اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

وقال عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي : سمعت الشافعي ـ رضي الله عنه ـ يقول : سلوني عمّا شئتم أخبركم من كتاب الله ـ تعالى ـ وسنة نبيكم صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : فقلت له : أصلحك الله ، ما تقول في المحرم يقتل الزّنبور؟ قال : فقال : بسم الله الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا). وحدثنا سفيان بن عيينة عن عبد الملك بن عمير عن ربعي بن خراش عن حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اقتدوا باللّذين من بعدي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما» (١).

حدثنا سفيان بن عيينة عن مسعر بن كدام ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب عن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه أمر بقتل الزّنبور.

وهذا الجواب في غاية الحسن أفتى بجواز قتل الزنبور في الإحرام ، وبيّن أنه يقتدي فيه ب «عمر» ، وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر بالاقتداء به ، وأنّ الله ـ تعالى ـ أمر بقبول ما يقوله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجواز قتله مستنبط من الكتاب والسّنّة.

وسئل عكرمة عن أمهات الأولاد ، فقال : هل هنّ أحرار؟ فقال : في سورة النساء في قوله تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩].

وفي «صحيح مسلم» وغيره عن علقمة عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن ، المغيّرات لخلق الله» فبلغ ذلك امرأة من «بني أسد» يقال لها : أم يعقوب ، فجاءت فقالت : إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت ، فقال : وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو في كتاب الله تعالى ، فقالت : لقد قرأت ما بين الدفتين (٢) فما وجدت فيه ما تقول ، فقال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ، أما قرأت : [(وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).

قالت : بلى ، قال : فإنه قد نهى الله عنه. الحديث (٣).

فصل في الكلام على الآية (٤)

قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ).

__________________

(١) أخرجه الترمذي ٥ / ٥٧٠ ، كتاب المناقب ، باب : في مناقب أبي بكر وعمر (٣٦٦٣) ، وابن ماجه ١ / ٣٧ ، المقدمة باب في فضائل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٩٧) ، وأحمد في المسند ٥ / ٣٨٢ ـ ٣٨٥ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ٧٥ ، وصححه على شرط الشيخين وأقره الذهبي.

(٢) في أ : اللوحين.

(٣) أخرجه البخاري ٨ / ٦٣٠ ، في كتاب التفسير ، باب : وما أتاكم الرسول فخذوه (٤٨٨٦) ، ومسلم ٣ / ١٦٧٨ ، في كتاب اللباس ، باب : تحريم فعل الواصلة (١٢٠ / ٢١٢٥).

(٤) ينظر السابق ١٨ / ١٤.

٥٨١

وإن جاء بلفظ الإيتاء وهو المناولة ، فإن معناه الأمر بدليل قوله تعالى](١) : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).

فقابله بالنهي ، ولا يقابل النهي إلا بالأمر ، بدليل ما تقدم ، مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا».

قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) أي : عذاب الله ، إنه شديد لمن عصاه.

وقيل : اتقوا الله في أوامره ونواهيه ، فلا تضيعوها ، ف (إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ).

قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٩)

قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ) فيه ثلاثة أوجه (٢) :

أحدها : أنه بدل من (لِذِي الْقُرْبى). قاله (٣) أبو البقاء والزمخشري (٤).

قال أبو البقاء : «قيل : هو بدل من (لِذِي الْقُرْبى) وما بعده».

[وقال الزمخشري (٥) : «بدل من (لِذِي الْقُرْبى) وما عطف عليه](٦) ، والذي منع الإبدال من «لله وللرسول» والمعطوف عليهما ، وإن كان المعنى لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الله ـ عزوجل ـ أخرج رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفقراء في قوله : (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) وأن الله ـ تعالى ـ يترفع برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن تسميته بالفقير ، وأن الإبدال على ظاهر اللفظ من خلاف الواجب في تعظيم اللهعزوجل.

يعني أنه لو قيل : بأنه بدل من «الله ورسوله» صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قبيح لفظا ، وإن كان المعنى على خلاف هذا الظاهر كما قيل : إن معناه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما ذكر الله ـ عزوجل ـ تفخيما ، وإلا فالله ـ تعالى ـ غني عن الفيء وغيره ، وإنما جعله بدلا من (لِذِي الْقُرْبى) ؛ لأنه حنفي ، والحنفية يشترطون الفقر في إعطاء ذوي القربى من الفيء (٧).

الثاني : أنه بيان لقوله تعالى : (وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)، وكررت لام الجر لما كانت

__________________

(١) سقط من : أ.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٥.

(٣) ينظر الإملاء ٢ / ١٢١٥.

(٤) الكشاف ٤ / ٥٠٣.

(٥) الكشاف ٤ / ٥٠٣.

(٦) سقط من : أ.

(٧) وقال الشافعي رحمه‌الله : لهم خمس الخمس يستوي فيه غنيهم وفقيرهم ، ويقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين ، ويكون لبني هاشم وبني المطلب دون غيرهم ، لقوله تعالى : «وَلِذِي الْقُرْبى» ، من غير فصل بين الغني والفقير. ينظر : الهداية ٢ / ١٤٨.

٥٨٢

الأولى مجرورة ب «اللام» ليبين أنّ البدل إنما هو منها. قاله ابن عطية (١).

وهي عبارة قلقة جدا.

الثالث : أن «للفقراء» خبر لمبتدأ محذوف ، أي : ولكن الفيء للفقراء.

وقيل : تقديره : ولكن يكون للفقراء ، وقيل : اعجبوا للفقراء.

قوله «يبتغون» يجوز أن يكون حالا ، وفي صاحبها وجهان (٢) :

أحدهما : للفقراء.

والثاني : «واو» أخرجوا. قالهما مكي (٣).

فصل في معنى الآية

ومعنى الآية أن الفيء والغنائم للفقراء والمهاجرين (٤).

وقيل : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ) ولكن يكون «للفقراء» وهو مبني على الإعراب المتقدم ، وعلى القول بأنه بيان لذوي القربى ، (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ) أي : المال لهؤلاء ؛ لأنهم فقراء ومهاجرون ، وقد أخرجوا من ديارهم فهم أحق الناس به.

وقيل : (وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) للفقراء المهاجرين كي لا يكون المال دولة بين الأغنياء مهاجرين من بني الدنيا.

وقيل : والله شديد العقاب للفقراء المهاجرين ، أي : شديد العقاب للكافر بسبب الفقراء المهاجرين ومن أجلهم ، ودخل في هؤلاء الفقراء المتقدم ذكرهم في قوله تعالى : (وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى).

قال القرطبي (٥) : «وقيل : هو عطف على ما مضى ، ولم يأت بواو العطف كقولك : هذا المال لزيد لبكر لفلان.

و «المهاجرون» : من هاجر إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حبّا فيه ونصرة له».

وقال قتادة : هؤلاء المهاجرين الذين تركوا الدّيار والأموال والأهلين والأوطان حبّا لله ـ عزوجل ـ ولرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتّى إن الرجل منهم كان يعصب على بطنه ليقيم به صلبه من الجوع ، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء ما له دثار غيرها (٦).

قوله تعالى : (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) أي : أخرجهم كفار «مكة» ، أي : أحوجوهم إلى الخروج ، وكانوا مائة رجل «يبتغون» أي : يطلبون (فَضْلاً مِنَ اللهِ) : أي غنيمة في

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٨٧ ،

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٥.

(٣) ينظر : المشكل ٢ / ٧٢٥.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٤.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٤.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٨٨) ، عن قتادة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

٥٨٣

الدنيا (وَرِضْواناً) في الآخرة أي : مرضاة ربهم (وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في الجهاد (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) في فعلهم ذلك (١).

وروي أن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ خطب ب «الجابية» ، فقال : من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبيّ بن كعب ، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض فليأت زيد بن ثابت ، ومن أراد أن يسأل عن الفقه ، فليأت معاذ بن جبل ، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني ، فإن الله ـ تعالى ـ جعلني له خازنا وقاسما ، ألا وإنّي باد بأزواج النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمعطيهنّ ، ثم بالمهاجرين الأولين أنا وأصحابي ، أخرجنا من «مكة» من ديارنا وأموالنا (٢).

قوله : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ).

يعني : أنهم لما هجروا لذّات الدنيا ، وتحملوا شدائدها لأجل الدّين ظهر صدقهم في دينهم(٣).

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ).

يجوز في قوله : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ) وجهان (٤) :

أحدهما : أنه عطف على «الفقراء» فيكون مجرورا ، ويكون من عطف المفردات ، ويكون «يحبون» حالا.

والثاني : أن يكون مبتدأ ، خبره «يحبّون» ويكون حينئذ من عطف الجمل.

وفي قوله : (وَالْإِيمانَ). ستة أوجه :

أحدها : أنه ضمن «تبوّءوا» معنى لزموا ، فيصح عطف الإيمان عليه ، إذ الإيمان لا يتبوأ.

الثاني : أنه منصوب بمقدر ، أي : واعتقدوا ، أو وألفوا ، أو وأحبوا ، أو وأخلصوا ، كقوله: [الرجز]

٤٧٤٦ ـ علفتها تبنا وماء باردا

 .......... (٥)

وقوله : [مجزوء الكامل]

٤٧٤٧ ـ ..........

متقلّدا سيفا ورمحا (٦)

الثالث : أنه يتجوّز في الإيمان ، فيجعل اختلاطه بهم وثباتهم عليه كالمكان المحيط

__________________

(١) ينظر القرطبي ١٨ / ١٥.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٥٠٥) ، عن علي بن رباح اللخمي عن عمر بن الخطاب.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٤٩.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٥.

(٥) تقدم.

(٦) تقدم.

٥٨٤

بهم ، فكأنهم نزلوه ، وعلى هذا فيكون جمع بين الحقيقة والمجاز في كلمة واحدة. وفيه خلاف مشهور.

الرابع : أن يكون الأصل : دار الهجرة ، ودار الإيمان ، فأقام «لام» التعريف في «الدار» مقام المضاف إليه ، وحذف المضاف من دار الإيمان ، ووضع المضاف إليه مقامه.

الخامس : أن يكون سمى «المدينة» ؛ لأنها دار الهجرة ، ومكان ظهور الإيمان.

قال بهذين الوجهين الزمخشري (١).

وليس فيه إلّا قيام «ال» مقام المضاف إليه ، وهو محل نظر ، وإنما يعرف الخلاف ، هل يقوم «ال» مقام الضمير المضاف إليه؟.

فالكوفيون يجيزونه ، كقوله : (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤١] أي : مأواه.

[والبصريون : يمنعونه ، ويقولون : الضمير محذوف ، أي : المأوى له](٢).

وقد تقدم تحرير هذا وأما كونها عوضا من المضاف إليه فلا نعرف فيه خلافا.

السادس : أنه منصوب على المفعول معه أي : مع الإيمان معا. قاله ابن عطية.

وقال (٣) : وبهذا الاقتران يصح معنى قوله (مِنْ قَبْلِهِمْ) فتأمله.

قال شهاب الدين (٤) : «وقد شرطوا في المفعول معه أن يجوز عطفه على ما قبله حتى جعلوا قوله تعالى : (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ) [يونس : ٧١] من باب إضمار الفعل ؛ لأنه لا يقال : أجمعت شركائي ، إنما يقال : جمعت».

فصل في المراد بهذا التبوء (٥)

«التّبوّء» : التمكن والاستقرار ، وليس يريد أن الأنصار آمنوا قبل المهاجرين ، بل أراد آمنوا قبل هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليهم ، ولا خلاف أن الذين تبوّءوا الدار هم الأنصار الذين استوطنوا «المدينة» قبل المهاجرين إليها ، والمراد بالدّار : «المدينة».

والتقدير : والذين تبوّءوا الدار من قبلهم.

فصل

قيل هذه الآية معطوفة على قوله : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) وأن الآيات في «الحشر» كلها معطوفة بعضها على بعض.

قال القرطبي (٦) : ولو تأملوا ذلك ، وأنصفوا لوجدوه على خلاف ما ذهبوا إليه ؛ لأن

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٠٤ ، ٥٠٥.

(٢) سقط من : أ.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٨٧.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٦.

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٥.

(٦) السابق : ١٨ / ١٥ ، ١٦.

٥٨٥

الله ـ تعالى ـ يقول : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ) ـ إلى قوله ـ (الْفاسِقِينَ) فأخبر عن بني النضير وبني قينقاع ، ثم قال تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) فأخبر أن ذلك للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه لم يوجف عليه حين خلّوه ، وما تقدم فيهم من القتال ، وقطع شجرهم فقد كانوا رجعوا عنه وانقطع ذلك الأمر ، ثم قال تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) ، وهذا كلام غير معطوف على الأول ، وكذا (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ) ابتداء كلام في مدح الأنصار والثناء عليهم ، فإنهم سلموا ذلك الفيء للمهاجرين ، وكأنه قال : الفيء للفقراء المهاجرين ، والأنصار يحبون لهم لم يحسدوهم على ما صفا لهم من الفيء ، وكذا (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) ابتداء كلام ، والخبر (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا).

وقال إسماعيل بن إسحاق : إن قوله تعالى : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ ، وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) معطوف على ما قبله ، وأنهم شركاء في هذا الفيء ، أي : هذا المال للمهاجرين ، والذين تبوّءوا الدار والإيمان.

وقال مالك بن أوس : قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) [التوبة : ٦٠].

ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [الأنفال: ٤١] ، فقال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) حتى بلغ (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ ، وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ ، وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي ب «سرو حمير» نصيبه منها لم يعرق جبينه.

وقيل : إنه دعا للمهاجرين والأنصار واستبشارهم بما فتح الله عليه من ذلك ، وقال لهم : تبينوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليّ ففكر في ليلته ، فتبين له أن هذه الآيات في ذلك أنزلت فلما غدوا عليه ، قال : قد مررت البارحة بالآيات التي في سورة «الحشر» وتلا : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) إلى قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) فلما بلغ قوله : (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) قال : ما هي لهؤلاء فقط ، وتلا قوله : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) إلى قوله (رَؤُفٌ رَحِيمٌ) ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإسلام إلا وقد دخل في ذلك.

فصل

روى مالك بن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : لولا من يأتي من آخر النّاس ما فتحت قرية إلا قسمتها كما قسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خيبر (١).

__________________

(١) أخرجه البخاري ٧ / ٥٦٠ في المغازي ، باب غزوة خيبر (٤٢٣٦).

٥٨٦

وصح عن عمر أنه أبقى سواد «العراق» و «مصر» وما ظهر عليه من الغنائم ليكون في أعطيات المقاتلة ، وأرزاق الجيش والذّراري ، وأن الزبير وبلالا وغير واحد من الصحابة أرادوه على قسم ما فتح عليهم ، فكره ذلك منهم (١).

واختلف فيما فعل من ذلك : فقيل : إنه استطاب أنفس أهل الجيش فمن رضي له بترك حظه بغير ثمن ليبقيه للمسلمين فله ، ومن أبى أعطاه ثمن حظه فمن قال : إنما أبقى الأرض بعد استطابة أنفس القوم جعل فعله كفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأنه قسم «خيبر» ، لأنّ اشتراءه إياها وترك من ترك عن طيب نفسه بمنزلة قسمها.

وقيل : إنه أبقاها بغير شيء أعطاه أهل الجيوش.

وقيل : إنه تأول في ذلك قول الله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ) إلى قوله : (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) على ما تقدم أيضا.

فصل في اختلاف الفقهاء في قسمة العقار (٢)

اختلفوا في قسمة العقار ، فقال مالك ـ رضي الله عنه ـ للإمام أن يوقفها لمصالح المسلمين.

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : الإمام مخير بين قسمتها ، أو وقفها لمصالح المسلمين.

وقال الشافعي ـ رضي الله عنه ـ ليس للإمام حبسها عنهم بغير رضاهم ، بل يقسمها عليهم كسائر الأموال ، فمن طاب نفسا عن حقه للإمام أن يجعلها وقفا عليهم فله ، ومن لم تطب نفسه فهو أحق بماله.

وعمر ـ رضي الله عنه ـ استطاب نفوس القائمين واشتراها منهم ، وعلى هذا يكون قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ) مقطوعا مما قبله ، وأنهم ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم.

فصل في فضل المدينة

قال القرطبي (٣) : «روى ابن وهب قال : سمعت مالكا يذكر فضل «المدينة» على غيرها من الآفاق ، فقال : إن «المدينة» تبوئت بالإيمان والهجرة ، وإن غيرها من القرى افتتحت بالسيف ، ثم قرأ : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ) الآية».

__________________

(١) ينظر : تفسير القرطبي (١٨ / ١٦).

(٢) ينظر القرطبي ١٨ / ١٧.

(٣) السابق.

٥٨٧

قوله تعالى : (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا). فيه وجهان (١) :

أحدهما : أن الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه ، والمعنى : لا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة تقول : خذ منه حاجتك ، وأعطاه من ماله حاجته. قاله الزمخشري (٢).

فعلى هذا يكون الضمير الأول للجائين بعد المهاجرين ، وفي «أوتوا» للمهاجرين.

والثاني : أن الحاجة هنا من الحسد.

قال الحسن : حسدا وحزازة مما أوتوا المهاجرين دونهم ، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة ؛ لأن هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية.

والضميران على ما تقدم قبل.

وقال أبو البقاء (٣) : «الحاجة مس حاجة». أي : أنه حذف المضاف للعلم به ، وعلى هذا ، فالضميران ل (الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ).

وقال القرطبي (٤) : «يعني لا يحسدون المهاجرين على ما خصّوا به من مال الفيء وغيره ، كذلك قال الناس. وفيه تقدير حذف مضافين ، والمعنى : مس حاجة من فقد ما أوتوا ، وكل ما يجد الإنسان في صدره مما يحتاج إلى إزالته فهو حاجة».

فصل في سبب نزول الآية

قال القرطبي (٥) : كان المهاجرون في دور الأنصار ، فلما غنم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أموال بني النضير ، دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم في منازلهم وإشراكهم في الأموال ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النّضير بينكم وبينهم ، وكان المهاجرون على ما هم عليه من السّكنى في مساكنكم وأموالكم ، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم» ، فقال سعد بن عبادة وسعد بن معاذ ـ رضي الله عنهما ـ بل نقسمه بين المهاجرين ، ويكونون في دورنا كما كانوا ، ونادت الأنصار : رضينا وسلّمنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار» وأعطى رسول الله للمهاجرين ، ولم يعط الأنصار إلا الثلاثة الذين ذكرناهم (٦).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٦.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٠٥.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢١٦.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٧.

(٥) السابق.

(٦) أخرجه البخاري ١٣ / ٢٧٨ ، كتاب الاعتصام ، باب : ما يكره من كثرة السؤال (٧٢٨٩) ، ومسلم ٤ / ١٨٣١ ، كتاب الفضائل ، باب : توقيره صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١٣٢ / ٢٣٥٨).

٥٨٨

ويحتمل أن يريد به (وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا) إذا كانوا قليلا يقنعون به ، ويرضون عنه ، وقد كانوا على هذه الحال حين حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دنيا ، ثم كانوا عليه بعد موتهصلى‌الله‌عليه‌وسلم بحكم الدنيا ، وقد أنذرهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال : «سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض» (١).

قوله : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ).

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم بني النضير : «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وشاركتموهم في هذه الغنيمة ، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم ولم نقسم لكم من الغنيمة شيئا». فقالت الأنصار : بل نقسم لإخواننا من ديارنا وأموالنا ونؤثرهم بالغنيمة ، فنزل : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : «وذكر المفسرون أنواعا من إيثار الأنصار للضيف بالطعام ، وتعللهم عنه حتى يشبع الضيف ، ثم ذكروا أن هذه الآية نزلت في ذلك الإيثار ، والصحيح أنها نزلت بسبب إيثارهم المهاجرين بالفيء ، ثم لا يمتنع أن يدخل فيها سائر الإيثارات.

فذكر القرطبي (٤) : أن الترمذي روى عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رجلا بات به ضيف ، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نومي الصبية ، وأطفئي السراج ، وقربي للضيف ما عندك ، فنزلت هذه الآية» (٥).

وخرجه مسلم أيضا : عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إني مجهود ، فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق نبيا ما عندي إلا ماء ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من يضيف هذا الليلة رحمه‌الله؟» فقام رجل من الأنصار ، فقال : يا رسول الله أنا ، فانطلق به إلى رحله ، فقال لامرأته : هل عندك شيء؟ قالت : لا ، إلا قوت صبياني ، قال : فعلليهم بشيء ، فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج ، وذكر نحو الحديث الأول(٦).

__________________

(١) أخرجه البخاري ٧ / ٦٤٤ ، كتاب المغازي ، باب : غزوة الطائف (٤٣٣٠) ، وطريقه في (٧٢٤٥) ، ومسلم في المصدر السابق (١٣٩ ـ ١٠٦١).

(٢) ينظر : تفسير القرطبي (١٨ / ١٨).

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٥٠.

(٤) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٧.

(٥) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٨١) ، كتاب التفسير ، باب (٥٩) من سورة الحشر رقم (٣٣٠٤) عن أبي هريرة. وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

وانظر الحديث الآتي.

(٦) أخرجه البخاري (١٧ / ١٤٩) ، كتاب مناقب الأنصار ، باب : قول الله عزوجل : «وَيُؤْثِرُونَ عَلى ـ

٥٨٩

وفي روآية : فقام رجل من الأنصار يقال له : أبو طلحة ، فانطلق به إلى رحله.

وذكر المهدوي : أنها نزلت في ثابت بن قيس ، ورجل من الأنصار يقال له : أبو المتوكل ، ولم يكن عند أبي المتوكل إلا قوته.

وذكر القشيري قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأس شاة فقال : إن أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا ، فبعثه إليه ولم يزل يبعث به واحد إلى آخر حتى تداولها (١) سبعة أبيات حتى رجعت إلى أولئك ، فنزلت : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) الآية.

وذكر الثعلبي عن أنس ، قال : أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة ، وكان مجهودا فوجه به إلى جار له ، فتداوله سبعة أنفس في سبعة أبيات ، ثم عاد إلى الأول ، فنزلت الآية (٢).

فصل في معنى الإيثار (٣)

الإيثار هو تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الآخروية ،

__________________

ـ أَنْفُسِهِمْ» حديث (٣٧٩٨) ، (٨ / ٥٠٠) ، كتاب التفسير ، باب : وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ حديث (٤٨٨٩) ، ومسلم (٣ / ١٦٢٤) ، كتاب الأشربة ، باب : إكرام الضيف وفضل إيثاره حديث (١٧٢ / ٢٠٥٤) ، والترمذي (٥ / ٣٨١) ، رقم (٣٣٠٤) ، مختصرا والطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤١) ، والنسائي في «الكبرى» (٦ / ٣٨٦) ، من طريق أبي حازم عن أبي هريرة به.

وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.

(١) في أ : تناولها.

(٢) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٢ / ٤٨٤) ، عن ابن عمر من طريق عبيد الله بن الوليد عن محارب بن دثار عنه.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ورده الذهبي بقوله : قلت عبيد الله ضعفوه.

وعبيد الله بن الوليد هو الوصافي أبو إسماعيل الكوفي. قال الحافظ في «التهذيب» (٧ / ٥٥) : قال أبو طالب عن أحمد: ليس بمحكم الحديث يكتب حديثه للمعرفة وقال ابن معين وأبوزرعة وأبو حاتم : ضعيف الحديث.

وقال ابن معين مرة : ليس بشيء.

وقال عمرو بن علي والنسائي : متروك الحديث ، وقال النسائي في موضع آخر : ليس بثقة.

وقال العقيلي : في حديثه مناكير لا يتابع على كثير من حديثه.

وقال ابن حبان : يروي عن الثقات ما لا يشبه الأثبات حتى يسبق إلى القلب أنه المتعمد لها فاستحق الترك.

وقال الحاكم : روى عن محارب أحاديث موضوعة.

قلت : ومع قول الحاكم فيه فقد صحح له كما سبق في «المستدرك».

والحديث ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٨٩) ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان».

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٨ ، ١٩.

٥٩٠

وذلك ينشأ عن قوة اليقين وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة ، يقال : آثرته بكذا ، أي : خصصته به وفضلته ، ومفعول الإيثار محذوف ، أي : يؤثرونهم على أنفسهم بأموالهم ومنازلهم ، لا عن غنى بل مع احتياجهم إليها.

فإن قيل : قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء؟.

فالجواب (١) : إنما كره ذلك في حق من لا يوثق به بالصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرض للمسألة إذا فقد ما ينفقه ، فأما الأنصار الذين أثنى الله ـ تعالى ـ عليهم بالإيثار على أنفسهم ، فكانوا كما قال الله تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) [البقرة : ١٧٧].

فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك ، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار.

كما روي أن رجلا جاء إلى النبي بمثل البيضة من الذهب ، فقال هذه صدقة ، فرماه بها ، وقال : «يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ، ثم يقعد فيتكفف الناس» انتهى.

فصل في الإيثار بالنفس (٢)

الإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس.

ومن الأمثال : [البسيط]

٤٧٤٨ ـ الجود بالمال جود ومكرمة

والجود بالنفس أقصى غاية الجود (٣)

وأفضل من الجود بالنفس الجود على حما ية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ففي الصحيح : أن أبا طلحة ترس على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم أحد ، وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يتطلع ليرى القوم ، فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله ، لا يصيبونك ، نحري دون نحرك يا رسول الله وو قى بيده رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فشلت.

وقال حذيفة العدوي : انطلقت يوم «اليرموك» أطلب ابن عم لي [ومعي شيء من الماء وأنا أقول : إن كان به رمق سقيته ، فإذا أنا به ، فقلت له : أسقيك ، فأشار برأسه أن

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ١٩ ،

(٢) ينظر : السابق ١٨ / ٢٠.

(٣) قائل البيت هو مسلم بن الوليد وروآية الشطر الأول في الديوان :

تجود بالنفس إذ أنت الضنين بها

ويروى :

تجود بالنفس إذ ضن الجواد بها

ينظر ديوانه ص ١٦٤ ، والقرطبي ١٨ / ٢٠.

٥٩١

نعم] ، فإذا أنا برجل يقول : آه آه فأشار إلي ابن عمي أن انطلق إليه ، فجئت إليه ، فإذا هو هشام بن العاص ، فقلت : أسقيك؟ فأشار أن نعم ، فسمعت آخر يقول : آه آه فأشار هشام أن انطلق إليه ، فجئت إليه ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى هشام ، فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.

وقال أبو اليزيد البسطامي رحمه‌الله : ما غلبني أحد سوى شاب من أهل «بلخ» قدم علينا حاجا ، وقال : يا أبا اليزيد ، ما حد الزهد عندكم؟.

فقلت له : إذا وجدنا أكلنا وإذا فقدنا صبرنا.

فقال : هكذا كلاب «بلخ» عندنا.

فقلت : وما حد الزهد عندكم؟.

قال : إذا فقدنا شكرنا ، وإذا وجدنا آثرنا.

وسئل ذو النون المصري : ما حد الزهد؟ قال : ثلاث ، تفريق المجموع ، وترك طلب المفقود ، والإيثار عند الفوت.

وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي : أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى «الري» ومعهم أرغفة معدودة لا تشبح جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج ، وجلسوا للطعام ، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئا إيثارا لصاحبه على نفسه.

قوله تعالى : (وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ).

هذه واو الحال ، والخصاصة : الحاجة ، وأصلها من خصاص البيت ، وهي فروجه ، وحال الفقير يتخللها النقص ، فاستعير لها ذلك (١).

وقال القرطبي (٢) : «أصلها من الاختصاص ، وهو الانفراد بالأمر ، فالخصاصة : انفراد بالحاجة ، أي : ولو كانت بهم فاقة وحاجة».

ومنه قول الشاعر : [الكامل]

٤٧٤٩ ـ أما الربيع إذا تكون خصاصة

عاش السقيم به وأثرى المقتر (٣)

قوله تعالى : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ).

العامة على سكون الواو ، وتخفيف القاف من الوقاية ، وابن أبي عبلة (٤) وأبو حياة : بفتح الواو وتشديد القاف.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٦.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٢٠.

(٣) ينظر اللسان (قتر) ، القرطبي ٨ / ٢٠ ، وفتح القدير ٥ / ٢٠١.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٨٨ ، والدر المصون ٦٨ / ٢٩٦.

٥٩٢

والعامة ـ بضم الشين ـ من «شح» ، [وابن أبي عبلة](١) وابن عمر (٢) ـ رضي الله عنهما ـ بكسرها.

قال القرطبي (٣) : الشح والبخل سواء ، يقال : رجل شحيح بين الشح والشح والشحاحة.

قال عمرو بن كلثوم : [الوافر]

٤٧٥٠ ـ ترى اللحز الشحيح إذا أمرت

عليه لماله فيها مهينا (٤)

وجعل بعض أهل اللغة الشح أشد من البخل.

وفي «الصحاح» (٥) : الشح : البخل مع حرص ، شححت ـ بالكسر ـ تشح ، وشححت أيضا تشح وتشح ، ورجل شحيح ، وقوم شحاح وأشحة.

والمراد بالآية : الشح بالزكاة ، وما ليس بفرض من صلة ذوي الأرحام والضيافة ، وما شاكل ذلك ، فليس بشحيح ولا بخيل من أنفق في ذلك وإن أمسك عن نفسه ، ومن وسع على نفسه ولم ينفق فيما ذكرنا من الزكوات والطاعات فلم يوق شح نفسه.

روى الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه : أن رجلا أتاه فقال : إني أخاف أن أكون قد هلكت ، قال : وما ذلك؟ قال : سمعت الله يقول : (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وأنا رجل شحيح لا أكاد أخرج من يدي شيئا ، فقال ابن مسعود : ليس ذلك الذي ذكر الله ـ تعالى ـ ، إنما الشح أن تأكل مال أخيك ظلما ، ولكن ذلك هو البخل ، وبئس الشيء البخل ، ففرق رضي الله عنه بين الشح والبخل (٦).

وقال طاوس : البخل أن يبخل الإنسان بما في يده ، والشح أن يشح بما في أيدي

__________________

(١) سقط من : أ.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٨٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٤٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٩٦.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٢٠.

(٤) ينظر : شرح المعلقات السبع للزوزني ص ١١٩ ، وإعراب القرآن للنحاس ٤ / ٣٩٧ ، واللسان (لحز) ، والطبري ٢٨ / ٢٩ ، والقرطبي ١٨ / ٢٠.

(٥) ينظر : الصحاح ١ / ٣٧٨ ، مائدة (شحح).

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢) ، والحاكم (٢ / ٤٩٠) ، عن ابن مسعود.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه وو افقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٨٩) ، وزاد نسبته إلى الفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في «شعب الإيمان».

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٢٦) ، وعزاه للطبراني.

٥٩٣

الناس (١) ، يحب أن يكون له ما في أيديهم بالحل والحرام فلا يقنع.

قال ابن زيد : ليس الشح أن يمنع الرجل ماله ، إنما الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له (٢).

وقال ابن جريج : الشح : منع الزكاة وادخار الحرام (٣).

وقال ابن عيينة : الشح : الظلم (٤).

وقال الليث : ترك الفرائض وانتهاك المحارم (٥).

وقال ابن عباس : من اتبع هواه ، ولم يقبل الإيمان ، فذلك هو الشحيح (٦).

وقال ابن زيد : من لم يأخذ شيئا نهاه الله عنه ، ولم يمنع شيئا أمره الله بإعطائه ، فقد وقاه الله شح نفسه (٧).

وقال أنس رضي الله عنه قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «برى من الشح من أدى الزكاة وأقرى الضيف ، وأعطى في النائبة» (٨).

وعنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يدعو «اللهم إني أعوذ بك من شح نفسي ، وإسرافها وسوآتاها»(٩).

وقال أبو الهياج الأسدي : رأيت رجلا في الطواف يدعو : اللهم قني شح نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقلت له ، فقال : إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل ، فإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه (١٠).

قال القرطبي (١١) : ويدل على هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٨٩) ، وعزاه إلى ابن المنذر.

(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٨٩) ، عن ابن عمر وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٢١).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر المصدر السابق.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢) ، وينظر المصدر السابق.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢) ، والطبراني في «الكبير» (٤ / ٢٤١) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (١٠٨٤٢) ، من حديث أنس.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٩١) ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

وذكره أيضا من حديث يزيد بن جارية وعزاه إلى عبد بن حميد.

وللحديث شاهد من حديث جابر ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٩٠) وعزاه إلى ابن مردويه.

(٩) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٢١).

(١٠) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٤٢) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٨٩) ، وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن عساكر.

(١١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٢١.

٥٩٤

القيامة ، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» (١).

وروى أبو هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبدا ، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدا» (٢).

وقال كسرى لأصحابه : أي شيء أضر بابن آدم؟ قالوا : الفقر ، فقال : الشح أضر من الفقر ، لأن الفقير إذا وجد شبع ، والشحيح إذا وجد لم يشبع أبدا.

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١١) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١٢) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (١٣) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٥) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ)(١٦)

قوله تعالى : (وَالَّذِينَ جاؤُ). يحتمل الوجهين المتقدمين في «الذين» قبله ، فإن كان معطوفا على «المهاجرين» ، ف «يقولون» حال ل «يحبون» أي : قائلين أو مستأنف ، وإن كان مبتدأ ف «يقولون» خبره (٣).

فصل

هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين ؛ لأنهم إما المهاجرون أو الأنصار. (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ). قال بعض المفسرين : هذا عطف على «المهاجرين» وهم الذين هاجروا من بعد.

__________________

(١) أخرجه مسلم في المصدر السابق (٥٦ ـ ٣٥٧٨) ، وأحمد في المسند ٣ / ٣٢٣ ، والبيهقي ٦ / ٩٣ ، والحاكم في المستدرك ١ / ١١.

(٢) أخرجه الحاكم (٢ / ٧٢) ، والنسائي في «الكبرى» (٣ / ١٠) ، والبيهقي في «شعب الإيمان» (٤٢٥٧) ، من حديث أبي هريرة.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٧.

٥٩٥

وقيل : التابعون لهم بإحسان ، ومن دخل في الإسلام إلى يوم القيامة (١).

قال ابن أبي ليلى (٢) : الناس على ثلاثة منازل : الأولى منازل المهاجرين ، والثانية هي : الذين تبوءوا الدار والإيمان ، والثالثة : والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد ألّا تخرج من هذه المنازل.

وقال بعضهم : كن مهاجرا ، فإن قلت : لا أجد ، فكن أنصاريا ، فإن لم تجد فاعمل كأعمالهم ، فإن لم تستطع فأحبّهم ، واستغفر لهم كما أمرك الله.

وقال مصعب بن سعد : الناس على ثلاثة منازل ، فمضت منزلتان ، وبقيت منزلة ، فأحسن ما أنتم عليه أن تكونوا بهذه المنزلة التي بقيت.

وعن جعفر بن محمد عن أبيه عن جدّه ، أنه جاءه رجل فقال : يا ابن بنت رسول الله ما تقول في عثمان؟ فقال له : يا ابن أخي أنت من قوم قال الله فيهم (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ)؟ الآية ، قال : لا ، قال : فأنت من قوم قال الله فيهم : (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ)؟ الآية ، قال : لا ، قال : فو الله لئن لم تكن من أهل الآية الثالثة لتخرجن من الإسلام ، وهي قوله تعالى: (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ).

وروي أن نفرا من أهل «العراق» جاءوا إلى محمد بن علي بن الحسين ، فسبّوا أبا بكر وعمر وعثمان ـ رضي الله عنهم ـ فأكثروا ، فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم؟

قالوا : لا ، قال : أفمن الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؟ ، قالوا : لا ، قال : فقد تبرأتم من هذين الفريقين ، أنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله فيهم : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، قوموا قد فعل الله بكم وفعل. ذكره النحاس (٣).

فصل في وجوب محبة الصحابة (٤)

هذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لأنه جعل لمن بعدهم حظّا في الفيء ما أقاموا على محبتهم وموالاتهم ، والاستغفار لهم ، ومن أبغضهم أو واحدا منهم ، أو اعتقد فيه شرّا أنه لا حقّ له في الفيء.

قال مالك : من كان يبغض أحدا من أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان في قلبه لهم غلّ فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم قرأ : (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٥٠.

(٢) ينظر : القرطبي ١٨ / ٢١.

(٣) القرطبي ١٨ / ٢٢.

(٤) ينظر السابق.

٥٩٦

فصل

قال القرطبي (١) : دلت هذه الآية على أن الصحيح من أقوال العلماء قسمة المنقول وإبقاء العقار والأرض بين المسلمين أجمعين كما فعل عمر ـ رضي الله عنه ـ إلا أن يجتهد الوالي فينفذ أمرا فيمضي عمله فيه لاختلاف الناس فيه ، وإن هذه الآية قاضية بذلك ، لأن الله ـ تعالى ـ أخبر عن الفيء وجعله لثلاث طوائف : المهاجرين والأنصار ـ وهم معلومون ـ (وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ) فهي عامة في جميع التابعين والآتين من بعدهم إلى يوم [الدين](٢).

يروى أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خرج إلى المقبرة ، فقال : «السّلام [عليكم] دار قوم مؤمنين وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون وددت لو رأيت إخواننا» قالوا : يا رسول الله ، ألسنا إخوانك؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «بل أنتم أصحابي ، وإخواننا الذين لم يأتوا بعد ، وأنا فرطهم على الحوض»(٣).

فبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن إخوانهم كلّ من يأتي بعدهم ، لا كما قال السّديّ والكلبي : إنهم الذين هاجروا بعد ذلك.

وعن الحسن أيضا : أن الذين جاءوا من بعدهم من قصد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى «المدينة» بعد انقطاع الهجرة.

قوله : (يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ).

قيل (٤) : أمروا أن يستغفروا لمن سبق هذه الأمة من مؤمني أهل الكتاب ، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أمرهم أن يستغفروا لهم فسبّوهم.

وقيل : أمروا أن يستغفروا للسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار.

قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : أمر الله سبحانه بالاستغفار لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو يعلم أنهم سيفتنون (٥).

وقالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : أمرهم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسبوهم ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لا تذهب هذه الأمة حتّى يلعن آخرها أوّلها» (٦).

__________________

(١) السابق نفسه.

(٢) في أ : القيامة.

(٣) أخرجه مسلم ١ / ٢١٨ ، كتاب الطهارة ، باب : استحباب إطالة الغرة والتحجيل (٣٩ / ٢٤٩).

(٤) ينظر : القرطبي (١٨ / ٢٢).

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٢٢).

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٩٣) ، عن عائشة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في «المصاحف» وابن مردويه عن عائشة.

٥٩٧

وقال ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «إذا رأيتم الّذين يسبّون أصحابي فقولوا : لعن الله شرّكم» (١).

وقال العوام بن حوشب : أدركت هذه الأمة يقولون : اذكروا محاسن أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى تتآلف عليهم القلوب ، ولا تذكروا ما شجر بينهم فتجسروا الناس عليهم (٢).

وقال الشعبي : تفاضلت اليهود والنّصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم؟ فقالوا : أصحاب موسى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ، وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم؟ فقالوا : أصحاب عيسى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ ، وسئلت الرافضة : من شرّ أهل ملتكم؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، فالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة لا تقوم لهم راية ، ولا يثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وإدحاض حجتهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلّة (٣).

(وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : حسدا وبغضا ، (رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ). للتبليغ فقط بخلاف قوله عزوجل : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا) [العنكبوت : ١٢] فإنها تحتمل ذلك وتحتمل العلة.

فصل

قال القرطبي رحمه‌الله (٤) : هذه الآية سبب التعجب من اغترار اليهود لما وعدهم المنافقون من النصر معهم مع علمهم بأنهم لا يعتقدون دينا ولا كتابا.

قال المقاتلان (٥) : يعني عبد الله بن أبيّ ابن سلول ، وعبد الله بن نبتل ، ورفاعة بن زيد ، وقيل : رفاعة بن تابوت ، وأوس بن قيظي ، كانوا من الأنصار ولكنهم نافقوا ، ومالوا ليهود قريظة والنضير.

والإخوان : هم الإخوة ، وهي هنا تحتمل وجوها (٦) :

أحدها : الأخوّة في الكفر ؛ لأن اليهود والمنافقين اشتركوا في عموم الكفر بمحمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وثانيها : الأخوّة بسبب المصادقة والموالاة والمعاونة.

__________________

(١) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (١٣ / ١٩٥) ، وابن عساكر (٦ / ٢٣١ ـ تهذيب) ، من حديث ابن عمر.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٢٣).

(٣) ينظر القرطبي ١٨ / ٢٣.

(٤) السابق.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٥١.

(٦) السابق.

٥٩٨

وثالثها : الأخوّة بسبب اشتراكهم في عداوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فقالوا لليهود : (لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ) من المدينة (لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ).

وقيل : هذا من قول بني النضير لقريظة ، وقولهم : (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) يعنون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالوا : لا نطيعه في قتالكم.

وفيه دليل على صحة نبوّة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من جهة علم الغيب ؛ لأنهم أخرجوا فلم يخرجوا معهم ، وقوتلوا فلم ينصروهم كما قال سبحانه وتعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في قولهم وفعلهم (١).

فقولهم : (وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً) أي : في قتالكم أو في خذلانكم (٢).

قوله تعالى : (وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ).

أجيب القسم المقدر ، لأن قبل «إن» لام موطئة حذفت للعلم بمكانها ، فإنّ الأكثر الإتيان بها ، ومثله قوله : (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَ) [المائدة : ٧٣] وقد تقدم.

قوله تعالى : (لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ).

أجيب القسم لسبقه ، ولذلك رفعت الأفعال ولم تجزم ، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه ، ولذلك كان فعل الشرط ماضيا (٣).

وقال أبو البقاء (٤) رحمه‌الله : قوله تعالى : (لا يَنْصُرُونَهُمْ) لما كان الشرط ماضيا ترك جزم الجواب انتهى. وهو غلط ؛ لأن (لا يَنْصُرُونَهُمْ) ليس جوابا للشرط بل جواب القسم ، وجواب الشرط محذوف كما تقدم وكأنه توهم أنه من باب قوله : [البسيط]

٤٧٥١ ـ وإن أتاه خليل يوم مسألة

يقول : لا غائب مالي ولا حرم (٥)

وقد سبق أبا البقاء ابن عطية إلى ما يوهم شيئا من ذلك ، ولكنه صرح بأنه جواب القسم ، فقال : «جاءت الأفعال غير مجزومة في «لا يخرجون ولا ينصرون» ؛ لأنها راجعة على حكم القسم (٦) لا على حكم الشرط ، وفي هذا نظر».

فقوله : «وفي هذا نظر» يوهم أنه جاء على خلاف ما يقتضيه القياس وليس كذلك ، بل جاء على ما يقتضيه القياس.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٢٣.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٧.

(٣) ينظر : السابق ٦ / ٢٩٧.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢١٦.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٨٩.

٥٩٩

وفي هذه الضمائر قولان (١) :

أحدهما : أنها كلها للمنافقين.

والثاني : أنها مختلفة بعضها لهؤلاء ، وبعضها لهؤلاء.

فصل

اعلم أنه ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها (٢) ، وقد أخبر تعالى أن هؤلاء اليهود لئن أخرجوا ، فهؤلاء المنافقون لا يخرجون معهم ، وكان الأمر كذلك ؛ لأن بني النضير لما خرجوا لم يخرج معهم المنافقون ، وقاتلوا أيضا فما نصروهم ، وهذا كما يقول المعترض الطاعن في كلام الغير : لا نسلم أن الأمر كما تقول ، ولئن سلمنا أن الأمر كما تقول إلا أنه لا يفيد ذلك فائدة فكذا ها هنا ذكر تعالى أنهم لا يخرجون معهم ، وبتقدير أن ينصروهم إلا أنهم لا بد وأن يتركوا النّصرة وينهزموا ، ويتركوا أولئك المنصورين في أيدي أعدائهم ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣].

[وقيل (٣) : معنى لا ينصرونهم : لا يدومون على نصرهم ، هذا على أن الضميرين متفقان على اختلاف الضميرين ، فالمعنى : لئن أخرج اليهود لا يخرج معهم المنافقون ، ولئن قوتلوا لا ينصرونهم (وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ) أي : ولئن نصر اليهود المنافقين ليولّنّ الأدبار](٤).

قوله تعالى : (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً).

مصدر من «رهب» المبني للمفعول ، فالرهبة واقعة من المنافقين لا من المخاطبين ، كأنه قيل : لأنتم أشد رهوبية في صدورهم من الله ، فالمخاطبون مرهبون وهو قول كعب بن زهير ـ رضي الله عنه ـ في مدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : [البسيط]

٤٧٥٢ ـ فلهو أخوف عندي إذ أكلّمه

وقيل إنّك محبوس ومقتول

من ضيغم بثراء الأرض مخدره

ببطن عثّر غيل دونه غيل (٥)

و «رهبة» تمييز (٦).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٧.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٥١.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ٢٣.

(٤) سقط من : أ.

(٥) البيتان لكعب بن زهير من قصيدته المشهورة (بانت سعاد). ينظر ديوانه (٢٠) ، والمقرب لابن عصفور ١ / ٧١ ، ٧٢ ، واللسان (عثر) ، والدر المصون ٦ / ٢٩٨.

(٦) ينظر الدر المصون ٦ / ٢٩٧ ، ٢٩٨.

٦٠٠