٧٠

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) تقدّم أيضا [المؤمنين : ٨].

وقرىء (١) : «لأمانتهم» على التوحيد ، وهي قراءة ابن كثير وابن محيصن.

ف «الأمانة» اسم جنس تدخل فيها أمانات الدين ، فإنّ الشرائع أمانات ائتمن الله عليها عباده ، ويدخل فيها أمانات الناس من الودائع ، وقد مضى ذلك.

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ).

قرأ حفص (٢) : «بشهاداتهم» جمعا ، اعتبارا بتعدد الأنواع ، والباقون : بالإفراد ، أو المراد الجنس.

قال الواحديّ : والإفراد أولى ؛ لأنه مصدر ، فيفرد كما تفرد المصادر ، وإن أضيف إلى الجمع ك (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) [لقمان : ١٩] ومن جمع ذهب إلى اختلاف الشّهادات.

قال أكثر المفسرين : يقومون بالشهادة على من كانت عليه من قريب وبعيد يقومون بها عند الحكّام ، ولا يكتمونها.

وقال ابن عبّاس : بشهادتهم : أن الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله (٣).

قوله : (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ).

قال قتادة : على وضوئها وركوعها وسجودها ، فالدوام خلاف المحافظة فدوامهم عليها محافظتهم على أدائها لا يخلّون بها (٤) ، ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل ، ومحافظتهم عليها أن يراعوا إسباغ الوضوء لها ، ومواقيتها ، ويقيموا أركانها ، ويكملوها بسننها ، وآدابها ، ويحفظونها من الإحباط باقتراف المآثم ، فالدوام يرجع إلى نفس الصلوات ، والمحافظة على أحوالها ، ذكره القرطبيّ (٥).

ثم قال : (أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) ، أي : أكرمهم الله فيها ، بأنواع الكرامات.

قوله تعالى :(فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (٣٦) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (٣٧) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) (٣٩)

قوله : (فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ).

روي أنّ المشركين كانوا يجتمعون حول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يستمعون كلامه ، ويستهزئون به

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٥١ ، والحجة ٦ / ٧٣٢١ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٩٣ ، وحجة القراءات ٧٢٤.

(٢) ينظر : السبعة ٦٥١ ، والحجة ٦ / ١٣٢ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٩٣ ، وحجة القراءات ٧٢٤.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٨٩).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٨٩.

٣٧١

ويكذبونه ، ويقولون : إن دخل هؤلاء الجنّة كما يقول محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلندخلنّها قبلهم ، فنزلت هذه الآية إلى قوله : (أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ كَلَّا).

وقال أبو مسلم (١) : ظاهر الآية يدل على أنهم هم المنافقون ، فهم الذين كانوا عنده ، وإسراعهم المذكور هو الإسراع في الكفر ، لقوله تعالى : (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) [آل عمران : ١٧٦].

و «الإهطاع» : الإسراع.

قال الأخفش : «مهطعين» ، أي : مسرعين ، قال : [الوافر]

٤٨٦٧ ـ بمكّة أهلها ولقد أراهم

إليه مهطعين إلى السّماع (٢)

والمعنى : ما بالهم يسرعون إليك ، ويجلسون حولك ، ويعملون بما تأمرهم.

وقيل : ما بالهم يسرعون في التكذيب لك.

وقيل : ما بال الذين كفروا يسرعون إلى السّماع منك ليعيبوك ويستهزئوا بك.

وقال عطية : «مهطعين» : معرضين.

وقال الكلبيّ : ناظرين إليك تعجّبا.

وقال قتادة : مادّين أعناقهم مديمي النظر إليك ، وذلك من نظر العدو ، وهو منصوب على الحال.

قال القرطبيّ (٣) : نزلت في جميع المنافقين المستهزئين ، كانوا يحضرونه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ولا يؤمنون به ، و «قبلك» ، أي : نحوك.

قوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ).

أي : عن يمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وشماله حلقا حلقا وجماعات.

قوله : «عزين» ، حال من (الَّذِينَ كَفَرُوا).

وقيل : حال من الضمير في «مهطعين» فيكون حالا متداخلة ، و (عَنِ الْيَمِينِ) ، يجوز أن يتعلق ب «عزين» ؛ لأنّه بمعنى متفرقين. قاله أبو البقاء.

وأن يتعلق ب «مهطعين» أي : مسرعين عن هاتين الجهتين ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال ، أي : كائنين عن اليمين. قاله أبو البقاء.

و «عزين» جمع عزة ، والعزة : الجماعة. قال مكيّ.

قال مكيّ : «وإنما جمع بالواو والنون ؛ لأنه مؤنث لا يعقل ؛ ليكون ذلك عوضا مما حذف منه».

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ١١٦.

(٢) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٨٩.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٨٩.

٣٧٢

قيل : إن أصله : عزهة ، كما أنّ أصل سنة : سنهة ، ثم حذفت الهاء ، انتهى.

قال شهاب الدين (١) : قوله : لا يعقل سهو ، لأن الاعتبار بالمدلول ، ومدلوله ـ بلا شك ـ عقلاء. واختلفوا في لام «عزة» على ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّها «واو» من : «عزوته أعزوه» ، أي : نسبته ، وذلك أنّ المنسوب مضموم إلى المنسوب إليه ، كما أنّ كلّ جماعة مضموم بعضها إلى بعض.

الثاني : أنّها «ياء» ، إذ يقال «عزيته» ـ بالياء ـ أعزيه بمعنى عزوته ، فعلى هذا في لامها لغتان.

الثالث : أنّها هاء ، وتجمع تكسيرا على «عزه» نحو كسرة وكسر ، واستغني بهذا التكسير عن جمعها بالألف والتاء ، فلم يقولوا : «عزات» كما لم يقولوا في «شفة وأمة : شفات ولا أمات» استغناء ب «شفاه وإماء».

وقد كثر وروده مجموعا ب «الواو» والنون ؛ قال الراعي : [الكامل]

٤٨٦٨ ـ أخليفة الرّحمن إنّ عشيرتي

أمسى سراتهم عزين فلو لا (٢)

وقال الكميت : [الوافر]

٤٨٦٩ ـ ونحن وجندل باغ تركنا

كتائب جندل شتّى عزينا (٣)

وقال عنترة : [الوافر]

٤٨٧٠ ـ وقرن قد تركت لذي وليّ

عليه الطّير كالعصب العزين (٤)

وقال آخر : [الوافر]

٤٨٧١ ـ ترانا عنده واللّيل داج

على أبوابه حلقا عزينا (٥)

وقال الشاعر : [الوافر]

٤٨٧٢ ـ فلمّا أن أتين على أضاخ

تركن حصاه أشتاتا عزينا (٦)

والعزة لغة : الجماعة في تفرقة ، قاله أبو عبيدة.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٧٩.

(٢) رواية الديوان : «أولى أمر الله».

ينظر ديوانه (٢٢٨) ، وغريب القرآن لابن قتيبة (٤٨٦) ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٧٠ ، ومعاني الفراء ٣ / ١٨٦ ، والقرطبي ١٨ / ١٩٠ والبحر ٨ / ٣٢٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٩ ، والطبري ٢٩ / ٤٧.

(٣) ينظر ديوانه (٢٧٤) والقرطبي ١٨ / ١٩٠ ، والبحر ٨ / ٣٢٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٩.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٩٠ ، والبحر ٨ / ٣٢٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٩.

(٥) ينظر البحر ٨ / ٣٢٥ ، والقرطبي ١٨ / ١٩٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٠.

(٦) ينظر اللسان (عزا) ، والقرطبي ١٨ / ١٩٠ ، والبحر ٨ / ٢٥ ، والدر المصون ٦ / ٣٧٩.

٣٧٣

ومنه حديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه خرج إلى أصحابه فرآهم حلقا ، فقال : «ما لي أراكم عزين ، ألا تصفّون كما تصفّ الملائكة عند ربّها» ، قالوا : وكيف تصف الملائكة؟ قال : «يتمون الصف الأول فيتراصون في الصف» (١).

وقال الأصمعيّ : العزون : الأصناف ، يقال : في الدّار عزون ، أي : أصناف.

وفي «الصّحاح» (٢) : «العزة» الفرقة من الناس.

وقيل : العزة : الجماعة اليسيرة كالثلاثة والأربعة.

وقال الراغب : «وقيل : هو من قولهم : عزا عزاء فهو عز إذا صبر ، وتعزّى : تصبّر ، فكأنّها اسم للجماعة التي يتأسّى بعضها ببعض».

قال القرطبيّ (٣) : ويقال : عزون ، وعزون ـ بالضم ـ ولم يقولوا : عزات ، كما قالوا : ثبات ، قيل : كان المستهزئون خمسة أرهط.

وقال الأزهريّ : وأصلها من قولهم : عزا فلان نفسه إلى بني فلان يعزوها عزوا إذا انتمى إليهم ، والاسم : «العزوة» ، كلّ جماعة اعتزوها إلى آخر واحد.

قوله : (أَنْ يُدْخَلَ).

العامة : على بنائه للمفعول.

وزيد بن علي ، والحسن ، وابن يعمر (٤) ، وأبو رجاء ، وعاصم في رواية ، قال القرطبي(٥): وطلحة بن مصرف ، والأعرج على بنائه للفاعل.

فصل في تعلق الآية بما بعدها

لما قال المستهزئون : إن دخل هؤلاء الجنّة كما يقول محمد فلندخلنّها قبلهم ، أجابهم الله ـ تعالى ـ بقوله : (كَلَّا) لا يدخلونها ، ثم ابتدأ فقال : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) أي : أنهم يعلمون أنهم مخلوقون من نطفة ، ثم من علقة ، ثم كما خلق سائر جنسهم ، فليس لهم فضل يستوجبون به الجنة ، وإنما يستوجب بالإيمان ، والعمل الصالح ، ورحمة الله تعالى.

__________________

(١) أخرجه مسلم (١ / ٣٢٢) والطبري في تفسيره (١٢ / ٢٤١) ، وأبو داود (٢ / ٦٧٣) كتاب الأدب : باب في التحلق رقم (٤٨٢٣) ، وأحمد (٥ / ٩٣) من حديث جابر بن سمرة.

وأخرجه ابن حبان (٣١٢ ـ موارد) والطبري (١٢ / ٢٤١) وابن مردويه كما في «الدر المنثور» (٦ / ١٤٢) من حديث أبي هريرة وفي الباب عن أنس بن مالك ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢١) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٢) ينظر : الصحاح ٦ / ٢٤٢٠.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٩٠.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٣٧٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٠٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٠.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٩٠.

٣٧٤

وقيل : كانوا يستهزئون بفقراء المسلمين ويتكبرون عليهم ، فقال : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) ، أي : من القذر ، فلا يليق بهم هذا التكبر.

وقال قتادة في هذه الآية : إنّما خلقت يا ابن آدم من قذر فاتّق الله (١).

وروي أنّ مطرف بن عبد الله بن الشّخير ، رأى المهلّب بن أبي صفرة يتبختر في مطرف خزّ وجبّة خزّ ، فقال له : يا عبد الله ، ما هذه المشية التي يبغضها الله؟.

فقال له : أتعرفني ، قال : نعم ، أوّلك نطفة مذرة ، وآخرك جيفة قذرة ، وأنت تحمل العذرة ، فمضى المهلّب وترك مشيته (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : ذكروا في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها :

أحدها : لما احتج على صحة البعث دل على أنهم كانوا منكرين للبعث ، فكأنه قيل لهم : كلا إنكم منكرون للبعث فمن أين تطمعون بدخول الجنّة.

وثانيها : أنّ المستهزئين كانوا يستحقرون المؤمنين ـ كما تقدّم ـ فقال تعالى : إنّ هؤلاء المستهزئين مخلوقون مما خلقوا ، فكيف يليق بهم هذا الاحتقار؟.

وثالثها : أنّهم مخلوقون من هذه الأشياء المستقذرة ، ولم يتصفوا بالإيمان ، والمعرفة ، فكيف يليق بالحكمة إدخالهم الجنة؟.

وقيل : معنى قوله : (خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) ، أي : مراحل ما يعلمون وهو الأمر والنّهي والثواب والعقاب.

كقول الأعشى : [المتقارب]

٤٨٧٣ ـ أأزمعت من آل ليلى ابتكارا

وشطّت على ذي هوى أن تزارا (٤)

أي : من أجل ليلى.

قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ)(٤٤)

قوله : (فَلا أُقْسِمُ). قد تقدّم.

وقرأ جماعة : «فلأقسم» دون ألف.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٢٤٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٤٢١) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٩١).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ١١٧.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٩١.

٣٧٥

(بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) ، قرأ العامة : بجمع «المشارق ، والمغارب».

والجحدري وابن محيصن وأبو حيوة ، وحميد (١) : بإفرادهما ، وهي مشارق الشمس (٢) ومغاربها.

وقوله : (إِنَّا لَقادِرُونَ) ، جواب القسم : (عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) أي : نقدر على إهلاكهم ، وإذهابهم ، والإتيان بخير منهم ، (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) ، أي : لا يفوتنا شيء ، ولا يعجزنا أمر نريده.

قوله : (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا) ، أي : اتركهم يخوضوا في أباطيلهم ، ويلعبوا في دنياهم على جهة الوعيد ، واشتغل أنت بما أمرت به. وقد تقدم تفسيره في سورة «الطور».

واختلفوا فيما وصف الله به نفسه بالقدرة عليه ، هل خرج إلى الفعل أم لا؟.

فقيل : بدل بهم الأنصار والمهاجرين.

وقيل : بدل الله كفر بعضهم بالإيمان.

وقيل : لم يقع هذا التبديل ، وإنما ذكر الله ذلك تهديدا لهم لكي يؤمنوا.

قوله : (حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ).

قرأ ابن محيصن ومجاهد (٣) وأبو جعفر : «يلقوا» مضارع «لقى» ، والمعنى : أنّ لهم يوما يلقون فيه ما وعدوا ، وهذه الآية منسوخة بآية السّيف ، ثمّ ذكر ذلك اليوم فقال :

(يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ) ، يجوز أن يكون بدلا من «يومهم» أو منصوب بإضمار «أعني».

ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون خبر ابتداء مضمر ، وبني على الفتح ، وإن أضيف إلى معرب ، أي : هو يوم يخرجون ، كقوله : (هذا يَوْمُ يَنْفَعُ) [المائدة : ١١٩].

وتقدم الكلام عنه مشبعا.

والعامة : على بناء «يخرجون» للفاعل.

وقرأ السلميّ والمغيرة (٤) ، وروي عن عاصم : بناؤه للمفعول.

قوله : «سراعا» ، حال من فاعل «يخرجون» ، جمع سراع ك «ظراف» في «ظريف» ، و «كأنّهم» حال ثانية منه ، أو حال من ضمير الحال ، فتكون متداخلة.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٧١ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٣٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٠.

(٢) في ب : الأرض.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٧١ ، وفيه أنها رويت عن ابن كثير ، وينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٣٠.

(٤) ينظر : السابق.

٣٧٦

والأجداث : القبور ، ونظيره : (فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) [يس : ٥١] ، أي : سراعا إلى إجابة الدّاعي.

قوله : (إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ). متعلق بالخبر.

والعامّة : على «نصب» بالفتح ، وإسكان الصاد.

وابن عامر وحفص : بضمتين (١).

وأبو عمران [الجوني](٢) ومجاهد : بفتحتين.

والحسن وقتادة وعمرو بن ميمون وأبو رجاء وغيرهم (٣) : بضم النون ، وإسكان الصاد.

فالأولى : هو اسم مفرد بمعنى العلم المنصوب الذي يسرع الشخص نحوه.

وقال أبو عمرو : هو شبكة الصّائد ، يسرع إليها عند وقوع الصيد فيها مخافة انفلاته.

وأمّا الثانية ، فتحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه اسم مفرد بمعنى الصنم المنصوب للعبادة.

وأنشد للأعشى : [الطويل]

٤٨٧٤ ـ وذا النّصب المنصوب لا تعبدنّه

لعاقبة والله ربّك فاعبدا (٤)

يعني : إيّاك وذا النّصب.

الثاني : إنّه جمع «نصاب» ك «كتب» و «كتاب».

الثالث : أنّه جمع «نصب» نحو : «رهن ورهن ، وسقف وسقف» وهذا قول أبي الحسن.

وجمع الجمع : أنصاب.

وقال النحاس : وقيل : نصب ونصب ، بمعنى واحد ، كما قيل : عمر وعمر وأسد وأسد جمع أسد.

وأما الثالثة : ففعل بمعنى مفعول ، أي : منصوب كالقبض والنّقض.

والرابعة : تخفيف من الثانية ، والنصب أيضا : الشر والبلاء ، ومنه قوله تعالى : (أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ) [ص : ٤١].

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٥١ ، والحجة ٦ / ٣٢٢ ، ٣٢٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٧١ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٣٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٠.

(٣) ينظر السابق.

(٤) تقدم.

٣٧٧

فصل في معنى قوله : نصب

قال ابن عباس : (إِلى نُصُبٍ) ، أي إلى غاية ، وهي التي ينتهي إليها بصرك (١).

وقال الكلبيّ : هو شيء منصوب علم أو راية (٢).

وقال الحسن : كانوا يبتدرون إذا طلعت الشمس إلى نصبهم التي كانوا يعبدونها من دون الله لا يلوي أوّلهم على آخرهم (٣).

و «يوفضون» : يسرعون.

وقيل : يستبقون.

وقيل : يسعون.

وقيل : ينطلقون ، وهي متقاربة ، والإيفاض : الإسراع ؛ قال الشاعر : [المتقارب]

٤٨٧٥ ـ فوارس ذبيان تحت الحدي

د كالجنّ يوفضن من عبقر (٤)

وعبقر : موضع تزعم العرب أنه من أرض الجنّ ؛ قال لبيد : [الطويل]

٤٨٧٦ ـ ............

كهول وشبّان كجنّة عبقر (٥)

وقال الآخر : [الرجز]

٤٨٧٧ ـ لأنعتن نعامة ميفاضا (٦)

وقال الليث : وفضت الإبل تفضي وفضا ، وأوفضها صاحبها ، فالإيفاض متعد ، والذي في الآية لازم يقال : وفض وأوفض ، واستوفض بمعنى : أسرع.

قوله : (خاشِعَةً). حال إما من فاعل «يوفضون» وهو أقرب ، أو من فاعل «يخرجون» وفيه بعد منه ، وفيه تعدد الحال لذي حال واحدة ، وفيه الخلاف المشهور.

و «أبصارهم» فاعل ، والمعنى : ذليلة خاضعة لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله.

قوله : (تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) ، قرأ العامة : بتنوين «ذلّة» ، والابتداء ب (ذلِكَ الْيَوْمُ) ، وخبره (الَّذِي كانُوا).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٩٢).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٩٢ ، والبحر ٣٣٠٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٨١.

(٥) عجز بيت وصدره :

ومن غاد من إخوانهم وبنيهم

ينظر ديوانه (٥٤) ، ولسان العرب (عبقر) ، والصحاح (عبقر).

(٦) ينظر البحر ٨ / ٣٣٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٨١.

٣٧٨

وقرأ يعقوب والتمّار (١) : بإضافة «ذلّة» إلى «ذلك» وجر «اليوم» ؛ لأنه صفة ، و «الّذي» نعت لليوم.

و «ترهقهم» يجوز أن يكون استئنافا وأن يكون حالا من فاعل «يوفضون» أو «يخرجون» ، ولم يذكر مكي غيره.

ومعنى : «ترهقهم» ، أي : يغشاهم الهوان والذلة.

قال قتادة : هو سواد الوجوه.

والرّهق : الغشيان ، ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام ، يقال : رهقه ـ بالكسر ـ يرهقه رهقا ، أي : غشيه.

ومنه قوله تعالى : (وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ) [يونس : ٢٦].

(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) ، أي : يوعدونه في الدنيا أنّ لهم فيه العذاب ، وأخرج الخبر بلفظ الماضي ؛ لأن ما وعد الله به ، فهو حقّ كائن لا محالة.

روى الثّعلبيّ عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة سأل سائل ، أعطاه الله ثواب الّذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون ، والّذين هم على صلاتهم يحافظون» (٢).

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٣٠ ، والدر المصون ٦ / ٣٨١.

(٢) تقدم.

٣٧٩

سورة نوح

عليه‌السلام

مكيّة وهي ثمان وعشرون آية ، ومائتان وأربع وعشرون كلمة ، وتسعمائة وتسعة وعشرون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى :(إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً)(٢٠)

قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ).

روى قتادة عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «أوّل نبيّ أرسل نوح عليه الصلاة والسلام ، وأرسل إلى جميع أهل الأرض» (١).

ولذلك لمّا كفروا ، أغرق الله أهل الأرض جميعا ، وهو نوح بن لامك بن

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٩٤) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن عساكر.

وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٣٢٣٩١) وعزاه إلى ابن عساكر.

٣٨٠