اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

الكواكب. قال الحسن : حبكت بالنّجوم. وقال مجاهد : هي المتقنة المبنيّات. وقال مقاتل والكلبي والضحاك : ذات الطرائق (١) كحبك الماء إذا ضربته الرّيح ، وحبك الرّمل والشّعر الجعد وهو آثار تثنّيه وتكسّره (٢) ، قال زهير :

٤٥١٩ ـ مكلّل بأصول النّجم تنسجه

ريح خريق لضاحي مائه حبك (٣)

والحبك جمع يحتمل أن يكون مفرده حبيكة ، كطريقة وطرق أو حباك نحو : حمار وحمر قال:

٤٥٢٠ ـ كأنّما جلّلها الحوّاك

طنفسة في وشيها حباك (٤)

وأصل الحبك إحكام الشيء وإتقانه ، ومنه يقال للدروع : محبوكة. وقيل : الحبك الشدّ والتّوثّق ، قال امرؤ القيس :

٤٥٢١ ـ قد غدا يحملني في أنفه

لاحق الإطلين محبوك ممرّ (٥)

وفي هذا اللفظة قراءات كثيرة ، فعن الحسن ـ (رضي الله عنه (٦)) ـ ست قراءات ، الحبك ـ بالضم ـ كالعنق ، وبضم الحاء وسكون الباء وتروى عن ابن عباس ، وأبي عمرو (٧) ، وبكسر الحاء والباء (٨) ، وبكسر الحاء وسكون الباء (٩) ، وهو تخفيف

__________________

(١) وانظر : تفسير العلامتين الخازن والبغوي في تفسيريهما لباب التأويل ومعالم التنزيل ٦ / ٢٤١ وتفسير العلامة القرطبي في الجامع ١٧ / ٣١.

(٢) قاله أبو زكريا الفراء في معاني القرآن ٣ / ٢ وانظر تفسير الإمام ٢٨ / ١٩٧.

(٣) من البسيط له. والنجم كل شيء من النبات ليس له ساق ينبت حول الماء كالإكليل على أنه يروى في اللسان النبت «وريح خريق» شديدة.

والشاهد في : «حبك» فهو تكسر الماء القائم إذا مرت به الريح. وانظر البيت في القرطبي ١٧ / ٣٢ والهمع ٨ / ١٣٢ ومجمع البيان للطبرسي ٩ / ٢٢٩ واللسان «حبك» والمحتسب ٢ / ٢٨٧ والدر المنثور ٧ / ٦٩٢ والديوان ١٧٦.

(٤) رجز لم أعلم قائله والطّنفسة ـ بكسر الطاء وضم الفاء وكسرها ، وضبطها صاحب اللسان بتثليث الطاء والفاء وبكسر الطاء وفتح الفاء وبالعكس ـ النمرقة فوق الرحل. والبيت شاهد على أن الحباك واحد حبك والحباك والحبيكة الطريقة في الرمل ونحوه. وانظر البحر ٨ / ١٣٢ والقرطبي ١٧ / ٣٢.

(٥) البيت من الرمل له وهو في ديوانه ١٤٦. والإطلين مثنى إطل وهو الخاصرة كلها ، وقيل غير ذلك والممرّ الشديد الخلق من الفرس وغيره. والمعنى يصف فرسا بالقوة والصلابة.

والشاهد محبوك مفعول وقد فسرته الآن. وانظر : فتح القدير ٥ / ٨٣ والبحر ٨ / ١٣٢ والقرطبي ١٧ / ٣٢.

(٦) سقط من أ.

(٧) ذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢ / ٢٨٦. وانظر : البحر المحيط ٨ / ١٣٤.

(٨) ذكرها ابن خالويه في المختصر ١٤٥ وابن جني في المحتسب ٢ / ٢٨٦.

(٩) ذكرها بنسبة له ابن جني في المرجع السابق بينما قال ابن خالويه : «الحبك عن آخرين».

٦١

المكسور ، وكسر الحاء وفتح الباء (١) ، وكسر الحاء وضم الباء (٢) ، وهذه أقلها لأن هذه الزنة مهملة في أبنية العرب (٣).

قال ابن عطية وغيره : هو من التداخل ، يعني أن فيها لغتين الكسر في الحاء والباء والضم فيهما فأخذ هذا القارىء الكسر من لغة ، والضم من أخرى (٤). واستبعدها الناس ؛ لأن التداخل إنما يكون في كلمتين. وخرجها أبو حيان على أن الحاء أتبعت لحركة التاء في ذات ، قال : ولم يعتد باللام فاصلة لأنها ساكنة فهي حاجز بيّن حصين (٥).

وقد وافق الحسن على هذه القراءة أبو مالك (٦) الغفارّي.

وقرأ عكرمة بالضم والفتح جمع حبكة نحو : غرفة وغرف (٧) ، وابن عباس وأبو مالك الحبك بفتحتين ، جمع حبكة كعقبة وعقب (٨).

وقوله : (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ) جواب القسم.

فصل

المعنى : إنكم يا أهل مكة لفي قول مختلف في حق محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تارة تقولون : إنه أمين ، وأخرى إنه كاذب ، وتارة تنسبونه إلى الجنون ، وتارة كاهن ، وشاعر ، وساحر ، وهذا القول ضعيف ؛ إذ لا حاجة إلى اليمين على هذا ، لأنهم كانوا يقولون ذلك من غير إنكار حتى يؤكد باليمين. وقيل : يقولون : إنه مجنون ثم يقولون : غلبنا بقوّة جداله.

وقيل : لفي قول مختلف في القرآن ، يقولون فيه إنه سحر وكهانة وأساطير الأولين.

وقيل : قول مختلف أي مصدّق ومكذب (٩). وقيل : غير ثابتين على أمر.

وقيل : متناقض ، تارة يقولون : لا حشر ولا حياة بعد الموت ، ثم يقولون : إنّا وجدنا آباءنا على أمّة.

__________________

(١) نسبها أبو حيان للحسن في البحر ٨ / ١٣٤.

(٢) المحتسب ٢ / ٢٨٦ وقد ذكرها ابن عطية عن الحسن فيما حكى أبو حيان في البحر المرجع السابق.

(٣) قال أبو حيان : «وقال صاحب اللوامح : وهو عديم النظير في العربية في أبنيتها وأوزانها ، ولا أرى ما رأى». انظر : البحر المرجع السابق.

(٤) بالمعنى من البحر ٨ / ١٣٤ فقد قال : «هي قراءة شاذة غير متوجّهة وكأنه أراد كسرها ثم توهم الحبك قراءة الضم بعد أن كسر الحاء وضم الباء وهذا على تداخل اللغات ، وليس في كلام العرب هذا البناء» انتهى. البحر المرجع السابق.

(٥) البحر المرجع السابق.

(٦) سبق ترجمته.

(٧) وهي شاذة المحتسب ٢ / ٢٨٦.

(٨) وهذا قول أبي الفضل الرازي فيما نقله صاحب البحر ٨ / ١٣٤.

(٩) البغوي ٦ / ٢٤١.

٦٢

قوله : (يُؤْفَكُ عَنْهُ) صفة لقول ، والضمير في (عَنْهُ) للقرآن ، أو الرسول ، أو للدين ، أو لما توعدون ، أي يصرف عنه.

وقيل : عن السبب. والمأفوك عنه محذوف ، والضمير في (عَنْهُ) على هذا القول مختلف ، أي يؤفك بسبب القول من أراد الإسلام بأن يقول : هو سحر وكهانة (١).

والعامة على بناء الفعلين للمفعول. وقتادة وابن جبير : يؤفك عنه من أفك ، الأول للمفعول ، والثاني للفاعل ، أي يصرف عنه من صرف الناس عنه (٢). وزيد بن علي : يأفك مبنيا للفاعل من أفك مبنيا للمفعول عكس ما قبله ، أي يصرف الناس عنه من هو مأفوك في نفسه(٣).

وعنه أيضا : يؤفّك عنه من أفّك بالتشديد ، أي من هو أفّاك في نفسه.

وقرىء : يؤفن عنه من أفن (٤) بالنون فيهما أي يحرمه من حرمه من أفن الضّرع إذا نهكه حلبا (٥).

فصل

قيل في تفسير قوله : (يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ) وجوه :

أحدها : مدح المؤمنين ، ومعناه يصرف عن القول المختلف من صرف عن ذلك القول ، ويرشد إلى القول المستوي. وقيل : إنه ذم (٦) ومعناه يؤفك عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه ، يعني من حرمه الله الإيمان بمحمد وبالقرآن. وقيل : «عن» بمعنى «من أجل» ، أي يصرف من أجل هذا القول المختلف ، أو بسببه عن الإيمان من صرف ، وذلك أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان ، فيقولون : إنه ساحر ، وكاهن ، ومجنون ، فيصرفونه عن الإيمان ، قاله مجاهد (٧).

قوله تعالى : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (١٠) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (١١) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ

__________________

(١) انظر : الرازي ٢٨ / ١٩٧.

(٢) وهي شاذة. ذكرها صاحب البحر ٨ / ١٣٥ وحينئذ يكون الفاعل تقديره هو. وانظر : المختصر لابن خالويه ١٤٥ وقد ضبطها محقق ابن خالويه أفك بفتح الفاء في الماضي وجاءت مفتوحة الفاء ومكسورتها معا في اللّسان «أف ك».

(٣) المرجع السابق وهو البحر المحيط ٨ / ١٣٥.

(٤) القرطبي ١٧ / ٣٣ وانظر : البحر المرجع السابق وانظر الكشاف في تلك القراءة وسابقتيها وكلها شاذة غير متواترة.

(٥) المراجع السابقة وفي القرطبي : أنهكه حلبا بالرّباعي.

(٦) الرازي ٢٨ / ١٩٨.

(٧) وانظر : معالم التنزيل للإمام البغويّ ٦ / ٢٤١ و ٢٤٢.

٦٣

الدِّينِ (١٢) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (١٣) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ)(١٤)

قوله : (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) لعن الكذّابون. وقرىء : قتل مبنيا للفاعل (١) ، وهو الله تعالى: الخراصين مفعوله ، والمعنى لعن الخراصون وهم الذين لا يجزمون بأمر ولا يثبتون عليه ، بل هم شاكون متحيرون. وهذا دعاء عليهم ، ثم يصفهم (٢) بأنهم في غمرة ساهون ، فقوله : (ساهُونَ) يحتمل أن يكون خبرا بعد خبر والمبتدأ قوله (هُمْ) ، والتقدير : هم كائنون في غمرة ساهون ، كقولك : زيد جاهل جائر ، لا تقصد به وصف الجاهل بالجائر. ويحتمل أن يقال : (ساهُونَ) خبر ، و (فِي غَمْرَةٍ) ظرف له ، كقولك : زيد في بيته قاعد فالخبر هو «قاعد» لا غير ، و «في بيته» بيان لطرف القعود ، فكذا قوله : (فِي غَمْرَةٍ) ظرف للسّهوة (٣).

واعلم إن وصف الخارص بالسهو دليل على أن الخراص صفة ذم يقال : تخرّص عليه الباطل. قال المفسرون : هم الذين اقتسموا عقاب مكة ، فاقتسموا القول في النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ليصرفوا الناس عن دين الإسلام. وقال مجاهد : الكهنة الذين هم في غمرة أي غفلة وعمّى وجهالة (ساهُونَ) غافلون عن أمر الآخرة. والسهو الغفلة عن الشيء وهو ذهاب القلب عنه (٤).

قوله تعالى : (يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) فقوله : (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) مبتدأ أو خبر قيل : وهما ظرفان (٥) فكيف يقع أحد الظرفين (٦) في الآخر؟ (٧).

وأجيب : بأنه على حذف حدث أي أيّان وقوع يوم الدّين «فأيّان» ظرف الوقوع ، كما تقول : متى يكون يوم الجمعة (٨) ، وتقدم قراءة إيّان ـ بالكسر (٩) ـ في الأعراف.

قيل : وأيان من المركبات ، ركب من «أيّ» التي للاستفهام ، و «آن» التي بمعنى متى ، أو من «أيّ» (و) (١٠) أوان ؛ فكأنه قال : أيّ أوان ، فلما ركبت بني. وهذا جواب قوله : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) فكأنه قال : أيّان يقع؟ استهزاء.

__________________

(١) ولم يذكر من قرأ بها أبو حيان في البحر ٨ / ١٣٥ والزمخشري في الكشاف ٤ / ١٥.

(٢) في ب وصفهم.

(٣) الذي يصحح وصف المعرفة بالجملة ، قاله الرازي ٢٨ / ١٩٨.

(٤) وانظر : تفسير العلامتين البغوي والخازن في تفسيريهما ٦ / ٢٤٢.

(٥) ومعروف أن الزمان يجعل ظرفا للأفعال ، ولا يمكن أن يكون الزمان ظرفا لظرف آخر.

(٦) وهو «أيان».

(٧) وهو «اليوم».

(٨) بالمعنى من الكشاف ٤ / ١٥ والرازي ٢٨ / ١٩٨ و ١٩٩.

(٩) وهي قراءة السلمي وهي لغة وهي من الآية ١٨٧ من الأعراف :«يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها». وسيجيء الآن أن المؤلف قد تكلم عن اشتقاقاتها ، وانظر : اللباب ٢ / ٤٠٣ ب.

(١٠) سقط من ب.

٦٤

وترك السؤال دلالة على أن الغرض ليس الجواب ، وإنما يسألون استهزاء ، والمعنى يسألون أيان يوم الدين يقولون : يا محمد متى يكون يوم الجزاء؟ يعني يوم القيامة تكذيبا واستهزاء قال الله ـ عزوجل ـ : (يَوْمَ هُمْ) أي يكون هذا الجزاء في يوم هم على النار يفتنون أي يعذبون ويحرقون بها ، كما يفتن الذّهب بالنّار. وعلى هذا فالأولى أن يكون معنى يفتنون يعرضون عرض المجرّب للذّهب على النار ، لأن كلمة (عَلَى) تناسب ذلك ولو كان المراد يحرقون لقيل : بالنّار ، أي في النار (١).

قوله : (يَوْمَ هُمْ) يجوز أن يكون منصوبا بمضمر أي الجزاء كائن يوم هم (٢) ويجوز أن يكون بدلا من (يَوْمُ الدِّينِ)(٣) ، والفتحة للبناء على رأي من يجيز بناء الظرف ، وإن أضيف إلى جملة اسمية (٤) وعلى هذا فيكون حكاية لمعنى كلامهم ، قالوه على سبيل الاستهزاء ، ولو جاء على حكاية لفظهم المتقدم لقيل : يوم نحن على النّار نفتن.

و (يَوْمَ) منصوب بالدين ، وقيل : بمضمر ، أي يجازون.

وقيل : هو مفعول بأعني مقدّرا (٥) وعدّي يفتنون بعلى لأنه بمعنى يختبرون (٦). وقيل : على بمعنى في (٧). وقيل : على بمعنى الباء. وقيل : (يَوْمَ هُمْ) خبر مبتدأ مضمر ، أي هو يوم هم والفتح لما تقدم. ويؤيد ذلك قراءة ابن أبي عبلة والزّعفرانيّ يوم هم بالرفع (٨) ، وكذلك يؤيد القول بالبدل. وتقدم الكلام في مثل هذا في غافر.

فصل

قوله : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) قال ابن الخطيب : يحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون جوابا عن قولهم أيّان يقع فكما أنهم لم يسألوا سؤال مستفهم طالب لعلم ، كذلك لم يجبهم جواب معلم مبين بل قال : يوم هم على النار يفتنون فجهلهم بالثاني أقوى من جهلم بالأول ، ولا يجوز أن يكون الجواب بالأخفى ، فلو قال قائل : متى يقدم زيد؟ فلو أجيب بقوله : يوم يقدم رفيقه ولا يعلم يوم قدوم الرفيق لم يصح هذا الجواب إلا إذا كان الكلام في صورة جواب ولا يكون جوابا كقول القائل لمن

__________________

(١) وانظر : البغوي ٦ / ٢٤٢ والرازي ٢٨ / ١٩٩ والكشاف ٤ / ١٥.

(٢) وهو قول الزجاج في إعراب القرآن ٥ / ٥٢ في أحد قوليه.

(٣) البحر المحيط ٨ / ١٣٥.

(٤) أما الإعراب فعلى الأصل ، وأما البناء فحملا على إذ وانظر الأشموني ٢ / ٢٥٦ والتبيان ١١٧٨.

(٥) قال بهذه الإعرابات أبو البقاء العكبري في التبيان المرجع السابق.

(٦) كذا في أوفي ب مختبرون بالاسمية ، وفي التبيان : يجبرون.

(٧) التبيان المرجع السابق.

(٨) الكشاف ٤ / ١٥ والبحر المحيط ٨ / ١٣٥.

٦٥

يعد عداتا (١) ويخلفها : إلى متى هذا الإخلاف؟ فيغضب ويقول : إلى أشأم يوم عليك ، فالكلامان في صورة سؤال وجواب ، ولا يريد بالأول السؤال ، ولا الثاني يريد به الجواب ، فكذلك ههنا قال : (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ) مقابلة لاستهزائهم بالإيعاد لا على وجه الإتيان بالبيان (٢).

الثاني : أن يكون «ذلك» ابتداء كلام تمامه (في قوله : (ذُوقُوا (٣) فِتْنَتَكُمْ)).

فإن قيل : هذا يفضي إلى الإضمار!.

فالجواب : أن الإضمار لا بد منه ؛ لأن قوله : ذوقوا فتنتكم غير متصل بما قبله إلا بإضمار يقال.

قوله : (ذُوقُوا) أي (٤) يقال لهم ذوقوا (٥) و (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ) مبتدأ وخبر (هذَا) هو الظاهر (٦). وجوّز الزمخشري أن يكون (هذَا) بدلا من (فِتْنَتَكُمْ)(٧) ؛ لأنها بمعنى العذاب ، ومعنى فتنتكم عذابكم (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ) في الدنيا تكذيبا به ، وهو قولهم : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) [ص : ١٦] وقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) [هود : ٣٢] ونظائره ، وقوله :(يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) فإنه نوع استعجال بالقول. ويحتمل أن يكون المراد الاستعجال بالفعل وهو إصرارهم على العناد ، وإظهار الفساد ، فإنه يعجل العقوبة (٨).

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)(١٩)

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) لما بين حال المجرمين بين بعده حال المتقين ، والمتقي له مقامات ، أدناها أن يتقي الشرك ، وأدناها أن يتقي ما سوى الله ، وأدنى درجات المتقي الجنة فما من أحد اجتنب الكفر إلا ويدخل الجنة.

قوله : (آخِذِينَ) حال من الضمير في قوله : (جَنَّاتٍ) و (ما آتاهُمْ) يعني مما في الجنة فيكون حالا حقيقية ، وقيل : ما آتاهم من أوامره ونواهيه فيكون في الدنيا فتكون حالا محكية ، لاختلاف الزمانين (٩).

__________________

(١) كذا في النسختين والأصح لغويّا ونحويا : عدات جمع عدة كهبة ، وهبات ، وزنة وزنات.

(٢) وانظر : تفسير الرازي ٢٨ / ١٩٩.

(٣) الرازي ٢٨ / ١٩٩ وما بين القوسين زيادة من المؤلف عليه.

(٤) المرجع السابق.

(٥) فتكون هذه الجملة لا محل لها مقول القول. البحر المحيط ٨ / ١٣٥.

(٦) في الكشاف الذي خبره أي هذا العذاب. وانظر ٤ / ١٥.

(٧) أي ذوقوا هذا العذاب.

(٨) الرازي ٢٨ / ١٩٩.

(٩) بالمعنى من البحر المحيط ٨ / ١٣٥.

٦٦

وجعل الجار خبرا ، والصفة فضلة ، وعكس هذا في قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ) ، قيل : لأن الخبر مقصور الجملة ، والغرض هناك الإخبار عن تخليدهم ، لأن المؤمن قد يدخل النار ، ولكن لا بد من خروجه ، وأما آية المتقين ، فجعل الظرف فيها خبرا لأمنهم الخروج منها ، فجعل لذلك محط الفائدة ليحصل لهم الطمأنينة فانتصبت الصفة حالا(١).

فصل

اعلم أنه تعالى وحد الجنة تارة ، قال تعالى : (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) [الرعد : ٣٥] و [محمد : ١٥] وأخرى جمعها كقوله ههنا : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ)(٢) وتارة ثنّاها ، قال تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن : ٤٦] ، والحكمة فيه أن الجنة في توحيدها لاتصال المنازل والأشجار والأنهار كجنة واحدة ، وأما جمعها فلأنها بالنسبة إلى الدنيا وبالإضافة إليها جنّات لا يحصرها عدد ، وأما تثنيتها فسيأتي في سورة الرحمن.

قال ابن الخطيب : غير أنّا نقول ههنا : إن الله تعالى عند الوعد وحّد الجنة وعند الإعطاء جمعها إشارة إلى أن الزيادة في الوعد موجودة بخلاف ما لو وعد بجنّات ثم يقول إنه في جنة ، لأنه دون الموعود ، وقوله : (وَعُيُونٍ) يقتضي أن يكون المتقي فيها ولا لذة في كون الإنسان في ماء؛ فالمعنى في خلال العيون ، أي بين الأنهار كقوله : (فِي جَنَّاتٍ) معناه بين الجنات وفي خلالها ؛ لأن الجنة هي الأحجار ، ونكرها مع كونها معرفة للتعظيم كقولك : فلان رجل أي عظيم في الرجولة (٣).

ومعنى : (آخِذِينَ) أي قابضين ما آتاهم شيئا فشيئا ولا يستوفونه بكماله ، لامتناع استيفاء ما لا نهاية له. وقيل : معنى آخذين أي قابلين قبول راض كقوله تعالى : (وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) [التوبة : ١٠٤] أي يقبلها ، قاله الزمخشري (٤). وقال ابن الخطيب : وفيه وجه ثالث ، وهو أن قوله : في جنّات يدلّ على السّكنى حيث قال : آخذين بلاد كذا ، أو قلعة كذا ، أي دخلها متملّكا لها ، وكذا يقال لمن اشترى دارا أو بستانا أخذه بثمن قليل أي تملكه ، وإن لم يكن هناك قبص حسّا ولا قبول برضّى.

وحينئذ فائدته بيان أن دخولهم فيها ليس دخول مستعير أو من (٥) يسترد منه ذلك بل هو ملكه الذي اشتراه بماله ونفسه من الله. وقوله : (آتاهُمْ) لبيان (أن) (٦) أخذهم ذلك لم يكن عنوة ، وإنما نال ذلك بإعطاء الله تعالى. وعلى هذا الوجه (ما) راجعة إلى ال (جَنَّاتٍ) وال (عُيُونٍ).

__________________

(١) وانظر : التبيان لأبي البقاء ١١٧٩.

(٢) تلك الآية وغيرها.

(٣) وانظر : تفسير الرازي ٢٨ / ٣٠٠.

(٤) الكشاف ٤ / ١٥.

(٥) في الرازي : أو ضعف يسترد منه ذلك.

(٦) سقط من ب.

٦٧

وقوله : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) إشارة إلى أنهم أخذوها بثمنها وملكوها بالإحسان في الدنيا ، والإشارة بذلك إما لدخول الجنة ، وإما لإيتاء الله ، وإما ليوم الدين ، والإحسان هو قول لا إله إلا الله ؛ ولهذا قيل في معنى كلمة التقوى : إنها لا إله إلا الله ، وفي قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) [فصلت : ٣٣] وقوله : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) [الرحمن : ٦٠] هو الإتيان بكلمة لا إله إلا الله.

قوله : (كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) وهذا كالتفسير لكونهم محسنين (١) ، وفيه أوجه :

أحدها : أن الكلام تمّ على (قَلِيلاً) ولهذا وقف بعضهم على قليلا ليؤاخي بها قوله تعالى : (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) [ص : ٢٤] (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] ويبتدىء : (مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي ما يهجعون من الليل. والمعنى كانوا من الناس قليلا ، ثم ابتدأ فقال : ما يهجعون وجعله جحدا أي لا ينامون بالليل ألبتة بل يقومون للصلاة والعبادة. وهو قول الضحاك ومقاتل (٢). وهذا لا يظهر من حيث المعنى ، ولا من حيث الصناعة ، أما الأول فلا بد أن يهجعوا ، ولا يتصور نفي هجوعهم ، وأما الصناعة فلأن (ما) في حيز النفي لا يتقدم عليه عند البصريين. هذا إن جعلتها نافية ، وإن جعلتها مصدرية صار التقدير من الليل هجومهم. ولا فائدة فيه ، لأن غيره من سائر الناس بهذه المثابة (٣).

الثاني : أن تجعل (ما) مصدرية في محلّ رفع (٤) «ب (قَلِيلاً) ، والتقدير : كانوا قليلا هجوعهم.

الثالث : أن تجعل ما المصدرية بدلا من اسم كان بدل اشتمال أي كان هجوعهم قليلا (٥). و (مِنَ اللَّيْلِ) على هذين لا يتعلق ب (يَهْجَعُونَ) لأن ما في حيّز المصدر لا يتقدم عليه على المشهور. وبعض المانعين (٦) اغتفروا في الظرف فيجوز هذا عنده والمانع يقدر فعلا يدل عليه : «يهجعون من اللّيل».

الرابع : أن (ما) مزيدة و (يَهْجَعُونَ) خبر كان ، والتقدير : كانوا يهجعون من الليل

__________________

(١) كقولنا : حاتم كان سخيّا كان يبذل موجوده ولا يترك مجهوده.

(٢) البغوي ٦ / ٢٤٢ والرازي ٢٨ / ٢٠٢ والقرطبي ١٧ / ٣٦.

(٣) وهو قول ابن الأنباري أبي بكر فيما نقله عنه القرطبي في الجامع ١٧ / ٣٦ وقد نقل هذا القول الإمام القرطبي نفسه في مرجعه السابق وأبو البقاء في التبيان ١١٧٩.

(٤) على الفاعلية وهذا القول ذكره العكبري في التبيان المرجع السابق ، وابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٨٩ ومكي في المشكل ٢ / ٣٢٢ والفراء في المعاني ٣ / ٨٤ وأبو حيان في البحر ٨ / ١٣٥.

(٥) نقله القرطبي في الجامع ١٧ / ٣٦ وأبو البقاء في التبيان ١١٧٩.

(٦) لم أعرف هذا البعض الذي قصده المؤلف وانظر : التبيان السابق.

٦٨

هجوعا قليلا ، أو زمنا قليلا ، ف (قَلِيلاً) ، نعت لمصدر أو ظرف (١).

الخامس : أنها بمعنى الذي ، وعائدها محذوف تقديره : كانوا قليلا من الليل الوقت الذي يهجعونه (٢). وهذا فيه تكلّف.

فصل

قال ابن الخطيب : (قَلِيلاً) منصوب على الظرف تقديره يهجعون قليلا يقال : قام بعض الليل ، فنصب «بعض» على الظرف ، وخبر كان هو قوله : (يَهْجَعُونَ) و (ما) زائدة هذا هو المشهور (٣) ، وفيه وجه آخر : وهو أن يقال : كانوا قليلا معناه كانوا من الناس قليلا ، فيكون (قَلِيلاً) خبر كان. و (ما يَهْجَعُونَ) معناه نفي النوم عنهم. وهذا منقول عن الضّحّاك ومقاتل (٤).

وأنكر الزمخشري (٥) كون (ما) نافية ، وقال : لا يجوز أن تكون نافية ؛ لأن ما بعدها لا يعمل فيها قبلها لا تقول : زيدا ما ضربت ويجوز أن يعمل ما بعد «لم» فيما قبلها ، تقول : زيدا لم أضرب (٦) وذلك أن الفعل المتعدي إنما يعمل في النفي حملا له على الإثبات لأنك إذا قلت : ضرب زيد عمرا ثبت تعلق فعله بعمرو. فإذا قلت : ما ضربه لم يوجد منه فعل حتى يتعلق به ويتعدى إليه ، لكن النفي محمول على الإثبات ، فإذا ثبت هذا فالنفي بالنسبة إلى الإثبات كاسم الفاعل بالنسبة إلى الفعل فإنه يعمل عمل الفعل لكن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي لا يعمل فلا تقول : زيدا (٧) ضارب عمرا أمس ، وتقول : زيد ضارب عمرا غدا واليوم والآن ؛ لأن الماضي لم يبق موجودا ولا متوقّع الوجود ، فلا يتعلق بالمفعول حقيقة ، لكن الفعل لقوته يعمل واسم الفاعل لضعفه لم يعمل.

إذا عرف هذا فقوله : ما ضربت للنفي في الماضي ، فاجتمع فيه النفي والمضيّ فضعف. وأما : لم أضرب فإن (٨) كان يقلب المستقبل فوجد فيه ما وجد في قول القائل : زيد ضارب عمرا غدا فأعمل (٩).

__________________

(١) ذكره أبو حيان في البحر ٨ / ١٣٥.

(٢) في تفسير أبي حيان السابق : «كانوا قليلا من الليل من الوقت الذي يهجعون فيه» ولا اختلاف جوهريّا بين ما قاله المؤلّف وما قاله أبو حيان. وانظر : البحر ٨ / ١٣٦.

(٣) الرازي ٢٨ / ٢٠٢ و ٢٠٣.

(٤) السابق.

(٥) ذكر الزمخشري في الكشاف ٤ / ١٥ و ١٦ كل الأوجه السابقة في ما عدا زيادتها ، وله حجّته الآتية بعد.

(٦) بالمعنى من الكشاف ٤ / ١٦ ، وباللفظ من تفسير الإمام الرازي ٢٨ / ٢٠٣.

(٧) كذا في النسختين بنصب زيد والأصح : الرفع.

(٨) كذا في النسختين ، وفي الرازي ـ وهو الصحيح ـ وإن كان. بالواو.

(٩) وهذا شرح الإمام الرازي لكلام أستاذه الزمخشري.

٦٩

قال ابن الخطيب : غير أن القائل بذلك القول يقول : قليلا ليس منصوبا بقوله : يهجعون ، وإنما ذلك خبر (كانوا (١) ؛ أي) كانوا قليلين (٢).

فصل

تقديم قليلا في الذكر ليس لمجرد السّجع حتى يقع يهجعون ويستغفرون في آخر الآيات ، بل لأن الهجوع راحة لهم والمقصود بيان اجتهادهم وتحملهم السهر لله تعالى ، فلا يناسبه تقديم (راحتهم) (٣) ، وقد يغفل السامع عما بعد الكلام فيعتقد كونهم محسنين بسبب هجوعهم ، فقدم قوله : (قَلِيلاً) ليسبق إلى الفهم أولا قلة الهجوع وقوله : (مِنَ اللَّيْلِ) إشارة إلى أنه الزمن الذي يهجع الناس فيه ولا يسهر في الطاعة إلا متعبد.

فإن قيل : الهجوع لا يكون إلا بالليل والنوم نهارا لا يقال له : هجوع!.

فالجواب : أن ذكر العام وإردافه بالتخصيص حسن ، تقول : رأيت حيوانا ناطقا فصيحا. وأما ذكر الخاص وإردافه بالعام فلا يحسن إلا في بعض المواضع ، فلا تقول : أيت ناطقا فصيحا حيوانا.

وإذا عرف هذا فقوله تعالى : كانوا قليلا من الليل ذكر أمرا هو كالعام يحتمل أن يكون بعده : كانوا من الليل يسبحون أو يستغفرون أو يسهرون ، أو غير ذلك ، فلما قال : يهجعون فكأنه خصّص ذلك بالأمر العام المحتمل له ولغيره فأزال الاحتمال (٤).

قوله : (وَبِالْأَسْحارِ) متعلق ب (يَسْتَغْفِرُونَ) ، والباء بمعنى «في». وقدم متعلق الخبر (٥) على المبتدأ (٦) لجواز تقديم العامل.

فصل

معنى قوله : (قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ) أي يصلون أكثر الليل. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني كانوا قل ليلة تمر بهم إلا صلوا فيها شيئا إما من أولها وإما من أوسطها. وقال أنس بن مالك : كانوا يصلون العتمة. وقال مطرف بن عبد الله بن الشّخير : قلّ ليلة أتت عليهم يهجعونها كلها. وقال مجاهد : كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله ، وربما نشطوا فمدّوا إلى السّحر ، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار. وقال الكلبي

__________________

(١) ما بين القوسين زيادة من الرازي على النسختين وهي زيادة لازمة لا بدّ منها.

(٢) وانظر : الرازي ٢٨ / ٢٠٢.

(٣) ما بين القوسين سقط من ب وعبارة الرازي : فلو قال : كانوا يهجعون كان المذكور أولا راحتهم ثم بصفة بالقلة. وانظر : الرازي ٢٨ / ٢٠٣.

(٤) بالمعنى من تفسير الإمام الرازيّ المرجع السابق.

(٥) وهو بالأسحار.

(٦) وهو «هم».

٧٠

ومجاهد ومقاتل : وبالأسحار يصلّون ؛ وذلك لأن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة (١).

روى أبو هريرة أن رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال : ينزل الله إلى السّماء كلّ ليلة حين يبقى ثلث اللّيل فيقول : أنا الملك أنا الملك ، من الّذي يدعوني فأستجيب له؟ من الّذي يسألني فاعطيه؟ من الّذي يستغفرني فأغفر له؟ (٢).

فصل

في قوله : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون ثم يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه ، فهم يستغفرون من التقصير. وهذه سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقلّه ويعتذر من التقصير واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمنّ به.

وفي الآية لطائف :

الأولى : أنه تعالى لما ذكر قلة هجوعهم ، والهجوع مقتضى الطبع قال : يستغفرون أي من ذلك القدر من النوم القليل.

الثانية : أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ولم يمدحهم بكثرة السّهر فلم يقل : كانوا قليلا من الليل ما يسهرون مع أن السّهر هو الكلفة والاجتهاد لا الهجوع ، وهذا إشارة إلى أن نومهم عبادة حيث مدحهم الله بكونهم هاجعين قليلا ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، والاستغفار بالأسحار ، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم (٣).

فصل

الباء في قوله : (بِالْأَسْحارِ) استعملت للظرف هنا ، وهي ليست للظرف. قال بعض النحاة : إن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض يقال في ظرف الزمان : خرجت لعشر بقين ، وبالليل ، وفي شهر رمضان. فتستعمل اللام والباء ، وفي ، وكذلك في ظرف المكان تقول : قمت بمدينة كذا ، وفيها ، ورأيته ببلدة كذا ، وفيها. قال ابن الخطيب : والتحقيق فيه أن نقول : الحروف لها معان مختلفة كما أن الأسماء والأفعال كذلك غير أن الحروف مستقلة بإفادة المعنى والاسم والفعل مستقلّان ، لكن بين بعض الحروف وبعضها تنافر (و) (٤) تباعد كما في الأسماء والأفعال ، فإن البيت والسّكن متخالفان ومتقاربان (٥) ،

__________________

(١) وانظر : تفسير البغوي والخازن ٦ / ٢٤٢.

(٢) أخرجه البغوي عن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة ، انظر : البغوي المرجع السابق.

(٣) قال بذلك كله الإمام الفخر الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢٠٣.

(٤) الواو ساقطة من أالأصل. هذا وعبارة الرازي : تناف وتباعد.

(٥) كذا في أوب وفي الرازي وهو الأصح : متفاوتان.

٧١

وكذلك مكث ، وسكن (وألمّ) (١) ، وكذلك كل اسمين أو كل فعلين يوجد كان (٢) بينهما تقارب وتباعد ، لأن الباء للإلصاق ، واللام للاختصاص ، و «في» للظرف ، والظرف مع المظروف ملتصق ومختص به. إذا عرف هذا فنقول : بين «الباء» و «اللام» و «في» مشاركة ، أما الباء فلأنها للإلصاق ، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل ، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان فإذا قال : سار بالنّهار معناه ذهب ذهابا متّصلا بالنهار.

فقوله : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي متصلا بالأسحار ، أخبر عن الاقتراب ، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله : «في (اللَّيْلِ) ؛ لأنه يستدعي احتواء الزمان بالفعل وكذلك قول القائل : أقمت ببلدة كذا ، لا يفيد أنه كان مخالطا بالبلد. وقوله : أقمت فيها يدل على إحاطتها به ، فإذن قول القائل : أقمت بالبلد ، ودعوت بالأسحار أعمّ من قوله : أقمت فيه ؛ لأن القائم فيه قائم به والقائم به ليس قائما فيه (٣).

وإذا علم هذا فقوله : (وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) إشارة إلى أنهم لا يخلون وقتا عن العبادة وأنهم بالليل لا يهجعون ، ومع أول جزء من السحر يستغفرون فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب ، لأنهم وقت الانتباه لم يخلوا الوقت للذنب. ولا يطرد استعمال الباء بمعنى «في» ، فلا تقول : خرجت بيوم الجمعة لأن يوم الجمعة مع أنه زمان فيه خصوصيّات وتقييدات زائدة على الزمان ، لأنك إذا قلت : خرجت بنهارنا وبليلة الجمعة ، لم يحسن. ولو قلت : خرجت بيوم سعد وخرج (بيوم) (٤) نحس حسن فالنهار والليل لمّا لم يكن فيهما خصوص وتقييد جاز استعمال الباء فيهما ، فإذا قيدتهما وخصصتهما زال الجواز ، و «يوم الجمعة» لمّا كان فيه خصوص لم يجز استعمال الباء فيه ، والفعل حدث مقترن بزمان لا ناشئا عن الزمان فإذا زال الخصوص وقلت : خرجت بيوم سعد جاز. وأما «في» فيصح مطلقا ؛ لأن ما حصل في العام حصل في الخاص ، لأن العام جزء داخل في الخاص ، فتقول : في يوم الجمعة وفي هذه السّاعة (٥). وأما اللام فتقدم الكلام عليها عند قوله : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها) [يس : ٣٨].

__________________

(١) كذا في أفقط. ولم أجدها في الرازي ولا في ب.

(٢) تلك الكلمتان في ب مضطربتان ونطقا : يحذفان وفي الرازي : ولا كذلك كل اسمين يفرض أو كل فعلين يوجد.

(٣) في الرازي : ليس قائما ما فيه من كل بدّ. وانظر : تفسير الرازي ٢٨ / ٢٠٤ و ٢٠٣.

(٤) كلمة يوم سقط من أالأصل.

(٥) وانظر هذا كله في تفسير الرازي السابق.

٧٢

فصل

وفائدة قوله : (هُمْ) ؛ قال الزمخشري : فائدتها انحصار المستغفرين أي هم الكاملون فيه لا غيرهم كقولك : زيد العالم ، لكماله في العلم كأنه تفرد به ، وأيضا : فلو عطف بدون هم لأوهم أنهم يستغفرون قليلا (١). والاستغفار إما طلب المغفرة ، كقولهم : ربّنا اغفر لنا ، وإما إتيانهم بعبارات يتقربون بها طلبا للمغفرة ، وإما أن يكون من باب قولهم : استحصد الزّرع أي ذلك أوان المغفرة.

قوله : (وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) لمّا تقدم التعظيم لأم الله ثنّى بالشفقة على خلق الله ، وأضاف الأموال إليهم ، لأنه مدح لهم ، وقال في موضع آخر (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) [الحديد : ٧] ؛ لأن ذلك تحريض وحث على النفقة وذلك يناسبه.

فإن قيل : كون الحق في المال لا يوجب مدحا ؛ لأن كون المسلم في ماله حقّ وهو الزكاة ليس صفة مدح ، لأن كل مسلم كذلك بل الكافر إذا قلنا : إنه مخاطب بفروع الإسلام في ماله حق معلوم ، غير أنه إذا أسلم سقط عنه ، وإن مات عوقب على تركه الأداء. وإن أدّى من غير إسلام لا يقع الموقع فكيف يفهم كونه مدحا؟

فالجواب : أنا نفسر السائل بمن يطلب جزءا من (٢) المال وهو الزكاة والمحروم من لا يطلب جزءا معيّنا وهو طالب صدقة التطوع كأنه قال : في ماله زكاة وصدقة.

أو يقال : بأن (فِي) للظرفية ، والمعنى أنّهم لا يجمعون المال ولا يجعلونه ظرفا للحقوق ، والمطلوب من الظرف والمظروف إنما هو المظروف وهذا مدح عظيم.

فإن قيل : لو قيل : مالهم للسائل كان أبلغ!

فالجواب : لا نسلم ، فإن صرف جميع المال حتى يبقى فقيرا محتاجا منهيّ عنه ، وكذلك الصلاة والصوم الاقتصاد فيهما أبلغ لقوله : ـ عليه الصلاة والسلام ـ : إنّ هذا الدّين متين ، فادخلوا (٣) فيه برفق ؛ فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى (٤).

فصل

في السائل والمحروم وجوه :

أحدها : أن السائل هو الآدمي ، والمحروم كل ذي روح غيره من الحيوانات

__________________

(١) بالمعنى من الكشاف وباللفظ من الرازي ٢٨ / ٢٠٥ فقد قال في الكشاف ٤ / ١٦ : «فيه أنهم هم المستغفرون الأحقاء بالاستغفار دون المصرّين فكأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه».

(٢) كذلك في الأصل وفي ب : عن تطلب وفي الرازي : بمن يطلب شرعا.

(٣) عبارة الرازي : فأوغل فيه.

(٤) بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨ / ٢٠٦ و ٢٠٥.

٧٣

المحترمة ، قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «في كلّ كبد حرّى أجر» وهذا ترتيب حسن ؛ لأن الآدمي يقدّم على البهائم.

الثاني : أن السائل هو الذي يسأل ، والمحروم هو المتعفّف يظن أنه غنيّ فيحرم. وقدّم السائل ؛ لأن حاله يعرف بسؤاله ، أو يكون إشارة إلى كثرة العطاء فيعطي السؤّال ، فإذا لم يجدهم يسأل عن المحتاجين فيكون سائلا ومسؤولا.

الثالث : قدم السائل ؛ لتجانس رؤوس الآي (١).

فصل

قال ابن عباس وسعيد بن المسيّب : السّائل الذي يسأل الناس ، والمحروم الذي ليس له في الغنائم سهم ولا يجرى عليه من الفيء شيء. وقال قتادة والزّهري : المحروم المتعفّف الذي لا يسأل. وقال زيد بن أسلم : هو المصاب ثمره أو زرعه أو تشلّ ماشيته ، وهو قول محمّد بن كعب القرظيّ. قال : المحروم صاحب الحاجة ، ثم قرأ : (إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ) [الواقعة : ٦٦ ـ ٦٧].

قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ)(٢٣)

قوله تعالى : (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ) إذا ساروا فيها من الجبال والبحار والثمار وأنواع النبات تدلهم على أن الحشر كائن كقوله تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً) [فصلت : ٣٩] إلى أن قال : (إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى) [فصلت : ٣٩] ، ويحتمل أن يكون المعنى : وفي الأرض آيات تدلّ على مدبّر قادر قاهر يجب أن يعبد ويحذر (٢).

فإن قيل : كيف خصص الآيات بالموقنين ، ولم يخصّص في قوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها) [يس : ٣٣]؟

فالجواب : أن القسم إنما يكون مع المعاند في البرهان ، فهو لا ينتفع بالآيات وإنما ينتفع بها الموقنون فلذلك أقسم ههنا فقال : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) وفي سورة يس لم يؤكد ذلك بالقسم الدال على المعاند. أو يقال : أطلقت هناك باعتبار حصولها وخصصت هنا باعتبار المنفعة بها. وجمعت «الآيات» هنا ، لأن الموقن يتنبه لأمور كثيرة ، وكذلك قوله : وفي أنفسكم آيات دالة على ذلك إذ كانت نطفة ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظاما ، إلى أن ينفخ فيها الرّوح(٣).

__________________

(١) بالمعنى قليلا من المرجع السابق.

(٢) وانظر : الرازي السابق والبغوي ٦ / ٢٤٤ والقرطبي ١٧ / ٣٨ و ٣٩.

(٣) بالمعنى من الرازي ٢٨ / ٢٠٧ و ٢٠٨.

٧٤

وقال عطاء عن ابن عباس ـ (رضي (١) الله عنهم ـ) : يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع.

وقال ابن الزّبير : يريد سبيل البول والغائط يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من سبيلين.

وقوله : أفلا تبصرون» قال مقاتل : أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث(٢)؟

قوله : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ) نسق على (ما) (٣)(فِي الْأَرْضِ) فهو خبر عن (آياتٌ) أيضا ، والتقدير : وفي الأرض وفي أنفسكم آيات.

وقال أبو البقاء : ومن رفع بالظرف جعل ضمير «الآيات» في الظرف (٤). يعني من يرفع الفاعل (٥) بالظرف مطلقا أي وإن لم يعتمد (٦) يرفع بهذا الجار فاعلا هو ضمير (آياتٌ).

وجوز بعضهم أن يتعلق ب «يبصرون». وهو فاسد (٧) ؛ لأن الاستفهام (٨) والفاء يمنعان جوازه.

وقرأ قتادة : «آية» بالإفراد (٩) ، وقوله : (فِي أَنْفُسِكُمْ) يحتمل أن يكون المراد فيكم ، يقال : الحجارة في نفسها صلبة ، ولا يراد بها النفس التي هي منبع الحياة والحسّ والحركات. ويحتمل أن يكون المراد وفي نفوسكم التي بها حياتكم آيات وقوله : (أَفَلا تُبْصِرُونَ) بالاستفهام إشارة إلى ظهورها (١٠).

قوله : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ) أي سبب رزقكم. وقرأ حميد وابن محيصن : رازقكم اسم فاعل (١١) ، والله تعالى متعال عن الجهّة. قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل : يعني بالرزق : المطر ؛ لأنه سبب الأرزاق. وقيل : في السماء رزقكم مكتوب ، وقيل : تقدير الأرزاق كلها من السماء ، ولولاه لما حصل في الأرض حبّة قوت.

__________________

(١) زيادة من أ.

(٢) وانظر : البغوي والقرطبي السابقين.

(٣) زيادة من أتحريفيّة.

(٤) التبيان ١١٨٠.

(٥) يقصد آيات من قوله : «وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ».

(٦) أي على نفي واستفهام.

(٧) عبر عنه أبو البقاء بالضعف.

(٨) فلا يعمل ما بعد الاستفهام فيما قبله فهو حرف له الصدر.

(٩) ذكرها صاحب البحر ٨ / ١٣٦. وهي شاذة.

(١٠) قاله الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢٠٨.

(١١) ذكره ابن خالويه في المختصر ١٤٥ وروى عنه ـ أي ابن محيصن ـ هو وأبو حيان في البحر ٨ / ١٣٦ أرزاقكم بلفظ الجمع المكّسر. وتلك القراءة رازقكم ذكرها صاحب الإتحاف ٣٩٩.

٧٥

قوله : (وَما تُوعَدُونَ) قال عطاء : من الثّواب والعقاب ، وقال مجاهد : من الخير والشّرّ. وقال الضحاك : وما توعدون من الجنّة والنار (١) فيكون المعنى على هذا : وما توعدون لحقّ ، كقوله : (إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) فإن قلنا : المراد بقوله : (وَما تُوعَدُونَ) الجنة فهو من الوعد ، وإن قيل : المراد العذاب فيكون الخطاب مع الكفار.

قوله : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) الضمير إما للقرآن ، وإما «للدين» ، وإما اليوم» في قوله : (وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ) و (يَوْمَ هُمْ) و (يَوْمُ الدِّينِ) ، وإما للنبيّ ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ودخلت الفاء بمعنى إنّ ما توعدون لحق بالبرهان المبين ثم بالقسم واليمين أو للعطف على قوله : (وَالذَّارِياتِ) مع إعادة المقسم عليه لوقوع الفصل (٢).

وأقسم أولا بالمخلوقات وههنا بربها ترقّيا من الأدنى إلى الأعلى (٣).

قوله : (مِثْلَ ما) قرأ الأخوان وأبو بكر مثل (٤) بالرفع ، وفيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه خبر ثان مستقلّ كالأول.

الثاني : أنه مع ما قبله خبر واحد ، كقولك : هذا حلو حامض نقلهما أبو البقاء (٥).

والثالث : أنه نعت (لَحَقٌ)(٦) و (ما) مزيدة على الأوجه الثلاثة و (أَنَّكُمْ) مضاف إليه ، أي لحقّ مثل نطقكم ، ولا يضر تقدير إضافتها لمعرفة ، لأنها لا تتعرف بذلك لإبهامها (٧).

والباقون بالنصب ، وفيه أوجه :

أشهرها : أنه نعت (لَحَقٌّ) أيضا كما في القراءة الأولى ، وإنما بني الاسم لإضافته إلى غير متمكن (٨) ، كما بناه الآخر في قوله :

__________________

(١) ذكر هذه الأقوال البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢٤٤ والقرطبي ١٧ / ٤١.

(٢) بالمعنى هذا كله من تفسير الأستاذ الإمام فخر الدين الرازي ٢٨ / ٢٠٩ و ٢٠٨.

(٣) المرجع السابق.

(٤) قراءة سبعية متواترة ، ذكرها صاحب الكشف ٢ / ٢٨٧ ، وصاحب السبعة ٦٠٩ ، وابن خالويه في الحجة ٣٣٢ وانظر الإتحاف ٣٩٩ ، والتّبيان ١١٨٠ ، والكشاف ٤ / ١٧ ، والبحر ٨ / ١٣٦.

(٥) التبيان ١١٨٠.

(٦) السابق والبحر ٨ / ١٣٦ والمشكل ٢ / ٣٢٤ والكشاف ٤ / ١٧.

(٧) إذ الإضافة غير محضة ، ولأن الأشياء التي يقع التماثل بها بين المتماثلين كثيرة ، فلم يتعرف بإضافته إلى «أنكم» لذلك ، فلمّا لم يتعرف حسن وصف «لحقّ» به ، كما تقول : «مررت برجل مثلك» وانظر : المشكل السابق والكشف ٢ / ٢٨٧ ، ومعاني الفراء ٣ / ٨٥ والبيان ٢ / ٣٩١ والتبيان ١١٨٠ والقرطبي ١٧ / ٤٣.

(٨) قاله مكي في الكشف ٢ / ٢٨٧ و ٢٨٨ والزمخشري في الكشاف ٤ / ١٧ وأبو حيان في البحر ٨ / ١٣٦ ومكي أيضا في المشكل ٢ / ٣٢٣ وأبو البقاء في التبيان ١١٨٠.

٧٦

٤٥٢٢ ـ فتداعى(١)منخراه بدم

مثل ما أثمر حمّاض الجبل (٢)

بفتح (مِثْلَ) مع أنها نعت ل «دم» وكما بنيت «غير» في قوله ـ (رحمه‌الله عليه)(٣) ـ :

٤٥٢٣ ـ لم يمنع الشّرب منها غير أن نطقت

حمامة في غصون ذات أو قال (٤)

«غير» فاعل يمنع ، فبناها على الفتح لإضافتها إلى «أن نطقت» وقد تقدم في قراءة : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)(٥) [الأنعام : ٩٤] بالفتح ما يغني عن تقرير مثل هذا.

الثاني : أن (مِثْلَ) ركّب مع (ما) حتى صارا شيئا واحدا (٦) ، قال المازني : ومثله : ويحما ، وهيّما وأينما ، وأنشد لحميد بن ثور ـ (رحمة الله عليه رحمة واسعة ـ) (٧) :

٤٥٢٤ ـ ألا هيّما ممّا لقيت وهيّما

وويحا لمن لم يدر ما هنّ ويحما (٨)

قال : فلولا البناء لكان منونا.

وأنشد أيضا :

__________________

(١) وروي : «وتداعى» بالواو.

(٢) من الرّمل وهو من إنشاد ابن برّي كما نقله صاحب اللسان «حمض» ٩٩٨. والحمّاض : بقلة برية تنبت أيام الربيع في مسايل الماء ولها ثمرة حمراء وهي ذكور البقول. والبيت تشبيه شيء بشيء بجامع الحمرة. والشاهد : جعل «ما ومثل» اسما واحدا على الفتح مع أنها نعت لدم وهو قول المازنيّ ـ رحمه‌الله ـ. وانظر : مجمع البيان ٩ / ٢٣٣ والسراج المنير ٤ / ٩٨ والكشف ٢ / ٢٨٧ و ٢٨٨ ، والأشباه والنظائر ٣ / ٢١٠ والمعاني الكبير لابن قتيبة ١ / ٥٩٤.

(٣) زيادة من أالأصل.

(٤) من البسيط لأبي قيس بن الأسلت ، والبيت رواية كرواية الكتاب ٢ / ٣٢٩ وقد روي البيت برفع وفتح غير كما روي في اللسان: سحوق بدل غصون ، و «هتفت» بدل نطقت. و «منها» من الوجناء وهي الناقة في بيت قبله والسّحوق : ما طال من شجر الدوم ، والأوقال جمع وقل وهو المقل اليابس والمعنى : لم يمنعها أن تشرب إلا أنها سمعت صوت حمامة فنفرت ، يعني أنها حديدة النفس يخامرها فزع وذعر لحدّة نفسها.

والشاهد : غير أن نطقت بفتح «غير» رغم أنها فاعل لإضافتها إلى مبنيّ غير متمكن ، وقد تقدم.

(٥) وقد قال الأخفش في هذه الآية إن «مثل» مرفوع الموضع ولكنه فتح كما فتح الظرف في آية الأنعام تلك.

(٦) وانظر : مشكل إعراب القرآن لمكي ٢ / ٣٢٣ والبحر ٨ / ١٣٧ و ١٣٦.

(٧) زيادة من أالأصل.

(٨) البيت من الطويل أنشده أبو الفتح عن أبي علي في الخصائص ٢ / ١٨١ ورواه أبو حيان في البحر ٨ / ١٣٧ عن المازني. والشاهد في «هيما» «ويحما» فكل منهما كلمة أضيفت إلى «ما» وركبت حتى صارتا شيئا واحد ، و «هيما» و «ويحما» من «هيّ وما» و «ويح وما» وهيّ معناها التعجب ، والتأسف على الشيء يفوت ، و «ما» في موضع رفع كأنه قال : يا عجبي. وانظر : اللسان «هيا» ٤٧٤٢ والبحر ٨ / ١٣٧ وقد نسب صاحب اللسان البيت لحميد الأرقط وهو في ملحقات ديوان ثور ٢.

٧٧

٤٥٢٥ ـ ..........

فأكرم بنا أبا وأكرم بنا ابنما (١)

وهو الذي ذهب إليه بعض النحويين (٢) وأنشد :

٤٥٢٦ ـ أثور ما أصيدكم أم ثورين

أم هذه الجمّاء ذات القرنين (٣)

وأما ما (٤) أنشده من قوله : «وأكرم بنا ابنما» فليس من هذا الباب ، لأن هذا «ابن» زيدت عليه الميم وإذا زدت عليه الميم جعلت النون تابعة للميم في الحركات على الفصيح ، فتقول : هذا ابنم ، ورأيت ابنما ومررت بابنم ، فتجري حركات الإعراب على الميم ويتبعها النون.

وابنما في البيت منصوب على التمييز فالفتح لأجل النصب لا البناء ، وليس هذه «ما» الزائدة ، بل الميم وحدها زائدة ، والألف بدل من التنوين (٥).

الثالث : أنه منصوب على الظّرف ، وهو قول الكوفيين (٦).

ويجيزون : زيد مثلك بالفتح ، ونقله أبو البقاء عن أبي الحسن ولكن بعبارة مشكلة فقال : ويقرأ بالفتح ، وفيه وجهان :

أحدهما : هو معرب (٧) ، ثم في نصبه أوجه ، ثم قال : أو على أنه مرفوع الموضع ،

__________________

(١) عجز بيت من المتقارب للنمر بن تولب والشاهد : تركيب «ابن» مع «ما» تركيبا حتى صارا شيئا واحدا على رأي المازني ، وقد اعترض عليه كما سيجيء الآن. وانظر : البحر ٨ / ١٣٧ وسمط اللآلي ٧٤٣ لجنة التأليف ١٣٥٤ ه‍.

(٢) لعله أبو علي الفارسيّ ، فقد قال ابن جني في الخصائص «ويدل على أنه قد يضم ما هذه إلى ما قبلها ما أنشدنا أبو علي عن أبي عثمان».

(٣) رجز لم أعرف قائله. وقد ورد في الخصائص والبحر واللّسان «ثور» «تيكم» بدل «هذه» وقد ورد في الخصائص واللسان والبحر الجماء بالجيم وهي التي لا قرنين لها وهذا لا يتفق مع قوله : ذات القرنين غير أنه يحمل على هذه الرواية على الهزء والتهكم وقد ورد في أالحماء بالحاء والكلام عليها ظاهر لا غبار عليه بينما في ب الجماعة تحريف. والشاهد : أثور ما ففتح الراء منه وفتحة تركيب ثور مع «ما» بعده كفتحة راء «حضرموت» ولو كان فتحة إعراب لوجب التنوين لا محالة لأنه مصروف. وانظر الخصائص ٢ / ١٨١ والبحر ٨ / ١٣٧ واللسان «ثور» والتصريح ١ / ٢٤٠ وروح المعاني للألوسيّ ٢٧ / ١٠.

(٤) هذا اعتراض أبي حيان على المازني وهو نفس القول لابن جني في الخصائص ٢ / ١٨٢ قال : «وجريان حركات الإعراب على الميم يدل على أنها ليست «ما» وإنما الميم في آخره كالميم في آخر ضرذم ودقعم ودردم.

(٥) المرجعين السابقين.

(٦) قال الفراء في معاني القرآن ٣ / ٨٥ : «ومن نصبها جعلها في مذهب المصدر كقولك : إنه لحق حقا وإن العرب لتنصبها إذا رفع بها الاسم فيقولون : مثل من عبد الله ، ويقولون : عبد الله مثلك وأنت مثله» وانظر : البحر ٨ / ١٣٧.

(٧) التبيان ١١٨٠.

٧٨

ولكنه فتح كما فتح الظرف في قوله : (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) على قول الأخفش ، ثم قال : والوجه الثاني : هو مبنيّ (١).

وقال أبو عبيد : بعض العرب يجعل «مثل» نصبا أبدا ، فيقولون : هذا رجل مثلك (٢).

الرابع : أنه منصوب على إسقاط الجارّ وهو كاف التشبيه.

وقال الفراء : العرب تنصبها إذا رفع بها الاسم يعني المبتدأ فيقولون : مثل من عبد الله؟ وعبد الله مثلك وأنت مثله لأن الكاف قد تكون داخلة عليها فتنصب إذا ألقيت الكاف (٣).

قال شهاب الدين : وفي هذا نظر ، أيّ حاجة إلى تقدير دخول الكاف و «مثل» تفيد فائدتها؟ وكأنه لما رأى أن الكاف قد دخلت عليها في قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) قال ذلك(٤).

الخامس : أنه نعت لمصدر محذوف ، أي لحقّ حقّا مثل نطقكم (٥).

السادس : أنه حال من الضمير في (لَحَقٌّ) ؛ لأنه قد كثر الوصف بهذا المصدر حتى جرى مجرى الأوصاف المشتقة ، والعامل فيها «حقّ» (٦).

السابع : أنه حال من نفس «حقّ» وإن كان نكرة (٧). وقد نصّ سيبويه في مواضع من كتابه على جوازه ، وتابعه أبو عمرو على ذلك.

و «ما» هذه في مثل هذا التركيب نحو قولهم : «هذا حقّ» ، كما أنك ههنا لا تجوّز حذفها ، فلا يقال : هذا حق كأنك ههنا. نص على ذلك الخليل ـ رحمه‌الله ـ (٨).

__________________

(١) المرجع السابق.

(٢) وهو اختيار أبي حاتم أيضا و «مثل» على معنى «كمثل». وانظر : الجامع للعلامة الإمام القرطبي ١٧ / ٤٤.

(٣) معاني القرآن له ٣ / ٨٥.

(٤) الدر المصون له مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١١.

(٥) البحر المحيط ٨ / ١٣٧ ومعاني الفراء ٣ / ٨٥.

(٦) وهو اختيار مكي قال : والأحسن أن يكون حالا من المضمر المرفوع في : «لحقّ» وهو العامل في المضمر وفي الحال ، وتكون عليه «ما» زائدة. و «مثل» مضاف إلى «أنكم». انظر ٦ المشكل ٢ / ٣٢٤ ، كما ذكره أبو حيان في بحره المرجع السابق وانظر : الكشف ٢ / ٢٨٨.

(٧) وهو رأي الجرمي رحمه‌الله ، وانظر المشكل والبحر والكشف المراجع السابقة.

(٨) بالمعنى من البحر لأبي حيان ٨ / ١٣٧ قال : «ويقول الناس : هذا حق كما أنك ههنا ، وهذا حق كما أنك ترى وتسمع ، وهذا كما في الآية و «ما» زائدة بنصّ الخليل ، ولا يحفظ حذفها ، فتقول : هذا حقّ كأنك ههنا».

٧٩

فإذا جعلت (مِثْلَ) معربة كانت (ما) مزيدة و (أَنَّكُمْ) في محل خفض بالإضافة كما تقدم (١). وإذا جعلتها مبنية إما للتركيب ، وإما لإضافتها إلى غير متمكن جاز في (ما) هذه وجهان : الزيادة وأن تكون نكرة موصوفة ، (كذا) (٢) قال أبو البقاء (٣).

وفيه نظر ، لعدم الوصف هنا ، فإن قال : هو محذوف فالأصل عدمه ، وأيضا فنصوا (٤) على أن هذه الصفة لا تحذف ، لإبهام موصوفها. وأما (أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) فيجوز أن يكون مجرورا بالإضافة إن كانت ((ما)) (٥) مزيدة ، وإن كانت نكرة كان في موضع نصب بإضمار أعني ، أو رفع بإضمار مبتدأ (٦).

فصل

المعنى : (فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ) أي ما ذكرت من أمر الرزق لحق كمثل ما أنّكم تنطقون فتقولون : لا إله إلّا الله.

وقيل : شبّه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نطق الآدمي كقولك : إنّه لحقّ كما أنت ههنا وإنه لحق كما أنك تتكلم والمعنى أنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة. قال بعض الحكماء : كما أنّ كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له ، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره (٧).

وقيل : معناه إن القرآن لحق تكلم به الملك النازل من السماء مثل ما تتكلمون (٨).

قوله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (٢٤) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٢٥) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (٢٩) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (٣٠) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ)(٣٧)

__________________

(١) قاله أبو البقاء العكبري في التبيان ١١٨٠.

(٢) زيادة من «ب» وهو الأصح.

(٣) المرجع السابق.

(٤) كذا في النسختين والأوجه أسلوبيا : فقد نصوا.

(٥) ساقطة من ب والتصحيح من أ.

(٦) قال بهذا الإمام الفراء في المعاني ٣ / ٨٥ وابن الأنباري في البيان ٢ / ٣٩١ ، ومكي في مشكل الإعراب ٢ / ٣٢٣ وأبو البقاء في التبيان ١١٨١.

(٧) البغوي والخازن ٦ / ٢٤٤.

(٨) وهو رأي الرازي في تفسيره ٢٨ / ٢٠٩.

٨٠