اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

فمن قولهم : رفأت الثّوب رفاء ، ورفوته رفوا» انتهى](١).

وروى قتادة عن أنس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «حسبك من نساء العالمين أربع : مريم ابنة عمران ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمّد ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون» (٢).

روى الثعلبي عن أبيّ بن كعب قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) أعطاه الله توبة نصوحا» (٣).

__________________

(١) سقط من : أ.

(٢) تقدم.

(٣) تقدم وهو موضوع باطل.

٢٢١

سورة الملك

مكية ، وتسمّى الواقية ، والمنجّية ، وتدعى في التوراة المانعة ؛ لأنها تنقّي وتنجّي من عذاب القبر.

وعن ابن شهاب : أنه كان يسميها المجادلة ؛ لأنها تجادل عن صاحبها في القبر.

وهي ثلاثون آية ، وثلاثمائة كلمة ، وألف وثلاثمائة حرف.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ)(٤)

قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ).

«تبارك» تفاعل من البركة وقد تقدم.

وقال الحسن : تقدّس (١).

وقيل : دام ، فهو الدائم الذي لا أول لوجوده ، ولا آخر لدوامه (الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) أي : ملك السموات والأرض في الدنيا والآخرة.

وقال ابن عبّاس : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) : يعزّ من يشاء ، ويذل من يشاء ، ويحيي ويميت ، ويغني ويفقر ، ويعطي ويمنع (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : هذه اللفظة تستعمل لتأكيد كونه ـ تعالى ـ ملكا ومالكا كما يقال: بيد فلان الأمر ، والنهي ، والحل والعقد ، ولا مدخل للجارحة.

قال الزمخشريّ (٤) : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) كل موجود ، وهو على كل ما لم يوجد قدير.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٣٤.

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٤٦.

(٤) ينظر الكشاف ٤ / ٥٧٤.

٢٢٢

قوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). يدل على أن المعدوم شيء ؛ لأن قدرة الله لا تتعلق بالموجود ؛ لأن القدرة مؤثرة ، والعدم نفي محض ، فلا يكون أثرا لها ، فوجب أن يكون المعدوم شيئا.

فصل في أنه لا مؤثر إلا قدرة الله

احتج أهل السنة (١) بهذه الآية على أنه لا مؤثر إلا قدرة الله ، وأبطلوا القول بالطّبائع كقول الفلاسفة ، وأبطلوا القول بالمتولدات كقول المعتزلة ، وأبطلوا القول بكون العبد موجودا لأفعال نفسية ، لقوله : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

فصل في وحدانية الله

دلّت هذه الآية على الوحدانية (٢) ؛ لأنا لو قدرنا إلها ثانيا ، فإما أن يقدر على إيجاد الشيء أولا ، فإن لم يقدر على إيجاد شيء لم يكن إلها ، وإن قدر كان مقدور ذلك الإله الثاني شيئا ، فيلزم كون ذلك للإله الأول لقوله (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيلزم وقوع مخلوق من خالقين ، وهو محال ؛ لأنه إذا كان كل واحد منهما مستقلا بالإيجاد ، ويلزم أن يستغنى بكلّ واحد منهما عن كل واحد منهما ، فيكون محتاجا إليهما وغنيا عنهما وذلك محال.

فصل في الرد على جهم

احتج جهم بهذه الآية على أنه تعالى ليس بشيء ، فقال (٣) : لو كان شيئا لكان قادرا على نفسه لقوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لكن كونه قادرا على نفسه محال ، فيمتنع كونه شيئا.

والجواب : لما دلّ قوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) [الأنعام : ١٠٩] على أنه ـ تعالى ـ شيء وجب تخصيص هذا العموم ، فإذن دلّت هذه الآية على أنّ العامّ المخصوص وارد في كتاب الله تعالى ، ودلت على أن تخصيص العام بدليل العقل جائز ، بل واقع.

قوله : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ).

قيل : خلق الموت في الدنيا ، والحياة في الآخرة ، وقدم الموت على الحياة ، لأن الموت إلى القهر أقرب ، كما قدم البنات على البنين فقال : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) [الشورى : ٩].

وقيل : قدمه ؛ لأنه أقدم ، لأن الأشياء في الابتداء كانت في حكم الموت كالنّطف والتراب ونحوه.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٤٧.

(٢) ينظر السابق.

(٣) ينظر السابق نفسه.

٢٢٣

وقال قتادة : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إنّ الله تعالى أذلّ بني آدم بالموت ، وجعل الدّنيا دار حياة ثمّ دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ، ثمّ دار بقاء» (١).

وعن أبي الدّرداء أن نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو لا ثلاث ما طأطأ ابن آدم رأسه : الفقر ، والمرض والموت» (٢).

وقيل : إنما قدم الموت على الحياة ؛ لأن من نصب الموت بين عينيه ، كان أقوى الدواعي له إلى العمل الصالح.

قال ابن الخطيب (٣) : قالوا : الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر ، واختلفوا في الموت.

فقيل : إنه عبارة عن عدم هذه الصفة ، وقال أصحابنا : إنه صفة وجودية مضادة للحياة ، واحتجوا بقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ) والعدم لا يكون مخلوقا ، وهذا هو التحقيق.

وروى الكلبي عن ابن عبّاس : أن الله ـ تعالى ـ خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ، ولا يجد رائحته شيء إلّا مات ، وخلق الحياة في صورة فرس بلقاء فوق الحمار ودون البغل لا تمر بشيء ، ولا يجد رائحتها شيء إلا حيي (٤) على ما سيأتي.

قال ابن الخطيب (٥) : وهذا لا بد وأن يكون مقولا على سبيل التمثيل ، والتصوير ، وإلا فالتحقيق ما ذكرنا.

فصل في الموت والحياة

حكى ابن عباس ، والكلبي ومقاتل : أن الموت والحياة يجسمان ، فالموت في هيئة كبش لا يمر بشيء ، ولا يجد ريحه إلا مات ، وخلق الحياة على صورة فرس أنثى بلقاء وهي التي كان جبريل والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ يركبونها ، خطوتها أمد البصر فوق الحمار ودون البغل ، لا تمر بشيء يجد ريحا إلا يحيى ، ولا تطأ على شيء إلا حيي (٦) ، وهي التي أخذ السّامري من أثرها ، فألقاها على العجل فحيي. حكاه الثعلبي والقشيري عن ابن عباس ، والماوردي (٧) معناه عن مقاتل والكلبي.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٦٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٢) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٢) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١٣٥.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٤٨.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٣٥.

(٥) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٤٨.

(٦) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١٣٥.

(٧) ينظر : النكت والعيون ٦ / ٥.

٢٢٤

وعن مقاتل : (خَلَقَ الْمَوْتَ) يعني : النّطفة والعلقة والمضغة ، وخلق الحياة ، يعني خلق إنسانا ، ونفخ فيه الروح ، فصار إنسانا (١).

قال القرطبيّ (٢) : وهذا حسن ، يدل عليه قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

قوله : (لِيَبْلُوَكُمْ). متعلق ب «خلق».

وقوله : (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) تقدم مثله في أول «هود» [الآية ٧].

وقال الزمخشريّ هنا (٣) : «فإن قلت : من أين تعلق قوله (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، بفعل البلوى؟ قلت : من حيث إنه تضمن معنى العلم ، فكأنه قيل : ليعلمكم أيكم أحسن عملا ، وإذا قلت : علمته أزيد أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثّاني من مفعوليه كما تقول : علمته هو أحسن عملا ، فإن قلت : أتسمي هذا تعليقا؟.

قلت : لا ، إنما التعليق أن يقع بعده ما يسد مسدّ المفعولين جميعا ، كقولك : علمت أيهما عمرو ، وعلمت أزيد منطلق ، ألا ترى أنه لا فرق بعد سبق أحد المفعولين بين أن يقع ما بعده مصدرا بحرف الاستفهام وغير مصدر به ، ولو كان تعليقا لافترقت الحالتان كما افترقتا في قولك : علمت أزيد منطلق ، وعلمت زيدا منطلقا».

قال شهاب الدين (٤) : «وهذا الذي منع تسميته تعليقا سماه به غيره ويجعلون تلك الجملة في محل ذلك الاسم الذي يتعدى إليه ذلك الفعل ، فيقولون في : «عرفت أيّهم منطلق» : إن الجملة الاستفهامية في محل نصب على إسقاط الخافض ؛ لأن «نظر» يتعدى به».

فصل في اللام في قوله : ليبلوكم

قال الزّجّاج (٥) : اللام في «ليبلوكم» تتعلق بخلق الحياة ، لا بخلق الموت.

وقال الفراء والزجاج أيضا (٦) : لم تقع البلوى على «أي» لأن فيما بين البلوى و «أي» إضمار فعل كما تقول : «بلوتكم لأنظر أيكم أطوع» ، ومثله قوله تعالى : (سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ) [القلم : ٤٠] ، أي : سلهم ، ثم انظر أيهم فأيهم ، رفع بالابتداء ، والمعنى : ليبلوكم ليعلم ، أو فينظر أيكم أحسن عملا.

قال ابن الخطيب (٧) : «أيّكم» مبتدأ ، لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي (١٨ / ١٣٥.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٣٥.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٧٥.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٤٠.

(٥) ينظر : معاني القرآن ٥ / ١٩٧.

(٦) ينظر السابق ، ومعاني القرآن للفراء ٣ / ١٦٩.

(٧) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٥٠.

٢٢٥

فصل في الابتلاء

الابتلاء : هو التجربة ، والامتحان ، حتى يعلم أنه هل يطيع ، أو يعصي ، وذلك في حق العالم بجميع المعلومات محال ، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة في قوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) [البقرة : ١٢٤].

والحاصل أن الابتلاء من الله هو أن يعامل عبده معاملة تشبه المختبر.

فصل في تفسير الآية

قال السديّ في قوله تعالى : (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) أي : أكثر للموت ذكرا وأحسن استعدادا وأشد خوفا وحذرا (١).

وقال ابن عمر : تلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) حتّى بلغ «أَيُّكُمْ (٢) أَحْسَنُ عَمَلاً» فقال : «أورع عن محارم الله ، وأسرع في طاعة الله» (٢).

وقيل : يعاملكم معاملة المختبر ، فيبلو العبد بموت من يعز عليه ليبين صبره ، وبالحياة ليبين شكره.

وقيل : خلق الله الموت للبعث ، والجزاء ، وخلق الحياة للابتلاء (وَهُوَ الْعَزِيزُ) في انتقامه ممن عصاه «الغفور» لمن تاب.

فصل فيمن قالوا : إن فعل الله يكون لغرض

احتج القائلون (٣) بأنه تعالى يفعل الفعل لغرض بقوله : (لِيَبْلُوَكُمْ) قالوا : وهذه اللام للغرض كقوله تعالى : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، والجواب : أن الفعل في نفسه ليس بالابتلاء ، إلا أنه لما أشبه الابتلاء سمي به مجازا ، فكذلك هاهنا ، إنه يشبه الغرض ، وإن لم يكن في نفسه غرضا فقدم حرف الغرض.

قوله : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً).

يجوز أن يكون الموصول تابعا للعزيز الغفور ، نعتا ، أو بيانا أو بدلا.

__________________

(١) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ٤٠٨) رقم (١٠٧٨٨) عن السدي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٢) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٢) ذكره الحافظ ابن حجر في «تخريج أحاديث الكشاف» (ص ـ ٨٦) وقال : رواه داود بن المحبر في «كتاب العقل» والحارث في «مسنده» والطبري وابن مردويه من طريقه عن عبد الواحد بن زيد عن كليب بن وائل عن ابن عمر وداود ساقط وأخرجه ابن مردويه من طريق محمد بن أنس عن سليمان بن عيسى عن الثوري عن كليب كذلك وإسناده أسقط من الأول.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٤٩.

٢٢٦

وأن يكون منقطعا عنه خبر مبتدأ ، أو مفعول فعل مقدر.

وقوله : «طباقا» صفة ل «سبع» ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه جمع طبق ، نحو : جبل وجبال.

والثاني : أنه جمع طبقة ، نحو : رحبة ورحاب.

والثالث : أنه مصدر طابق ، يقال : طابق مطابقة وطباقا.

ثم إما أن تجعل نفس المصدر مبالغة ، وإما على حذف مضاف ، أي : ذات طباق ، وإما أن ينتصب على المصدر بفعل مقدر ، أي : طوبقت طباقا. من قولهم : طابق الفعل ، أي : جعله طبقة فوق أخرى.

روي عن ابن عباس : «طباقا» ، أي : بعضها فوق بعض ، والملتصق منها أطرافها (١).

قال القرطبيّ (٢) : وقيل : مصدر بمعنى المطابقة ، أي : خلق سبع سموات ، ويطبقها تطبيقا أو مطابقة على طوبقت طباقا ؛ لأنه مفعول ثان ، فيكون «خلق» بمعنى جعل وصيّر.

وقال أبان بن تغلب : سمعت بعض الأعراب يذم رجلا ، فقال : شره طباق ، وخيره غير باق. ويجوز في غير القرآ ن («سَبْعَ سَماواتٍ) طباق» بالخفض على النّعت ل «سماوات» نظيره : (وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ) [يوسف : ٤٢].

فصل في الدلالة على القدرة

قال ابن الخطيب (٣) : دلّت هذه الآية على القدرة من وجوه :

أحدها : من حيث بقاؤها (٤) في جو الهواء متعلقة بلا عماد ولا سلسلة.

وثانيها : من حيث إن كل واحد منها اختصّ بمقدار معين مع جواز ما هو أزيد منه وأنقص.

وثالثها : أنه اختص كل واحد منها بحركة خاصة مقدرة بقدر معين من السرعة ، والبطء إلى جهة معينة.

ورابعها : كونها في ذواتها محدثة ، وكل ذلك يدل على إسنادها إلى قادر تام القدرة.

قوله (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ). «تفاوت» هو مفعول «ترى» و «من» مزيدة فيه. وقرأ الأخوان (٥) : «تفوّت» بتشديد الواو دون ألف.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٢) وعزاه إلى عبد بن حميد عن ابن عباس.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٣٦.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٥٠.

(٤) يعني السماء.

(٥) ينظر : السبعة ٦٤٤ ، والحجة ٦ / ٣٠٥ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٧٨ ، وحجة القراءات ٧١٥ ، والعنوان ١٩٤ ، وشرح الطيبة ٦ / ٦٣ ، وشرح شعلة ٦٠٤ ، وإتحاف ٢ / ٥٥٠.

٢٢٧

قال القرطبيّ (١) : «وهي قراءة ابن مسعود وأصحابه».

والباقون : بتخفيفها بعد ألف. وهما لغتان بمعنى واحد ، كالتعهّد والتّعاهد والتّظاهر والتّظهّر والتّصغّر والتّصاغر والتّحمّل والتّحامل والتّضاعف والتضعف والتّباعد والتبعّد ، قاله الفرّاء (٢).

وقال الأخفش : «تفاوت» أجود ؛ لأنهم يقولون : تفاوت الأمر ، ولا يكادون يقولون : «تفوت».

واختيار أبي عبيد : «تفوت» ، يقال : تفاوت الشيء إذا فات.

واحتج بما روي في الحديث : أنّ رجلا تفوّت على أبيه في ماله.

وقال عبد الرحمن بن أبي بكر : «أمثلي يتفوت عليه في ماله».

قال النحاس : وهذا مردود على أبي عبيد ، لأن «يتفوت» أي : يضاف في الحديث ، «تفاوت» في الآية أشبه ، كما يقال : تباين ، تفاوت الأمر إذا تباين ، أو تباعد ، أي : فات بعضها بعضا نقله القرطبي (٣).

وحكى أبو زيد : تفاوت الشّيء تفاوتا بضم الواو وفتحها وكسرها.

[والقياس](٤) : الضّمّ كالتقابل ، والفتح والكسر شاذان.

والتفاوت : عدم التناسب ؛ لأن بعض الأجزاء يفوت الآخر ، وهذه الجملة المنفية صفة لقوله : «طباقا» وأصلها : ما ترى فيهن ، فوضع مكان الضمير.

قوله : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ) تعظيما لخلقهن ، وتنبيها على سبب سلامتهن ، وهو أنه خلق الرحمن ، قاله الزمخشري (٥).

وظاهر هذا أنها صفة ل «طباقا» ، وقام الظاهر فيها مقام المضمر ، وهذا إنما يعرف في خبر المبتدأ ، وفي الصلة على خلاف فيهما وتفصيل.

وقال أبو حيّان (٦) : الظّاهر أنه مستأنف ، وليس بظاهر لانفلات الكلام بعضه من بعض ، و «خلق» مصدر مضاف لفاعله والمفعول محذوف ، أي : في خلق الرحمن السماوات ، أو كل مخلوق ، وهو أولى ليعم ، وإن كان السياق مرشدا للأول.

فصل في معنى الآية

والمعنى ما ترى في خلق الرحمن من اعوجاج ، ولا تناقض ، ولا تباين ، بل هي

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٣٦.

(٢) ينظر : معاني القرآن ٣ / ١٧٠.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٣٦.

(٤) في أ : والأفصح.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٧٦.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٩٢.

٢٢٨

مستقيمة مستوية دالة على خالقها ، وإن اختلفت صوره وقيل : المراد بذلك السماوات خاصة ، أي : (ما تَرى فِي خَلْقِ) السماوات (١) من عيب ، وأصله من الفوت ، وهو أن يفوت شيء شيئا ، فيقع الخلل لعدم استوائها يدل عليه قول ابن عباس : من تفرق.

وقال السديّ : (مِنْ تَفاوُتٍ) أي : من اختلاف ، وعيب بقول (٢) الناظر : لو كان كذا كان أحسن.

وقيل : «التفاوت» الفطور ، لقوله بعد ذلك : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) ، ونظيره قوله تعالى : (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) [ق : ٦٥].

قال القفّال ـ رحمه‌الله ـ : ويحتمل أن يكون المعنى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) في الدلالة على حكم الصانع ، وأنه لم يخلقها عبثا.

فصل في الخطاب في الآية لمن؟

الخطاب في قوله تعالى (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) إما للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو لكل مخاطب ، وكذا القول في قوله (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) ، (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ).

فصل فيما تدل عليه الآية

دلت هذه الآية على كمال علم الله ، وذلك أن الحسّ دل على أن هذه السماوات السبع أجسام مخلوقة على وجه الإحكام والإتقان ، وكل فاعل كان فعله محكما متقنا ، فلا بد وأن يكون عالما ، فدلت الآية على كونه ـ تعالى ـ عالما بالمعلومات بقوله : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) إشارة إلى كونها محكمة متقنة.

فصل فيمن اعتبر المعاصي ليست من خلق الله

احتج الكعبيّ بهذه الآية على أن المعاصي ليست من خلق الله ، قال (٣) : لأنه ـ تعالى ـ نفى التّفاوت عن خلقه ، وليس المراد نفي التفاوت في الصغر والكبر والنقص ، والعيب ، فوجب حمله على نفي التفاوت بين خلقه من حيث الحكمة ، فدل من هذا الوجه على أنّ أفعال العباد ليست من خلقه لما فيها من التّفاوت الذي بعضه جهل ، وبعضه سفه. والجواب : أنا نحمله على أن لا تفاوت فيها بالنسبة إليه من حيث إنّ الكلّ يصح عنه بحسب القدرة والإرادة والداعية ، وأنه لا يقبح منه شيء أصلا.

__________________

(١) في أ : الرحمن.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٢) وعزاه إلى ابن المنذر عن السدي.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٥١.

٢٢٩

فصل في السموات السّبع

روى البغويّ (١) عن كعب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال : السماء الدنيا موج مكفوف ، والثانية : مرمرة بيضاء ، والثالثة : حديد ، والرابعة : صفر ، وقال : نحاس ، والخامسة : فضّة ، والسادسة : ذهب ، والسّابعة : ياقوتة حمراء ، وبين السماء السّابعة إلى الحجب السبعة صحارى من نور (٢).

قوله (فَارْجِعِ الْبَصَرَ). مسبب عن قوله (ما تَرى).

و «كرتين» نصب على المصدر كمرتين ، وهو مثنّى لا يراد به حقيقته ، بل التكثير بدليل قوله : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) أي : مزدجرا وهو كليل ، وهذان الوصفان لا يأتيان بنظرتين ، ولا ثلاث ، وإنما المعنى كرات ، وهذا كقولهم : «لبّيك وسعديك وحنانيك ، ودواليك ، وهذاذيك» لا يريدون بهذه التثنية تشفيع الواحد ، إنما يريدون التكثير أي : إجابة لك بعد أخرى. وإلا تناقض الغرض ، والتثنية تفيد التكثير لقرينة كما يفيده أصلها وهو العطف لقرينة ؛ كقوله : [البسيط]

٤٧٩١ ـ لو عدّ قبر وقبر كان أكرمهم

 ........... (٣)

أي : قبور كثيرة ليتم المدح.

وقال ابن عطية (٤) : «كرّتين» معناه : مرتين ، ونصبها على المصدر.

وقيل : الأولى ليرى حسنها ، واستواءها ، والثانية لينظر كواكبها في سيرها ، وانتهائها وهذا بظاهره يفهم التثنية فقط.

قوله : (هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ).

هذه الجملة يجوز أن تكون متعلقة لفعل محذوف يدلّ عليه (فَارْجِعِ الْبَصَرَ) مضمنا معنى «انظر» ؛ لأنه بمعناه ، فيكون هو المعلق.

وأدغم أبو عمرو (٥) : لام «هل» في التاء هنا وفي «الحاقّة» (٦) ، وأظهرهما الباقون ، وهو المشهور في اللغة.

والفطور : جمع فطر ، وهو الشّقّ ، يقال : فطره فانفطر ، ومنه : فطر ناب البعير ، كما يقال : شقّ ، ومعناه : شق اللحم وطلع.

قال المفسرون (٧) : «الفطور» الصّدوع والشّقوق ؛ قال الشاعر : [الوافر]

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٣٧٠.

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٣٨.

(٥) ينظر : إتحاف فضلاء البشر ٢ / ٥٥٠ ، غير أنه زاد فيمن أدغموا : «حمزة ، والكسائي ، وهشام».

(٦) آية (٨).

(٧) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٣٦ ، ١٣٧.

٢٣٠

٤٧٩٢ ـ شققت القلب ثمّ ذررت فيه

هواك فليط فالتأم الفطور (١)

قوله : «ينقلب».

العامة : على جزمه على جواب الأمر.

والكسائي (٢) في رواية برفعه. وفيه وجهان :

أحدهما : أن يكون حالا مقدرة.

والثاني : أنه على حذف الفاء ، أي : فينقلب.

و «خاسئا» حال وقوله : (وَهُوَ حَسِيرٌ) حال ، إما من صاحب الأولى ، وإما من الضمير المستتر في الحال قبلها ، فتكون متداخلة. وقد تقدّمتا «خاسئا» و «حسير» في «المؤمنين» و «الأنبياء».

فصل في تفسير الآية

لما قال : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) كأنه قال بعده : ولعلك لا تحكم بمقتضى ذلك البصر الواحد ، ولا يعتمد عليه لاحتمال وقوع الغلط في النظرة الواحدة ، ولكن ارجع البصر ، واردد النظر مرة أخرى ، حتى يتيقّن لك أنه ليس في خلق الرحمن من تفاوت ألبتّة.

قال القرطبي (٣) : أمر أن ينظر في خلقه ليعتبروا به ، ويتفكّروا في قدرته ، فقال : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) أي : اردد طرفك إلى السماء ، ويقال : قلّب بصره في السماء ، ويقال : اجتهد بالنّظر إلى السّماء ، والمعنى متقارب ، وإنما قال : «فارجع» ـ بالفاء ـ وليس قبله فعل مذكور ؛ لأنه قال : (ما تَرى) والمعنى : انظر ، ثم ارجع البصر هل ترى من فطور ، قاله قتادة (٤).

قال مجاهد والضحاك : و «الفطور» الشقوق (٥).

وقال قتادة : من خلل (٦).

وقال السديّ : من خروق (٧).

__________________

(١) قائله هو عبيد بن مسعود ينظر البحر ٨ / ٢٩٣ والدر المصون ٦ / ٣٤١ ، والقرطبي ١٨ / ١٣٧.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٩٣ ، والدر المصون ٦ / ٣٤١.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٣٦.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره». (١٨ / ١٣٦) عن قتادة.

(٥) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٥١) والقرطبي (١٨ / ١٣٦).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٦٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٢) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٧) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٦ / ٥١) والقرطبي (١٨ / ١٣٦).

٢٣١

وقال ابن عبّاس : من وهن (١).

وقوله : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) في موضع المصدر ؛ لأن معناه : رجعتين.

لأن الإنسان إذا نظر في الشّيء مرتين ترى عينه ما لم تنظره مرة أخرى ، فأخبر تعالى أنه وإن نظر إلى السماء مرّتين لا يرى فيها عيبا ، بل يتحيّر بالنظر إليها (٢).

وقال ابن الخطيب (٣) : «معناه أنك إذا كررت نظرك لم يرجع إليك بصرك بما طلبته من وجدان الخلل ، والعيب ، بل يرجع إليك «خاسئا» أي : مبعدا صاغرا عن أن يرى شيئا من ذلك من قولك : خسأت الكلب إذا باعدته ، وطردته».

وخسأ الكلب بنفسه ، يتعدى ولا يتعدّى ، وانخسأ الكلب أيضا ، وخسأ بصره أيضا خسأ وخسوءا ، أي : ستر.

قال ابن عبّاس : الخاسىء الذي لم ير ما يهوى (٤).

وقال المبرد هاهنا : الخاسىء المبعد المصغر.

وقوله : (وَهُوَ حَسِيرٌ) أي : قد بلغ الغاية في الإعياء ، فهو بمعنى «فاعل» من الحسور الذي هو الإعياء ، ويجوز أن يكون مفعولا من حسره بعد الشيء وهو معنى قول ابن عبّاس ؛ ومنه قول الشاعر : [البسيط]

٤٧٩٣ ـ من مدّ طرفا إلى ما فوق غايته

إرتدّ خسآن منه الطّرف قد حسرا (٥)

يقال : حسر بصره يحسر حسورا ، أي : كلّ وانقطع نظره من طول مدى ، وما أشبه ذلك ، فهو حسير ومحسور أيضا.

قال الشاعر : [الطويل]

٤٧٩٤ ـ نظرت إليها بالمحصّب من منى

فعاد إليّ الطّرف وهو حسير (٦)

وقيل هو النادم ؛ قال : [الرمل]

٤٧٩٥ ـ ما أنا اليوم على شيء خلا

يا بنة القين تولّى بحسر (٧)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٦) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٦٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» وعزاه إلى الطبري.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٣٧.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٥٢.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٣٧).

(٥) ينظر القرطبي ١٨ / ١٣٧.

(٦) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٣٧.

(٧) البيت للمرار ينظر اللسان (حسر) والقرطبي ١٨ / ١٣٧.

٢٣٢

شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (٨) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (٩) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (١٠) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ)(١١)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) ، أي : السماء القربى ؛ لأنها أقرب السماوات إلى النّاس ، والمعنى : السّماء الدّنيا من النّاس أي : الدنيا منكم لأنها «فعلى» تأنيث «أفعل» التفضيل ، «بمصابيح» جمع مصباح وهو السّراج ، وسمى الكواكب مصابيح لإضاءتها وسماها زينة لأن الناس يزينون مساجدهم ودورهم بالمصابيح ، فكأنه قال : ولقد زيّنّا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح الأنوار (١).

قوله : (وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ).

الضمير في (وَجَعَلْناها) يجوز فيه وجهان :

أظهرهما : أنه يعود على «مصابيح».

قيل : وكيفية الرّجم أن توجد نار من ضوء الكواكب يرمي بها الشيطان ، والكوكب في مكانه لا يرجم به. قاله أبو علي جوابا لمن قال : كيف تكون زينة وهي رجوم لا تبقى؟.

قال المهدويّ : وهذا على أن يكون الاستراق من موضع الكوكب.

والثاني : أن الضمير يعود على السماء ، والمعنى : وجعلنا منها ؛ لأن ذات السماء ليست للرجوم.

قاله أبو حيان (٢). وفيه نظر لعدم عود الضمير على السّماء.

قال القرطبي (٣) : والمعنى جعلنا شهبا ، فحذف المضاف ، بدليل قوله (إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) [الصافات : ١٠] ، قال : وعلى هذا فالمصابيح لا تزول ولا يرجم بها.

قال المهدويّ : وهذا على أن يكون الاستراق دون موضع الكوكب.

قال القشيريّ : وأحسن (٤) من قول أبي علي أن نقول : هي زينة قبل أن ترجم بها الشياطين.

والرجوم : جمع رجم ، وهو مصدر في الأصل أطلق على المرجوم به كضرب الأمير.

__________________

(١) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٥٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٩٣.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٣٨.

(٤) في ب : وأمثل.

٢٣٣

ويجوز أن يكون باقيا على مصدريته ، ويقدر مضاف ، أي : ذات رجوم.

وجمع المصدر باعتبار أنواعه ، فعلى الأول يتعلق قوله : «للشّياطين» بمحذوف على أنه صفة ل «رجوما».

وعلى الثاني : لا تعلق له ؛ لأن اللام مزيدة في المفعول به ، وفيه دلالة حينئذ على إعمال المصدر منونا مجموعا.

ويجوز أن تكون صفة له أيضا كالأول ، فيتعلق بمحذوف.

وقيل : الرجوم هنا الظنون ، والشياطين : شياطين الإنس.

كما قال : [الطويل]

٤٧٩٦ ـ ...........

وما هو عنها بالحديث المرجّم (١)

فيكون المعنى : جعلناها ظنونا ورجوما بالغيب ، لشياطين الإنس ، وهم الأحكاميون من المنجمين.

فصل في خلق النجوم

قال قتادة : خلق الله النّجوم لثلاث : زينة السّماء ورجوما للشياطين ، وعلامات يهتدى بها في البرّ والبحر والأوقات ، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به ، وتعدى ، وظلم (٢).

وقال محمد بن كعب : والله ما لأحد من أهل الأرض في السماء نجم ، ولكنهم يتّخذون الكهانة ، ويتّخذون النّجوم علة (٣).

فصل

قال ابن الخطيب (٤) : ظاهر الآية لا يدلّ على أن هذه الكواكب مركوزة في السماء الدنيا ؛ لأن السماوات إذا كانت شفافة ، فالكواكب سواء كانت في السماء الدنيا ، أو في سماوات أخرى فوقها ، فهي ولا بد أن تظهر في السّماء الدنيا ، ولتلوح منها ، فعلى التقدير تكون السماء الدنيا متزينة ، واعلم أنّ أصحاب الهيئة اتفقوا على أن هذه الكواكب مركوزة في الفلك الثامن الذي فوق كرات السيارات ، واحتجوا أن بعض الثوابت في الفلك الثامن ، فيجب أن تكون كلها هناك.

وإنما قلنا : إن بعضها في الفلك الثامن ، لأن الكواكب القريبة من المنطقة تنكسف

__________________

(١) تقدم.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٦٦) وذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٣٨).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٣٨).

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٥٣.

٢٣٤

بهذه السيارات ، فوجب أن تكون الثوابت المنكسفة فوق السيارات الكاسفة وإنما قلنا : إن الثوابت لما كانت في الفلك الثّامن وجب أن تكون كلها هناك ؛ لأنها بأسرها متحركة حركة واحدة بطيئة في كل مائة سنة درجة واحدة ، فلا بدّ وأن تكون مركوزة في كرة واحدة.

قال ابن الخطيب (١) : وهذه استدلالات ضعيفة ؛ فإنه لا يلزم من كون بعض الثّوابت فوق السيارة كون كلها هناك ؛ لأنه لا يبعد وجود كرة تحت كرة القمر ، وتكون في النظر مساوية لكرة الثوابت ، وتكون الكواكب المركوزة فيها مقارب القطبين مركوزة في هذه الكرة السفلية ؛ إذ لا يبعد وجود كرتين مختلفتين بالصغر والكبر مع كونهما متشابهتين في الحركة ، وعلى هذا التقدير لا يمتنع أن تكون المصابيح مركوزة في سماء الدنيا ، فثبت بهذا ضعف مذاهب الفلاسفة.

فصل في سبب الرجوم

قال ابن الخطيب (٢) : يروى أن السبب في الرجوم أن الجن كانت تسمع خبر السماء فلما بعث محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم حرست السماء ورجمت الشياطين ، فمن جاء منهم مسترقا للسمع رمي بشهاب ، فأحرقه لئلا ينزل به إلى الأرض ، فيلقيه إلى النّاس ، فيختلط على النبي أمره ، ويرتاب النّاس بخبره. ومن النّاس من طعن في هذا من وجوه :

أحدها : أن انقضاض الكواكب مذكور في كتب قدماء الفلاسفة ، قالوا : إن الأرض إذا سخنت بالشمس ارتفع منها بخار يابس إذا بلغ النّار التي دون الفلك احترق بها ، فتلك الشعلة هي الشهاب.

وثانيها : أن الجن إذا شاهدوا جماعة منهم يسترقون ، فيحرقون إن امتنع أن يعودوا لذلك.

وثالثها : أن ثخن السماء مسيرة خمسمائة سنة ، فالجن لا يقدرون على خرقها ؛ لأنه تعالى نفى أن يكون فيها فطور ، وثخنها يمنعهم من السمع لأسرار الملائكة من ذلك البعد العظيم ، وإذا سمعوه من ذلك البعد ، فهم لا يسمعون كلام الملائكة حال كونهم في الأرض.

ورابعها : أن الملائكة إنما اطلعوا على الأحوال المستقبلة ، إما لأنهم طالعوها من اللوح المحفوظ ، أو لأنهم نقلوها من وحي الله إليهم ، وعلى التقديرين ، فلم لم يسكتوا عن ذكرها حتى لا يمكنوا الجن من معرفتها.

__________________

(١) السابق.

(٢) السابق ٣٠ / ٥٤.

٢٣٥

وخامسها : أن الشياطين مخلوقون من النار ، والنار لا تحرق النار ، بل تقويها.

وسادسها : إن كان هذا القذف لأجل النبوة فلم بقي بعدها؟.

وسابعها : أن هذه الرجوم إنما تحدث بالقرب من الأرض ، لأنا نشاهدها بالعين ، ومع البعد لا نشاهدها كما لا نشاهد حركات الكواكب.

وثامنها : إن كانت الشياطين ينقلون أخبار الملائكة عن المغيبات إلى الكهنة ، فلم لا ينقلون أسرار المؤمنين إلى الكفار ، حتى يتوصل الكفار بذلك إلى إلحاق الضرر بالمؤمنين؟.

وتاسعها : لم لم يمنعهم الله ابتداء من الصعود إلى السماء؟.

والجواب عن الأول : أنا لا ننكر أن هذه الشّهب كانت موجودة قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعن الثاني : أنه إذا جاء القدر عمي البصر ، فإذا قضى الله على طائفة منها بالحرق لطغيانها قيّض الله لها من الدواعي ما يقدمها على العمل المفضي إلى هلاكها.

وعن الثالث : أن نمنع كون ثخن الفلك ما ذكروه ، بأن البعد بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام.

وعن الرابع : ما روى الزهري عن علي بن الحسين ، عن علي بن أبي طالب قال : بينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جالسا في نفر من أصحابه ، إذ رمي بنجم فاستنار ، فقال : ما كنتم تقولون في الجاهليّة إذا حدث؟ قال : كنا نقول : يولد عظيم أو يموت عظيم فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فإنّها لا ترمى لموت أحد ، ولا لحياته ، ولكنّ الله ـ تعالى ـ إذا قضى الأمر في السّماء سبّحت حملة العرش ، ثمّ يسبّح أهل كلّ سماء ، وتسبّح كل سماء ، حتى ينتهي التّسبيح إلى هذه السّماء ، ويستخبر أهل السّماء حملة العرش ماذا قال ربّكم؟ فيخبرونهم ، ولا يزال ينتهي ذلك الخبر من سماء إلى أن ينتهي الخبر إلى هذه السّماء فتخطفه الجنّ فيرمون ، فما جاءوا به فهو حقّ ، ولكنّهم يزيدون فيه» (١).

وعن الخامس : أنّ نار النجوم (٢) قد تكون أقوى من نار الجن.

وعن السادس : أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أخبر ببطلان الكهانة ، فلو لم ينقطعوا لعادت الكهانة ، وذلك يقدح في خبر الرسول عليه الصلاة والسلام.

وعن السابع : أن البعد غير مانع من السماء عندنا.

وعن الثامن : لعله تعالى أقدرهم على استماع الغيوب عن الملائكة ، وأعجزهم عن إيصال أسرار المؤمنين إلى الكافرين.

__________________

(١) أخرجه أحمد (١ / ٢١٨) والبيهقي (٨ / ١٣٨) عن ابي عباس.

(٢) في أ : الرجوم.

٢٣٦

وعن التاسع : أن الله يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

قوله : (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ). لما ذكر منافع الكواكب ، وذكر من جملة تلك المنافع أنها رجوم للشياطين قال بعد ذلك : (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ) ، أي : وأعتدنا للشّياطين بعد الإحراق بالشّهب في الدنيا عذاب السّعير في الآخرة ، وهو أشدّ الحريق.

قال المبرد : سعرت النّار فهي مسعورة وسعير ، مثل قوله : مقتولة وقتيل.

وهذه الآية تدل على أن النّار مخلوقة ؛ لأن قوله : (وَأَعْتَدْنا لَهُمْ) خبر عن الماضي.

قوله : (وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا) خبر مقدم في قراءة العامة ، و (عَذابُ جَهَنَّمَ) مبتدؤه.

وفي قراءة الحسن والأعرج (١) والضحاك : بنصب «عذاب» فيتعلق ب «أعتدنا» عطفا على «لهم» و (عَذابُ جَهَنَّمَ) عطف على (عَذابَ السَّعِيرِ) ، فعطف منصوبا على منصوب ، ومجرورا على مجرور ، وأعاد الخافض ، لأن المعطوف عليه ضمير.

والمخصوص بالذّم محذوف ، أي : وبئس المصير مصيرهم ، أو عذاب جهنّم ، أو عذاب السّعير.

فصل في معنى الآية

والمعنى لكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم عذاب جهنم ؛ ليبين أن الشياطين المرجومين مخصوصون بذلك ، ثم إنه ـ تعالى ـ وصف ذلك العذاب بصفات ، أولها قوله تعالى : (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) يعني الكفار (إِذا أُلْقُوا) طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً) أي : صوتا.

قال ابن عباس : الشّهيق لجهنم عند إلقاء الكفار فيها كشهيق البغلة للشعير (٢).

وقال عطاء : الشّهيق من الكفّار عند إلقائهم في النار (٣).

وقال مقاتل : سمعوا لجهنم شهيقا (٤).

قال ابن الخطيب (٥) : ولعل المراد تشبيه صوت لهب النّار بالشهيق ، وهو كصوت الحمار.

وقال المبرد : هو ـ والله أعلم ـ تنفس كتنفس التغيّظ.

قال الزجاج (٦) : سمع الكفّار للنار شهيقا ، وهو أقبح الأصوات.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٣٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٩٤ ، والدر المصون ٦ / ٣٤٢.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٣٨) عن ابن عباس.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر تفسير القرطبي (١٨ / ١٣٨) عن ابن عباس.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٥٦.

(٦) ينظر : معاني القرآن ٥ / ١٩٩.

٢٣٧

وقيل : سمعوا من أنفسهم شهيقا ، كقوله تعالى : (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) [هود : ١٠٦].

قوله : «لها» متعلق بمحذوف على أنه حال من «شهيقا» لأنه في الأصل صفته ، ويجوز أن يكون على حذف مضاف ، أي : سمعوا لأهلها ، وهي تفور : جملة حالية.

فصل في معنى الشهيق والزفير

قال القرطبيّ (١) : «والشهيق في الصدر ، والزفير في الحلق ، وقد مضى في سورة «هود»».

وقوله : (وَهِيَ تَفُورُ). أي : تغلي ؛ ومنه قول حسّان : [الوافر]

٤٧٩٧ ـ تركتم قدركم لا شيء فيها

وقدر القوم حامية تفور (٢)

قال مجاهد : تفور كما يفور الحب القليل في الماء الكثير (٣).

وقال ابن عباس : تغلي بهم على المراجل ، وهذا من شدّة لهب النار من شدّة الغضب كما تقول : فلان يفور غيظا (٤).

قوله : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ).

قرأ العامة : «تميّز» بتاء واحدة مخففة ، والأصل «تتميّز» بتاءين ، وهي قراءة (٥) طلحة.

والبزي عن ابن كثير : بتشديدها ، أدغم إحدى التاءين في الأخرى.

وهي قراءة حسنة لعدم التقاء الساكنين بخلاف قراءته (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ) [النور : ١٥] ، و (ناراً تَلَظَّى) [الليل : ١٤] وبابه.

وأبو عمرو : يدغم الدّال في التاء على أصله في المتقاربين (٦).

وقرأ الضحاك (٧) : «تمايز» والأصل : «تتمايز» بتاءين ، فحذف إحداهما.

وزيد (٨) بن علي : «تميز» من «ماز».

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٣٨.

(٢) ينظر القرطبي ١٨ / ١٣٨ ، وشرح ديوان حسان بن ثابت ص ٢٤٩.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٦٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٨٣) وعزاه إلى هناد وعبد بن حميد.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٣٨).

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٣٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٩٤ ، والدر المصون ٦ / ٣٤٢.

(٦) ينظر : كتاب الإدغام الكبير ١٢٠.

(٧) ينظر : القراءة السابقة.

(٨) وهي قراءة ابن أبي عبلة كما في : البحر المحيط ٨ / ٢٩٤ ، وينظر : الدر المصون ٦ / ٣٤٢.

٢٣٨

وهذا كله استعارة من قولهم : تميز فلان من الغيظ ، أي : انفصل بعضه من بعض من الغيظ ، فمن سببية ، أي : بسبب الغيظ ، ومثله في وصف كلب ، أنشد عروة : [الرجز]

٤٧٩٨ ـ ...........

يكاد أن يخرج من إهابه (١)

قال ابن الخطيب (٢) : ولعل سبب هذا المجاز أن دم القلب يغلي عند الغضب ، فيعظم مقداره ، فيزداد امتلاء العروق ، حتّى تكاد تتمزّق.

فإن قيل : النّار ليست من الأحياء ، فكيف توصف بالغيظ؟.

قال ابن الخطيب : والجواب : أن البنية عندنا ليست شرطا للحياة ، فلعل الله ـ تعالى ـ يخلق فيها وهي نار حياة ، أو يكون هذا استعارة يشبه صوت لهبها وسرعة مبادرتها بالغضبان وحركته ، أو يكون المراد الزبانية.

فصل في تفسير الآية

قال سعيد بن جبير (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) يعني تنقطع ، وينفصل بعضها من بعض(٣).

وابن عباس والضحاك وابن زيد : تتفرق من الغيظ من شدة الغيظ على أعداء الله تعالى(٤).

قوله : (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ). تقدم الكلام على «كلّما». وهذه الجملة يجوز أن تكون حالا من ضمير جهنم.

والفوج : الجماعة من الناس ، والأفواج : الجماعات في تفرقة ، ومنه قوله تعالى : (فَتَأْتُونَ أَفْواجاً) والمراد هنا بالفوج جماعة من الكفار (سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) وهم مالك ، وأعوانه سؤال توبيخ وتقريع (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ) ، أي : رسول في الدنيا ينذركم هذا اليوم ، حتى تحذروا.

قال الزّجّاج (٥) : وهذا التوبيخ زيادة لهم في العذاب.

قوله : (بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ). فيه دليل على جواز الجمع بين حرف الجواب ، ونفس الجملة المجاب بها إذ لو قالوا : بلى ، لفهم المعنى ، ولكنهم أظهروه تحسرا وزيادة في تغميمهم على تفريطهم في قبول قول النذير ؛ فعطفوا عليه : «فكذّبنا» إلى آخره.

__________________

(١) ينظر شرح المفصل لابن يعيش ٧ / ١٣٢ ، والدر المصون ٦ / ٣٤٣.

(٢) ينظر الفخر الرازي ٣٠ / ٥٦.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٦٧) عن ابن عباس والضحاك وابن زيد.

(٥) ينظر معاني القرآن للزجاج ٥ / ١٩٩.

٢٣٩

قوله : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) ظاهره أنه من مقول الكفار للنذير ، أي : قلنا : «ما أنزل الله من شيء» أي : على ألسنتكم إن أنتم يا معشر الرسل (إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ) اعترفوا بتكذيب الرسل ، ثم اعترفوا بجهلهم ، فقالوا وهم في النار : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ) من النذر يعني : الرسل ما جاءوا به (أَوْ نَعْقِلُ) عنهم.

وجوز الزمخشريّ أن يكون من كلام الرّسل للكفرة ، وحكاه الكفرة للخزنة ، أي : قالوا لنا هذا فلم نقبله (١).

قال ابن الخطيب (٢) : يجوز أن يكون من كلام الخزنة للكفار ، أي : لما قالوا ذلك الكلام قالت الخزنة لهم : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ).

قوله : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ).

قال ابن الخطيب (٣) : احتجّ بهذه الآية من قال : إنّ الدين لا يتم إلا بالتعليم ؛ لأنه قدم السمع على العقل ، فدل على أنه لا بد أولا من إرشاد المرشد غلب عليه تأمل السامع فيما ندب العلم.

وأجيب : بأنه إنما قدم السمع ؛ لأن الرسول إذا دعا ، فأول المراتب أنه يسمع كلامه ، ثم يتفكر فيه فلما كان السمع مقدما على التعقل لا جرم قدم عليه في الذكر.

فصل فيمن فضل السمع على البصر

واحتج بهذه الآية من قدم السمع على البصر ، قالوا : لأنه جعل للسمع مدخلا في الخلاص من النار ، والفوز بالجنة ، والبصر ليس كذلك ، فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر (٤).

قوله «بذنبهم» وحّده ؛ لأنه مصدر في الأصل ، ولم يقصد التنويع بخلاف «بذنوبهم» في موضع ؛ ولأنه في معنى الجمع ؛ ولأن اسم الجنس إذا أضيف عم.

فصل في المراد بالضلال الكبير

قال ابن الخطيب (٥) : يحتمل أن يكون المراد من الضّلال الكبير ما كانوا عليه في الدنيا من ضلالهم ، ويحتمل أن يكون المراد بالضّلال الهلاك ، ويحتمل أن يكون قد سمى عقاب الضلال باسمه.

فصل في الرد على المرجئة

احتجت المرجئة بهذه الآية على أنه لا يدخل النار إلا الكفار قالوا (٦) : لأنه تعالى

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٧٨.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٥٧.

(٣) ينظر السابق.

(٤) السابق ٣٠ / ٥٨.

(٥) السابق ٣٠ / ٥٧.

(٦) ينظر السابق.

٢٤٠