اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

سورة «ن» القلم

مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر ، وقال ابن عباس وقتادة : من أولها إلى قوله (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) [القلم : ١٦] مكي ، ومن بعد ذلك إلى قوله (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) [القلم : ٤٧] مكي ، ومن بعد ذلك إلى قوله تعالى (مِنَ الصَّالِحِينَ) [القلم : ٥٠] مدني ، وباقيها. قاله الماورديّ (١).

وهي اثنتان وخمسون آية ، وثلاثمائة كلمة ، وألف ومائتان وستة وخمسون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (١) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (٢) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (٣) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (٤) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (٥) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (٦) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ)(٧)

قوله تعالى «ن» كقوله (ص وَالْقُرْآنِ) [ص : ١] ، وجواب القسم الجملة المنفية بعدها.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ هو الحوت الذي على ظهره الأرض ، وهو قول مجاهد ومقاتل والسدي والكلبي (٢).

وروى أبو ظبيان عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم ، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره فتحرك النون ، فمارت الأرض

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٥٩).

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٧٦) عن ابن عباس ومجاهد وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٧٦) عن ابن عباس مرفوعا وقال : رواه الطبراني وقال لم يرفعه عن حماد بن زيد إلا مؤمل بن إسماعيل قلت : ومؤمل ثقة كثير الخطأ وقد وثقه ابن معين وغيره وضعفه البخاري وغيره وبقية رجاله ثقات.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٧) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

وأورده السيوطي (٦ / ٣٨٨) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

٢٦١

فأثبتت بالجبال (١) وإن الجبال لتفخر على الأرض ، ثم قرأ ابن عباس : (ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ).

قال الواقديّ : اسم النون ليوثا.

وقال كعب الأحبار : لوثوثا.

وعن علي : اسمه تلهوت.

وقيل : إنه أقسم بالحوت الذي ابتلع يونس ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

وقيل : الحوت الذي لطخ سهم نمروذ بدمه.

وقال الكلبي ومقاتل : اسم الحوت الذي على ظهر الأرض : البهموت (٢).

قال الراجز : [الرجز]

٤٨٠٥ ـ ما لي أراكم كلّكم سكوتا

والله ربّي خلق البهموتا (٣)

وروى عكرمة عن ابن عباس : أن نون آخر حروف الرحمن (٤).

وقيل : إنه اسم للدواة ، وهو أيضا مروي عن ابن عباس.

قال القرطبيّ : وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «أوّل ما خلق الله القلم ، ثمّ خلق النّون ، وهي الدّواة ، وذلك قوله تعالى (ن وَالْقَلَمِ)(٥). ومنه قول الشاعر : [الوافر]

٤٨٠٦ ـ إذا ما الشّوق يبرح بي إليهم

وألفى النّون بالدّمع السّجام (٦)

ويكون على هذا قسما بالدواة والقلم ، فإن المنفعة بهما عظيمة بسبب الكتابة ، فإن التفاهم يحصل تارة بالنطق ، وتارة بالكتابة.

وقيل : النون لوح من نور تكتب فيه الملائكة ما يؤمرون به ، رواه معاوية بن قرة مرفوعا.

وقيل : النون هو المداد الذي تكتب به الملائكة.

وقال عطاء وأبو العالية : هو افتتاح اسمه تعالى ناصر ونور ونصير ، وقال محمد بن كعب : أقسم الله ـ تعالى ـ بنصره للمؤمنين.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٧٥) من طريق أبي ظبيان عن ابن عباس.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٤٧).

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٤٧.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٧٦).

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٨) وعزاه إلى الحكيم الترمذي وذكره ابن كثير في «تفسيره» (٤ / ٤٠١) من رواية ابن أبي حاتم وقال : حديث مرفوع غريب جدا.

(٦) ينظر الرازي ٣٠ / ٦٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٠٢ ، وروح المعاني ٢٩ / ٢٨.

٢٦٢

وقال جعفر الصادق : هو نهر من أنهار الجنّة يقال له : نون.

وقيل : هو الحرف المعروف من حروف المعجم ، قاله القشيري.

قال : لأنه حرف لم يعرب فلو كان كلمة تامة أعرب به القلم ، فهو إذن حرف هجاء ، كما في أوائل السور.

قال الزمخشريّ (١) : «وأما قولهم : هو الدواة فما أدري أهو وضع لغوي ، أو شرعي ، ولا يخلو إذا كان اسما للدواة من أن يكون جنسا ، أو علما ، فإن كان جنسا فأين الإعراب والتنوين وإن كان علما فأين الإعراب؟ وأيهما كان فلا بد له من موقع في تأليف الكلام ؛ لأنك إذا جعلته مقسما به وجب إن كان جنسا أن تجره وتنونه ، ويكون القسم بدواة منكرة مجهولة ، كأنه قيل : ودواة والقلم ، وإن كان علما أن تصرفه وتجره أو لا تصرفه وتفتحه للعلمية والتأنيث ، وكذلك التفسير بالحوت إما أن يراد نون من النينان ، أو يجعل علما للبهموت الذي يزعمون ، والتفسير باللوح من نور أو ذهب والنهر في الجنّة نحو ذلك».

قال شهاب الدين (٢) : «وهذا الذي أورده أبو القاسم من محاسن علم الإعراب ، وقلّ من يتقنه».

وقال ابن الخطيب (٣) : بعد ذكر القول بأنه آخر حروف اسم الرحمن : وهذا ضعيف ، لأن تجويزه يفتح باب ترهات الباطنية بل الحق هاهنا أنه اسم للسورة ، أو يكون الغرض منه التحدي ، وسائر الوجوه المذكورة في أول سورة البقرة.

فصل في قراءات «ن»

قرأ العامة : «نون» ساكن النون كنظائره.

وأدغم ابن عامر والكسائي وأبو بكر عن عاصم (٤) بلا خلاف ، وورش بخلاف عنه النون في الواو ، وأظهرها الباقون.

قال الفراء (٥) : «وإظهارها أعجب إليّ ، لأنها هجاء ، والهجاء كالموقوف عليه وإن اتصل» ونقل عمن أدغم الغنّة ، وعدمها.

وقرأ ابن عباس والحسن (٦) وأبو السّمال وابن أبي إسحاق : بكسر النون.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٨٤.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٤٩.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٦٨.

(٤) ينظر : السبعة ٦٤٦ ، والحجة ٦ / ٣٠٩ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٨١ ، وحجة القراءات ٦١٧ ، والعنوان ١٩٥ ، وإتحاف ٢ / ٥٥٣.

(٥) ينظر : معاني القرآن له ٣ / ١٧٢.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٤٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٠٢ ، والدر المصون ٦ / ٣٤٩.

٢٦٣

وسعيد (١) بن جبير وعيسى بخلاف عنه : بفتحها.

فالأولى على التقاء الساكنين ، ولا يجوز أن يكون مجرورا على القسم حذف حرف الجر وبقي عمله ، كقولهم : «الله لأفعلنّ» ، لوجهين :

أحدهما : أنه مختص بالجلالة المعظمة نادر فيما عداها.

والثاني : أنه كان ينبغي أن ينون ، ولا يحسن أن يقال : هو ممنوع الصرف اعتبارا بتأنيث السورة ، لأنه كان ينبغي ألّا يظهر فيه الجر بالكسر ألبتة.

وأما الفتح ، فيحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يكون بناء ، وأوثر على الأصل للخفة ك «أين وكيف».

الثاني : أن يكون مجرورا بحرف القسم المقدر على لغة ضعيفة ، وقد تقدم ذلك في قراءة (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ) [ص : ٨٤] ، بجرّ «الحقّ» ، ومنعت الصرف اعتبارا بالسورة.

والثالث : أن يكون منصوبا بفعل محذوف (٢) ، أي : ، اقرأوا نونا ثم ابتدأ قسما بقوله : «والقلم» أو يكون منصوبا بعد حذف حرف القسم ؛ كقوله : [الوافر]

٤٨٠٧ ـ ...........

فذاك أمانة الله الثّريد (٣)

ومنع الصرف لما تقدم ، وهذا أحسن لعطف العلم على محله.

قوله : (وَما يَسْطُرُونَ).

«ما» موصولة ، اسمية أو حرفية ، أي : والذي يسطرونه من الكتب ، وهم الكتّاب والحفظة من الملائكة وسطرهم.

والضمير عائد على من يسطر لدلالة السياق عليه ولذكر الآلة المكتتب بها.

وقال الزمخشري (٤) يجوز أن يراد بالقلم أصحابه فيكون الضمير في «يسطرون» لهم.

يعني فيصير كقوله : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ) [النور : ٤٠] تقديره : أو كذي ظلمات فالضمير في «يغشاه» يعود على «ذي» المحذوف.

فصل في المراد بالقلم

في «القلم» المقسم به قولان :

أحدهما : أن المراد به الجنس ، وهو واقع على كل قلم يكتب به في السماء والأرض ، قال تعالى : (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٣ ، ٤ ، ٥] ،

__________________

(١) ينظر السابق.

(٢) وهو تخريج ابن خالويه كما في «إعراب القراءات السبع» له ٢ / ٣٨٢.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٨٤.

٢٦٤

ولأنه ينتفع به كما ينتفع بالنطق كما قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) [الرحمن : ٣ ، ٤] ، فالقلم يبين كما يبين اللسان في المخاطبة بالكتابة للغائب والحاضر.

والثاني : أنه القلم الذي جاء في الخبر ، عن ابن عباس : أول ما خلق الله القلم ثم قال له : اكتب قال : ما أكتب؟ قال : ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل ، أو أجل ، أو رزق ، أو أثر ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة ، قال : ثم ختم في القلم فلم ينطق ولا ينطق إلى يوم القيامة ، قال : وهو قلم من نور طوله كما بين السماء والأرض.

وروى مجاهد ، قال : أول ما خلق الله القلم ، فقال : اكتب القدر ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، وإنما يجري الناس على أمر قد فرغ منه (١).

قال القاضي (٢) : هذا الخبر يجب حمله على المجاز ؛ لأن القلم آلة مخصوصة للكتابة ، ولا يجوز أن يكون حيا عاقلا فيؤمر وينهى ؛ فإن الجمع بين كونه حيوانا مكلفا وبين كونه آلة للكتابة محال بل المراد منه أنه تعالى أجراه بكل ما يكون وهو كقوله تعالى (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٤٧] فإنه ليس هناك أمر ، ولا تكليف ، وهو مجرد نفاذ القدرة في المقدور من غير منازعة ، ولا مدافعة.

وقيل : القلم المذكور هو العقل وأنه شيء هو كالأصل لجميع المخلوقات ، قالوا : والدليل عليه أنه قد روي في الأخبار : أن أول ما خلق الله القلم.

وفي خبر آخر : أول ما خلق الله العقل ، فقال الجبار : ما خلقت خلقا أعجب إلي منك ، وعزتي وجلالي لأكلمنك فيمن أحببت ولأبغضنك فيمن أبغضت ، قال : ثم قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : أكمل النّاس عقلا أطوعهم لله وأعلمهم بطاعته (٣).

وفي خبر آخر : أول ما خلق الله جوهرة ، فنظر إليها بعين الهيبة فذابت ، وسخنت ، فارتفع منها دخان وزبد ، فخلق من الدخان السموات ، ومن الزبد الأرض.

قالوا : فهذه الأخبار بمجموعها تدل على أن القلم والعقل وتلك الجوهرة التي هي أصل المخلوقات شيء واحد ، وإلا حصل التناقض.

قوله : (وَما يَسْطُرُونَ) ، أي : وما يكتبون ، يريد : الملائكة يكتبون أعمال بني آدم.

قاله ابن عباس.

وقيل : وما يكتبون الناس ويتفاهمون به.

وقال ابن عباس : معنى (وَما يَسْطُرُونَ) وما يعملون (٤).

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٤٨).

(٢) ينظر الفخر الرازي (٣٠ / ٦٩).

(٣) ذكره ابن القيم في «المنار المنيف» (ص ٦٦) وقال : أحاديث العقل كلها كذب.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٩) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٢٦٥

قال ابن الخطيب (١) : (وَما يَسْطُرُونَ) مع ما بعدهما في تقدير المصدر فيحتمل أن يكون المراد وسطرهم ، فيكون القسم واقعا بنفس الكتابة ، ويحتمل أن يكون المراد به المسطور والمكتوب ، فإن حمل القلم على كل قلم في مخلوقات الله تعالى ، فكأنه تعالى أقسم بكل قلم ، وبكل ما يكتب بكل قلم وقيل : المراد ما يسطره الحفظة الكرام ، ويجوز أن يراد بالقلم أصحابه ، فيكون الضمير في «يسطرون» لهم ، كأنه قيل : وأصحاب القلم ، وسطرهم ، أو مسطوراتهم ، وإن حمل على القلم المعين ، فيحتمل أن يكون المراد بقوله (وَما يَسْطُرُونَ) ، أي : وما يسطرون فيه ، وهو اللوح المحفوظ ولفظ الجمع في قوله «يسطرون» ليس المراد منه الجمع بل التعظيم ، ويكون المراد تلك الأشياء التي سطرت فيه من جميع الأمور الكائنة إلى يوم القيامة.

قوله (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ).

قد تقدم الكلام على نظيره في «الطّور» في قوله (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ) [الطور : ٢٩].

إلا أن الزمخشري قال هنا (٢) : «فإن قلت : بم تتعلق الباء في (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) وما محله؟ قلت : متعلق بمجنون منفيا كما يتعلق بعاقل مثبتا كقولك : أنت بنعمة ربّك عاقل ، مستويا في ذلك الإثبات والنفي استواءهما في قولك : ضرب زيد عمرا ، وما ضرب زيد عمرا ، فعمل الفعل منفيا ومثبتا إعمالا واحدا ، ومحله النصب على الحال كأنه قال : ما أنت مجنونا منعما عليك بذلك ، ولم تمنع الباء أن يعمل «مجنون» فيما قبله ، لأنها زائدة لتأكيد النفي».

قال أبو حيّان (٣) : «وما ذهب إليه الزمخشريّ ، من أن الباء يتعلق بمجنون ، وأنه في موضع الحال يحتاج إلى تأمل ، وذلك أنه إذا تسلط النفي في محكوم به ، وذلك له معمول ، ففي ذلك طريقان :

أحدهما : أن النفي يسلط على المعمول فقط.

والآخر : أن يسلط النفي على المحكوم به فينتفي معموله لانتفائه ، بيان ذلك أن تقول : ما زيد قائم مسرعا ، فالمتبادر إلى الذهن أنه منتف إسراعه دون قيامه ، فيكون قد قام غير مسرع ، والوجه الآخر : أنه انتفى قيامه فانتفى إسراعه ، أي : قيام ، فلا إسراع ، وهذا الذي قررناه لا يتأتى معه قول الزمخشري ، بل يؤدي إلى ما لا يجوز النطق به في حق المعصوم» انتهى.

__________________

(١) ينظر : السابق.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٨٤.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٠٢.

٢٦٦

واختار أبو حيان أن يكون «بنعمة» قسما معترضا به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التأكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم (١).

وقال ابن عطية (٢) : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) اعتراض ، كما تقول للإنسان : أنت بحمد الله فاضل ، قال : ولم يبين ما تتعلق به الباء في «بنعمة».

قال شهاب الدين (٣) : والذي تتعلق به الباء في هذا النحو معنى مضمون الجملة نفيا وإثباتا كأنه قيل : انتفى عنك ذلك بحمد الله ، والباء سببية ، وثبت ذلك الفضل بحمد الله تعالى ، وأما المثال الذي ذكره ، فالباء تتعلق فيه بلفظ «فاضل» وقد نحا صاحب «المنتخب» إلى هذا فقال : المعنى انتفى عنك الجنون بنعمة ربك.

وقيل : معناه ما أنت مجنون والنعمة لربك ، كقولهم : سبحانك اللهم وبحمدك ، أي : والحمد لله ؛ وقول لبيد : [الطويل]

٤٨٠٨ ـ وأفردت في الدّنيا بفقد عشيرتي

وفارقني جار بأربد نافع (٤)

أي وهو أربد ، وهذا ليس بتفسير إعراب بل تفسير معنى.

فصل في إعراب الآية

قوله تعالى (ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ). هذا جواب القسم ، وهو نفي.

قال الزجاج (٥) : «أنت» هو اسم «ما» و «مجنون» الخبر ، وقوله : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) كلام وقع في الوسط ، أي : انتفى عنك الجنون بنعمة ربك ، كما يقال : أنت بحمد الله عاقل.

روى ابن عباس : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم غاب عن خديجة إلى حراء ، وطلبته ، فلم تجده ، فإذا به ووجهه متغير بلا غبار ، فقالت : ما لك؟.

فذكر جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ وأنه قال له : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] ، فهو أول ما نزل من القرآن ، قال : ثم نزل بي إلى قرار الأرض ، فتوضأ ، وتوضأت ، ثم صلى ، وصليت معه ركعتين ، وقال : هكذا الصلاة ـ يا محمد ـ فذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك لخديجة ، فذهبت خديجة إلى ورقة بن نوفل ـ وهو ابن عمها ـ وكان قد خالف دين قومه ودخل في النصرانية ، فسألته فقال : أرسلي إليّ محمدا ، فأرسلته فقال : هل أمرك جبريل ـ عليه

__________________

(١) ينظر السابق.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٤٦.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٥٠.

(٤) البيت للبيد بن ربيعة ، ينظر ديوانه (١٦٨) ، القرطبي ١٨ / ١٤٨ ، والبحر ٨ / ٣٠٣ والدر المصون ٦ / ٣٥٠ ورواية الديوان :

وقد كنت في أكناف جار مضنّة

ففارقني جار بأربد نافع

(٥) ينظر معاني القرآن للزجاج ٥ / ٢٠٤.

٢٦٧

السلام ـ أن تدعو أحدا؟ فقال : لا فقال : والله لئن بقيت إلى دعوتك لأنصرنك نصرا عزيزا ، ثم مات قبل دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووقعت تلك الواقعة في ألسنة كفار قريش ، فقالوا : إنه مجنون ، فأقسم الله تعالى على أنه ليس بمجنون ، وهو خمس آيات من أول هذه السورة (١) ، قال ابن عباس: أول ما نزل قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ) [الأعلى : ١] ، وهذه الآية هي الثانية(٢) ، نقله ابن الخطيب (٣).

وذكر القرطبيّ (٤) : أن المشركين كانوا يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : مجنون به شيطان وهو قوله (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) [الحجر : ٦] فأنزل الله تعالى ردا عليهم وتكذيبا لقولهم (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) أي : برحمة ربك ، والنعمة هاهنا الرحمة. وقال عطاء وابن عباس : يريد بنعمة ربّك عليك بالإيمان والنبوة.

قال القرطبي (٥) : «ويحتمل أن النعمة ـ هاهنا ـ قسم ، تقديره : ما أنت ، ونعمة ربك بمجنون لأن الواو والباء من حروف القسم» وقد تقدم.

فصل

قال ابن الخطيب (٦) : اعلم أنه تعالى وصفه ـ هاهنا ـ بصفات ثلاث :

الأولى : نفي الجنون عنه ثم قرن بهذه الدعوى ما يكون كالدلالة القاطعة على صحتها ، لأن قوله : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) يدل على أن نعم الله تعالى ظاهرة في حقه من الفصاحة التامة ، والعقل الكامل ، والسيرة المرضية ، والبراءة من كل عيب ، والاتصاف بكل مكرمة ، وإذا كانت هذه النعم ظاهرة محسوسة ووجودها ينافي حصول الجنون ، فالله تعالى نبه على أن هذه الحقيقة جارية مجرى الدلالة اليقينية على كذبهم في قولهم : «إنه مجنون».

الصفة الثانية : قوله : (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ) أي : ثوابا على ما تحملت غير منقوص ولا مقطوع منه ، يقال : منّ الشيء إذا ضعف ، ويقال : مننت الحبل إذا قطعته ، وحبل منين إذا كان غير متين.

قال لبيد : [الكامل]

٤٨٠٩ ـ ...........

غبس كواسب ما يمنّ طعامها (٧)

__________________

(١) ذكره الرازي في «تفسيره» (٣٠ / ٧٠).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٧٠.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٤٨.

(٥) السابق.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٧٠.

(٧) عجز بيت وصدره :

لمعفر قهد تنازع شلوه ـ

٢٦٨

أي : لا يقطع ، يصف كلابا ضارية ، ونظيره قوله تعالى (غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود : ١٠٨] ، وقال مجاهد ومقاتل والكلبي : (غَيْرَ مَمْنُونٍ)(١) أي : غير محسوب عليك ، قالت المعتزلة (٢) : لأنك تستوجبه على [عملك](٣) ، وجوابهم : إن حملهم على هذا يقتضي التكرار ، لأن قوله «أجرا» يفيده ، وقال الحسن : غير مكدر بالمن.

وقال الضحاك : أجرا بغير عمل (٤) ، واختلفوا في هذا الأجر على أي شيء حصل؟ فقيل : معناه إن لك على احتمال هذا الطعن ، والقول القبيح أجرا عظيما دائما.

وقيل : إن لك في إظهار النبوة ، والمعجزات في دعاء الخلق إلى الله تعالى وفي بيان الشرع لهم هذا الأجر الخالص الدائم فلا يمنعك نسبتهم إياك إلى الجنون عن الاشتغال بهذا المهم العظيم فإن لك بسببه المنزلة العالية.

الصفة الثالثة : قوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).

قال ابن عباس ومجاهد : «على خلق» على دين عظيم من الأديان ، ليس دين أحب إلى الله ، ولا أرضى عنده منه (٥).

وروى مسلم عن عائشة : أن خلقه كان القرآن (٦).

وقال علي ـ رضي الله عنه ـ : هو أدب القرآن (٧).

وقيل : رفقه بأمته ، وإكرامه إياهم.

وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله ، وينتهي عنه مما نهى الله عنه (٨).

وقيل : إنّك على طبع كريم.

وقال الماوردي (٩) : حقيقة الخلق في اللّغة ما يأخذ به الإنسان في نفسه من الأدب

__________________

ـ ينظر : ديوانه (٣٠٨) ، والخصائص ١ / ٢٩٧ ، والقرطبي ١٨ / ١٤٨ ، والبحر ٨ / ٣٠٣ ، واللسان (قهد) ، (منن) ، ومحاضرات الراغب ٢ / ٢٩٤ ، والحيوان ٣ / ١٦٢ ، والرازي ٣٠ / ٧١ ، ومجمع البيان ١٠ / ٧٠٢.

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٧٩) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٩) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٧١.

(٣) في أ : ذلك.

(٤) ذكره الماوردي (٦ / ٦١) والقرطبي (١٨ / ١٤٨).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٧٩) عن ابن عباس ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٠) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

(٦) تقدم.

(٧) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٠) عن عطية العوفي وعزاه إلى ابن المبارك وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في «الدلائل».

وقد أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٠).

(٨) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٤٨).

(٩) ينظر النكت والعيوب ٦ / ٦١.

٢٦٩

يسمّى خلقا ، لأنّه يصير كالخلقة فيه فأما ما طبع عليه من الأدب فهو الخيم ، فيكون الخلق : الطبع المتكلف ، والخيم : الطبع الغريزي.

قال القرطبي (١) : «ما ذكره مسلم (٢) في صحيحه عن عائشة أصح الأقوال ، وسئلت أيضا عن خلقه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فقرأت (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) [المؤمنون : ١] إلى عشر آيات» (٣).

قال ابن الخطيب (٤) : وهذا إشارة إلى أن نفسه القدسية كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيب وإلى كل ما يتعلق بها ، وكانت شديدة النفرة من اللذات البدنية ، والسعادات الدنيوية بالطبع ، ومقتضى الفطرة ، وقالت : ما كان أحد أحسن خلقا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما دعاه أحد من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال : لبيك ، ولذلك قال الله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي الحظ الأوفر.

وقال الجنيد : سمى خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ، بدليل قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «إنّ الله بعثني لأتمّم مكارم الأخلاق» (٥).

فصل

قال ابن الخطيب (٦) : قوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) كالتفسير لما تقدم من قوله تعالى : (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب وخطأ ؛ لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه ، وإذا كان موصوفا بتلك الأخلاق والأفعال ، لم يجز إضافة الجنون إليه ؛ لأن الأخلاق المجانين سيئة ، ولما كانت أخلاقه الحميدة صلى‌الله‌عليه‌وسلم كاملة لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة ، ولهذا قال : (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص : ٨٦] أي : لست مكلفا فيما يظهر لكم من الأخلاق ، لأنه تعالى قال : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠] فهذا الهدي الذي أمر الله محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاقتداء به ليس هو

__________________

(١) ينظر مسلم ٢ / ٥١٢ ـ ٥١٣ في صلاة المسافرين (١٣٩ ـ ٧٤٦).

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٤٩.

(٣) أخرجه النسائي في «الكبرى» (٦ / ٤١٢) والحاكم (٢ / ٣٩٢) عن يزيد بن بابنوس قال : قلنا لعائشة : كيف كان خلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرته.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٤) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٧٢.

(٥) أخرجه أحمد (٢ / ٣٩٨) والبخاري في «الأدب المفرد» (٢٧٣) والحاكم (٢ / ٦١٣) والبيهقي (١٠ / ١٩١ ، ١٩٤) والقضاعي في «مسند الشهاب» (١١٦٥) من طريق القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة إلا أن أحمد قال : «صالح الأخلاق».

ورواه مالك في «الموطأ» (٢ / ٢١١) بلاغا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٧١.

٢٧٠

معرفة الله تعالى ؛ لأن ذلك تقليدا ، وهو غير لائق بالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس هو الشرائع ؛ لأن شريعته كشرائعهم ، فتعين أن يكون المراد منه أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء فيما اختص به من الخلق الكريم ، وكان كل واحد منهم مختصا بنوع واحد ، فلما أمر محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يقتدي بالكل ، فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقا فيهم ، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحد من الأنبياء قبله ـ لا جرم ـ وصف الله خلقه بأنه عظيم ، وكلمة «على» للاستعلاء فدل اللفظ على أنه مستعل على هذه الأخلاق ، ومستول عليها ، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الحميدة كالمولى بالنسبة إلى العبد ، وكالأمير بالنسبة إلى المأمور.

وقد وردت أحاديث كثيرة صحيحة في مدح الخلق الحسن ، وذم الخلق السّيّىء.

قوله : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ).

قال ابن عباس : معناه فستعلم ويعلمون يوم القيامة.

وقيل : فسترى وترون يوم القيامة حتى يتبين الحق والباطل.

وقيل : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) في الدنيا كيف تكون عاقبة أمرك وأمرهم فإنك تصير معظما في القلوب ، ويصيرون ذليلين ملعونين ويستولى عليهم بالقتل والنهب.

قال مقاتل بن حيان : هذا وعيد العذاب ببدر.

قوله (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) فيه أربعة أوجه :

أحدها : أن الباء مزيدة في المبتدأ ، والتقدير : أيكم المفتون ، فزيدت كزيادتها في نحو «بحسبك زيد» ، وإلى هذا ذهب قتادة وأبو عبيدة معمر بن المثنى.

إلا أنه ضعيف من حيث إن الباء لا تزاد في المبتدأ إلا في «حسبك» فقط.

الثاني : أن الباء بمعنى «في» فهي ظرفية ، كقولك : «زيد بالبصرة» أي : فيها ، والمعنى : في أي فرقة ، وطائفة منكم المفتون : أي المجنون في فرقة الإسلام أم في فرقة الكفار؟ وإليه ذهب مجاهد والفراء (١).

ويؤيده قراءة (٢) ابن أبي عبلة : «في أيكم».

والثالث : أنه على حذف مضاف ، أي «بأيكم فتن المفتون» فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وإليه ذهب الأخفش (٣). وتكون الباء سببية.

والرابع : أن المفتون مصدر جاء على «مفعول» ك «المعقول» و «الميسور» ، والتقدير : (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ).

فعلى القول الأول يكون الكلام تاما عند قوله : «ويبصرون» ، ويبتدأ بقوله (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ).

__________________

(١) ينظر : معاني القرآن ٣ / ١٧٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٠٣ ، والدر المصون ٦ / ٣٥١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٣٠٣.

٢٧١

وعلى الأوجه بعده تكون الباء متعلقة بما قبلها ، ولا يوقف على «يبصرون».

وعلى الأوجه الأول الثلاثة يكون «المفتون» اسم مفعول على أصله ، وعلى الوجه الرابع يكون مصدرا ، وينبغي أن يقال : إن الكلام إنما يتم على قوله «المفتون» سواء قيل : بأن الباء مزيدة أم لا ، لأن قوله (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) معلق بالاستفهام بعده ، لأنه فعل بمعنى الرؤية البصرية تعلق على الصحيح ، بدليل قولهم : أما ترى أن برق هاهنا ، فكذلك الإبصار ، لأنه هو الرؤية بالعين ، فعلى القول بزيادة الباء ، تكون الجملة الاستفهامية في محل نصب ؛ لأنها واقعة موقع مفعول الإبصار.

فصل

قال القرطبيّ (١) : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) بأيكم المفتون ، الذي فتن بالجنون ، كقوله تعالى (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] و (يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ) [الإنسان : ٦] ، وهو قول قتادة وأبي عبيدة (٢) كما تقدم وقيل : الباء ليست مزيدة ، والمعنى (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي : الفتنة ، وهو مصدر على وزن المفعول ويكون المعنى : المفتون ، كقولهم : ما لفلان مجلود ولا معقول ، أي : عقل ولا جلادة ، قاله الحسن والضحاك وابن عباس.

قال الراعي : [الكامل]

٤٨١٠ ـ حتّى إذا لم يتركوا لعظامه

لحما ولا لفؤاده معقولا (٣)

أي عقلا ، والمفتون المجنون الذي فتنه الشيطان.

وقيل : المفتون المعذب من قول العرب فتنت الذهب بالنار ، إذا حميته ، قال تعالى (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) [الذاريات : ١٣] أي : يعذبون وقيل : المفتون : الشيطان ؛ لأنه مفتون في دينه ، وكانوا يقولون : إن به شيطانا ، وعنوا بالمجنون هذا فقال الله تعالى لهم : فسيعلمون غدا بأيهم [المجنون](٤) أي : الشيطان الذي يحصل من مسه الجنون واختلاط العقل.

قوله : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ). أي : إن الله هو العالم بمن حاد عن دينه (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) ، أي : الذين هم على الهدى ، فيجازي كلّا غدا.

قوله تعالى : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (٨) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (٩) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (١٠) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (١١) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (١٣) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٥) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (١٦)

قوله : (فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ) نهاه عن ممايلة المشركين وكانوا يدعونه إلى أن يكف

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٥٠.

(٢) زاد في أ : والضحاك.

(٣) ينظر : القرطبي (١٨ / ١٥٠).

(٤) في أ : المفتون.

٢٧٢

عنهم ليكفوا عنه ، فبين الله تعالى أن ممايلتهم كفر ، وقال تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء : ٧٤] وقيل : فلا تطع المكذبين فيما دعوك إليه من دينهم الخبيث ، نزلت في مشركي قريش حين دعوه إلى دين آبائه.

قوله : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ).

المشهور في قراءة الناس ومصاحفهم : «فيدهنون» بثبوت نون الرفع وفيه وجهان :

أحدهما : أنه عطف على «تدهن» فيكون داخلا في حيز «لو».

والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : فهم يدهنون.

وقال الزمخشريّ (١) : «فإن قلت : لم رفع «فيدهنون» ولم ينصب بإضمار «أن» وهو جواب التمني؟.

قلت : قد عدل به إلى طريق آخر وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف ، أي فهم يدهنون ، كقوله : (فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) [الجن : ١٣] على معنى ودوا لو تدهن فهم يدهنون حينئذ ، أو ودوا إدهانك ، فهم الآن يدهنون لطمعهم في إدهانك قال سيبويه(٢) : وزعم هارون أنها في بعض المصاحف : ودّوا لو تدهن فيدهنوا» انتهى.

وفي نصبه على ما وجد في بعض المصاحف وجهان :

أحدهما : أنه عطف على التوهم ، كأنه توهم أن نطق ب «أن» فنصب الفعل على هذا التوهم وهذا إنما يجيء على القول بمصدرية «لو» ، وفيه خلاف تقدم تحقيقه في «البقرة» (٣).

والثاني : أنه نصب على جواب التمني المفهوم من «ودّ».

والظاهر أن «لو» حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وأن جوابها محذوف ومفعول الودادة أيضا محذوف ، تقديره : ودوا إدهانك ، فحذف إدهانك ، لدلالة «لو» وما بعدها عليه وتقدير الجواب : لسروا بذلك.

فصل في معنى الآية

قال ابن عباس وعطية والضحاك والسديّ : ودوا لو تكفر فيتمادون على كفرهم (٤) ، وعن ابن عباس أيضا : ودوا لو ترخص لهم فيرخصون لك (٥).

وقال الفراء والكلبي : لو تلين فيلينون لك. والإدهان : التليين لمن لا ينبغي له التليين. قاله الفراء (٦) والليث.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٨٦.

(٢) ينظر : الكتاب ١ / ٤٢٢.

(٣) آية (٢٠).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٢) عن ابن عباس والضحاك.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩١) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٦) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ١٧٣.

٢٧٣

وقال مجاهد : ودوا لو ركنت إليهم وتركت الحق فيمالئونك (١).

وقال الربيع بن أنس : ودوا لو تكذب ، فيكذبون (٢).

وقال قتادة : ودوا لو تذهب عن هذا الأمر فيذهبوا (٣).

وقال الحسن : ودوا لو تصانعهم في دينك فيصانعونك في دينهم ، وعنه أيضا : ودوا لو ترفض بعض أمرك فيرفضون بعض أمرهم (٤).

وقال زيد بن أسلم : ودّوا لو تنافق وترائي ، فينافقون ويراءون (٥).

وقيل : ودّوا لو تضعف فيضعفون. قاله أبو جعفر (٦)(٧).

وقال القتيبي : ودوا لو تداهن في دينك فيداهنون في أديانهم ، وعنه : طلبوا منه أن يعبد آلهتهم مدة ويعبدوا إلهه مدة.

وهذان القولان الأخيران هما المتقدمان في معنى (لَوْ تَكْفُرُونَ) [النساء : ٨٩] ومعنى: لو تصانعهم وقال ابن العربي (٨) : ذكر المفسرون فيها نحو عشرة أقوال ، كلها دعاوى على اللغة والمعنى ، وأمثلها قولهم «ودّوا لو تكذب فيكذبون ، ودوا لو تكفر فيكفرون».

وقال القرطبيّ (٩) : كلها إن شاء الله تعالى صحيحة على مقتضى اللغة والمعنى ، فإن الإدهان اللين والمصانعة.

وقيل : مجاملة العدو وممايلته.

وقيل : المقاربة في الكلام والتليين في القول ، وقال المفضل : النفاق وترك المناصحة ، فهي على هذا الوجه مذمومة ، وعلى الوجه الأول غير مذمومة وكل شيء منها لم يكن.

وقال المبرد : أدهن في دينه ، وداهن في أمره أي : خان فيه وأظهر خلاف ما يضمر.

وقال قوم : داهنت بمعنى واريت ، وأدهنت بمعنى غششت ، قاله الجوهري ، وقوله

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٢) وذكره السيوطي في الدر المنثور (٦ / ٣٩١) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٥١).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٢) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩١) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٥١).

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر الطبري ١٢ / ١٨٢.

(٧) ينظر : القرطبي (١٨ / ١٥١).

(٨) ينظر أحكام القرآن (٤ / ١٨٥٥).

(٩) ينظر الجامع لأحكام القرآن (١٨ / ١٥١).

٢٧٤

«فيدهنون» ساقه على العطف ، ولو جاء به جوابا للنهي لقال : «فيدهنوا» ، وإنما أراد أنهم تمنوا لو فعلت فيفعلون مثل فعلك عطفا لا جزاء عليه ولا مكافأة ، وإنما هو تمثيل وتنظير.

قوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ).

قال السديّ والشعبي وابن إسحاق : يعني الأخنس بن شريق (١).

وقال مجاهد : يعني الأسود بن عبد يغوث ، أو عبد الرحمن بن الأسود (٢).

وقال مقاتل : يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مالا ، وحلف أنه يعطيه إن رجع عن دينه (٣).

وقال ابن عباس : هو أبو جهل بن هشام (٤).

والحلاف : الكثير الحلف. و «المهين» قال مجاهد : هو الضعيف القلب (٥).

وقال ابن عباس : هو الكذاب ، والكذاب مهين (٦).

وقال الحسن وقتادة : هو المكثار في الشر (٧).

وقال الكلبي : المهين : الفاجر (٨).

وقال عبد الله : هو الحقير (٩).

وقال ابن بحر : هو الذليل.

وقال الرماني : هو الوضيع لإكثاره من القبيح.

وهو «فعيل» من المهانة بمعنى القلة ، وهي هنا القلة في الرأي والتمييز ، أو هو «فعيل» بمعنى «مفعل» والمعنى «مهان».

قوله (هَمَّازٍ) ، الهماز : مثال مبالغة من الهمز ، وهو في اللغة الضرب طعنا باليد والعصا ، واستعير للمغتاب الذي يغتاب الناس كأنه يضربهم بإيذائه.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩١) عن الشعبي وعزاه إلى عبد بن حميد. وذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٦٣) والقرطبي (١٨ / ١٥١).

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٦٣) والقرطبي (١٨ / ١٥١) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩١) عن ابن عباس وعزاه إلى ابن مردويه.

(٣) ذكره الماوردي (٦ / ٦٣) والقرطبي (١٨ / ١٥١).

(٤) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١٥١).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٢) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٣).

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٣) عن قتادة والحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٢) عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٨) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٥١) عن الكلبي.

(٩) ينظر المصدر السابق.

٢٧٥

قال ابن زيد : الهمّاز : الذي يهمز الناس بيده ويضربهم (١) ، واللمّاز : باللسان.

وقيل الهمّاز الذي يذكر الناس في وجوههم ، واللمّاز : الذي يذكرهم في مغيبهم.

وقال مقاتل بالعكس ، وقال مرة : هما سواء ، ونحوه عن ابن عباس وقتادة.

قال الشاعر : [البسيط]

٤٨١١ ـ تدلي بودّ إذا لاقيتني كذبا

وإن تغيّبت كنت الهامز اللّمزة (٢)

والنميم : قيل : هو مصدر النميمة.

وقيل : هو جمعها أي اسم جنس ك «تمرة وتمر» ، وهو نقل الكلام الذي يسوء سامعه ، ويحرش بين الناس.

وقال الزمخشري : والنميم والنميمة : السعاية ، وأنشدني بعض العرب : [الرجز]

٤٨١٢ ـ تشبّبي تشبّب النّميمة

تمشي بها زهرا إلى تميمه

والمشاء : مثال مبالغة من المشي ، أي : يكثر السعاية بين الناس ليفسد بينهم ، يقال : نمّ ينمّ نميما ونميمة ، أي : يمشي ويسعى بالفساد.

وقال عليه الصلاة والسلام : «لا يدخل الجنّة نمّام».

والعتل : الذي يعتل الناس ، أي : يحملهم ، ويجرهم إلى ما يكرهون من حبس وضرب ومنه: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ) [الدخان : ٤٧].

وقيل : العتل : الشديد الخصومة.

وقال أبو عبيدة : هو الفاحش اللئيم.

وأنشد :

٤٨١٣ ـ بعتلّ من الرّجال زنيم

غير ذي نجدة وغير كريم

وقيل : الغليظ الجافي.

ويقال : عتلته وعتنته باللام والنون. نقله يعقوب.

وقيل : العتل : الجافي الشديد في كفره.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٣).

(٢) البيت لزياد الأعجم ويروى صدره كما في الديوان (٧٨) :

إذا لقيتك عن شمط تكاشرني

وينظر : مجاز القرآن ١ / ٢٦٣ برواية :

إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة

ينظر القرطبي ١٨ / ١٥٢ ولسان العرب (حمز) ، ومجمع البيان ١٠ / ٨١٧.

٢٧٦

وقال الكلبيّ والفراء : هو الشديد الخصومة بالباطل.

قال الجوهري : ويقال : عتلت الرجل أعتله وأعتله إذا جذبته جذبا عنيفا. ورجل معتل ـ بالكسر ـ ، والعتل أيضا : الرمح الغليظ ، ورجل عتل ـ بالكسر ـ بين العتل ، أي سريع إلى الشّر ويقال : لا أنعتل معك ، أي : لا أبرح مكاني.

وقال عبيد بن عمير : العتل : الأكول الشروب القوي الشديد يوضع في الميزان فلا يزن شعيرة ، يدفع الملك من أولئك في جهنم بالدفعة الواحدة سبعين ألفا.

والزنيم : الدعي بنسب إلى قوم ليس منهم.

قال حسان رضي الله عنه : [الطويل]

٤٨١٤ أ ـ زنيم تداعاه الرّجال زيادة

كما زيد في عرض الأديم الأكارع

وقال أيضا : [الوافر]

٤٨١٤ ب ـ زنيم ليس يعرف من أبوه

بغيّ الأمّ ذو حسب لئيم

وقال أيضا : [الطويل]

٤٨١٥ ـ وأنت زنيم نيط في آل هاشم

كما نيط خلف الرّاكب القدح الفرد

وأصله : من الزنمة ، وهي ما بقي من جلد الماعز معلقا في حلقها يترك عند القطع ، فاستعير للدعي ، لأنه كالمعلق بما ليس منه.

فصل فيمن هو الحلاف المهين

تقدم القول ف ي «الحلاف المهين» ، عن الشعبي والسديّ وابن إسحاق : أنه الأخنس بن شريق ، وعلى قول غيرهم : أنه الأسود بن عبد يغوث ، أو عبد الرحمن بن الأسود ، أو الوليد بن المغيرة ، أو أبو جهل بن هشام ، وتقدم تفسي ر «الهمّاز والمشّاء بنميم».

وأما قوله (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) أي : للمال أن ينفق في وجوهه.

وقال ابن عباس : يمنع عن الإسلام ولده وعشيرته (١).

قيل : كان للوليد بن المغيرة عشرة من الولد ، وكان يقول لهم ولأقاربه : من تبع منكم محمدا منعته رفدي.

وقال الحسن : يقول لهم : من دخل منكم في دين محمد لا أنفعه بشيء أبدا (٢).

وقوله «معتد» أي : على الناس في الظلم ، متجاوز للحد ، صاحب باطل ، وقوله

__________________

(١) ينظر : القرطبي (١٨ / ١٥٢).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣٧٨).

٢٧٧

«أثيم» أي : ذا إثم ، ومعناه «أثوم» ، فهو «فعيل» بمعنى «فعول».

قال البغوي (١) : «أثيم فاجر». وأما العتل فتقدم الكلام عليه في اللغة.

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ألا أخبركم بأهل الجنّة؟ قالوا : بلى ، قال : كلّ ضعيف متضعّف ، لو أقسم على الله لأبرّه ، ألا أخبركم بأهل النّار؟ قالوا : بلى ، قال : كل عتلّ جواظ مستكبر» (٢) وفي رواية : «كلّ جوّاظ زنيم مستكبر».

«الجوّاظ» الجموع المنوع.

وقيل : الكثير اللحم ، المختال في مشيته.

وقيل : القصير البطين.

وذكر الماورديّ (٣) عن ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل الجنّة جوّاظ ولا جعظري ولا العتل الزّنيم» (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الجوّاظ : الذي جمع ومنع ، والجعظري : الفظ الغليظ المتكبر» (٥).

قال ابن الأثير (٦) : «وقيل : هو الذي ينتفخ بما ليس عنده ، وفيه قصر».

قال القرطبيّ (٧) : وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «الشّديد الخلق ، الرّحيب الجوف ، المصحّ الأكول ، الشّروب ، الواجد للطعام ، الظّلوم للنّاس» (٨).

وعن زيد بن أسلم في قوله تعالى (عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ) قال : قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تبكي السّماء على رجل أصحّ الله جسمه ورحب جوفه ، وأعطاه من الدّنيا بعضا ، فكان للنّاس ظلوما ، فذلك العتلّ الزّنيم» (٩).

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٣٧٨.

(٢) أخرجه البخاري ١٠ / ٥٠٤ كتاب الأدب ، باب الكبر (٦٠٧١) ومسلم ٤ / ٢١٩٠ كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب : النار يدخلها الجبارون (٤٦ ـ ٢٨٥٣).

(٣) ينظر النكت والعيون ٦ / ٦٤.

(٤) أخرجه أبو داود رقم (٤٨٠١) من حديث ابن مسعود.

(٥) أخرجه أحمد (٤ / ٢٢٧) من طريق شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم مرفوعا.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٣١) وقال : رواه أحمد وفيه شهر وثقه جماعة وفيه ضعف وعبد الرحمن بن غنم ليس له صحبة على الصحيح.

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٣) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه وابن عساكر من طريق شهر.

(٦) ينظر : النهاية ١ / ١٧٦.

(٧) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٥٢.

(٨) تقدم.

(٩) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٣) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر عن زيد بن أسلم.

٢٧٨

وقوله (بَعْدَ ذلِكَ) أي مع ذلك ، يريد ما وصفناه به «زنيم» وتقدم معنى الزنيم. وعن ابن عباس : أنه رجل من قريش كانت له زنمة كزنمة الشاة (١).

وروى عنه ابن جبير : أنه الذي يعرف بالشر ، كما تعرف الشاة بزنمتها (٢).

وقال عكرمة : هو الذي يعرف بلؤمه ، كما تعرف الشاة بزنمتها (٣).

وقيل : إنه الذي يعرف بالأبنة ، وهو مروي عن ابن عباس ، وعنه : إنه الظلوم.

وقال مجاهد : «زنيم» كانت له ستة أصابع في يده في كل إبهام له أصبع زائدة (٤).

وعنه أيضا وسعيد بن المسيب وعكرمة : هو ولد الزنا الملحق في النسب بالقوم (٥).

وكان الوليد دعيا في قريش ليس من سنخهم ، ادعاه أبوه بعد ثماني عشرة من مولده.

قال الشاعر : [الوافر]

٤٨١٦ ـ زنيم ليس يعرف من أبوه

بغيّ الأمّ ذو حسب لئيم (٦)

قيل : بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت الآية ، وهذا لأن الغالب أن المنطقة إذا خبثت خبث الولد ، كما روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يدخل الجنّة ولد زنا ، ولا ولد ولده» (٧).

وقال عبد الله بن عمر : إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ أولاد الزّنا يحشرون يوم القيامة في صورة القردة والخنازير» (٨).

وقالت ميمونة : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تزال أمّتي بخير ، ما لم يفش فيهم ولد الزّنا ، فإذا فشى فيهم ولد الزّنا أوشك أن يعمّهم الله بعذاب» (٩).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٩٣) وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٦).

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٨).

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٥٣) عن مجاهد.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٨٦) عن سعيد بن المسيب.

(٦) ينظر القرطبي (١٨ / ١٥٣) والدر المنثور ٦ / ٣٩٢.

(٧) أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٨ / ٢٤٩) من حديث أبي هريرة وذكره الشيخ علي القاري في «الأسرار المرفوعة» (ص ٢٦٨) وقال : زعم ابن طاهر وابن الجوزي أن هذا الحديث موضوع لكن رواه أبو نعيم في «الحلية» عن مجاهد عن أبي هريرة مرفوعا وأعله الدارقطني بأن مجاهدا لم يسمعه من أبي هريرة.

(٨) ذكره الشوكاني في «الفوائد المجموعة» (ص ٢٠٤) وقال : موضوع.

(٩) أخرجه أحمد (٦ / ٣٣٣) من حديث ميمونة.

وأخرجه أيضا أبو يعلى (١٣ / ٦) رقم (٧٠٩١) والطبراني في «الكبير» (٢٤ / ٢٣) رقم (٥٥).

والحديث ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٦ / ٢٦٠) وقال : رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ... وفيه محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة وثقه ابن حيان وضعفه ابن معين ومحمد بن إسحاق قد صرح بالسماع فالحديث صحيح أو حسن.

٢٧٩

وقال عكرمة : إذا كثر ولد الزنا قحط المطر (١).

قال القرطبي (٢) : ومعظم المفسرين على أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وكان يطعم أهل منى حيسا ثلاثة أيام ، وينادي ألا لا يوقدن أحدكم تحت برمة ، ألا لا يدخلن أحد بكراع ، ألا ومن أراد الحيس فليأت الوليد بن المغيرة ، وكان ينفق في الحجة الواحدة عشرين ألفا ، أو أكثر ، ولا يعطي المسكين درهما واحدا ؛ فقيل : (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) ، وفيه نزل : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦ ، ٧].

وقال محمد بن إسحاق : نزلت في الأخنس بن شريق ؛ لأنه حليف ملحق في بني زهرة ، فلذلك سمي زنيما. وروى عكرمة عن ابن عباس أنه قال : في هذه الآية نعت ، فلم يعرف ، حتى قتل زنيم فعرف ، وكانت له زنمة في عنقه يعرف بها (٣).

قال ابن قتيبة : لا نعلم أن الله وصف أحدا ، ولا ذكر من عيوبه ما ذكر من عيوب الوليد بن المغيرة وألحق به عارا لا يفارقه في الدنيا والآخرة.

فصل

قرأ الحسن : «عتلّ» بالرفع ، أي هو عتل.

وحقه أن يقرأ ما بعده بالرفع أيضا ، لأنهم قالوا في القطع : إنه يبدأ بالإتباع ، ثم بالقطع من غير عكس ، وقوله : (بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعدما وصفناه به.

قال ابن عطية (٤) : فهذا الترتيب إنما هو في قول الواصف لا في حصول تلك الصفات في الموصوف ، وإلا فكونه عتلّا هو قبل كونه صاحب خير يمنعه.

وقال الزمخشريّ (٥) : (بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد ما عد له من المثالب ، والنقائص ، ثم قال : جعل جفاءه ودعوته أشد معايبه ، لأنه إذا غلظ وجفا طبعه قسا قلبه واجترأ على كل معصية.

ونظير قوله : (بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ) [البلد : ١٧].

قوله : (أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ).

العامة : على فتح همزة «أن» ثم اختلفوا بعد ، فقرأ ابن عامر وحمزة (٦) وأبو بكر

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٥٣).

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٥٤.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٨٧ ، ٥٨٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٣٠٤ ، والدر المصون ٦ / ٣٥٢.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٤٨.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٨٧.

(٦) ينظر : السبعة ٦٤٦ ، ٦٤٧ ، والحجة ٦ / ٣١٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٨٢ ، وحجة القراءات ٧١٧ ، والعنوان ١٩٥ ، وإتحاف ٢ / ٥٥٤.

٢٨٠