اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

وقال الربيع بن أنس رضي الله عنه : بالقرآن وحججه.

وقال ابن جريح : بنور وبرهان وهدى.

وقيل : برحمة من الله.

وقيل : أيّدهم بجبريل صلوات الله وسلامه عليه.

قوله : (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) أي : قبل أعمالهم (وَرَضُوا عَنْهُ) فرحوا بما أعطاهم (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وهذه في مقابلة قوله تعالى : (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) ، وهذه الآية زجر عن التودّد إلى الكفّار والفسّاق ، والله ـ سبحانه وتعالى ـ أعلم بالصواب.

روى الثعلبي في تفسيره عن أبي بن كعب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب الله ـ تعالى ـ يوم القيامة» (١).

__________________

(١) ذكره الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» (٤ / ٤٩٧) ، وعزاه إلى الثعلبي وابن مردويه والواحدي بأسانيدهم عن أبي بن كعب.

٥٦١

سورة الحشر

مدنية في قول الجميع ، وهي أربع وعشرون آية وأربع مائة وخمس وأربعون كلمة وألف وتسعمائة وثلاثة عشر حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٤)

قوله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) تقدم نظيره.

قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ).

قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة الحشر؟ قال : قل : سورة النّضير ، وهم رهط من اليهود من ذرية هارون ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ نزلوا ب «المدينة» في فتن بني إسرائيل انتظارا لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فكان من أمرهم ما نصّ عليه (١).

قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ).

يجوز أن تكون «من» للبيان ، فتتعلق بمحذوف ، أي : أعني من أهل الكتاب.

والثاني : أنها حال من (الَّذِينَ كَفَرُوا).

وقوله تعالى : (مِنْ دِيارِهِمْ) متعلق ب «أخرج» ، ومعناها : ابتداء الغاية ، وصحت إضافة الديار إليهم ؛ لأنهم أنشئوها (٢).

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٤٩٧) ، كتاب : التفسير ، باب : سورة الحشر. حديث (٤٨٨٣).

(٢) ينظر الدر المصون ٦ / ٢٩٢.

٥٦٢

قوله : (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ).

هذه اللّام متعلقة ب «أخرج» وهي لام التوقيت ، كقوله تعالى : (لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) [الإسراء : ٧٨] أي : عند أول الحشر.

وقال الزمخشري (١) : وهي كاللام في قوله تعالى : (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢٤] ، وقوله : «جئت لوقت كذا» وسيأتي الكلام على هذه «اللام» في سورة «الفجر» إن شاء الله تعالى.

فصل في الكلام على الحشر

قال القرطبي (٢) : «الحشر» : الجمع ، وهو على أربعة أضرب :

حشران في الدنيا وحشران في الآخرة.

أما اللذان في الدنيا فقوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ).

قال الزهري : كانوا من سبط لم يصبهم جلاء ، وكان الله ـ عزوجل ـ قد كتب عليهم الجلاء ، فلو لا ذلك لعذّبهم في الدنيا ، وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى «الشام».

قال ابن عباس وعكرمة : من شك أن المحشر في «الشام» فليقرأ هذه الآية (٣).

وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال لهم : «اخرجوا» قالوا : إلى أين؟ قال : «إلى أرض المحشر».

قال قتادة رضي الله عنه : هذا أول المحشر (٤).

قال ابن عباس رضي الله عنهما : هم أول من حشر من أهل الكتاب ، وأخرج من دياره(٥).

وقيل : إنهم أخرجوا إلى «خيبر» ، وإن معنى (لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) : إخراجهم من حصونهم إلى «خيبر» ، وآخرهم بإخراج عمر إياهم من «خيبر» إلى «نجد» و «أذرعات».

وقيل : «تيماء» و «أريحاء» ، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم.

__________________

(١) ينظر الكشاف ٤ / ٤٩٩.

(٢) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ٣.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ٤) ، عن ابن عباس وعكرمة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٧٧) ، وعزاه إلى البزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «البعث».

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٤٠) ، عن قتادة.

(٥) ينظر المصدر السابق.

٥٦٣

وأما الحشر الثاني : فحشرهم قرب القيامة.

قال قتادة : تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا ، وتأكل من تخلف منهم ، وهذا ثابت في الصحيح (١).

وذكروا أن تلك النّار ترى بالليل ، ولا ترى بالنهار.

قال ابن العربي (٢) : للحشر أول ووسط ، وآخر.

فالأول : إجلاء بن النّضير.

والأوسط : إجلاء خيبر.

والآخر : حشر يوم القيامة.

وعن الحسن : هم بنو قريظة (٣) ، وخالفه بقية المفسرين ، وقالوا : بنو قريظة ما حشروا ، ولكنهم قتلوا حكاه الثعلبي.

فصل في نسخ مصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم

قال إلكيا الطّبري : ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجوز الآن ، وإنما كان ذلك في دار الإسلام ثم نسخ ، والآن فلا بد من قتالهم ، أو سبيهم ، أو ضرب الجزية عليهم.

قوله تعالى : (ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) أي : لعظم أمر اليهود لعنهم الله ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين واجتماع كلمتهم.

وقوله تعالى : (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ).

قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن المسلمين ظنوا أنهم لعزّتهم وقوّتهم لا يحتاجون إلى أن يخرجوا من ديارهم (٤).

قيل : المراد بالحصون : الوطيح والنّطاة والسّلالم والكتيبة (٥).

قوله : (مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ). فيه وجهان (٦) :

أحدهما : أن تكون «حصونهم» مبتدأ ، و «مانعتهم» خبر مقدم ، والجملة خبر «أنهم». لا يقال : لم لا يقال : «مانعتهم» مبتدأ ، لأنه معرفة ، و «حصونهم» خبره ، ولا حاجة إلى تقديم ولا تأخير؟ لأن القصد الإخبار عن الحصون ، ولأن الإضافة غير محضة فهي نكرة.

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر : أحكام القرآن لابن العربي ٤ / ١٧٦٤.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٤) ، عن قتادة.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٩ / ٢٤٣).

(٥) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٢.

٥٦٤

الثاني : أن تكون «مانعتهم» خبر «أنهم» و «حصونهم» فاعل به ، نحو : إن زيدا قائم أبوه ، وإن عمرا قائمة جاريته. وجعله أبو حيان (١) أولى ؛ لأن في نحو : «قائم زيد» على أن يكون خبرا مقدما ومبتدأ مؤخرا ، خلافا ، الكوفيون يمنعونه ، فمحل الوفاق أولى.

قال الزمخشري (٢) : «فإن قلت : فأي فرق بين قولك : وظنوا أن حصونهم تمنعهم ، أو «مانعتهم» ، وبين النظم الذي جاء عليه؟.

قلت : بتقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم ، ومنعها إياهم ، وفي تغيير ضميرهم اسما ل «أن» ، وإسناد الجملة إليه دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنهم في عزة ومنعة لا يبالى معها بأحد يتعرض إليهم ، وليس ذلك في قولك : حصونهم تمنعهم» انتهى.

وهذا الذي ذكره إنّما يتأتى على الإعراب الأول ، وقد تقدم أنه مرجوح.

وتسلط الظن هنا على «أن» المشددة ، والقاعدة أنه لا يعمل فيها ولا في المخففة منها إلا فعل «علم» وتعين إجراؤه مجرى اليقين لشدته وقوته ، وأنه بمنزلة العلم.

وقوله : (مِنَ اللهِ) أي : من أمره.

قوله تعالى : (فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا).

قال الزمخشري (٣) : قرىء «فأتاهم الهلاك» أي : أتاهم أمره وعذابه (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) ، أي : لم يظنوا ، وقيل : من حيث لم يعلموا (٤).

وقال ابن جريج والسدي وأبو صالح : (مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) : بقتل كعب بن الأشرف ، وكانوا أهل خلعة وسلاح وقصور منيعة فلم يمنعهم شيء منها». (٥)

وقيل : الضمير في (فَأَتاهُمُ اللهُ) يعود إلى المؤمنين ، أي : فأتاهم نصر الله وتقويته [لا] يمنعهم شيء منها (٦).

قوله : (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) بقتل سيدهم كعب بن الأشرف ، وكان الذي قتله محمد بن مسلمة ، وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش ـ وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة ـ وخبره مشهور في السيرة.

قال أهل اللغة : «الرّعب» : الخوف الذي يرعب الصّدور ، أي : يملؤه ، وقذفه : إثباته فيه ، ومنه قالوا في صفة الأسد : مقذف ، كأنه قذف اللحم قذفا لاكتنازه وتداخل أجزائه.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٤٢.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٩٩.

(٣) السابق.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ٤) ، عن ابن جريج والسدي وأبي صالح.

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٤٣.

٥٦٥

وهذه الآية تدلّ على أن الأمور كلها من الله تعالى ؛ لأن الآية دلّت على أن وقوع ذلك بالرّعب صار سببا في إقدامهم على بعض الأفعال ، وبالجملة فالفعل لا يحصل إلا عند حصول داعية متأكدة في القلب ، وحصول تلك الداعية لا يكون إلا من الله تعالى ، فكانت الأفعال بأسرها مستندة إلى الله ـ تعالى ـ بهذا الطريق (١).

قوله : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ) يجوز أن يكون مستأنفا للإخبار به ، وأن يكون حالا من ضمير «قلوبهم» ، وليس بذاك (٢).

وقرأ أبو عمرو : «يخرّبون» (٣) بالتشديد ، وباقيهم : بالتّخفيف.

وهما بمعنى ؛ لأن «خرّب» عدّاه أبو عمرو بالتضعيف ، وهم بالهمزة.

وعن أبي عمرو : أنه فرق بمعنى آخر ، فقال : «خرّب» ـ بالتشديد ـ هدم وأفسد ، و «أخرب» ـ بالهمزة ـ ترك الموضع خرابا ، وذهب عنه ، وهو قول الفرّاء.

قال المبرد : ولا أعلم لهذا وجها.

و «يخربون» من خرب المنزل وأخربه صاحبه ، كقوله : «علم وأعلم ، وقام وأقام».

وإذا قلت : «يخربون بيوتهم» من التخريب فإنما هو تكثير ؛ لأن ذكر «بيوتا» تصلح للتقليل والتكثير (٤).

وزعم سيبويه أنهما يتعاقبان في بعض الكلام ، فيجري كل واحد مجرى الآخر ، نحو : «فرحته وأفرحته».

قال الأعشى : [المتقارب]

٤٧٣٦ ـ ..........

وأخربت من أرض قوم ديارا (٥)

واختار الهذلي قراءة أبي عمرو لأجل التّكثير (٦).

ويجوز أن يكون «يخربون» تفسيرا للرّعب فلا محلّ له أيضا.

قال أبو عمرو : وإنما اخترت التشديد ؛ لأن الإخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن ،

__________________

(١) ينظر السابق ٢٩ / ٢٤٤.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٣.

(٣) ينظر : السبعة ٦٣٢ ، والحجة ٦ / ٢٨٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٥٧ ، وحجة القراءات ٧٠٥ ، والعنوان ١٨٨ ، وشرح الطيبة ٦ / ٤٧ ، وشرح شعلة ٦٠٠ ، وإتحاف ٢ / ٥٢٩.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٤٤.

(٥) عجز بيت وصدره :

فأقللت قوما وأعمرتهم

ينظر ديوانه ص ٨٢ ، والتفسير الكبير ٢٩ / ٢٨١.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٣.

٥٦٦

وبنو النضير لم يتركوها خرابا ، وإنما خرّبوها بالهدم (١) ، ويؤيده قوله تعالى : (بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ).

فصل في تفسير الآية

قال قتادة والضحاك رحمهما‌الله تعالى : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا ، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم (٢).

وقال مقاتل : إن المنافقين أرسلوا إليهم ألا يخرجوا وتدرّبوا على الأزقّة ، وكان المسلمون يخربون سائر الجوانب (٣).

وقيل : إن المسلمين كانوا إذا ظهروا على درب من دروبهم خربوه ، وكان اليهود يتأخرون إلى ما وراء بيوتهم وينقّبونها من وراء أدبارهم.

وقيل : إن المسلمين كانوا يخربون ظواهر البلد ، واليهود لما أيقنوا بالجلاء ، فكانوا ينظرون إلى الخشبة في منازلهم مما يستحسنونه ، أو الباب فيهدمون بيوتهم ، وينزعونها ، ويحملونها على الإبل.

فإن قيل : ما معنى تخريبهم لها بأيدي المؤمنين؟.

قلت : لما عرضوهم لذلك ، وكانوا السبب فيه ، فكأنهم أمروهم به وكلفوه إياهم (٤).

وقال الزهري : (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ) بنقض المواعدة ، (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) بالمقاتلة.

وقال أبو عمرو بن العلاء : (بِأَيْدِيهِمْ) في تركهم لها ، (وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ) في إجلائهم عنها.

قوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ).

والاعتبار : مأخوذ هنا من العبور والمجاوزة من شيء إلى شيء ، وبهذا سميت العبرة عبرة ؛ لأنها تنتقل من العين إلى الخدّ ، وسمي علم التعبير ؛ لأن صاحبه ينتقل من المتخيّل إلى المعقول ، وسميت الألفاظ عبارات ؛ لأنها تنقل المعاني عن لسان القائل إلى عقل المستمع.

ويقال : السعيد من اعتبر بغيره ؛ لأنه ينتقل عقله من حال ذلك الغير إلى حال نفسه.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٤ ، ٥.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٥٠٠) ، عن الضحاك.

(٣) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٩ / ٢٤٤.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٤٤ ، ومعاني القرآن للزجاج ٥ / ١٤٤.

٥٦٧

ولهذا قال المفسرون : الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها ليعرف بالنظر فيها شيء آخر من جنسها (١).

وقوله عزوجل : (يا أُولِي الْأَبْصارِ).

قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد أهل اللّب والعقل والبصائر (٢).

قال الفراء : أي من عاين تلك الوقائع والأبصار جمع البصر.

ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحصون من الله ، فأنزلهم الله ـ تعالى ـ منها ، وسلط عليهم من كان ينصرهم ، وأنهم هدموا أموالهم بأيديهم ، ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه(٣).

واستدل الأصوليون بهذه الآية على وجوب العمل بالقياس.

وقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ).

العامة : على مده وهو الإخراج.

يقال : أجليت القوم ، وجلا هو جلاء.

وقال الماوردي (٤) : الجلاء أخصّ من الخروج ؛ لأنه لا يقال إلا لجماعة ، والإخراج يكون للجماعة والواحد.

وقال غيره : الفرق بينهما أن الجلاء كان مع الأهل والولد ، بخلاف الإخراج فإنه لا يستلزم ذلك.

وقرأ الحسن (٥) وعلي ابنا صالح : «الجلا» بألف فقط.

وطلحة (٦) : مهموزا من غير ألف ك «النبأ».

والمعنى (٧) : أنه لو لا أنه قضى أنه سيجليهم عن ديارهم ، وأنه يبقون مدة ، فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن (لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) أي : بالقتل كما فعل بإخوانهم «بني قريظة» ، والجلاء مفارقة الوطن يقال : جلا بنفسه جلاء ، وأجلاه غيره إجلاء.

وأما قوله : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) ، فهو كلام مبتدأ غير معطوف على ما قبله، إذ لو كان معطوفا على ما قبله لزم ألا يوجد ؛ لأن «لو لا» تقتضي انتفاء الجزاء لحصول الشرط (٨).

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٤٥.

(٢) ذكره الرازي في تفسيره (٢٩ / ٢٤٥) ، عن ابن عباس.

(٣) ينظر : القرطبي ١٨ / ٥.

(٤) ينظر : النكت والعيون ٥ / ٥٠١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٤٣.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٤٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٩٣.

(٦) السابق.

(٧) ينظر : القرطبي ١٨ / ٦.

(٨) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٤٦.

٥٦٨

قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ).

أي : عادوه وخالفوا أمره (١).

(وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ).

قرأ طلحة (٢) بن مصرف ، ومحمد بن السميفع : بالفك ، كالمتفق عليه في الأفعال ، وأدغم الباقون.

والمقصود من الآية الزّجر.

قوله تعالى : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥) وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)(٧)

قوله : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ).

«ما» شرطية في موضع نصب ب «قطعتم» ، و «من لينة» بيان له ، و «فبإذن الله» جزاء الشرط ، فلا بد من حذف ، أي : فقطعها بإذن الله ، فيكون «بإذن الله» الخبر لذلك المبتدأ (٣).

واللّينة : فيها خلاف كبير (٤).

قيل : هي النّخلة مطلقا.

وأنشد الشاعر في ذلك : [الطويل]

٤٧٣٧ ـ كأنّ قتودي فوقها عشّ طائر

على لينة سوقاء تهفو جنوبها (٥)

وقال ذو الرمة : [الطويل]

٤٧٣٨ ـ طراق الخوافي واقع فوق لينة

ندى ليله في ريشه يترقرق (٦)

وقيل : هي النّخلة ما لم تكن عجوة. قاله الزهري ، ومالك ، وسعيد بن جبير وعكرمة ، والخليل.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٨ / ٦.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٤٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٩٣ ، والقرطبي ١٨ / ٦.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٣.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ٨.

(٥) قائله ذو الرّمة ، ينظر ديوانه (٨٥) ، والكشاف ٤ / ٨١ ، والسراج المنير ٤ / ٢٤١ ، والدر المصون ٦ / ٢٩٣.

(٦) تقدم.

٥٦٩

وقيل : ما لم تكن عجوة ولا برنيّة ، وهو قول أبي عبيدة.

قال جعفر بن محمد : هي العجوة خاصة ، وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح في السفينة والعتيق : الفحل ، وكانت العجوة أصل الإناث كلها ، فلذلك شقّ على اليهود قطعها حكاه الماوردي (١).

وقيل : هي النّخلة الكريمة ، أي : القريبة من الأرض.

وأنشد الأخفش رحمة الله عليه : [الخفيف]

٤٧٣٩ ـ قد شجاني الحمام حين تغنّى

بفراق الأحباب من فوق لينه (٢)

وقال سفيان بن عيينة : هي ضرب من النخل ، يقال لثمره : اللّون. تمره أجود التّمر ، وهو شديد الصّفرة يرى نواه من خارجه ، ويغيب فيه الضّرس ، النخلة منها أحب إليهم من وصيف.

وقيل : هي الفسيلة ؛ لأنها ألين من النخلة.

وأنشد : [الخفيف]

٤٧٤٠ ـ غرسوا لينة بمجرى معين

ثمّ حفّوا النّخيل بالآجام (٣)

وقيل : اللينة هي الأشجار كلها للينها بالحياة ، وأنشد بيت ذي الرمة المتقدم.

وقال الأصمعي : إنها الدّقل. قال : وأهل «المدينة» يقولون : لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان يعنون الدّقل.

قال ابن العربي (٤) : «والصّحيح ما قاله الزهري ومالك».

وفي عين «لينة» قولان (٥) :

أحدهما : أنها «واو» ؛ لأنها من اللون ، وإنما قلبت ياء لسكونها ، وانكسار ما قبلها ك «ديمة» و «قيمة».

الثاني : أنها «ياء» ؛ لأنها من اللين.

وجمع اللينة «لين» ؛ لأنه من باب اسم الجنس ك «تمرة ، وتمر».

وقد كسر على «ليان» وهو شاذّ ؛ لأن تكسير ما يفرق بتاء التأنيث شاذ ك «رطبة ورطب وأرطاب».

وأنشد : [المتقارب]

__________________

(١) ينظر : النكت والعيون ٥ / ٥٠٢.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ٨.

(٣) ينظر : القرطبي ١٧ / ٨ ، والبحر ٨ / ٢٤٣ ، والدر المصون ٦ / ٣٩٤.

(٤) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٧٦٩.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٤.

٥٧٠

٤٧٤١ ـ وسالفة كسحوق اللّيا

ن أضرم فيها الغويّ الشّعر (١)

والضمير في قوله «تركتموها» عائد على معنى «ما» (٢).

قوله : «قائمة».

قرأ عبد الله والأعمش وزيد (٣) بن علي : «قوّما» على وزن «ضرّبا» جمع «قائم» مراعاة لمعنى «ما» فإنه جمع.

وقرأ (٤) عبد الله : «ما قطعتم من لينة ولا تركتموها على أصولها» أي : لم تقطعوها.

وقرىء (٥) : «قائما» مفردا مذكرا.

وقوله : (أُصُولِها).

قرىء : «أصلها» (٦) بغير «واو» ، وفيه وجهان :

أحدهما : أنه جمع «أصل» نحو : «رهن ورهن».

والثاني : أن يكون حذف الواو استثقالا لها ، واكتفى بالضمة عن «الواو».

فصل في نزول الآية

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما نزل بنو النضير ، وتحصنوا بحصونهم أمر بقطع نخيلهم وإحراقها فجزع أعداء الله عند ذلك ، وقالوا : يا محمد زعمت أنك تريد الصّلاح ، أفمن الصلاح قطع الشجر وعقر النخل؟ وهل وجدت فيما زعمت أنه أنزل عليك الفساد في الأرض؟ فوجد المسلمون في أنفسهم وخشوا أن ذلك فسادا ، واختلفوا في ذلك.

فقال بعضهم : لا تقطعوا فإنها مما أفاء الله علينا.

وقال بعضهم : بل نغيظهم بقطعها ، وأنزل الله هذه الآية بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطعه من الإثم (٧).

وروي عن عمر ـ رضي الله عنه ـ قال : حرّق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نخل بني النضير وقطع

__________________

(١) قائله هو امرؤ القيس ، ويروى «السمر» مكان «السعر».

ينظر ديوانه ص ١٦٥ ، وإعراب القرآن للنحاس ٤ / ٣٩١ ، واللسان (سحق) ، ومجمع البيان ٩ / ٣٨٥ ، والقرطبي ١٨ / ٨ ، والمعاني الكبير ص ١٧.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٤.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٨٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٤٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٩٤ ، والقرطبي ١٨ / ٨.

(٤) ينظر : القرطبي ١٨ / ٨.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٥٠١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٤٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٩٤.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٤٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٩٤.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٣) ، من طريق ابن إسحاق عن يزيد بن رومان وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٣١٥).

٥٧١

وهي «البويرة» ، فنزل : (ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ)(١) أخبر في هذه الآية أن ما قطعوه وما تركوه (فَبِإِذْنِ اللهِ) أي : بأمره (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ).

و «اللام» في «ليخزي» متعلقة بمحذوف أي : أذن في قطعها ليسرّ المؤمنين ويعزهم ويخزي الفاسقين (٢).

فصل في هدم حصون الكفار

احتجّوا بهذه الآية على أنّ حصون الكفرة وديارهم يجوز هدمها وتحريقها وتغريقها وأن ترمى بالمجانيق وكذلك أشجارهم (٣).

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أنهم قطعوا منها ما كان موضعا للقتال (٤).

وروي أن رجلين كانا يقطعان أحدهما العجوة والآخر اللون ، فسألهما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال هذا : تركتها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقال الآخر : قطعتها غيظا على الكفّار (٥).

واستدلوا به على جواز الاجتهاد بحضرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

قال الماوردي رحمه‌الله (٦) : في هذه الآية دليل على أن كل مجتهد مصيب.

وقال إلكيا الطبري : وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرهم ، ولا شكّ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى ذلك وسكت ، فتلقوا الحكم من تقريره فقط.

قال ابن العربي (٧) : وهذا باطل لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان معهم ، ولا اجتهاد مع حضور النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما يدل على اجتهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما لم ينزل عليه أخذا بعموم الأذية للكفار ، ودخولا في الإذن للكل فيما يقضي عليهم بالبوار ، وذلك قوله ـ عزوجل ـ : (وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ).

قوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) الآية.

قال المبرد (٨) : «يقال : أفاء يفيء ، إذا رجع ، وأفاء الله ، إذا رده».

وقال الأزهري (٩) : «الفيء : ما رده الله على أهل دينه من أموال بلا قتال إما بأن

__________________

(١) أخرجه البخاري (٨ / ٤٩٧) ، كتاب التفسير ، باب : «ما قطعتم من لينة» حديث (٤٨٨٤) ، من طريق نافع عن ابن عمر.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٤.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٤٧.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٩ / ٢٤٧) ، عن ابن مسعود.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ينظر : النكت والعيون ٥ / ٥٠٢ ، والقرطبي ١٨ / ٧.

(٧) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٧٦٩.

(٨) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٤٧.

(٩) ينظر : تهذيب اللغة ٥ / ٧٨.

٥٧٢

يجلوا عن أوطانهم ويخلوها للمسلمين ، أو يصالحون على جزية يؤدّونها عن رءوسهم ، أو مال غير الجزية يفتدون به من سفك دمائهم ، كما فعله بنو النضير حين صالحوا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لكل ثلاثة منهم حمل بعير مما شاءوا سوى السلاح ، ويتركوا الباقي ، فهذا المال هو الفيء ، وهو ما أفاء الله على المسلمين ، أي : رده من الكفار على المسلمين».

وقوله : «منهم» أي : من يهود بني النضير.

قوله : (فَما أَوْجَفْتُمْ).

الفاء جواب الشرط ، أو زائدة ، على أنها موصولة متضمنة معنى الشّرط ، و «ما» نافية(١).

والإيجاف : حمل البعير على السّير السريع ، يقال : وجف البعير والفرس إذا أسرع ، يجف وجفا ووجيفا ووجفانا ، وأوجفته أنا إيجافا ، أي : أتعبته وحركته.

قال العجاج : [الرجز]

٤٧٤٢ ـ ناج طواه الأين ممّا وجفا (٢)

وقال نصيب : [الطويل]

٤٧٤٣ ـ ألا ربّ ركب قد قطعت وجيفهم

إليك ولو لا أنت لم يوجف الرّكب (٣)

قوله تعالى : (مِنْ خَيْلٍ).

«من» زائدة ، أي : خيلا ، والرّكاب : الإبل ، واحدها : راحلة ، ولا واحد لها من لفظها.

قال ابن الخطيب (٤) : والعرب لا يطلقون لفظ الرّاكب إلّا على راكب البعير ، ويسمون راكب الفرس فارسا.

والمعنى : لم تقطعوا إليها شقّة ، ولا لقيتم بها حربا ولا مشقة ، وإنما كانت من «المدينة» على ميلين قاله الفراء. فمشوا إليها مشيا ولم يركبوا خيلا ، ولا إبلا إلا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقيل : إنه ركب جملا.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٣٩٤.

(٢) وبعده :

طيّ اللّيالي زلفا فزلفا

سماوة الهلال حتى احقوقفا

ينظر : ديوانه ٢ / ٢٣٢ ، والكتاب ١ / ٣٥٣ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٣١٩ ، وجمهرة اللغة ص ٥٥٣ ، واللسان (حقف) ، و (زلف) ، و (وجف) ، و (سما). والبحر المحيط ٨ / ٢٤٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٩٤.

(٣) ينظر البحر ٨ / ٢٤٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٦٤.

(٤) ينظر «التفسير الكبير» (٢٩ / ٢٤٧).

٥٧٣

وقيل : حمارا مخطوما بليف ، فافتتحها صلحا.

قال ابن الخطيب (١) : إن الصحابة طلبوا من الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يقسم الفيء بينهم كما يقسم الغنيمة بينهم ، فذكر الله ـ تعالى ـ الفرق بين الأمرين ، وأن الغنيمة هي التي أتعبتم أنفسكم في تحصيلها ، وأما الفيء فلم يوجف عليه بخيل ولا ركاب ، فكان الأمر فيه مفوضا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يضعه حيث يشاء.

وها هنا سؤال ، وهو أن أموال بني النّضير أخذت بعد القتال ؛ لأنهم حوصروا أياما ، وقاتلوا وقتلوا ، ثم صالحوا على الجلاء ، فوجب أن تكون تلك الأموال من جملة الغنائم لا من جملة الفيء؟ فلهذا السؤال ذكر المفسرون ها هنا وجهين :

الأول : أن هذه الآية ما نزلت في قرى بني النضير ؛ لأنهم أوجفوا عليه بالخيل والرّكاب ، وحاصرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمسلمون ، بل هي فيء «فدك» ؛ لأن أهله انجلوا عنه ، فصارت تلك القرى والأموال التي في يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من غير حرب ، فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأخذ من غلّة «فدك» نفقته ونفقة من يعوله ، ويجعل الباقي للسّلاح والكراع ، فلما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ادعت فاطمة ـ رضي الله عنها ـ أنه كان نحلها «فدكا» ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : أنت أعز الناس علي فقرا ، وأحبهم إلى غنى ، لكني لا أعرف صحة قولك ، ولا يجوز لي أن أحكم بذلك ، فشهدت لها أم أيمن ومولى للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فطلب منها أبو بكر الشّاهد الذي يجوز شهادته في الشرع فلم يكن فأجرى أبو بكر ذلك على ما كان يجريه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينفق منه على من كان ينفق عليه الرسول ، ويجعل ما يبقى في السلاح والكراع.

وكذلك عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ جعله في يد علي ـ رضي الله عنه ـ يجريه على هذا المجرى ، ورد هذا في آخر عهد عمر ـ رضي الله عنه ـ وقال : إن بنا غنى وبالمسلمين إليه حاجة.

وكان عثمان ـ رضي الله عنه ـ يجريه كذلك ، ثم عاد إلى علي ـ رضي الله عنه ـ فكان يجريه هذا المجرى ، والأئمة الأربعة ـ رضي الله عنهم ـ اتّفقوا على ذلك.

والقول الثاني (٢) : أن هذه الآية نزلت في بني النضير وقراهم ، وليس للمسلمين يومئذ كثير خيل ولا ركاب ، ولم يقطعوا إليها مسافة كبيرة ، وإنما كانوا على ميلين من «المدينة» ، فمشوا إليها مشاة ، ولم يركب إلا رسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلما كانت المقاتلة قليلة ، والخيل والركاب غير حاصل أجراه الله ـ تعالى ـ مجراه ما لم يحصل فيه المقاتلة أصلا ، فخص رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بتلك الأموال فروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قسمها بين المهاجرين ، ولم يعط الأنصار شيئا

__________________

(١) ينظر المصدر السابق.

(٢) ينظر : الفخر الرازي (٢٩ / ٢٤٨).

٥٧٤

منها إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة : أبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، والحرث بن الصمة.

قال بعض العلماء : لما ترك بنو النضير ديارهم وأموالهم طلب المسلمون أن يكون لهم منها حظ كالغنائم ، فبين الله ـ تعالى ـ أنها فيء ، وكان قد جرى بعض القتال ؛ لأنهم حوصروا أياما ، وقاتلوا وقتلوا ، ثم صالحوا على الجلاء ، ولم يكن قتال على التحقيق ، بل جرى مبادىء القتال ، وجرى الحصار ، فخص الله ـ تعالى ـ تلك الأموال برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال مجاهد رضي الله عنه : علمهم الله ـ تعالى ـ وذكرهم أنه إنما نصر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونصرهم بغير كراع ولا عدة (١).

(وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) من عباده» من أعدائه.

وفي هذا بيان أن تلك الأموال كانت خاصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ.

قوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ).

قال الزمخشري (٢) : «لم يدخل العاطف على هذه الجملة ؛ لأنها بيان للأولى ، فهي منها غير أجنبية عنها».

قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي «قريظة» و «النضير» ، وهما ب «المدينة» و «فدك» وهي على ثلاثة أميال من «المدينة» و «خيبر» ، وقرى «عرينة» و «ينبع» جعلها الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين أن في ذلك المال الذي خصه الله ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سهمانا لغير الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم تطييبا منه لعباده (٣).

فصل في المراد بذي القربى

قال ابن الخطيب (٤) : أجمعوا على أن المراد بذي القربى بنو هاشم ، وبنو المطلب.

وقال القرطبي (٥) : وقد تكلم العلماء في هذه الآية والتي قبلها على معناهما هل معناهما واحد أو مختلف ، والآية التي في الأنفال؟.

فقال بعضهم : إن قوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) منسوخ بآية «الأنفال» من كون الخمس لمن سمي له ، والأخماس الأربعة لمن قاتل ، وكان في أول الإسلام تقسم الغنيمة على هذه الأصناف ، ولا يكون لمن قاتل عليها شيء ، وهذا قول

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٨٤) ، عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٢) الكشاف ٤ / ٥٠٢.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٥) ، عن ابن عباس بمعناه وذكره القرطبي في «تفسيره» (١٨ / ١٠).

(٤) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٤٨.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١٠ ، ١١.

٥٧٥

يزيد بن رومان ، وقتادة وغيرهما ، ونحوه عن مالك رضي الله عنه.

وقال بعضهم : ما غنمتم بصلح من غير إيجاف خيل ، ولا ركاب ، فيكون لمن سمى الله تعالى فيه فيئا ، الأول للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم خاصة إذا أخذ منه حاجته كان الباقي في مصالح المسلمين.

وقال معمر رضي الله عنه : الأولى : للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والثانية : هي الجزية والخراج للأصناف المذكورة فيه. والثالثة : الغنيمة في سورة «الأنفال» للغانمين.

وقال الشافعي رضي الله عنه وبعض العلماء : إنّ معنى الآيتين واحد ، أي : ما حصل من أموال الكفار بغير قتال قسم على خمسة أسهم ، أربعة منها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويقسم الخمس الباقي على خمسة أسهم ؛ سهم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أيضا ، وسهم لذوي القربى ، وهم بنو هاشم ، وبنو المطلب ؛ لأنّهم منعوا الصدقة ، فجعل لهم حق في الفيء. وسهم لليتامى ، وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل.

وأما بعد وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فالذي كان من الفيء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصرف عند الشافعي ـ رضي الله عنه ـ في قول إلى المجاهدين المترصّدين للقتال في الثّغور ؛ لأنهم القائمون مقام الرسولصلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وفي قول آخر : يصرف إلى مصالح المسلمين من سد الثّغور ، وحفر الأنهار ، وبناء القناطر ، يقدم الأهم فالأهم ، وهذا في أربعة أخماس الفيء.

فأما السهم الذي كان له من خمس الفيء والغنيمة فهي لمصالح المسلمين بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وسلم بلا خوف ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ليس لي من غنائمكم إلّا الخمس ، والخمس مردود فيكم».

وكذلك ما خلفه من المال غير موروث ، بل هو صدقة عنه يصرف في مصالح المسلمين ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنّا لا نورث ما تركناه صدقة».

وقيل : كان مال الفيء لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لقوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) فأضافه إليه ، غير أنه كان لا يتأثّل مالا ، إنما كان يأخذ بقدر حاجة عياله ، ويصرف الباقي في مصالح المسلمين.

قال ابن العربي رحمه‌الله (١) : لا إشكال أنها ثلاثة معان في ثلاث آيات :

فالآية الأولى وهي قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ) ، ثم قال تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ) يعني : من أهل الكتاب معطوفا عليهم (فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ) يريد ـ كما بينا ـ فلا حق لكم فيه ، ولذلك قال

__________________

(١) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٧٧٢.

٥٧٦

عمر : كانت خالصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعني بني النضير ، وما كان مثلها فهذه آية واحدة ، ومعنى متحد.

الآية الثانية : قوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) ، وهذا كلام مبتدأ غير الأول لمستحق غير الأول وسمى الآية الثانية آية الغنيمة ، ولا شك في أنه معنى آخر باستحقاق آخر لمستحق آخر ، بيد أن الآية الأولى والثانية مشتركتان في أن كل واحدة منهما تضمنت شيئا أفاء الله على رسوله ، واقتضت الآية الأولى أنه حاصل بغير قتال ، واقتضت آية «الأنفال» أنه حاصل بقتال ، وعريت الآية الثالثة وهي قوله تعالى : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) ، عن ذكر حصوله بقتال ، أو بغير قتال ، فمن ها هنا نشأ الخلاف.

فقالت طائفة : هي ملحقة بالأولى ، وهو مال الصّلح كله ونحوه.

وقالت طائفة : هي ملحقة بآية «الأنفال» ، واختلفوا هل هي منسوخة كما تقدم أو محكمة؟.

قال القرطبي (١) : «وإلحاقها بالتي قبلها ؛ لأن فيه تجديد فائدة ومعنى».

وقد قيل : إن سورة «الحشر» نزلت بعد «الأنفال» ، ومن المحال أن ينسخ المتقدم المتأخر.

فصل في أموال الأئمة والولاة

الأموال التي للأئمة والولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب :

الأول : ما أخذ من المسلمين على طريق التّطهير لهم كالصّدقات والزكوات.

والثاني : الغنائم ، وهو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكفار بالحرب والقهر والغلبة.

والثالث : الفيء ، وهو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال ، ولا إيجاف كالصلح والجزية والخراج والعشور والمأخوذ من تجار الكفار.

ومثله أن يهرب المشركون ، ويتركون أموالهم ، أو يموت منهم أحد في دار الإسلام ولا وارث له.

فأما الصدقة فمصرفها الفقراء والمساكين والعاملون عليها حسب ما ذكره تعالى في سورة التوبة (٢).

وأما الغنائم فكانت في صدر الإسلام للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يصنع فيها ما شاء كما قال في «الأنفال»: (قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) ثم نسخ بقوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ)

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١١.

(٢) آية ٦٠.

٥٧٧

الآية وقد مضى وأما الفيء وقسمته وقسمة الخمس سواء.

قال القرطبي (١) : «والأمر فيهما عند مالك إلى الإمام ، فإن رأى حبسهما لنوازل تنزل بالمسلمين فعل ، وإن رأى قسمتهما ، أو قسمة أحدهما ، قسمها كلها ، أو قسم أحدهما بين الناس ، ويستوي فيه غريبهم ومولاهم ، ويبدأ بالفقراء من رجال ونساء حتى يغنوا ، ويعطي ذوي القربى من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الفيء سهمهم على ما يراه الإمام ، وليس لهم حد معلوم».

وهل يعطي الغني منهم؟.

فأكثر الناس على إعطائه ؛ لأنه حق لهم.

وقال مالك رضي الله عنه : لا يعطي منهم غير فقرائهم ؛ لأنه جعل لهم عوضا من الصدقة.

وقال الشافعي رضي الله عنه : إن ما حصل من أموال الكفار بغير قتال كان يقسم في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على خمسة وعشرين سهما للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عشرون سهما يفعل فيها ما يشاء ، والخمس يقسم على ما يقسم عليه خمس الغنيمة.

قال أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي : وهذا القول ما سبقه به أحد علمناه ، بل كان ذلك خالصا له كما ثبت في الصحيح عن عمر مبينا للآية ، ولو كان هذا لكان قوله : (خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ٣٢] يجوز أن يشركهم فيها غيرهم.

فصل في تقسيم هذه الأموال (٢)

وتقسم هذه الأموال المتقدم ذكرها في البلد الذي جبي فيه ، ولا ينقل عن ذلك البلد الذي جبي فيه حتى يغنوا ، ثم ينقل إلى الأقرب من غيرهم ، إلّا أن ينزل بغير البلد الذي جبي فيه فاقة شديدة ، فينتقل إلى أهل الفاقة حيث كانوا كما فعل عمر ـ رضي الله عنه ـ في أعوام «الرّمادة» وكانت خمسة أعوام أو ستة.

وقيل : عامين.

وقيل : عام اشتدّ فيه الطّاعون مع الجوع ، وإن لم يكن ما وصفنا. ورأى الإمام إيقاف الفيء أوقفه لنوائب المسلمين ، ويبدأ بمن أبوه فقير ، والفيء حلال للأغنياء ، ويساوي فيه بين الناس ، إلا أنه يؤثر أهل الحاجة والفاقة ، والتفضيل فيه إنما يكون فيه على قدر الحاجة ، ويعطي منه الغرماء ما يؤدون به ديونهم ، ويعطي منه الجائزة والصّلة إن كان ذلك أهلا ، ويرزق القضاة والحكام ، ومن فيه مصلحة للمسلمين ، وأولاهم بتوفير الحظ منهم أعظمهم للمسلمين نفعا ، ومن أخذ من الفيء شيئا في الديوان كان عليه أن يغزو إذا وقع الغزو.

__________________

(١) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٨ / ١١.

(٢) السابق ١٨ / ١٢

٥٧٨

قوله تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً).

قرأ هشام (١) : «تكون» بالتاء والياء ، «دولة» بالرفع فقط ، والباقون : بالياء ـ من تحت ـ ونصب «دولة» فأما الرفع فعلى أن «كان» تامّة ، وأما التذكير والتأنيث فواضحتان ؛ لأنه تأنيث مجازي.

وأما النصب فعلى أنها الناقصة ، واسمها ضمير عائد على الفيء ، والتذكير واجب لتذكير المرفوع ، و «دولة» خبرها (٢). وقيل «دولة» عائد على «ما» اعتبارا بلفظها.

وقرأ العامة : «دولة» بضم الدال.

وعلي بن أبي طالب (٣) ـ رضي الله عنه ـ والسلمي : بفتحها.

فقيل : هما بمعنى ، وهو قول عيسى بن عمر ، ويونس ، والأصمعي ، وهو ما يدول للإنسان ، أي : ما يدور من الجد والغنى والغلبة.

وقال الحذّاق من البصريين والكسائي : «الدّولة» ـ بالفتح ـ من الملك ـ بضم الميم ـ ، وبالضم من «الملك» ـ بكسرها ـ أو بالضم في المال ، وبالفتح في النّصرة.

وهذا يرده القراءة المروية عن علي والسلمي ، فإن النصرة غير مرادة قطعا ، و «كي لا» علة لقوله تعالى : (فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) أي : استقراره لكذا لهذه العلة (٤).

قال المبرد (٥) : الدولة اسم للشّيء الذي يتداوله القوم بينهم.

والدولة ـ بالفتح ـ انتقال حال سارة من قوم إلى قوم ، فالدّولة ـ بالضم ـ اسم لما يتداول ، وبالفتح مصدر من هذا ، ويستعمل في الحالة السارّة التي تحدث للإنسان ، فيقال : هذه دولة فلان ، أي قد أقبل ، والمعنى : كي لا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون بها واقعا في يد الأغنياء ودولة لهم.

والمعنى (٦) : فعلنا ذلك في هذا الفيء ، كي لا يقسمه الرؤساء والأغنياء والأقوياء بينهم دون الفقراء والضعفاء منها أيضا بعد المرباع ما شاء.

__________________

(١) ينظر : إعراب القراءات ٢ / ٣٥٧ ، والعنوان ١٨٨ ، وشرح الطيبة ٦ / ٤٧ ، وشرح شعلة ٦٠٠ ، وإتحاف ٢ / ٥٣٠ ، وهي قراءة أبي حيوة كما في القرطبي ١٨ / ١٢ ، وقراءة ابن مسعود كما في المحرر الوجيز ٥ / ٢٨٦.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٤.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٨٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٤٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٩٤ ، وزاد القرطبي ١٨ / ١٢ : أبا حيوة.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٩٥.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٤٨.

(٦) القرطبي ١٨ / ١٣.

٥٧٩

وفيها يقول شاعرهم : [الوافر]

٤٧٤٤ ـ لك المرباع منها والصّفايا

 .......... (١)

يقول : لئلا يعمل فيه كما كان يعمل في الجاهلية.

قال الكلبي : إنها نزلت في رؤساء المسلمين ، قالوا فيما ظهر عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أموال المشركين : يا رسول الله ، خذ صفيّك والربح ، ودعنا والباقي ، فهكذا كنا نفعل في الجاهلية (٢) ؛ وأنشد : [الوافر]

٤٧٤٥ ـ لك المرباع منها والصّفايا

وحكمك والنّشيطة والفضول (٣)

فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآية.

قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ) [من الأخذ والغلول «فانتهوا»](٤).

قاله الحسن وغيره (٥).

وقال السدي : ما أعطاكم من مال الفيء فاقبلوه ، وما منعكم عنه فلا تطلبوه ، قال ابن جريج : ما آتاكم من طاعتي فافعلوه ، وما نهاكم عنه من معصيتي فاجتنبوه (٦).

فصل في أن أوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أوامر الله تعالى (٧)

هذه الآية تدل على أن كل ما أمر به النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمر من الله ـ تعالى ـ لأن الآية وإن كانت في الغنائم ، فجميع أوامره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ونواهيه داخل فيها.

قال عبد الرحمن بن زيد : لقي ابن مسعود رجلا محرما وعليه ثيابه ، فقال : انزع عنك هذا.

فقال الرجل : اتقرأ عليّ بهذه آية من كتاب الله تعالى؟ قال نعم : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا).

__________________

(١) صدر بيت لعبد الله بن عنمة الضبي قاله عندما قتل بسطام بن قيس ، ينظر سمط اللآلىء ١ / ٣٨٩ ، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي ١ / ٤٠٢١ ، والمعاني الكبير ص ٩٤٨ ، واللسان (ربع) ، و (فضل) ، و (نشط) ، والقرطبي ١٨ / ١٣.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٥٠٤) ، والقرطبي (١٨ / ١٤).

(٣) ينظر تخريج البيت السابق.

(٤) سقط من : أ.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٣٨) ، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٨٧) ، وعزاه إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٦) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٥٠٤) ، والقرطبي (١٨ / ١٣).

(٧) ينظر : القرطبي (١٨ / ١٣).

٥٨٠