اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

(إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) قوي في أخذه عزيز أي : منيع غالب.

وقيل : بالغيب أي : بالإخلاص.

فصل في الرد على من قال بحدوث علم الله (١)

احتج من قال بحدوث علم الله بقوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ).

وأجيب : بأنه ـ تعالى ـ أراد بالعلم المعلوم ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : ولتقع نصرة الرسول ممن ينصره.

فصل في الرد على الجبرية (٢)

قال الجبائي : قوله : (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) يدل على أنه ـ تعالى ـ أنزل الميزان والحديد ، ومراده من العباد أن يقوموا بالقسط ، وأن ينصروا رسله ، وإذا أراد هذا من الكل بطل قول المجبرة أنه أراد من بعضهم خلاف ذلك.

وأجيب : بأنه كيف يمكن أن يريد من الكلّ ذلك مع علمه بأن ضدّه موجود ، والجمع بين الضّدين محال ، والمحال غير المراد.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) الآية.

لما أجمل الرسل في قوله : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا) فصل ها هنا ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب ، وأخبر أنه أرسل نوحا وإبراهيم ، وجعل النبوة في نسلهما (٣) ، لقوله : (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) ، أي : جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء ، وبعضهم أمما يتلون الكتب (٤) المنزلة من السماء كالتوراة والإنجيل والزّبور والفرقان.

وقال ابن عبّاس : الخطّ (٥) بالقلم.

قوله : (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ).

والضمير يجوز عوده على الذّرّية ، وهو أولى لتقدم ذكره لفظا.

وقيل : يعود على المرسل إليهم لدلالة رسلنا والمرسلين إليهم.

والمعنى : منهم مهتد ومنهم فاسق ، والمراد بالفاسق ها هنا ، قيل (٦) : الذي ارتكب الكبيرة سواء كان كافرا أو لم يكن لإطلاق هذا الاسم ، وهو يشمل الكافر وغيره.

وقيل : المراد بالفاسق ها هنا الكافر ؛ لأنه جعل الفسّاق ضد المهتدين.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢١٢.

(٢) السابق.

(٣) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٦٩.

(٤) في أ : التكاليف.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٦٩).

(٦) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢١٣.

٥٠١

قوله تعالى : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢٩)

قوله : (ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ) ، أي : أتبعنا على آثارهم ، أي : على آثار الذّرية (١).

وقيل : على آثار نوح وإبراهيم برسلنا موسى وإلياس وداود ويونس ، وغيرهم ، (وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) ، فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمّه.

(وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ) : وهو الكتاب المنزل عليه وقد تقدم اشتقاقه في أول آل عمران.

وقراءة الحسن (٢) : بفتح الهمزة.

قال الزمخشري (٣) : أمره أهون من أمر البرطيل والسّكينة فيمن رواها بفتح «الفاء» ؛ لأن الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب.

وقال ابن جنّي (٤) : قراءة الحسن ـ بفتح الهمزة ـ مثال مبالغة ، لا نظير له ؛ لأنه «أفعيل» وهو عندهم من نجلت الشيء إذا استخرجته لأنه يستخرج به الأحكام.

وقال ابن الخطيب : وغالب الظن أنه ما قرأه إلا عن سماع ؛ وله وجهان :

أحدهما : أنه شاذ ، كما حكي عن بعضهم في البرطيل.

والثاني : أنه ظن الإنجيل أعجميّا ، فحرف مثاله ؛ تنبيها على كونه أعجميا.

قوله : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) على دينه يعني : الحواريين وأتباعهم (٥)(رَأْفَةً وَرَحْمَةً).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٧٠.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٨١ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٧٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٨١.

(٣) الكشاف ٤ / ٤٨١.

(٤) ينظر : المحتسب ٢ / ٣١٣ ، والفخر الرازي ٢٩ / ٢١٣.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٧٠.

٥٠٢

قرأ الحسن (١) : «رآفة» بزنة «فعالة».

قال مقاتل : المراد من الرّأفة والرحمة : المودّة فكان يوادّ بعضهم بعضا كما وصف الله ـ تعالى ـ أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (رُحَماءُ بَيْنَهُمْ)(٢) [الفتح : ٢٩].

وقيل : هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصّفح ، وترك إيذاء الناس وألان الله قلوبهم لذلك ، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم ، وحرّفوا الكلم عن مواضعه.

والرّأفة : [اللّين.

والرحمة :](٣) الشّفقة.

وقيل : الرأفة تخفيف الكل ، والرحمة تحمل الثقل.

وقيل : الرّأفة : أشد من الرحمة وتم الكلام.

فصل في أن أفعال العبد خلق لله تعالى (٤)

دلت هذه الآية على أن فعل العبد خلق الله تعالى ؛ لأنه حكم بأن هذه مجعولة ، وحكم بأنهم ابتدعوا تلك الرهبانية.

قال القاضي (٥) : المراد بذلك أنه ـ تعالى ـ لطف بهم حتى قويت دواعيهم في الرّهبانية التي هي تحمّل الكلفة الزائدة على ما يجب.

والجواب : أن هذا ترك للظاهر من غير دليل ، وإن سلمنا ذلك فهو يحصل مقصودنا ؛ لأن الحال الاستواء بمنع حصول الرّجحان ؛ لأنّ حصول الرجحان عند الاستواء ممتنع ، فعند المرجوحية أولى بأن يصير ممتنعا ، وإذا امتنع المرجوح وجب الراجح ضرورة أنه لا خروج عن طرفي النقيض.

قوله : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها). في انتصابها وجهان (٦) :

أحدهما : أنها معطوفة على (رَأْفَةً وَرَحْمَةً).

و «جعل» إما بمعنى «خلق» ، وإما بمعنى «صيّر» ، و «ابتدعوها» على هذا صفة ل «رهبانية» ، وإنما خصّت بذكر الابتداع ؛ لأن الرّأفة والرحمة في القلب أمر غريزة لا تكسّب للإنسان فيها ، بخلاف الرهبانية ، فإنها أفعال البدن ، وللإنسان فيها تكسّب ، إلا أن أبا البقاء منع هذا الوجه ، بأن ما جعله الله لا يبتدعونه (٧).

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٢٦ ، والرازي ٢٩ / ٢١٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٨١.

(٢) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٩ / ٢١٣)

(٣) سقط من أ.

(٤) ينظر : الرازي ٢٩ / ٢١٣.

(٥) ينظر : الرازي (٢٩ / ٢١٣).

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨١.

(٧) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢١١.

٥٠٣

وجوابه : ما تقدم من أنه لما كانت مكتسبة صح ذلك منها.

وقال أيضا : وقيل : هو معطوف عليها ، و «ابتدعوها» نعت له ، والمعنى : فرض عليهم لزوم رهبانية ابتدعوها ، ولهذا قال : (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ).

والوجه الثاني : أنها منصوبة بفعل مقدر يفسره الظّاهر.

وقال أبو علي (١) : «ابتدعوها رهبانية» ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، وإليه نحا الفارسي والزمخشري (٢) ، وأبو البقاء (٣) وجماعة.

إلّا أن هذا يقال : إنه إعراب المعتزلة (٤) ، وذلك أنهم يقولون : ما كان من فعل الإنسان فهو مخلوق له ، فالرأفة والرحمة لما كانت من فعل الله نسب خلقهما إليه ، والرهبانية لمّا لم تكن من فعل الله ـ تعالى ـ بل من فعل العبد يستقلّ بفعلها نسب ابتداعها إليه.

ورد عليهم أبو حيّان (٥) هذا الإعراب من حيث الصناعة ، وذلك أن من حق الاسم المشتغل عنه ألّا يصلح للرفع بالابتداء. و «رهبانية» نكرة لا مسوغ للابتداء بها ، فلا يصلح نصبها على الاشتغال.

قال شهاب الدين (٦) : وفيه نظر لأنا لا نسلم أولا اشتراط ذلك ، ويدل عليه قراءة من قرأ : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النور : ١] بالنصب على الاشتغال ، كما تقدم تحقيقه ، ولئن سلمنا ذلك فثمّ مسوغ وهو العطف ، ومن ذلك قول الشّاعر : [البسيط]

٤٧٢٦ ـ عندي اصطبار وشكوى عند قاتلتي

فهل بأعجب من هذا امرؤ سمعا؟ (٧)

وقول الآخر : [الطويل]

٤٧٢٧ ـ تغشّى ونجم قد أضاء فمذ بدا

محيّاك ، أخفى ضوءه كلّ شارق (٨)

ذكر ذلك ابن مالك.

و «الرّهبانية» : منسوبة إلى «الرّهبان» ، وهو «فعلان» من رهب ، كقولهم : الخشيان من خشي ، وقد تقدم معنى هذه المادة في سورة «المائدة».

وقرىء (٩) بضم الراء.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨١.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٨٢.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢١١.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٧٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٨١.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٢٦.

(٦) الدر المصون ٦ / ٢٨١.

(٧) تقدم.

(٨) تقدم.

(٩) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٨١ ، والفخر الرازي ٢٩ / ٢١٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٨١.

٥٠٤

قال الزمخشري (١) : كأنها نسبة إلى «الرّهبان» ، وهو جمع : راهب ، ك «راكب ، وركبان».

قال أبو حيان (٢) : والأولى أن يكون منسوبا إلى «رهبان» ـ يعني بالفتح ـ وغيّر ؛ لأنّ النّسب باب تغيير ، ولو كان منسوبا ل «رهبان» الجمع لردّ إلى مفرده إلّا إن قد صار كالعلم ، فإنه ينسب إليه ك «الأنصار».

فصل في المراد بالرهبانية (٣)

والمراد من الرهبانية : ترهّبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين متحملين كلفا زائدة على العبادات التي كانت واجبة عليهم من الخلوة ، واللّباس الخشن ، والاعتزال عن النساء ، والتعبّد في الغيران والكهوف.

روى ابن عباس أن في أيام الفترة بين عيسى ومحمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ غيّر الملوك التوراة والإنجيل ، فراح نفر ، وبقي نفر قليل ، فترهبوا وتبتلوا (٤).

قال الضحاك : إن ملوكا بعد عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة ، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم ، فقال قوم بقوا بعدهم : نحن إذا نهيناهم قتلونا ، فليس يسعنا المقام بينهم ، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصّوامع (٥).

وقال قتادة : الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء ، واتخاذ الصّوامع (٦).

وفي خبر مرفوع : هي لحوقهم بالبراري والجبال.

قوله تعالى : (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ).

صفة ل «رهبانية» ، ويجوز أن يكون استئناف إخبار بذلك (٧).

قال ابن زيد : معناه ما فرضناها عليهم ، ولا أمرناهم بها (٨).

__________________

(١) الكشاف ٤ / ٤٨١.

(٢) البحر المحيط ٨ / ٢٢٧.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢١٤.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٩٠) عن ابن عباس بمعناه وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٩) وزاد نسبته إلى النسائي والحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» وابن المنذر وابن مردويه.

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٧٠) عن الضحاك.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٩٠) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٦٠) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٢.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٩٠) عن ابن زيد.

٥٠٥

وقوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ). فيه أوجه (١) :

أحدها : أنه استثناء متصل مما هو مفعول من أجله ، والمعنى : ما كتبناها عليهم لشيء من الأشياء إلا ابتغاء مرضات الله ، فيكون «كتب» بمعنى «قضى» ، فصار المعنى : كتبناها عليهم ابتغاء مرضات الله ، وهذا قول مجاهد.

والثاني : أنه منقطع.

قال الزمخشري (٢) ولم يذكر غيره : «أي : ولكنهم ابتدعوها».

وإلى هذا ذهب قتادة وجماعة ، قالوا : معناه لم يفرضها عليهم ، ولكنهم ابتدعوها.

الثالث : أنه بدل من الضمير المنصوب في «كتبناها» قاله مكي (٣).

وهو مشكل ، كيف يكون بدلا وليس هو الأول لا بعضه ، ولا مشتملا عليه.

وقد يقال : إنه بدل اشتمال ؛ لأن الرهبانية الخالصة المرعية حق الرعاية قد يكون فيها ابتغاء رضوان الله ، ويصير نظير قولك : الجارية ما أحببتها إلا أدبها فأدبها بدل من الضمير في «أحببتها» بدل اشتمال ، وهذا نهاية التمحّل لصحة هذا القول.

والضمير المرفوع في «رعوها» عائد على من تقدم.

والمعنى : أنهم لم يدوموا كلهم على رعايتها ، وإن كان قد وجد هذا في بعضهم.

وقيل : يعود على الملوك الذين حاربوهم.

وقيل على أخلافهم و «حقّ» نصبه على المصدر.

قال القرطبي (٤) فيها : وقيل : (إِلَّا ابْتِغاءَ) استثناء منقطع ، والتقدير : «ما كتبناها عليهم ، ولكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله».

(فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها).

أي : ما قاموا بها حقّ القيام ، بل ضمّوا إليها التثليث والاتحاد (٥) ، وأقام الناس منهم على دين عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ حتى أدركوا نبينا محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ فآمنوا به ، فهو قوله تعالى : (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ).

وقيل (٦) : إنّا ما كتبنا عليهم تلك الرهبانية إلّا ليتوسلوا بها إلى مرضاة الله تعالى ، ثم إنهم أتوا بتلك الأفعال لغير هذا الوجه ، وهو طلب الدنيا والرّياسة والسّمعة.

وقيل : معناه أنا كتبناها عليهم فتركوها ، فيكون ذلك ذمّا لهم لتركهم الواجب.

__________________

(١) السابق.

(٢) الكشاف ٤ / ٤٨٢.

(٣) ينظر : المشكل ٢ / ٧٢٠.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٧٠.

(٥) التفسير الكبير ٢٩ / ٢١٤.

(٦) السابق.

٥٠٦

وقيل : إن الذين لم يرعوها حق رعايتها هم الذين أدركوا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولم يؤمنوا به.

فصل فيمن أحدث بدعة (١)

دلت هذه الآية على أن كل محدثة بدعة ، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه ، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية.

وعن أبي أمامة الباهلي واسمه صديّ بن عجلان أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم ، إنّما كتب عليكم الصّيام ، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ، فإنّ ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا ولم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حقّ رعايتها فعاتبهم الله عليها بتركها ، فقال : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها)(٢) الآية.

فصل (٣)

دلّت الآية على العزلة عن الناس وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان ، وتغير الأحوال والإخوان.

قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ).

أي : آمنوا بموسى وعيسى (اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا) بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) ، أي : مثلين من الأجر على إيمانهم بعيسى وبمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وهذا نظير قوله تعالى : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) [القصص : ٥٤].

و «الكفل» : الحظّ والنصيب (٤).

وقد تقدم ، وهو في الأصل كساء يكتفل به الراكب يحفظه من السقوط. قاله ابن جرير(٥).

وقال الأزهري (٦) : اشتقاقه من الكساء الذي يحويه راكب البعير على سنامه لئلا يسقط ، والمعنى : يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلكة المعاصي كما يحفظ الكفل الراكب.

وقال أبو موسى الأشعري : «كفلين» ضعفين ، بلسان «الحبشة».

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٧١.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٩٢) من حديث أبي أمامة.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٩) وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن مردويه وابن نصر.

(٣) ينظر : تفسير القرطبي (١٧ / ١٧٢).

(٤) ينظر : تفسير القرطبي (١٧ / ١٧٢).

(٥) جامع البيان ١١ / ٦٩٣.

(٦) تهذيب اللغة ١٠ / ٢٥٠ (كفل).

٥٠٧

وقال ابن زيد : «كفلين» أجر الدنيا والآخرة (١).

وقيل : لما نزلت : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) افتخر مؤمنوا أهل الكتاب على أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فنزلت هذه الآية.

فإن قيل : إنه ـ تعالى ـ لما أعطاهم كفلين ، وأعطى المؤمن كفلا واحدا كان حالهم أعظم.

فالجواب (٢) : أنه لا يبعد أن يكون النّصيب الواحد أزيد قدرا من النصيبين.

روى أبو موسى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرّتين : رجل كانت له جارية فأدّبها وأحسن أدبها ، ثمّ أعتقها وتزوّجها ، ورجل من أهل الكتاب آمن بكتابه ، وآمن بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعبد أحسن عبادة الله ونصح سيّده» (٣).

قوله : (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً).

قال مجاهد : أي : بيانا وهدى (٤).

وقال ابن عباس : هو القرآن (٥).

وقيل : ضياء يمشون به في الآخرة على الصراط ، وفي القيامة إلى الجنة ، وهو النور المذكور في قوله تعالى (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ).

وقيل (٦) : تمشون به في الناس تدعونهم إلى الإسلام ، فتكونون رؤساء في دين الإسلام لا تزول عنكم رياسة كنتم فيها ، وذلك أنهم خافوا أن تزول رياستهم لو آمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإنما كان يفوتهم أخذ رشوة يسيرة من الضعفة بتحريف أحكام الله تعالى ، لا الرّياسة الحقيقية في الدين ثم قال : (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم ، أي : ما أسلفتم من المعاصي ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

قوله تعالى : (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٩٤).

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢١٥.

(٣) أخرجه البخاري ١ / ٢٢٩ كتاب العلم ، باب : تعليم الرجل أمته (٩٧) ، وفي ٥ / ٢٠٥ كتاب العتق ، باب : فضل من أدب جاريته وعلمها (٢٥٤٤) ، وفي ٥ / ٢٠٧ باب العبد إذا أحسن عبادة ربه (٢٥٤٧) ، وفي ٥ / ٢١٠ باب كراهية التطاول على الرقيق (٢٥٥١) ، وفي ٦ / ١٦٩ كتاب الجهاد ، باب : فضل من أسلم (٣٠١١) ، وفي ٦ / ٥٥١ كتاب أحاديث الأنبياء ، باب : قول الله تعالى : يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا* (٣٤٤٦) وفي ٩ / ٢٩ كتاب النكاح ، باب : اتخاذ السراري (٥٠٨٣) ، ومسلم ١ / ١٣٤ ـ ١٣٥ كتاب الإيمان ، باب : وجوب الإيمان برسالة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢٤١ / ١٥٤).

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٦٠) وعزاه إلى عبد بن حميد عن مجاهد.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٩٦) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٦٠) وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٦) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٧٣.

٥٠٨

هذه «اللام» متعلقة بمعنى الجملة الطّلبية المتضمنة لمعنى الشرط ، إذ التقدير : إن تتقوا الله ، وتؤمنوا برسوله يؤتكم كذا وكذا لئلا يعلم (١).

وفي الآية هذه وجهان (٢) :

أشهرهما عند النحاة والمفسرين : أنها مزيدة كهي في (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ) [الأعراف: ١٢] و (أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) [يس : ٣١]. على خلاف في هاتين الآيتين.

والتقدير : أعلمكم الله بذلك ليعلم أهل الكتاب عدم قدرتهم على شيء من فضل الله ، وثبوت أن الفضل بيد الله ، وهذا واضح بيّن ، وليس فيه إلا زيادة ما ثبتت زيادته شائعا ذائعا.

والثاني : أنها غير مزيدة ، والمعنى : لئلا يعلم أهل الكتاب [عجز المؤمنين. نقل ذلك أبو البقاء (٣) ، وهذا لفظه.

وكان قال قبل ذلك : «لا» زائدة ، والمعنى : ليعلم أهل الكتاب](٤) عجزهم.

وهذا غير مستقيم ؛ لأن المؤمنين عاجزون أيضا عن شيء من فضل الله ، وكيف يعمل هذا القائل بقوله : (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) ، فإنه معطوف على مفعول العلم المنفي ، فيصير التقدير : لئلا يعلم أهل الكتاب أنّ الفضل بيد الله ، وهذا لا يستقيم نفي العلم به ألبتة ، فلا جرم كان قولا مطرحا.

وقرأ العامة : «لئلّا» بكسر لام كي ، وبعدها همزة مفتوحة مخففة.

وورش يبدلها ياء محضة (٥). وهو تخفيف قياسي نحو : «مية وفية» في «مئة وفئة» ويدل على زيادتها قراءة عبد الله (٦) ، وابن عباس ، وعكرمة ، والجحدري ، وعبد الله بن سلمة : «ليعلم» بإسقاطها.

وقراءة حطّان بن عبد الله (٧) : «لأن يعلم» بإظهار «أن».

والجحدري أيضا والحسن : «ليعلم».

وأصلها كالتي قبلها «لأن يعلم» فأبدل الهمزة ياء لانفتاحها بعد كسرة ؛ وقد تقدم أنه قياسي كقراءة ورش «ليلّا» ثم أدغم النون في الياء.

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٢٨٢.

(٢) الدر المصون ٦ / ٢٨٢.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢١١.

(٤) سقط من أ.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٢.

(٦) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٧١ ، وقال ابن عطية : وروى إبراهيم التيمي عن ابن عباس : «كي يعلم» ، وروي عن ابن عباس : «لكيلا يعلم» ، وينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٢٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٢.

(٧) ينظر : السابق ، والقرطبي ١٧ / ١٧٣.

٥٠٩

قال أبو حيان (١) : «بغير غنّة كقراءة خلف «أن يضرب» بغير غنّة». انتهى.

فصار اللفظ «ليعلم». وقوله «بغير غنة» ، ليس عدم الغنة شرطا في صحة هذه المسألة بل جاء على سبيل الاتفاق ، ولو أدغم بغنة لجاز ذلك فسقوطها في هذه القراءات يؤيد زيادتها في المشهورة (٢).

وقرأ الحسن أيضا (٣) فيما روى عنه أبو بكر بن مجاهد : «ليلا يعلم» بلام مفتوحة وياء ساكنة كاسم المرأة ، ورفع الفعل بعدها.

وتخريجها : على أن أصلها «لأن لا» على أنها لام الجر ولكن فتحت على لغة مشهورة معروفة ؛ وأنشدوا :

٤٧٢٨ ـ أريد لأنسى ذكرها

 ..........(٤)

بفتح «اللام» ، وحذف الهمزة اعتباطا ، وأدغمت النون في «اللام» فاجتمع ثلاثة أمثال فثقل النطق به ، وأبدل الوسط ياء تخفيفا ، فصار اللفظ «ليلا» كما ترى ، ورفع الفعل ؛ لأن «أن» هي المخففة لا النّاصبة ، واسمها على ما تقرر ضمير الشّأن ، وفصل بينهما وبين الفعل الذي هو خبرها بحرف النّفي.

وقرأ الحسن (٥) أيضا فيما روى عنه قطرب : «ليلا» بلام مكسورة ، وياء ساكنة ، ورفع الفعل بعدها ، وهي كالّتي قبلها في التخريج ، غاية ما في الباب أنه جاء بلام الجر كما هي في اللغة الشهيرة.

وروي عن ابن عباس : «لكي يعلم» و «كي يعلم».

وعن عبد الله : «لكيلا» (٦).

وهذه كلها مخالفة للسّواد الأعظم ، ولسواد المصحف.

وقراءة العامة : «أن لا يقدرون» بثبوت النون ، على أن «أن» هي المخففة.

وعبد الله : بحذفها (٧) على أن «أن» هي الناصبة.

وهذا شاذّ جدا ؛ لأن العلم لا يقع بعده الناصبة.

وقوله : (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) الظاهر أنه مستأنف.

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ٢٢٧ ،

(٢) الدر المصون ٦ / ٢٨٣.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٧١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٧٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٣.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٧١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٣.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

(٧) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٧١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢٨ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٣.

٥١٠

وقيل : هو خبر ثان عن الفضل.

وقيل : هو الخبر وحده ، والجار قبله حال ، وهي حال لازمة ؛ لأن كونه بيد الله لا ينتقل ألبتة (١).

فصل في اتصال الآية بما قبلها

نقل ابن الخطيب (٢) عن الواحدي أنه قال : هذه الآية مشكلة ، وليس للمفسرين فيها قول واضح في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها.

واعلم أن أكثر المفسرين على أن «لا» ها هنا صلة زائدة ، والتقدير : ليعلم أهل الكتاب.

وقال أبو مسلم وجماعة : على أن «لا» ليست زائدة ، ونحن نفسر الآية على القولين بعون الله وتوفيقه.

أما على القول بزيادتها ، فاعلم أنه لا بدّ ها هنا من تقديم مقدمة ، وهي أن أهل الكتاب كانوا يقولون : إن الوحي والرسالة فينا ، والكتاب والشرع ليس إلّا لنا ، وإنّ الله خصّنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين العالمين.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إن الله ـ تعالى ـ لما أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ووعدهم الأجر العظيم في ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآية ، والغرض منها أن يزيل عن قلبهم اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم ، فقال : إنما بالغنا في هذا البيان ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله لقوم معينين ، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين ، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، ولا اعتراض عليه في ذلك أصلا.

وأما القول بأن «لا» غير زائدة ، فاعلم أن الضمير في قوله : «لا يقدرون» عائد إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى أصحابه ـ رضي الله عنهم ـ والتقدير : لئلا يعلم أهل الكتاب أن النبي والمؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله ، فإنهم إذا لم يعلموا أنهم لا يقدرون عليه ، فقد علموا أنّهم يقدرون عليه ثم قال : (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) فيصير التقدير : إنا جعلنا كذا وكذا لئلا يعتقد أهل الكتاب أنهم يقدرون على حصر فضل الله في قوم معينين ، وليعتقدوا أن الفضل بيد الله.

واعلم أنّ هذا القول ليس فيه إلّا أنا أضمرنا فيه زيادة ، فقلنا في قوله : (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) تقديره : وليعتقدوا أنّ الفضل بيد الله وأما القول الأول فقد افتقرنا فيه إلى حذف شيء موجود ، ومن المعلوم أنّ الإضمار أولى من الحذف ؛ لأن الكلام إذا افتقر إلى الإضمار لم يوهم ظاهره باطلا أصلا.

__________________

(١) الدر المصون ٦ / ٢٨٣.

(٢) التفسير الكبير ٢٩ / ٢١٥ ، ٢١٦.

٥١١

وأما إذا افتقرنا إلى الحذف كان ظاهره موهما للباطل ، فعلمنا أن هذا القول أولى.

فصل في نزول هذه الآية (١)

قال قتادة : حسد أهل الكتاب المسلمين فنزلت : لئلا يعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله (٢).

وقال مجاهد : قالت اليهود : يوشك أن يخرج منّا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل ، فلما خرج من العرب كفروا فنزلت : (لِئَلَّا يَعْلَمَ) ، أي : ليعلم أهل الكتاب ألا يقدرون يعني : أنهم لا يقدرون ، كقوله : (أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً)(٣) [طه : ٨٩] والمراد من فضل الله.

قيل : الإسلام وقيل : الثواب.

وقال الكلبي : من رزق الله (٤).

وقيل : نعم الله التي لا تحصى.

(وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) ليس بأيديهم ، فيصرفوا النّبوّة عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى من يحبّون.

وقيل : إن الفضل بيد الله ، أي : بقوله : (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ).

روى البخاري عن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم على المنبر يقول : «إنّما بقاؤكم فيما سلف قبلكم من الأمم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشّمس ، أعطي أهل التّوراة التّوراة فعملوا بها حتّى انتصف النّهار ، ثمّ عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ، ثمّ أعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به حتّى صلاة العصر ، ثمّ عجزوا فأعطوا قيراطا قيراطا ، ثمّ أعطيتم القرآن فعملتم به حتّى غربت الشّمس فأعطيتم قيراطين قيراطين ، قال أهل التّوراة : ربّنا هؤلاء أقلّ عملا وأكثر أجرا ، قال : هل ظلمتم من أجركم شيئا؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضل الله أوتيه من أشاء».

وفي رواية : «فغضبت اليهود والنّصارى وقالوا : ربّنا» (٥). الحديث.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٧٣.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٩٧) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٦١) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٦١) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٧٣).

(٥) أخرجه البخاري (٢ / ٤٩) كتاب مواقيت الصلاة : باب من أدرك ركعة ... حديث (٥٥٧) وفي (١٣ / ٤٥٥) كتاب التوحيد ، باب : المشيئة والإرادة حديث (٧٤٦٧) و (١٣ / ١٥٧) كتاب التوحيد باب قوله تعالى : «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها» حديث (٧٥٣٣). من حديث ابن عمر.

٥١٢

سورة المجادلة

[مدينة](١) في قول الجميع إلا رواية عن عطاء : أن العشر الأول منها مدني ، وباقيها مكي (٢).

وقال الكلبي : نزلت جميعها ب «المدينة» غير قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) [المجادلة : ٧] نزلت ب «مكة» (٣).

وهي ثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة وألف وسبعمائة واثنان وسبعون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) (٢)

قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) الآية.

«قد» هنا للتوقع.

قال الزمخشري (٤) : «لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ والمجادلة كانا يتوقعان أن يسمع الله مجادلتهما وشكواها ، وينزل في ذلك ما يفرج عنها».

وإظهار الدال عند السين قراءة الجماعة (٥) إلا أبا عمرو والأخوين.

ونقل عن الكسائي أنه قال : من بيّن الدال عند السين فلسانه أعجمي ، وليس بعربي. وهذا غير معرج عليه (٦).

__________________

(١) في أ : مكية.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٤٨٧).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) الكشاف ٤ / ٤٨٥.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٣٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٤ ، وقال ابن عطية ٥ / ٢٧٢ : وقرأ ابن محيصن «قَدْ سَمِعَ» بالإدغام.

(٦) الدر المصون ٦ / ٢٨٤.

٥١٣

و (فِي زَوْجِها) في شأنه من ظهاره إياها.

فصل فيمن جادلت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١)

التي اشتكت هي خولة بنت ثعلبة.

وقيل : بنت حكيم.

وقيل : بنت خويلد.

قال الماوردي (٢) : وليس هذا بمختلف ؛ لأن أحدهما : أبوها ، والآخر : جدها ، فنسبت إلى كل منهما.

قيل : كانت أمة.

وقيل : هي ابنة صامت.

وقيل : أمة لعبد الله بن أبي. وهي التي أنزل الله فيها : (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) [النور : ٢٢] أي لا يكرهها على الزنا.

وقيل : هي ابنة حكيم.

قال النحاس : وهذا ليس بمتناقض ، يجوز مرّة أن تنسب إلى أبيها ، ومرّة إلى أمها ، ومرّة إلى جدّها ، ويجوز أن تكون أمة كانت لعبد الله بن أبي ، فقيل لها : أنصارية بالولاء ؛ لأنه كان في عداد الأنصاريين وأنه كان من المنافقين. نقله القرطبي.

وقيل : اسمها جميلة ، وخولة أصح ، وزوجها أوس بن الصّامت أخو عبادة بن الصّامت.

وروي أن عمر بن الخطاب مرّ بها في خلافته ، وهو على حمار والناس معه ، فاستوقفته طويلا ووعظته ، وقالت : يا عمر ، قد كنت تدعى عميرا ثم قيل لك : عمر ، ثم قيل لك : أمير المؤمنين ، فاتّق الله يا عمر ، فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب ، وهو واقف يسمع كلامها ، فقيل له : يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف.

فقال : والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلّا للصّلاة المكتوبة ، أتدرون من هذه العجوز؟ هذه خولة بنت ثعلبة ، سمع الله قولها من فوق سبع سموات ، أيسمع رب العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟! (٣).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٧٥.

(٢) النكت والعيون ٥ / ٤٨٧.

(٣) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٦٢) ، وعزاه إلى ابن أبي حاتم والبيهقي في «الأسماء والصفات» باختصار. عن ابن زيد عن عمر بن الخطاب أنه لقي امرأة.

٥١٤

وقالت عائشة : تبارك الذي وسع سمعه كلّ شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهي تقول : يا رسول الله أكل شبابي ، ونثرت له بطني حتّى إذا كبرت سنّي ، وانقطع ولدي ظاهر منّي ، اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآيات : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) الآية (١).

روي أنها كانت حسنة الجسم ، فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها ، فأعجبه أمرها ، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها ، قال عروة : وكان امرأ به لمم فأصابه بعض لممه ، فقال لها : أنت عليّ كظهر أمّي وكان الإيلاء والظّهار من الطلاق في الجاهلية ، فسألت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لها : «حرمت عليه» ، فقالت : والله ما ذكر طلاقا ، وإنه أبو ولدي وأحبّ الناس إليّ ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمت عليه» ، فقالت : أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ، فقد طالت له صحبتي ونفضت له بطني ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما أراك إلّا قد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء» ، فجعلت تراجع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإذا قال لها رسول الله : «حرمت عليه» هتفت وقالت : أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي ، وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليّ جاعوا ، وإن ضممتهم إليه ضاعوا ، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول : اللهم إني أشكو إليك فأنزل على لسان نبيك ، وكان هذا أول ظهار في الإسلام فأنزل الله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) الآية. فأرسل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى زوجها ، وقال : «ما حملك على ما صنعت»؟ فقال : الشيطان ، فهل من رخصة؟ فقال : «نعم» ، وقرأ عليه الأربع آيات ، فقال : «هل تستطيع الصّوم»؟ فقال : لا والله ، فقال : «هل تستطيع العتق»؟ فقال : لا والله ، إني إن أخطأ في أن آكل في اليوم مرة أو مرتين لكلّ بصري وظننت أني أموت ، قال : «فأطعم ستّين مسكينا» ، فقال : ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة ، فأعانه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمسة عشر صاعا ، وأخرج أوس من عنده مثله ، فتصدق به على ستين مسكينا.

فصل في اللمم الذي كان بأوس بن الصامت (٢)

قال أبو سليمان الخطّابي (٣) : ليس المراد من قوله في هذا الخبر : وكان بن لمم الخبل والجنون ، إذ لو كان به ثمّ ظاهر في تلك الحال لم يكن يلزمه شيء ، بل معنى

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٢ / ٧) ، وأحمد (٦ / ٤٦) ، وابن ماجه (١ / ٦٦٦) ، رقم (٢٠٦٣) ، والحاكم (٢ / ٤٨١) ، والبيهقي (٧ / ٣٨٢) ، عن عائشة.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه وقد روي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مختصرا ووافقه الذهبي.

وأخرجه البخاري (١٣ / ٣٨٤) ، تعليقا مختصرا عن عائشة.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢١٧.

(٣) ينظر : معالم السنن ٣ / ٢٥٤.

٥١٥

اللّمم هاهنا : الإلمام بالنساء وشدة الحرص والتّوقان إليهن.

فصل في الظهار (١)

اعلم أن الظّهار كان من أشدّ طلاق الجاهلية ؛ لأنه في التحريم أوكد ما يمكن ، فإن كان الحكم صار مقرّرا في الشرع كانت الآية ناسخة له ، وإلا لم يفد نسخا ؛ لأن النسخ إنما يدخل في الشّرائع لا في عادة الجاهلية ، لكن الذي روي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ قال لها : «حرمت» أو «ما أراك إلّا قد حرمت» كالدلالة على أنه كان شرعا.

فأما ما روي أنه توقف في الحكم فلا يدل على ذلك.

وفي الآية دليل على أن من انقطع رجاؤه عن الخلق ولم يبق له في مهمه أحد سوى الخالق كفاه الله ذلك المهمّ.

فصل فيما حكاه الله عن هذه المرأة (٢)

اعلم أنّ الله ـ تعالى ـ حكى عن هذه المرأة أمرين :

أحدهما : المجادلة وهو قوله تعالى : (تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) أي : في شأن زوجها ، وتلك المجادلة هي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كلما قال لها : «حرمت عليه» ، قالت : والله ما ذكر طلاقا.

والثاني : شكواها إلى الله فاقتها ووحدتها ، وقولها : إن لي صبية صغارا.

فصل في سمع الله تعالى

قال القرطبي (٣) : الأصل في السماع إدراك المسموعات وهو اختيار أبي الحسن ، وقال ابن فورك : الصحيح أنه إدراك المسموع.

وقال الحاكم أبو عبد الله : «السميع» هو المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أذن ، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه ، وإن كان غير موصوف بالحس المركب في الأذن كالأصم من النّاس لما لم يكن له هذه الحاسة لم يكن أهلا لإدراك الصوت ، والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة ، والحياة والإرادة ، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه متّصفا بهما.

وقرىء (٤) : «تحاورك» أي : تراجعك الكلام.

__________________

(١) الفخر الرازي ٢٩ / ٢١٨.

(٢) ينظر السابق.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٧٧.

(٤) وقد نسبها ابن عطية إلى مصحف عبد الله ، ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٧٣ ، والقرطبي ١٧ / ١٧٧.

٥١٦

قوله : (وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) يجوز فيه وجهان (١) :

أظهرهما : أنه عطف على «تجادلك» فهي صلة أيضا.

والثاني : أنها في موضع نصب على الحال ، أي : تجادلك شاكية حالها إلى الله.

وكذا الجملة من قوله : (وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما) والحالية فيها أبعد.

و «شكا» و «اشتكى» بمعنى واحد.

و «المحاورة» : المراجعة في الكلام ، حار الشيء يحور حورا ، أي : رجع يرجع رجوعا.

ومنه : «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» ، وكلمته فما أحار بكلمة ، أي : فما أجاب.

(إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ). أي : يسمع كلام من يناديه ، ويبصر من يتضرع إليه (٢).

قوله : (الَّذِينَ يُظاهِرُونَ) تقدم الخلاف في «تظاهرون» في سورة «الأحزاب» (٣) ، وكذا

في (إِلَى) [الأحزاب : ٤].

وقرأ أبيّ هنا (٤) : «يتظاهرون».

وعنه أيضا : «يتظهرون».

وفي «الذين» وجهان (٥) :

أحدهما : أنه مبتدأ ، وخبره : قوله (ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ).

الثاني : أنه منصوب ب «بصير» على مذهب سيبويه في جواز إعمال «فعيل» قاله مكي (٦).

يعنى : أن سيبويه يعمل «فعيلا» من أمثلة المبالغة ، وهو مذهب مطعون فيه على سيبويه ؛ لأنه استدلّ على إعماله بقول الشاعر : [البسيط]

٤٧٢٩ ـ حتّى شآها كليل موهنا عمل

باتت طرابا وبات اللّيل لم ينم (٧)

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٤.

(٢) الفخر الرازي ٢٩ / ٢١٨.

(٣) سورة الأحزاب آية (٤).

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٧٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٤ ، والقرطبي ١٧ / ١٧٧.

(٥) الدر المصون ٦ / ٢٨٤.

(٦) ينظر : المشكل ٢ / ٧٢١.

(٧) قائل البيت هو ساعدة بن جؤية الهذلي.

ينظر خزانة الأدب ٨ / ١٥٥ ، ١٥٨ ، ١٦٤ ، وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١١٢٩ ، وشرح المفصل ٦ / ٧٢ ، ٧٣ ، والكتاب ١ / ١١٤ ، والمنصف ٣ / ٧٦ ، والمقتضب ٢ / ١١٥ ، والمقرب ١ / ١٢٨ ، واللسان (عمل) ، و (شأى) ، و (أنق) ، رصف المباني ٣ / ٧٦ ، حاشية يس ٢ / ٦٨ ، ومغني اللبيب ص ٤٣٥ ، والإيضاح الشعري للفارسي ص ٥٠٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٤.

٥١٧

ورد عليه بأن «موهنا» ظرف زمان ، والظروف يعمل فيها روائح الأفعال ، والمعنى : يأتي «ما» مكي.

وقرأ العامة : (أُمَّهاتِهِمْ) بالنصب على اللغة الحجازية الفصحى ، كقوله (ما هذا بَشَراً) [يوسف : ٣١].

وعاصم في رواية بالرفع على اللغة التميمية (١) ، وإن كانت هي القياس لعدم اختصاص الحرف ، وقرأ عبد الله (٢) : «بأمّهاتهم» بزيادة الباء وهي تحتمل اللغتين.

وقال الزمخشري (٣) : «وزيادة الباء في لغة من ينصب».

قال شهاب الدين (٤) : هذا هو مذهب أبي عليّ ، يرى أن «الباء» لا تزاد إلا إذا كانت عاملة ، فلا تزاد في التميمية ، ولا في الحجازية إذا منع من عملها مانع ، نحو : «ما إن زيد بقائم» ، وهذا مردود بقول الفرزدق وهو تميمي : [الطويل]

٤٧٣٠ ـ لعمرك ما معن بتارك حقّه

ولا منسىء معن ولا متيسّر (٥)

وبقول الآخر : [المتقارب]

٤٧٣١ ـ لعمرك ما إن أبو مالك

بواه ولا بضعيف قواه (٦)

فزادها مع «ما» الواقع بعدها «إن».

فصل في التعبير بلفظ الظهار

ذكر الظّهر كناية عن معنى الركوب ، والآدمية إنما يركب بطنها ، ولكن كنّى عنه بالظّهر ؛ لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره فكنّى بالظهر عن الركوب ، ويقال : نزل عن امرأته أي : طلقها كأنه نزل عن مركوبه ، ومعنى : أنت عليّ كظهر أمي ،

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٢٨ ، والحجة ٦ / ٢٧٧ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٥٤ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٧٣ ، والدر المصون ٦ / ٣٨٥ ، وقال القرطبي ١٧ / ١٨١ : «وقرأ أبو معمر والسلمي وغيرهما بالرفع على لغة تميم».

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٧٣ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٣١ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٥.

(٣) الكشاف ٤ / ٤٨٥.

(٤) الدر المصون ٦ / ٢٨٥.

(٥) تقدم.

(٦) قائله هو المتنخل الهذلي ، ونسب لذي الإصبع العدواني برواية :

وما إن أسيد أبو مالك

بوان ولا بضعيف قواه

ينظر ديوان الهذليين ٢ / ٢٩ ، وأمالي المرتضى ١ / ٣٠٦ ، والخزانة ٢ / ٣٣ ، والهمع ١ / ١٢٧ ، والدرر ١ / ٣٠٠ ، والأشموني ١ / ٢٥٢ ، والأغاني ٢٣ / ٢٦٥ ، وشرح أشعار الهذليين ٣ / ١٢٧٦ ، والشعر والشعراء ٢ / ٦٦٤ ، وجواهر الأدب ص ٥٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٥.

٥١٨

أي : أنت عليّ محرمة لا يحلّ لي ركوبك نقله القرطبي (١).

ونقل ابن الخطيب (٢) عن صاحب «النظم» : أنه ليس مأخوذا من الظّهر الذي هو عضو من الجسد ؛ لأنه ليس الظّهر بأولى بالذكر في هذا الوضع من سائر الأعضاء التي هي مواضع المباضعة والتلذّذ ، بل الظهر ها هنا مأخوذ من العلوّ ، ومنه قوله تعالى : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ) [الكهف : ٩٧] أي : يعلوه وكذلك امرأة الرجل ظهره ؛ لأنه يعلوها بملك البضع وإن لم يكن ناحية الظّهر ، فكأن امرأة الرجل مركب للرجل وظهر له.

ويدلّ على صحة هذا المعنى ما نقل عن العرب أنهم يقولون في الطلاق : نزلت عن امرأتي ، أي : طلقتها ، وفي قولهم : أنت عليّ كظهر أمي حذف وإضمار ؛ لأن تقديره : ظهرك عليّ ، أي ملكي إياك ، وعلوي عليك حرام كما علوي على أمي وملكها عليّ.

فصل في حقيقة الظهار (٣)

حقيقة الظهار : تشبيه ظهر بظهر ، والموجب للحكم منه تشبيه ظهر محلّل بظهر محرم ، ولهذا أجمع الفقهاء على أنّ من قال لزوجته : أنت عليّ كظهر أمي ، أنه مظاهر.

وقال أكثرهم : إذا قال لها : أنت عليّ كظهر ابنتي ، أو أختي ، أو من تحرم عليه على التأبيد من ذوات المحارم أنه مظاهر.

فصل في ألفاظ الظهار (٤)

وألفاظ الظّهار : صريح وكناية :

فالصريح : أنت علي كظهر أمي ، وأنت عندي ، وأنت منّي ، وأنت معي كظهر أمي ، وكذلك أنت عليّ كبطن أمي ، أو كرأسها أو فرجها ونحوه ، وكذلك فرجك ، أو رأسك ، أو ظهرك ، أو بطنك ، أو رجلك عليّ كظهر أمي ، فهو مظاهر مثل قوله : يدك ، أو رجلك ، أو رأسك ، أو فرجك طالق تطلق عليه ، ومتى شبهها بأمّه ، أو بإحدى جداته من قبل أبيه ، أو أمه فهو ظهار بلا خلاف (٥) ، وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحلّ له بحال كالبنت ، والأخت ، والعمة ، والخالة كان مظاهرا عند أكثر الفقهاء.

والكناية : أن يقول : أنت عليّ كأمي ، أو مثل أمي ، فإنه يعتبر فيه النية ، فإن أراد الظهار كان ظهارا ، وإن لم ينو الظهار لم يكن مظاهرا على خلاف في ذلك ، فإن شبه امرأته بأجنبيّة ، فإن ذكر الظهر كان ظهارا ، وإن لم يذكر الظهر ، فقيل : يكون ظهارا.

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٧٧.

(٢) الفخر الرازي : ٢٩ / ٢١٨ ، ٢١٩.

(٣) ينظر القرطبي ١٧ / ١٧٧.

(٤) ينظر القرطبي ١٧ / ١٧٨.

(٥) في أ : طلاق.

٥١٩

وقيل : طلاقا.

وقال أبو حنيفة والشافعي : لا يكون شيئا.

وقيل : وهذا فاسد ؛ لأنه شبّه محللا من المرأة بمحرم ، فأشبه الظهر. نقله القرطبي.

فإن قال : أنت عليّ حرام كظهر أمي ، كان ظهارا ولم يكن طلاقا ؛ لأن قوله : أنت عليّ حرام يحتمل التحريم بالطلاق ، فيكون طلقة ، ويحتمل التحريم بالظّهار ، فلما صرح به كان تفسيرا لأحد الاحتمالين ، فقضي به فيه.

فصل

والظّهار لازم في كلّ زوجة مدخول بها ، أو غير مدخول بها من كل زوج يجوز طلاقه (١).

وقال مالك : يجوز الظّهار من كل من يجوز له وطؤها من إمائه إذا ظاهر منهن لزمه الظّهار فيهن ، وقال غيره : لا يلزم.

قال ابن العربي (٢) : وهي مسألة عسيرة جدّا ؛ لأن مالكا يقول : إذا قال لأمته : أنت عليّ حرام لا يلزم ، فكيف يبطل فيها صريح التحريم ، وتصح كنايته.

قوله : (مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) نعتان لمصدر محذوف أي قولا منكرا وزورا أي : كذبا وبهتانا.

قاله مكي. وفيه نظر (٣) ؛ إذ يصير التقدير : ليقولون قولا منكرا من القول ، فيصير قوله : (مِنَ الْقَوْلِ) لا فائدة فيه ، والأولى أن يقال : نعتان لمفعول محذوف ، لفهم المعنى ، أي : ليقولون شيئا منكرا من القول لتفيد الصفة غير ما أفاده الموصوف.

والمنكر من القول : ما لا يعرف في الشّرع ، والزور : الكذب.

(وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إذ جعل الكفارة عليهم مخلصة لهم من هذا القول المنكر (٤).

وقيل : (لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) إما من قبل التوبة لمن يشاء ، كما قال تعالى : (وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦].

أو بعد التوبة (٥).

فإن قيل : المظاهر إنما قال : أنت عليّ كظهر أمّي ، فشبه بأمه ، ولم يقل : إنها أمه ،

__________________

(١) ينظر القرطبي ١٧ / ١٧٩.

(٢) ينظر : أحكام القرآن ٤ / ١٧٥١.

(٣) الدر المصون ٦ / ٢٨٥.

(٤) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٨١.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٢٢.

٥٢٠