اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٩

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٥٩٩

فصرف عن «مفعل» إلى «فعيل» والله أعلم.

روى الثعلبي عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما من مولود يولد إلّا وهو على الفطرة في تشابيك رأسه مكتوب خمس آيات من فاتحة سورة التّغابن» (١).

وعن زرّ بن حبيش قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة التّغابن رفع الله عنه موت الفجاءة» (٢). والله أعلم.

__________________

(١) تقدم.

(٢) تقدم.

١٤١

سورة الطلاق

مدنيّة ، وهي إحدى عشرة آية ومائتان وتسع وأربعون كلمة وألف وستون حرفا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً)(١)

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ).

قال ابن الخطيب (١) : وجه تعلق هذه السورة بآخر ما قبلها ، هو أنه تعالى أشار في آخر التي قبلها إلى كمال علمه بقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) ، وفي أول هذه السورة أشار إلى كمال علمه بمصالح النّساء ، والأحكام المخصوصة بطلاقهن ، فكأنه بيّن ذلك الكلي بهذه الجزئيات.

فصل في هذا الخطاب

وهذا الخطاب فيه أوجه (٢) :

أحدها : أنه خطاب لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خوطب بلفظ الجمع تعظيما له ؛ كقوله : [الطويل]

٤٧٨٠ ـ فإن شئت حرّمت النّساء سواكم

وإن شئت لم أطعم نقاخا ولا بردا (٣)

الثاني : أنه خطاب له ولأمته ، والتقدير : يا أيها النبي وأمته إذا طلقتم فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه ، كقوله : [الطويل]

٤٧٨١ ـ ............

إذا أنجلته رجلها ... (٤)

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٣٠ / ٢٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢٨.

(٣) تقدم.

(٤) تقدم.

١٤٢

أي : ويدها.

كقوله : (سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ) [النحل : ٨١] ، أي : والبرد.

الثالث : أنه خطاب لأمته فقط بعد ندائه ـ عليه الصّلاة والسلام ـ وهو من تلوين الخطاب ، خاطب أمته بعد أن خاطبه.

الرابع : أنه على إضمار قول ، أي : يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء.

قال القرطبي (١) : قيل : إنه خطاب للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمراد أمته ، وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب ، وذلك لغة فصيحة ، كقوله : (إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) [يونس : ٢٢] ، والتقدير : يا أيها النبي قل لهم : إذا طلقتم النساء ، فطلقوهن لعدتهن ، وهذا هو قولهم : إن الخطاب له وحده ، والمعنى له وللمؤمنين ، وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) ، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعا له قال : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ).

قال القرطبي (٢) : ويدلّ على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية.

روى أبو داود : أنها طلّقت على عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن للمطلّقة عدّة ، فأنزل الله ـ تعالى ـ العدّة للطلاق حين طلقت أسماء ، فكانت أولّ من أنزل فيها العدة للطلاق.

الخامس : قال الزمخشري (٣) : «خصّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالنداء وعمّ بالخطاب ؛ لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم : يا فلان افعلوا كيت وكيت اعتبارا لتقدمه وإظهارا لترؤسه» في كلام حسن.

وهذا هو معنى القول الثالث المتقدم.

قال القرطبي (٤) : وقيل : المراد به نداء النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تعظيما له ، ثم ابتدأ : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) [المائدة : ٩٠] الآية فذكر المؤمنين تكريما لهم ، ثم افتتح فقال : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ) [المائدة : ٩٠] الآية.

وقوله : (إِذا طَلَّقْتُمُ) أي : إذا أردتم ، كقوله : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ) [المائدة : ٦] ، (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) [النحل : ٩٨]. وتقدم تحقيقه.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٩٩.

(٢) الجامع لأحكام القرآن (١٨ / ٩٩).

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٥٢.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٩٩.

١٤٣

فصل في طلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم

روى ابن ماجة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم طلّق حفصة ثم راجعها (١).

وعن أنس قال : طلق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حفصة ـ رضي الله عنها ـ فأتت أهلها ، فأنزل الله تعالى عليه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ)(٢) ، وقيل له : راجعها فإنها صوّامة قوّامة ، وهي من أزواجك في الجنة. ذكره القشيري والماوردي والثعلبي.

زاد القشيريّ : ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ).

وقال الكلبي : سبب نزول هذه الآية غضب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على حفصة لما أسر إليها حديثا فأظهرته لعائشة ، فطلقها تطليقة ، فنزلت الآية (٣).

وقال السّديّ : نزلت في عبد الله بن عمر ، طلق امرأته حائضا تطليقة واحدة ، فأمره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، فإن أراد أن يطلقها فليطلّقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدّة التي أمر الله أن تطلق لها النساء (٤).

وقد قيل : إن رجالا فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر ، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعمرو بن سعيد بن العاص ، وعتبة بن غزوان ، فنزلت الآية فيهم (٥).

قال ابن العربي : وهذا كله وإن لم يكن صحيحا فالقول الأول أمثل وأصح ، والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ.

فصل في الطلاق

روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّ من أبغض الحلال إلى الله الطّلاق» (٦).

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة ١ / ٦٥٠ في الطلاق (٢٠١٦).

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٤٨) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن أنس.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٩٨).

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : القرطبي (١٨ / ٩٨).

(٦) أخرجه أبو داود (٢١٧٨) والبيهقي (٧ / ٣٢٢) عن محمد بن خالد عن معرف بن واصل عن محارب بن دثار عن ابن عمر مرفوعا.

وذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (١ / ٤٣١). وقال عن أبيه : إنما هو محارب عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وأخرجه ابن ماجة (٢٠١٨) من طريق محمد بن خالد عن عبيد الله بن الوليد الوصافي ومعرف بن واصل عن محارب به.

وأخرجه الحاكم (٢ / ١٦٦) والبيهقي (٧ / ٣٢٢) عن محمد بن عثمان بن أبي شيبة ثنا أحمد بن يونس عن محارب بن دثار عن عبد الله بن عمر مرفوعا.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد وزاد الذهبي : على شرط مسلم.

١٤٤

وعن علي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «تزوّجوا ولا تطلّقوا ، فإنّ الطّلاق يهتزّ منه العرش» (١).

وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا تطلّقوا النّساء إلّا من ريبة فإنّ الله ـ عزوجل ـ لا يحبّ الذّوّاقين ولا الذواقات» (٢).

وعن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما حلف بالطّلاق ولا استحلف به إلّا منافق» (٣). أسنده الثعلبي.

وروى الدارقطني عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا معاذ ما يخلق الله تعالى شيئا على وجه الأرض أحبّ إليه من العتاق ، ولا خلق الله تعالى شيئا أبغض إليه من الطّلاق ، فإذا قال الرّجل لمملوكه : أنت حرّ ـ إن شاء الله ـ فهو حرّ ولا استثناء له ، وإذا قال الرّجل لامرأته : أنت طالق إن شاء الله فله استثناؤه ، ولا طلاق عليه» (٤).

وعن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أحلّ الله شيئا أبغض إليه من الطّلاق ، فمن طلّق واستثنى فله ثنياه» (٥).

قال ابن المنذر : واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق : فقالت طائفة بجوازه ، وهو مروي عن طاووس.

قال حماد الكوفي : والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي.

وقال مالك والأوزاعي : لا يجوز الاستثناء في الطلاق خاصة (٦).

قال ابن المنذر : وبالقول الأول أقول.

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم في «أخبار أصبهان» (١ / ١٥٧) والخطيب (١٢ / ١٩١) من طريق عمرو بن جميع عن جويبر عن الضحاك عن النزال بن سبرة عن علي مرفوعا قال الخطيب : عمرو يروي المناكير عن المشاهير والموضوعات عن الأثبات والحديث أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» وقال : لا يصح فيه آفات الضحاك مجروح وجويبر ليس بشيء وعمرو قال ابن عدي كان يتهم بالوضع.

(٢) ذكره ابن أبي حاتم في «العلل» (١٢٨٤).

(٣) ذكره العجلوني في «كشف الخفا» (٢ / ٥٢) وذكره أيضا الشيخ علي القارىء في «الأسرار المرفوعة» ص ١٥٤ رقم (٥٩١) وعزاه إلى ابن عساكر.

(٤) أخرجه الدار قطني (٤ / ٣٥) وابن عدي في «الكامل» (٢ / ٦٩٤) وعبد الرزاق (٧ / ٣٩٠) والبيهقي (٧ / ٣٦١) وابن راهويه وأبو يعلى كما في «المطالب العالية» (٢ / ٥٩) وابن الجوزي في «العلل» (٢ / ٦٤٣) من طريق حميد بن مالك عن مكحول عن معاذ بن جبل مرفوعا.

قال ابن الجوزي : لا يصح حميد بن مالك قد ضعفه يحيى والرازي وقال ابن عدي ما يرويه منكر.

وقال البيهقي : حميد بن مالك مجهول ومكحول عن معاذ منقطع.

(٥) أخرجه أبو داود (٢١٧٧) والدار قطني (٤ / ٣٥) والحاكم (٢ / ١٩٦) والبيهقي (٧ / ٣٢٢) من حديث ابن عمر.

(٦) تقدم.

١٤٥

فصل في وجوه الطلاق (١)

روى الدار قطني عن ابن عباس أنه قال : الطلاق على أربعة وجوه وجهان حلالان ، ووجهان حرامان.

فأما الحلال ، فأن يطلقها [طاهرا](٢) من غير جماع ، وأن يطلّقها حاملا متبينا حملها ، وأما الحرام فأن يطلقها حائضا ، وأن يطلقها حين يجامعها لا يدري أشتمل الرّحم على ولد أم لا(٣).

واعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة ، وكذلك في الطّهر الذي جامعها فيه لقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإن شاء طلّق قبل أن يمضي».

وطلاق السّنة : أن يطلّقها في طهر لم يجامعها فيه ، وهذا في حقّ المرأة يلزمها العدة بالأقراء.

وأما طلاق غير المدخول بها في حيضها ، أو الصغيرة التي لم تحض ، والآيسة بعد ما جامعها ، أو طلق الحامل بعد ما جامعها ، أو في حال رؤية الدم لا يكون بدعيّا ولا سنيّا ، لقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «ثمّ ليطلّقها طاهرا أو حاملا».

والخلع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه فلا يكون بدعيا ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها ، ولو لا جوازه في جميع الأحوال لاستفسره.

قوله : (لِعِدَّتِهِنَ).

قال الزمخشري (٤) : «مستقبلات لعدتهن» ، كقولك : أتيته لليلة بقيت من المحرم أي : مستقبلا لها ، وفي قراءة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قبل عدتهن» انتهى.

وناقشه أبو حيان في تقدير الحال التي تعلق بها الجار كونا خاصّا.

وقال (٥) : «الجار إذا وقع حالا إنما يتعلق بكون مطلق».

وفي مناقشته نظر ، لأن الزمخشري لم يجعل الجار حالا ، بل جعله متعلقا بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام (٦).

وقال أبو البقاء (٧) : «لعدّتهنّ» أي : عندما يعتد لهن به ، وهن في قبل الطهر. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٠٠.

(٢) سقط من أ.

(٣) أخرجه الدار قطني (٤ / ٥) عن ابن عباس.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٥٢.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٧٧ ، ٢٧٨.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢٩.

(٧) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٢٧.

١٤٦

وقال أبو حيان (١) : «هو على حذف مضاف ، أي : لاستقبال عدتهن ، واللام للتوقيت ، نحو : لقيته لليلة بقيت من شهر كذا» انتهى.

فعلى هذا تتعلق اللام ب «طلقوهن».

وقال الجرجاني : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) صفة للطّلاق.

كيف يكون ، وهذه اللام تجيء لمعان مختلفة (٢)؟

للإضافة ، وهي أصلها ، أو لبيان السبب والعلة ، كقوله تعالى : (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ) [الإنسان : ٩].

أو بمعنى «عند» كقوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] أي: عنده.

وبمنزلة «في» كقوله تعالى : (أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) [الحشر : ٢] ، أي : في أول الحشر.

وهي في هذه الآية بهذا المعنى ، لأن المعنى : فطلقوهن في عدتهن ، أي : في الزمان الذي يصلح لعدتهن.

فصل في قوله : لعدتهن

قال القرطبي (٣) : قوله : «لعدّتهنّ» يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن الأزواج ، لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) [الأحزاب : ٤٩] وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع منه ، وفي الطهر مأذون فيه ، وهذا يدل على أن القرء هو الطهر.

فإن قيل : معنى قوله : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) أي : في قبل عدتهن ، أو لقبل عدتهن وهي قراءة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما قال ابن عمر ، فقبول العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحيض؟.

قيل (٤) : هذا هو الدليل الواضح لمن قال : بأن الأقراء هي الأطهار ، ولو كان كما قال الحنفي ، ومن تابعه لوجب أن يقال : إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقا لقبل الحيض لأن الحيض لم يقبل بعد ، وأيضا إقبال الحيض يكون بدخول الحيض ، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض ، ولو كان إقبال الشيء إدبار ضده لكان الصائم مفطرا قبل

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٢٧٧.

(٢) ينظر : التفسير الكبير ٣٠ / ٢٨.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٠٠.

(٤) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٠١.

١٤٧

انقضاء النهار ثمّ إذا طلق في آخر الطهر فبقيّة الطهر قرء ، ولأن بعض القرء يسمى قرءا ، كقوله تعالى : (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) [البقرة : ١٩٧] ، يعني شوال وذو القعدة وذو الحجة ، كقوله : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) [البقرة : ٢٠٣] وهو ينفر في بعض اليوم الثاني.

وقال البغوي (١) : معنى قوله «لعدّتهنّ» أي : لطهرهن الذي يحضنه من عدتهن ، وكان ابن عبّاس وابن عمر يقرآن : «فطلقوهن في قبل عدتهن» ، والآية نزلت في عبد الله بن عمر.

فصل في الطلاق في الحيض (٢)

من طلق في طهر جامع فيه أو حائضا نفذ طلاقه ، وأخطأ السّنة.

وقال سعيد بن المسيب في آخرين : لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة ، وإليه ذهبت الشيعة.

فصل في طلاق السنة

قال عبد الله بن مسعود : طلاق السنة أن يطلقها في كل طهر تطليقة ، فإذا كان آخر ذلك ، فتلك العدّة التي أمر الله بها (٣).

قال القرطبي (٤) : قال علماؤنا : طلاق السّنة ما جمع شروطا سبعة : وهو أن يطلقها واحدة ، وهي ممن تحيض طاهرا ، لم يمسّها في ذلك الطّهر ، ولا تقدمه طلاق في حيض ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه ، وخلا عن العوض ، وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمرو. وقال الشافعي : طلاق السّنة : أن يطلقها في كل طهر خاصة ، ولو طلقها ثلاثا في طهر لم يكن بدعة.

قال ابن العربي (٥) : «وهذه غفلة عن الحديث الصحيح ، فإنه قال فيه : «مرة فليراجعها» وهذا يدفع الثلاث».

وفي الحديث أنه قال : «أرأيت لو طلقّها ثلاثا»؟ قال : «حرمت عليك ، وكانت منك بمعصية» (٦).

وقال أبو حنيفة : ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحدة سواء. وهو

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٣٥٥.

(٢) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٠٠.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٥٠) وعزاه إلى عبد بن حميد والطبراني وابن مردويه عن ابن مسعود.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٠٠.

(٥) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٨٢٦.

(٦) تقدم.

١٤٨

مذهب الشافعي. لو لا قوله بعد ذلك : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) [الطلاق: ١] ، وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية ، وبذلك قال أكثر العلماء.

قال القرطبي (١) : وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية ، ولكن الحديث فسرها ، وأما قول الشعبي فمردود بحديث ابن عمر.

واحتج الشافعي بأن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة ، ولم يبلغنا أن أحدا من الصحابة عاب ذلك عليه.

وأن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث تطليقات في كلمة واحدة ، فأبانها منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولم يبلغنا أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عاب ذلك عليه.

وبحديث عويمر العجلاني ، لما لاعن ، قال : يا رسول الله ، هي طالق ثلاثة ، فلم ينكر عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فصل في نزول العدة للطلاق (٢)

روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية ، أنها طلقت على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل الله ـ تعالى ـ حين طلقت أسماء العدّة للطلاق ، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق.

قوله : (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ).

يعني في المدخول بها ، أي : احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق.

قيل : أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثا ، وقيل : للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعاة أمر النفقة والسكن.

وفي المخاطب بالإحصاء أقوال (٣).

أحدها : أنهم الأزواج.

والثاني : هم الزوجات.

والثالث : هم المسلمون.

قال ابن العربي (٤) : والصحيح أنهم الأزواج ؛ لأن الضمائر كلها من «طلّقتم» ، و (أَحْصُوا الْعِدَّةَ) و (لا تُخْرِجُوهُنَّ) على نظام واحد ، فرجع إلى الأزواج ، ولكن

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٠١.

(٢) ينظر : السابق ١٨ / ١٠٠.

(٣) ينظر السابق ١٨ / ١٠٢.

(٤) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٨٢٦.

١٤٩

الزوجات داخلة فيه بالإلحاق ، لأن الزوج يحصي ليراجع ، وينفق أو يقطع ، وليسكن أو يخرج ، وليلحق نسبه أو يقطع ، وهذه أمور كلها مشتركة بينه وبين المرأة ، وتنفرد المرأة دونه بغير ذلك وكذلك الحاكم يفتقر إلى إحصاء العدة للفتوى عليها ، وفصل الخصومة عند المنازعة ، وهذه فوائد الأمر بإحصاء العدّة.

قوله : («وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ). أي : لا تعصوه.

(«لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ). أي : ليس للزّوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدّة ، ولا يجوز لها الخروج أيضا لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة ، فإن خرجت أثمت ، ولا تنقطع العدّة (١).

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) ولم يقتصر على قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ)؟.

فالجواب (٢) : إن في هذا من المبالغة ما ليس في ذاك ، فإن لفظ الرّبّ يفهم منه التربية ، وينبه على كثرة الإنعام بوجوه كثيرة ، فيبالغون في التّقوى حينئذ خوفا من فوت تلك التربية.

فصل في الرجعية والمبتوتة (٣)

والرجعية والمبتوتة في هذا سواء ، وذلك لصيانة ماء الرجل ، وهذا معنى إضافة البيوت إليهن ، كقوله تعالى : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٢٤] ، وقوله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) [الأحزاب : ٣٣] فهو إضافة إسكان لا إضافة تمليك ، وقوله (لا تُخْرِجُوهُنَ) يقتضي أن يكون حقّا على الأزواج ، وقوله : (وَلا يَخْرُجْنَ) يقتضي أنه حق على الزوجات ، فلا يجوز لها أن تخرج ما لم تنقض عدتها ، فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أثمت ، فإن وقعت ضرورة أو خافت هدما أو غرقا ، فلها أن تخرج إلى منزل آخر ، وكذلك إن كانت لها حاجة من بيع غزل أو شراء قطن ، فيجوز لها الخروج نهارا ولا يجوز ليلا ؛ فإن رجالا استشهدوا ب «أحد» ، فقالت نساؤهم : نستوحش في بيوتنا فأذن لهن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يتحدثن عند إحداهن ، فإذا كان وقت الليل تأوي كل امرأة إلى بيتها.

وأذن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لخالة جابر لما طلقها زوجها أن تخرج لجداد نخلها.

وإذا لزمتها العدة في السفر تعتد ذاهبة وجائية ، والبدوية تنتوي حيث ينتوي أهلها في العدة ، لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٠٢.

(٢) ينظر : التفسير الكبير ٣٠ / ٣٠.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٠٢.

١٥٠

وقال أبو حنيفة : ذلك في المتوفى عنها زوجها ، وأما المطلقة فلا تخرج ليلا ولا نهارا. وهذا مردود بحديث فاطمة بنت قيس لما قدمت أرسل زوجها أبو حفص بن عمرو بتطليقة كانت بقيت من طلاقها ، وأرسل إليها وكيله بشير فسخطته ، فقال لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة : والله ما لك من نفقة إلا أن تكوني حاملا ، فأتت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فذكرت له قولهما ، فقال : لا نفقة لك ، وفي رواية : «ولا سكن» ، فاستأذنت في الانتقال ، فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم ، فلما انقضت عدتها أنكحها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أسامة بن زيد ، فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث ، فحدثته ، فقال مروان : لم نسمع بهذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا النّاس عليها ، فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان : فبيني وبينكم القرآن ، قال الله عزوجل : (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ) ، قالت : هذا لما كانت له رجعة ، لقوله : «لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمرا» ، فأي أمر يحدث بعد الثّلاث؟ فكيف تقولون : «لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا ، فعلام تحبسونها» لفظ مسلم.

فبين أن الآية في تحريم الإخراج ، والخروج إنما هو في الرجعية.

فاستدلّت فاطمة أن الآية إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية لأنها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في ارتجاعها ما دامت في عدتها فكانت تحت تصرف الزوج في كل وقت.

وأما البائن فليس له شيء في ذلك ، فيجوز أن تخرج إذا دعتها لذلك حاجة.

قوله : (إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ).

قال ابن عباس ، وابن عمر ، والحسن ، والشعبي ، ومجاهد : هو الزّنا ، فتخرج (١) ويقام عليها الحد.

وعن ابن عباس أيضا : أنه البذاء على أحمائها ، فيحل لهم إخراجها (٢).

وعن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة : تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن تنتقل (٣).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٢٥ ـ ١٢٦) عن الحسن ومجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٥٢) عن ابن عباس وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

وذكره أيضا عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد وعبد الرزاق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٢٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٥٢) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن راهويه وعبد بن حميد وابن مردويه من طرق عن ابن عباس.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٠٣).

١٥١

وفي كتاب أبي داود ، قال سعيد : تلك امرأة فتنت النّاس ، إنها كانت لسنة فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى.

قال عكرمة : في مصحف أبيّ «إلا أن يفحشن عليكم» (١).

ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس : اتّقي الله ، فإنك تعلمين لم أخرجت.

وعن ابن عبّاس أيضا : أن الفاحشة كل معصية كالزّنا والسرقة والبذاء على الأهل (٢) ، وهو اختيار الطبري.

وعن ابن عباس أيضا والسدي : «الفاحشة خروجها من بيتها في العدة» (٣).

وتقدير الآية : إلا أن يأتين بفاحشة لخروجهن من بيوتهن بغير حق ، أي : لو خرجت كانت عاصية.

وقال قتادة : «الفاحشة» النشوز ، وذلك أن يطلقها على النّشوز ، فتتحول عن بيته(٤).

وقال ابن العربي (٥) : أما من قال : إنه الخروج للزنا ، فلا وجه له ؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القتل والإعدام ، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام ، وأما من قال : إنه البذاء ، فهو معتبر في حديث فاطمة بنت قيس ، وأما من قال : إنه كل معصية فوهم ، لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج ، وأما من قال : إنه الخروج بغير حقّ فهو صحيح ، وتقدير الكلام : لا تخرجوهن من بيوتهن ، ولا يخرجن شرعا إلا أن يخرجن تعدّيا.

قوله : (مُبَيِّنَةٍ).

قرىء : بكسر الياء.

ومعناه : أن الفاحشة إذا تفكّرت فيها تبين أنها فاحشة.

وقرىء (٦) : بفتح الياء المشددة.

والمعنى : أنها مبرهنة بالبراهين ، ومبينة بالحجج.

قوله : (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ).

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) تقدم تخريجه.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٢٦).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٢٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٥٢) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٠٣ ، وأحكام القرآن ٤ / ١٨٣٢.

(٦) قرأ بها عاصم كما في : المحرر الوجيز ٥ / ٣٢٣ ، وينظر : الكشاف ٤ / ٥٥٤ ، والرازي ٣٠ / ٣٠.

١٥٢

أي : هذه الأحكام المبينة أحكام الله على العباد ، وقد منع التجاوز عنها ، فمن تجاوزها فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك (١).

قوله : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً).

الأمر الذي يحدث الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها ، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها ، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه فيراجعها.

وقال جميع المفسرين (٢) : أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة ، ومعنى الكلام : التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث ، فإنه إذا طلق ثلاثا أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع فلا يجد للرجعة سبيلا.

وقال مقاتل : (بَعْدَ ذلِكَ) أي بعد طلقة أو طلقتين «أمرا» أي : المراجعة من غير خلاف.

قوله : (لَعَلَّ اللهَ).

هذه الجملة مستأنفة ، لا تعلّق لها بما قبلها ، لأن النحاة لم يعدوها في المعلقات (٣).

وقد جعلها أبو حيّان مما ينبغي أن يعد فيهن (٤) ، وقرر ذلك في قوله : (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) [الأنبياء : ١١١].

فهناك يطلب تحريره (٥).

قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً)(٣)

قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ).

قرأ العامة : «أجلهنّ» ؛ لأن الأجل من حيث هو واحد ، وإن اختلفت أنواعه بالنسبة إلى المعتدات.

والضحاك وابن سيرين (٦) : «آجالهنّ» جمع تكسير.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٠٤.

(٢) السابق.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢٩.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٧٨.

(٥) ينظر : تفسير سورة الأنبياء.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٧٨ ، والدر المصون ٦ / ٣٢٩.

١٥٣

اعتبارا بأن أجل هذه غير أجل تلك.

فصل في معنى الآية

معنى قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) أي : قاربن انقضاء العدة ، كقوله تعالى : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَ) [البقرة : ١٣١] أي : قربن من انقضاء الأجل (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) يعني المراجعة بالمعروف أي : بالرغبة من غير قصد المضارة في المراجعة تطويلا لعدتها كما تقدم في البقرة (أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) أي : اتركوهن حتّى تنقضي عدّتهن ، فيملكن أنفسهن (١).

وفي قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) ما يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء عدتها إذا ادعت ذلك على ما تقدم في «البقرة» عند قوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) [البقرة : ٢٢٨] الآية.

فصل

قال بعض العلماء في قوله تعالى : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) [البقرة : ٢٣١] وقوله : (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ٢٢٩] أن الزوج له حق في بدنه وذمته ، فكل من له دين في ذمة غيره سواء كان مالا ، أو منفعة من ثمن ، أو مثمن ، أو أجرة ، أو منفعة ، أو صداق ، أو نفقة ، أو بدل متلف ، أو ضمان مغصوب ، فعليه أن يؤدي ذلك الحق الواجب بإحسان ، وعلى صاحب الحق أن يتبع بإحسان كما قال تعالى في آية القصاص : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) [البقرة: ١٧٨].

وكذلك الحق الثابت في بدنه مثل حق الاستمتاع والإجارة على عينه ونحو ذلك ، فالطالب يطلب بمعروف والمطلوب يؤدى بإحسان.

قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

أمر بالإشهاد على الطلاق ، وقيل على الرجعة.

قال القرطبي (٢) : «والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق ، فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان.

وقيل : المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة ، كقوله تعالى : (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) [البقرة : ٢٨٢] ، وعند الشّافعي واجب في الرّجعة مندوب إليه في الفرقة ، وفائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد ، وألّا

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٠٤.

(٢) السابق.

١٥٤

يتهم في إمساكها ، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي بثبوت الزوجية فيرث».

فصل في الإشهاد على الرجعية

الإشهاد على الرجعية ندب عند الجمهور ، وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرّجعة ، فليس بمراجع.

وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا قبل أو باشر أو لمس بشهوة ، فهو رجعة وكذلك النظر إلى الفرج رجعة.

وقال الشافعي وأبو ثور : إذا تكلم بالرجعة ، فهي رجعة.

وقيل : وطؤه مراجعة على كلّ حال ، نواها أو لم ينوها ، وهو مذهب أحمد وإليه ذهب الليث وبعض المالكية.

قال القرطبي رضي الله عنه (١) : وكان مالك يقول : إذا وطىء ولم ينو الرجعة ، فهو وطء فاسد ، ولا يعود إلى وطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد ، وله الرجعة في بقية العدة الأولى ، وليست له رجعة في هذا الاستبراء.

فصل فيمن أوجب الإشهاد في الرجعة

أوجب الإشهاد في الرجعة الإمام أحمد في إحدى الروايتين عنه ، والشافعي كذلك لظاهر الأمر.

وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر : إنّ الرجعة لا تفتقر إلى القبول فلم تفتقر إلى الإشهاد كسائر الحقوق ، وخصوصا حل الظهار بالكفارة.

فصل

إذا ادّعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة ، فإن صدقته جاز ، وإن أنكرت حلفت ، فإن أقام بينة أنه ارتجعها في العدة ، ولم تعلم بذلك لم يضرّه جهلها ، وكانت زوجته وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها ، ثم أقام الأول البيّنة على رجعتها ، فعن مالك ـ رحمه‌الله ـ في ذلك روايتان :

إحداهما : أن الأول أحق بها.

والأخرى : أن الثاني أحق بها ، فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول إليها.

قوله : (ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ).

قال الحسن : من المسلمين (٢).

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٠٥.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٠٥).

١٥٥

وعن قتادة : من أحراركم ، وذلك يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث ؛ لأن «ذوي» للمذكر (١).

قال القرطبي (٢) : «ولذلك قال علماؤنا : ولا مدخل للنساء فيما عدا الأموال».

قوله : (وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) كما تقدم في «البقرة».

أي : تقربا إلى الله في إقامة الشهادة على وجهها إذا مست الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير (٣).

قوله : (ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ) أي : يرضى به (مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فأما غير المؤمن فلا ينتفع بهذه المواعظ.

قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً).

قال الزمخشري (٤) : «قوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق من أمر الطلاق على السّنّة» كما مر.

روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سئل عمن طلق زوجته ثلاثا أو ألفا هل له من مخرج؟ [فتلاها (٥)](٦).

وقال ابن عباس والشعبي والضحاك : هذا في الطلاق خاصة (٧) ، أي : من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة ، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة.

وعن ابن عبّاس أيضا : يجعل له محرجا ينجّيه من كل كرب في الرجعة في الدنيا والآخرة(٨).

وقيل : المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه. قاله علي بن صالح.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٠٥.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٥٥.

(٥) ذكره الحافظ في «تخريج الكشاف» (٤ / ٥٥٥) وقال :

أخرجه الدارقطني والطبراني وابن مردويه من طريق عبد الله بن الوليد وغيره عن إبراهيم بن عبد الله ابن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده ، قال «طلق بعض آبائي امرأته ألفا فانطلق بنوه ، فقالوا : يا رسول الله إن أبانا طلق أمنا ألفا فهل له مخرج. فقال : إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا الحديث» وفي إسناده جماعة من الضعفاء. رواه إسحاق في مسنده عن ابن إدريس عن عبيد الله بن إبراهيم عن عبادة بن الصامت كذا قال.

(٦) سقط من أ.

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٠٥).

(٨) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٥٣) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

١٥٦

وقال الكلبي : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) بالصّبر عند المصيبة (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من النار إلى الجنة (١).

وقال الحسن : مخرجا مما نهى الله عنه (٢).

وقال أبو العالية : مخرجا من كل شدة (٣).

وقال الربيع بن خيثم : مخرجا من كل شيء ضاق على الناس.

وقال الحسين بن الفضل : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في أداء الفرائض (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من العقوبة (وَيَرْزُقْهُ) الثواب (مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) أن يبارك له فيما آتاه.

وقال سهل بن عبد الله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) في اتباع السّنّة (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) من عقوبة أهل البدع (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ).

وقال أبو سعيد الخدري : ومن تبرأ من حوله وقوّته بالرجوع إلى الله (يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) مما كلفه الله بالمعونة (٤).

وقال (٥) ابن مسعود ومسروق : الآية على العموم.

وقال أبو ذر : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّي لأعلم آية لو أخذ النّاس بها لكفتهم» وتلا : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [فما زال يكررها ويعيدها (٦).

وقال ابن عباس : قرأ النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب»](٧) قال : «مخرجا من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة» (٨).

وقال أكثر المفسرين (٩) : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي ، أسر المشركون ابنا له يسمى سالما ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يشتكي إليه الفاقة ، وقال : إن العدوّ أسر ابني وجزعت الأم ، فما تأمرني؟ قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «اتّق الله واصبر ، وآمرك وإيّاها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» ، فعاد إلى بيته ، وقال

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٠٥).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) في أ : وتأول.

(٦) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٩٢) وأحمد (٥ / ١٧٨) وابن حبان (١٥٤٧ ـ موارد) من حديث أبي ذر.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(٧) سقط من أ.

(٨) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٥٤) وعزاه إلى أبي يعلى وأبي نعيم والديلمي من طريق عطاء ابن يسار عن ابن عباس.

(٩) ينظر الجامع لأحكام القرآن (١٨ / ١٠٦).

١٥٧

لامرأته : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمرني وإياك أن نستكثر من قول «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» فقالت : نعم ما أمرنا به ، فجعلا يقولان ، فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم ، وجاء بها إلى أبيه ، وهي أربعة آلاف شاة ، فنزلت الآية ، وجعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تلك الأغنام له (١).

وروي أنه جاء وقد أصاب إبلا من العدو ، وكان فقيرا. فقال الكلبي : إنه أصاب خمسين بعيرا.

وفي رواية : فانفلت ابنه من الأسر وركب ناقة للقوم ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه.

وقال مقاتل : أصاب غنما ومتاعا ، فقال أبوه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني؟ قال : نعم ، ونزلت : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)(٢).

وروى الحسن عن عمران بن الحصين قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من انقطع إلى الله كفاه الله كلّ مؤونة ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدّنيا وكلها الله إليه» (٣).

وقال الزجاج (٤) : أي : إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيق ورزقه من حيث لا يحتسب.

وعن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كلّ همّ فرجا ، ومن كلّ ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب» (٥).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ١٣٠ ، ١٣١) عن السدي وسالم بن أبي الجعد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٣٥٤) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سالم بن أبي الجعد.

وذكره أيضا عن ابن عباس مطولا وعزاه للخطيب في «تاريخه» من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس. ومختصرا من طريق الكلبي عن أبي صالح عنه وعزاه لابن مردويه.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٠٦) عن مقاتل.

(٣) أخرجه الخطيب (٧ / ١٩١) والطبراني في «الأوسط» كما في «مجمع الزوائد» (١٠ / ٣٠٦).

وقال : رواه الطبراني في الأوسط وفيه إبراهيم بن الأشعث صاحب الفضيل وهو ضعيف وقد ذكره ابن حبان في «الثقات» وقال يخطىء ويغرب ويخالف.

(٤) ينظر معاني القرآن للزجاج ٥ / ١٨٤.

(٥) أخرجه أحمد (١ / ٢٤٨) وأبو داود (١٥١٨) والحاكم (٤ / ٢٦٢) والنسائي في «الكبرى» (٦٤٥) ومن طريقه ابن السني في «عمل اليوم والليلة» (٣٥٨) والبيهقي (٣ / ٣٥١) من طريق الحكم بن مصعب ثني محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن جده مرفوعا.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ورده الذهبي بقوله : قلت الحكم فيه جهالة. ـ

١٥٨

قوله : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ).

أن من فوّض إليه أمره كفاه ما أهمّه.

وقيل : من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية ، ولم يرد الدنيا ؛ لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل.

وقال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «لو أنّكم تتوكّلون على الله حقّ توكّله لرزقكم كما يرزق الطّير تغدو خماصا وتروح بطانا» (١).

قوله : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ).

قرأ حفص : «بالغ» من غير تنوين «أمره» مضاف إليه على التخفيف.

والباقون : بالتنوين (٢) والنصب ، وهو الأصل ، خلافا لأبي حيان (٣).

وقرأ ابن أبي عبلة وداود بن أبي (٤) هند ، وأبو عمرو في رواية : «بالغ أمره» بتنوين «بالغ» ورفع «أمره».

وفيه وجهان (٥) :

أحدهما : أن يكون «بالغ» خبرا مقدما ، و «أمره» مبتدأ مؤخر ، والجملة خبر «إن».

والثاني : أن يكون «بالغ» خبر «إن» و «أمره» فاعل به.

قال الفراء (٦) : أي : أمره بالغ.

وقيل : «أمره» مرتفع ب «بالغ» والمفعول محذوف ، والتقدير : بالغ أمره ما أراد.

__________________

ـ والحكم ذكره الحافظ ابن حجر في «التهذيب» (٢ / ٤٣٩) وقال : روى عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس وعنه الوليد بن مسلم. قال أبو حاتم : لا أعلم روى عنه غيره وذكره ابن حبان في «الثقات» وقال يخطىء له عندهم حديث واحد في لزوم الاستغفار قلت : هذا مقل جدّا فإن كان أخطأ فهو ضعيف وقد قال أبو حاتم مجهول وذكره ابن حبان في الضعفاء أيضا وقال : روى عنه أبو المغيرة أيضا لا يجوز الاحتجاج بحديثه ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار انتهى وهو تناقض صعب وقال الأزدي : لا يتابع على حديثه فيه نظر.

(١) أخرجه أحمد (١ / ٣٠ ، ٥٢) والترمذي (٢٣٤٤) وابن ماجه (٤١٦٤) وعبد بن حميد في «المنتخب» (ص ٣٢) من حديث عمر بن الخطاب وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(٢) ينظر : السبعة ٦٣٩ ، والحجة ٦ / ٣٠٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٧٣ ، وحجة القراءات ٧١٢ ، وشرح الطيبة ٦ / ٥٨ ، والعنوان ١٩٢ ، وشرح شعلة ٦٠٤ ، وإتحاف ٢ / ٥٤٥.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٧٩.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٣٢٤ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٧٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٢٩.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢٩.

(٦) ينظر : معاني القرآن له ٣ / ١٦٣.

١٥٩

وقرأ المفضل (١) : «بالغا» بالنصب ، «أمره» بالرفع. وفيه وجهان (٢) :

أظهرهما : وهو تخريج الزمخشري (٣) : أن يكون «بالغا» نصبا على الحال ، و (قَدْ جَعَلَ اللهُ) هو خبر «إن» تقديره : إن الله قد جعل لكل شيء قدرا بالغا أمره.

والثاني : أن يكون على لغة من ينصب الاسم والخبر بها ، كقوله : [الطويل]

٤٧٨٢ ـ ...........

 ... إنّ حرّاسنا أسد(٤)

ويكون (قَدْ جَعَلَ) مستأنفا كما في القراءة الشهيرة.

ومن رفع «أمره» فمفعول «بالغ» محذوف ، تقديره : ما شاء ، كما تقدم في القرطبي(٥).

فصل في معنى الآية (٦)

قال مسروق : يعني قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ، ويعظم له أجرا.

قوله : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً).

قيل : إن من قوله تعالى : (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) إلى قوله : (مَخْرَجاً) آية ، ومنه إلى قوله تعالى : (قَدْراً) آية أخرى ، وعند الكوفي والمدني المجموع آية واحدة (٧).

وقرأ جناح بن (٨) حبيش : «قدرا» بفتح الدال.

والمعنى (٩) : لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه.

وقيل : تقديرا.

وقال السدي : هو قدر الحيض في الأجل والعدة (١٠).

وقال عبد الله بن رافع : لما نزل قوله تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) فقال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فنحن إذا توكلنا عليه يرسل ما كان لنا ولا نحفظه» ، فنزلت : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) فيكم وعليكم (١١).

وقال الربيع بن خيثم : إنّ الله قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ، ومن آمن به

__________________

(١) ينظر : القراءة السابقة.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٢٩.

(٣) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٥٦.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٠٧.

(٦) ينظر السابق ١٨ / ١٠٦.

(٧) ينظر : التفسير الكبير ٣٠ / ٣٢.

(٨) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٧٩ ، والدر المصون ٦ / ٣٣٠.

(٩) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٠٧.

(١٠) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٠٧).

(١١) ينظر المصدر السابق.

١٦٠