اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

قوله : (وَلا يَكُونُوا).

قرأ العامة : بالغيبة جريا على ما تقدم.

وأبو حيوة ، وابن أبي (١) عبلة : ب «التاء» من فوق على سبيل الالتفات.

قال القرطبي (٢) : وهي رواية رويس عن يعقوب ، وهي قراءة عيسى ، وابن إسحاق.

ثم هذا يحتمل أن يكون منصوبا عطفا على «يخشع» كما في قراءة الغيبة ، وأن يكون نهيا ، فتكون «لا» ناهية والفعل مجزوم بها.

ويجوز أن يكون نهيا في قراءة الغيبة أيضا ، ويكون ذلك انتقالا إلى نهي أولئك المؤمنين عن كونهم مشبهين لمن تقدمهم نحو «لا يقم زيد» (٣).

قوله : (فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ).

قرأ العامة : بتخفيف الدال بمعنى الغاية ، كقولك : أمد فلان ، أي : غايته.

وقرأ ابن كثير في (٤) رواية بتشديدها ؛ وهو الزمن الطّويل.

فصل في معنى الاية (٥)

معنى الآية لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى أعطوا التوراة والإنجيل ، فطالت الأزمان لهم.

قال ابن مسعود رضي الله عنه : إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم ، فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم حتّى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم ، كأنهم لا يعلمون ، ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم ، وقالوا : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد ، فإن أبى قتلناه ، فلا يختلف علينا بعده أحد ، فأرسلوا إليه ، فكتب كتاب الله في ورقة ، وجعلها في عنقه ، ثم لبس عليه ثيابا وأتاهم ، فعرضوا عليه كتابهم ، وقالوا : أتؤمن بهذا؟ فضرب بيده على صدره وقال : آمنت بهذا ـ يعني المعلق على صدره ـ فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين [ملة] ، وخير مللهم أصحاب ذي القرن (٦) ؛ قال عبد الله : ومن يعش منكم

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٦٤ ، وقال ابن عطية : «وقرأ حمزة فيما روى عنه سليم ولا تكونوا بالتاء على مخاطبة الحضور».

وينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٢٢ ، والدر المصون ٦ / ٢٢٧ ، وإتحاف فضلاء البشر ٢ / ٥٢٢.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٦٢.

(٣) الدر المصون ٦ / ٢٧٧.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٢٢ ، والدر المصون ٦ / ٢٧٧.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦٢.

(٦) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٥) وعزاه إلى سعيد بن منصور والبيهقي في «شعب الإيمان».

٤٨١

فسيرى منكرا ، ويجب على أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره.

وقال مقاتل : يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمد ، واستبطئوا بعث النبيصلى‌الله‌عليه‌وسلم (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) يعني : الذين ابتدعوا الرّهبانية أصحاب الصوامع (١).

وقيل : من لا يعلم ما يتديّن به من الفقه ، ويخالف من يعلم.

[وقيل : هم من لا يؤمن في علم الله تعالى ، وقال ابن عباس : مالوا إلى الدنيا ، وأعرضوا عن مواعط الله (٢).

وقيل :](٣) طالت أعمارهم في الغفلة ، فحصلت القسوة في قلوبهم بذلك السبب.

[وقيل غير ذلك.

وقوله : (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) أي : خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين،](٤) وكأنه أشار إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسق في آخر الأمر.

قوله تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها).

أي : يحييها بالمطر.

وقال صالح المري : يلين القلوب بعد قسوتها.

وقال جعفر بن محمد : يحييها بالعدل بعد الجور.

وقيل : المعنى (٥) : وكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد الكفر والضلالة.

وقيل : كذلك يحيي الموتى من الأمم ، ويميز بين الخاشع قلبه ، وبين الفاسق قلبه.

(قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على قدرة الله ، وأنه يحيي الموتى.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٦٢).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) سقط من أ.

(٤) سقط من أ.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦٣.

٤٨٢

أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(٢١)

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ).

خفف الصاد (١) منهما ابن كثير ، وثقلها باقي السّبعة.

فقراءة ابن كثير من التصديق ، أي : صدقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما جاء به ، كقوله : (وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ) [الزمر : ٣٣] ، وقراءة الباقين من الصدقة وهو مناسب لقوله : «وأقرضوا» والأصل : المتصدّقين والمتصدّقات ، فأدغم ، وبها قرأ أبي (٢).

وقد يرجح الأول بأن الإقراض مغن عن ذكر الصدقة.

قوله : (وَأَقْرَضُوا) فيه ثلاثة أوجه (٣) :

[أحدها](٤) : أنه معطوف على اسم الفاعل في «المصدّقين» ؛ لأنه لما وقع صلة ل «ال» حل محل الفعل ، كأنه قيل : إن الذين صدقوا وأقرضوا ، وعليه جمهور المعربين ، وإليه ذهب الفارسي (٥) ، والزمخشري (٦) ، وأبو البقاء (٧).

وهو فاسد ؛ لأنه يلزم الفصل بين أبعاض الصّلة بأجنبي ، ألا ترى أنّ «المصدقات» عطف على «المصدقين» قبل تمام الصّلة ، ولا يجوز أن يكون عطفا على «المصدقات» لتغاير الضمائر تذكيرا وتأنيثا.

الثاني : أنه معترض بين اسم «إن» وخبرها ، وهو «يضاعف».

قال أبو البقاء (٨) : «وإنما قيل ذلك لئلّا يعطف الماضي على اسم الفاعل».

قال شهاب الدين (٩) : «ولا أدري ما هذا المانع ؛ لأن اسم الفاعل متى وقع صلة ل «ال» صلح للأزمنة الثلاثة ، ولو منع بما ذكرته من الفصل بأجنبي لأصاب ، ولكن خفي عليه كما خفي على الفارسي والزمخشري».

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٢٦ ، والحجة ٦ / ٢٧٤ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٥١ ، وحجة القراءات ٧٠١ ، والعنوان ١٨٦ ، وشرح شعلة ٥٩٨ ، وشرح الطيبة ٦ / ٤١ ، وإتحاف ٢ / ٥٢٢.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٦٥ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢٢ ، والدر المصون ٦ / ٢٧٨.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٨.

(٤) سقط من أ.

(٥) الحجة ٦ / ٢٧٥.

(٦) الكشاف ٤ / ٤٧٨.

(٧) الإملاء ٢ / ١٢٠٩.

(٨) السابق ٢ / ١٢٠٩.

(٩) الدر المصون ٦ / ٢٧٨.

٤٨٣

الثالث : أنه صلة لموصول محذوف لدلالة الأول عليه ، كأنه قيل : «الذين أقرضوا» ؛ كقوله : [الوافر]

٤٧٢٢ ـ أمن يهجو رسول الله منكم

وينصره ويمدحه سواء؟ (١)

أي : ومن ينصره ، واختاره أبو حيان (٢).

قال ابن الخطيب (٣) : وفي الآية إشكال ، وهو أن عطفه الفعل على الاسم قبيح ، فما فائدة التزامه هنا؟.

وأجاب بأن الزمخشري قال : «وأقرضوا» معطوف على معنى الفعل في التصديق ؛ لأن «اللام» بمعنى «الذين» ، واسم الفاعل بمعنى «صدقوا وأقرضوا».

قال : وهذا لا يزيل الإشكال ، فإنه ليس فيه بيان أنه لم عدل عن ذلك اللفظ [إلى هذا اللفظ](٤).

والذي عندي فيه أن الألف واللام في (الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ) للمعهود ، فكأنه ذكر جماعة معينين بهذ الموصف ، ثم قبل ذكر الخبر أخبر عنهم بأنهم أتوا بأحسن أنواع الصدقة ، وهو القرض ، ثم ذكر الخبر بعد ذلك فقال : (يُضاعَفُ لَهُمْ).

فقوله : «وأقرضوا» ؛ كقوله : [السريع]

٤٧٢٣ ـ إنّ الثّمانين وبلّغتها

 .......... (٥)

قوله : (يُضاعَفُ لَهُمْ) في القائم مقام الفاعل وجهان (٦) :

أظهرهما : أنه الجار بعده.

والثاني : أنه ضمير التصديق ، ولا بد من حذف مضاف ، أي : ثواب التصديق.

وقرأ الأعمش (٧) ؛ «يضاعفه» بكسر العين ، وزيادة هاء.

وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب (٨) : «يضعّف» بتشديد العين وفتحها.

(وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) يعني : الجنة.

قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا) مبتدأ ، و «أولئك» مبتدأ ثان ، و «هم» يجوز أن يكون مبتدأ ثالثا ، و «الصديقون» خبره ، وهو مع خبره خبر الثاني ، والثاني وخبره خبر الأول ، ويجوز أن يكون «هم» فصلا ، و «أولئك» وخبره خبر الأول (٩).

__________________

(١) تقدم.

(٢) البحر المحيط ٨ / ٢٢٢.

(٣) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٠١.

(٤) سقط من ب.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٨.

(٧) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦٤.

(٨) ينظر : العنوان ١٨٦ ، وإتحاف ٢ / ٥٢٢ ، والقرطبي ١٧ / ١٦٤.

(٩) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٧.

٤٨٤

«والصّديق» : هو الكثير الصّدق.

وقال مجاهد : من آمن بالله ورسوله فهو صديق ، وتلا هذه الآية (١).

وقال الضحاك : هم ثمانية نفر من هذه الأمة سبقوا أهل الأرض في زمانهم إلى الإسلام : أبو بكر ، وعلي ، وزيد ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وحمزة ، وتاسعهم عمر بن الخطاب ، ألحقه الله بهم لما عرف من صدق نيته (٢).

قوله : (وَالشُّهَداءُ). يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أنه معطوف على ما قبله ، ويكون الوقف على «الشهداء» تامّا ، أخبر عن (الَّذِينَ آمَنُوا) أنهم صديقون شهداء.

فإن قيل : الشهداء مخصوصون بأوصاف أخر زائدة على ذلك كالتسعة المذكورين.

أجيب : بأن تخصيصهم بالذكر لشرفهم على غيرهم لا للحصر.

والثاني : أنه مبتدأ ، وفي خبره وجهان :

أحدهما : أنه الظرف بعده.

والثاني : أنه قوله «و (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) ، إما الجملة ، وإما الجار وحده ، والمرفوع فاعل به ، والوقف لا يخفى على ما ذكرناه من الإعراب.

والصّدّيق : مثال مبالغة ، ولا يجيء إلا من ثلاثي غالبا.

قال بعضهم : وقد جاء «مسّيك» من «أمسك» ، وهو غلط ؛ لأنه يقال : «مسك» ثلاثيا ، ف «مسّيك» منه.

فصل في المراد بالصديقين والشهداء (٣)

قال مجاهد وزيد بن أسلم : إن الشهداء والصديقين هم المؤمنون ، وأنه متصل ، وروي معناه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا قول ابن مسعود في تأويل الآية (٤).

قال القشيري : قال الله تعالى : (فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ).

ف «الصديقون» هم الذين يلون الأنبياء.

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٦) وعزاه إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.

وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٩٨).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٩٨).

(٣) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦٤.

(٤) أخرجه الطبري (١١ / ٦٨٣) عن البراء بن عازب مرفوعا بلفظ : «مؤمنو أمتي شهداء» ومثله عن ابن مسعود موقوفا أخرجه الطبري (١١ / ٦٨٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٦) وعزاه إلى عبد بن حميد.

٤٨٥

و «الشهداء» هم الذين يلون الصديقين و «الصالحون» يلون الشهداء ، فيجوز أن تكون هذه الآية في جملة من صدق بالرسل.

والمعنى : والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون والشهداء ، ويكون المعني بالشهداء من شهد لله بالوحدانية ، أنهم شهداء عند ربهم على العباد في أعمالهم ، والمراد أنهم عدول في الآخرة الذين تقبل شهاداتهم.

وقال الحسن : كل مؤمن فإنه شهيد كرامة (١).

وقال الفراء والزجاج (٢) : هم الأنبياء ؛ لقوله تعالى : (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) [النساء : ٤١].

وقال ابن جرير : «الشهداء» هم الذين استشهدوا في سبيل الله (٣).

وروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «ما تعدّون الشّهداء فيكم»؟ قالوا : المقتول ، فقال : «إنّ شهداء أمّتي إذا لقليل» (٤).

وعلى هذا يكون منقطعا عما قبله ، وتكون «الواو» في «والشهداء» واو الاستئناف ، وهذا مروي عن ابن عباس ومسروق.

وقوله : (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) مما عملوا من العمل الصالح. و «نورهم» على الصراط.

ثم لما ذكر حال المؤمنين أتبعه بذكر حال الكافرين (٥) ، فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ). ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ذكر بعده ما يدلّ على حقارة الدنيا ، وكمال حال الآخرة ، فقال :

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ).

«ما» صلة ، أي : حياة هذه الدار لعب باطل لا حاصل له ، وهو فرح ثم ينقضي ، وزينة ومنظر تتزيّنون به.

قوله : (وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ).

العامة على تنوين «تفاخر» موصوف بالظرف ، أو عامل فيه.

والسلمي (٦) أضافه إليه ، أي : يفخر به بعضكم على بعض.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٩٨).

(٢) ينظر : معاني القرآن له ٥ / ١٢٦.

(٣) ينظر : جامع البيان ١١ / ٦٨٤.

(٤) أخرجه مسلم (٣ / ١٥٢١) كتاب الإمارة ، باب : بيان الشهداء حديث (٦٥ / ١٩١٥) من حديث أبي هريرة.

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٠٢.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٢٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٧٩.

٤٨٦

قال المفسرون (١) : «اللّعب» : الباطل ، «واللهو» : الفرح.

وقال قتادة : «لعب ولهو» : أكل وشرب (٢).

وقال مجاهد : كل لعب لهو (٣).

وقيل : «اللعب» : ما رغب في الدنيا ، «واللهو» : ما ألهى على الآخرة.

قوله : (وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ).

قال ابن عبّاس : يجمع المال في سخط الله ، ويباهي به على أولياء الله ، ويصرفه في مساخط الله ، فهي ظلمات بعضها فوق بعض ، وكان من عادة الجاهلية أن يتكاثروا بالأموال والأولاد (٤).

قال بعض المتأخرين : «لعب» كلعب الصبيان ، «ولهو» كلهو الفتيان «وزينة» كزينة النّسوان «وتفاخر» كتفاخر الأقران «وتكاثر» كتكاثر الدّهقان.

وقال علي ـ رضي الله عنه ل «عمار» : لا تحزن على الدّنيا ، فإن الدنيا ستة أشياء : مأكول ، ومشروب ، وملبوس ، ومشموم ، ومركوب ، ومنكوح ، فأحسن طعامها العسل ، وهو بزقة ذبابة ، وأكثر شرابها الماء ، ويستوي فيه جميع الحيوان ، وأفضل ملبوسها الدّيباج وهو نسج دودة ، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة ، وأفضل مركوبها الفرس ، وعليها يقتل الرّجال ، وأما المنكوح فهو النساء وهو مبال في مبال ، والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها (٥).

ثم ذكر تعالى لهذه الحياة مثلا ، فقال : (كَمَثَلِ غَيْثٍ) أي : مطر (أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ).

قال ابن مسعود : المراد ب «الكفّار» هنا : الزّرّاع (٦).

وقال الأزهري (٧) : والعرب تقول للزّراع : كافر ؛ لأنه يكفر البذر [المبذور في الأرض](٨) بتراب الأرض ، أي : يغطّيه.

والمعنى (٩) : أن الحياة الدّنيا كالزّرع يعجب النّاظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار ، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن.

وقيل : المراد بالكفّار هنا هم الكفّار بالله ، وهو أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦٥.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٦٥) عن قتادة.

(٣) ينظر : المصدر السابق.

(٤) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٩ / ٢٠٣ ـ ٢٠٤).

(٥) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٦٥).

(٦) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٩ / ٢٠٤).

(٧) الرازي ٢٩ / ٢٠٤.

(٨) في أ : بتراب يستره.

(٩) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦٥.

٤٨٧

وقوله : «نباته» أي : ما ينبت من ذلك الغيث.

قوله : (كَمَثَلِ غَيْثٍ).

يجوز أن يكون في موضع نصب حالا من الضمير في «لعب» ؛ لأنه بمعنى الوصف ، وأن يكون خبرا لمبتدأ محذوف ، أي : ذلك كمثل (١).

وجوز ابن عطية (٢) : أن يكون في موضع رفع صفة لما تقدم ، ولم يبينه ، وقد بينه مكي ، فقال (٣) : نعت ل «تفاخر». وفيه نظر لتخصيصه له من بين ما تقدم ، وجوز أن يكون خبرا بعد خبر للحياة الدنيا.

وقوله : (ثُمَّ يَهِيجُ) أي : يجفّ بعد خضرته (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) أي : متغيرا عما كان عليه من النّضارة (٤).

وقرىء (٥) : «مصفارّا» من «اصفارّ» وهو أبلغ من «اصفرّ».

قوله : (وَفِي الْآخِرَةِ) خبر مقدم ، وما بعده مبتدأ مؤخر ، أخبر بأن في الآخرة عذابا شديدا ، ومغفرة منه ورضوانا ، وهذا معنى حسن ، وهو أنه قابل العذاب بشيئين : بالمغفرة والرضوان ، فهو من باب لن يغلب عسر يسرين (٦).

قال القرطبي (٧) : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) ، أي : للكافر ، والوقف عليه حسن ، ويبتدأ (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ) أي : للمؤمنين.

وقال الفراء (٨) : (وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ) تقديره : إمّا عذاب شديد ، وإمّا مغفرة ، فلا يوقف على «شديد».

قوله : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ).

وهذا تأكيد لما سبق ، أي : تغرّ الكافر ، فأما المؤمن فإن الدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة.

وقيل : العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيدا في العمل للدنيا ، وترغيبا للعمل في الآخرة.

وقال سعيد بن جبير : الدّنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة ، فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله وطلب الآخرة ، فنعم المتاع ونعم الوسيلة (٩).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٩.

(٢) المحرر الوجيز ٥ / ٢٦٦.

(٣) ينظر : المشكل ٢ / ٧١٩.

(٤) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦٦.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٧٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٧٩.

(٦) الدر المصون ٦ / ٢٧٩.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٦٦.

(٨) ينظر : معاني القرآن للفراء ٣ / ١٣٥.

(٩) ينظر : المصدر السابق. وذكره البغوي في «تفسيره (٤ / ٢٩٨).

٤٨٨

قوله تعالى : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) الآية.

أي : سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم.

وقيل : سارعوا بالتّوبة ؛ لأنها تؤدّي إلى المغفرة. قاله الكلبي (١).

وقال مكحول : هي التكبيرة الأولى مع الإمام.

وقيل : الصف الأول.

فصل فيمن استدل بالآية على أن الأمر على الفور (٢)

احتج القائلون بأن الأمر على الفور بهذه الآية ؛ لأنها دلت على وجوب المسارعة ، فوجب أن يكون التراخي محظورا (٣).

قوله : (وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ).

(عَرْضُها كَعَرْضِ :) مبتدأ وخبر ، والجملة صفة ، وكذلك «أعدّت» ، ويجوز أن تكون «أعدت» مستأنفة (٤).

فصل في عرض الجنة

قال مقاتل : إنّ السّموات السّبع والأرضين السبع لو جعلت صفائح ، وألزق بعضها إلى بعض لكانت عرض جنة واحدة من الجنّات ، والعرض أقل من الطول ، ومن عادة العرب أنها تعبر عن الشيء بعرضه دون طوله (٥) ؛ قال : [الطويل]

٤٧٢٤ ـ كأنّ بلاد الله وهي عريضة

على الخائف المطلوب كفّة حابل (٦)

وقال عطاء عن ابن عباس : يريد أنّ لكل واحد من المطيعين جنّة بهذه الصّفة (٧).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦٦.

(٢) ينظر اللمع ص ٨ البرهان ١ / ٢٣١ ـ ٢٤١ المحصول ١ / ٢ / ١٨٩ المستصفى ٢ / ٩ التبصرة ص ٥٢ المسودة ص ٢٤ إرشاد الفحول ص ٥٩ أصول السرخسي ١ / ٢٦ المعتمد ١ / ١٢٠ جمع الجوامع ١ / ٣٨١ المنخول ص ١١١ المنتهى لابن الحاجب ص ٦٨ الإبهاج ٢ / ٥٧ روضة الناظر (١٠٥) تيسير التحرير ١ / ٣٥٦ فواتح الرحموت ١ / ٣٨١ التمهيد للإسنوي ص ٨٠ الأحكام للآمدي ٢ / ١٥٣ نهاية السول ٢ / ٢٨٧ شرح التنقيح ص ١٢٨ العدة لأبي يعلى ١ / ٢٨١ القواعد والفوائد الأصولية ص ١٨٩ التلويح على التوضيح ٢ / ١٨٨ ـ ١٨٩ شرح العضد ٢ / ٨٣ المدخل ص ١٠٢ ـ ١٠٣ مختصر البعلى ص (١٠١).

(٣) ينظر : تفسير الرازي ٢٩ / ٢٠٤.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٩.

(٥) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٩ / ٢٠٤).

(٦) يروى الشطر الأول من البيت :

كأن فجاج الأرض وهي عريضة

ينظر اللسان (كفف) والقرطبي ١٧ / ١٦٦.

(٧) ينظر : المصدر السابق.

٤٨٩

وقال السّدي : إنه ـ تعالى ـ شبّه عرض الجنة بعرض السّموات السبع والأرضين السبع ، ولا شك أن طوله أزيد من عرضه (١).

وقيل : هذا تمثيل للعباد بما يعقلونه ، وأكبر ما في أنفسهم مقدار السموات والأرض.

قاله الزجاج (٢) ، وهو اختيار ابن عبّاس (٣).

وقال طارق بن شهاب : قال قوم من أهل «الحيرة» لعمر رضي الله عنه : أرأيت قول الله عزوجل : (عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فأين النّار؟ قال لهم عمر : أرأيتم الليل إذا ولّى وجاء النهار ، فأين يكون الليل؟ فقالوا : لقد نزعت بما في التوراة مثله (٤).

قوله : (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) شرط الإيمان لا غير ، والمعتزلة وإن زعموا أن لفظ الإيمان يفيد جملة الطّاعات ، لكنهم اعترفوا بأن لفظ الإيمان إذا عدي بالباء ، فإنه باق على مفهومه الأصلي وهو التصديق ، فالآية حجة عليهم ، ومما يؤكّد ذلك قوله تعالى بعده : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) فبين أن الجنة فضل الله يؤتيها من يشاء ، سواء أطاع أم عصى.

فإن قيل : فيلزمكم أن تقطعوا بحصول الجنة لجميع العصاة ، وأن تقطعوا بأنه لا عقاب لهم؟ فالجواب (٥) : قلنا : نقطع بحصول الجنّة ، ولا نقطع بنفي العقاب عنهم ؛ لأنهم إذا عذّبوا مدة ، ثم نقلوا إلى الجنة ، وبقوا فيها أبد الآباد ، فقد كانت الجنّة معدة لهم.

فإن قيل : فالمرتد قد آمن بالله ، فوجب ألّا يدخل تحت هذه الآية.

قلنا : فالجواب خص من العموم ، فبقي العموم حجة فيما عداه.

فصل في أن الجنة مخلوقة أم لا؟ (٦)

احتجوا بهذه الآية على أن الجنة مخلوقة.

قالت المعتزلة : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجهين :

الأول : أن قوله تعالى (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) [الرعد : ٣٥] يدل على أن من صفتها بعد وجودها ألا تفتى ، لكنها لو كانت الآن موجودة لفنيت بدليل قوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].

__________________

(١) ينظر : المصدر السابق.

(٢) ينظر : معاني القرآن له ٥ / ١٢٨.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٠٥.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٦٦).

(٥) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٠٥.

(٦) ينظر : المصدر السابق.

٤٩٠

الثاني : أن المخلوقة الآن في السماء السّابعة ، ولا يجوز إذا كانت في واحدة منها أن يكون عرضها كعرض كل السموات والأرض ، فثبت بهذين الوجهين أنه لا بدّ من التأويل ، وذلك من وجهين :

أحدهما : أنه ـ تعالى ـ لما كان قادرا لا يصحّ المنع عليه ، وإذا كان حكيما لا يصحّ الخلف في وعده ، ثم إنه ـ تعالى ـ وعد على الطّاعة بالجنة ، فكانت الجنة كالمعدّة المهيّأة لهم تشبيها لما سيقع قطعا بالواقع ، كما يقول المرء لصاحبه : أعدت لك المكافأة إذا عزم عليها وإن لم يوجدها.

والثاني : أن المراد إذا كانت الآخرة أعدّها الله لهم ، كقوله : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ) [الأعراف : ٥٠] أي : إذا كان يوم القيامة نادى.

والجواب : أن قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) [القصص : ٨٨] عام.

وقوله : (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) مع قوله : (أُكُلُها دائِمٌ) [الرعد : ٣٥] خاص ، والخاصّ مقدّم على العام.

وأما قولهم : إنّ الجنّة مخلوقة في السماء السابعة كما قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ في صفة الجنة : «سقفها عرش الرّحمن» فأي استبعاد في أن يكون المخلوق فوق الشيء أعظم منه ، أليس أن العرش أعظم المخلوقات ، مع أنه مخلوق فوق السماء السابعة (١).

قوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) أي : أن الجنة لا تنال إلّا بفضل الله ورحمته(٢) ، (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٢٦)

قوله : (مِنْ مُصِيبَةٍ) فاعل «أصاب» ، و «من» مزيدة لوجود الشرطين ، وذكر فعلها ؛ لأن التأنيث مجازي.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٠٥.

(٢) القرطبي ١٧ / ١٦٦.

٤٩١

قوله : (فِي الْأَرْضِ) يجوز أن يتعلق ب «أصاب» ، وأن يتعلق بنفس «مصيبة» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «مصيبة» ، وعلى هذا فيصلح أن يحكم على موضعه بالجر نظرا إلى لفظ موصوفه ، وبالرفع نظرا إلى محله ، إذ هو فاعل.

والمصيبة غلبت في الشّر.

وقيل : المراد بها جميع الحوادث من خير وشر ، وعلى الأول يقال : لم ذكرت دون الخير؟

وأجيب (١) : بأنه إنما خصها بالذكر ؛ لأنها أهمّ على البشر.

قوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ) حال من «مصيبة» ، وجاز ذلك وإن كانت نكرة لتخصصها إما بالعمل ، أو بالصفة ، أي : إلا مكتوبة.

قوله : (مِنْ قَبْلِ) نعت ل «كتاب» ، ويجوز أن يتعلق به. قاله أبو البقاء (٢). لأنه هنا اسم للمكتوب ، وليس بمصدر.

والضمير في «نبرأها» الظاهر عوده على المصيبة.

وقيل : على الأنفس.

وقيل : على الأرض ، أي على جميع ذلك. قاله المهدوي ، وهو حسن.

فصل في مناسبة الآية لما قبلها

قال الزجاج (٣) : إنه ـ تعالى ـ لما قال : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وبين أن المؤدي إلى الجنة لا يكون إلا بقضاء الله تعالى وقدره ، فقال : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ).

والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله ، والمصيبة في الأرض قحط المطر ، وقلّة النبات ، ونقص الثّمار ، وغلاء الأسعار ، وتتابع الجوائح.

وأما المصيبة في الأنفس فقيل (٤) : هي الأمراض ، والفقر ، وذهاب الأولاد ، وإقامة الحدود عليها.

وقيل : ضيق المعاش وقيل : الخير والشّر أجمع ، لقوله بعد ذلك : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ).

وقوله : (إِلَّا فِي كِتابٍ) يعني : مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ (٥).

وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٧٩.

(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢١٠.

(٣) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ٥ / ١٢٨ ، والفخر الرازي ٢٩ / ٢٠٦.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٢٠٦.

(٥) القرطبي ١٧ / ١٦٧.

٤٩٢

قال ابن عباس : من قبل أن نخلق المصيبة (١).

وقال سعيد بن جبير : من قبل أن نخلق الأرض والنفس (٢).

(إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) أي : خلق ذلك ، وحفظه على الله يسير أي : هيّن (٣).

قال الربيع بن صالح : لما أخذ سعيد بن جبير ـ رضي الله عنه ـ بكيت ، قال : ما يبكيك؟ قلت : أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه ، قال : فلا تبك ، فإنه كان في علم الله ـ تعالى ـ أن يكون ، ألم تسمع قوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية (٤).

قال ابن عباس : لما خلق الله القلم ، قال له : اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة(٥).

وقد ترك جماعة من السلف الدواء في أمراضهم ، فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه ، وقالوا : قد علم الله أيام المرض وأيام الصّحة ، فلم حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا ، قال الله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) الآية ، ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام : «من عرف يسر الله في القدر هانت عليه المصائب».

فصل في اتصال الآية بسياق الآيات قبلها (٦)

قيل : إن هذه الآية نزلت متّصلة بما قبلها ، وهو أن الله ـ تعالى ـ هوّن عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح ، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال ، وما يقع فيها من خسران ، فالكل مكتوب مقدّر لا مدفع له ، وإنما على المرء امتثال الأمر ، ثم أدبهم فقال : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ) أي : حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق ، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم ييأسوا على ما فاتهم منه.

وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتّى يعلم أنّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه» ، ثمّ قرأ : (لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ)(٧) أي من الدنيا. قاله ابن عباس رضي الله عنهما.

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٩٩) والقرطبي (١٧ / ١٦٧.

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٦٧) عن سعيد بن جبير.

(٣) ينظر : القرطبي (١٧ / ١٦٧.

(٤) ينظر : القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٦٧) عن سعيد بن جبير.

(٥) تقدم تخريجه.

(٦) ينظر : القرطبي (١٧ / ١٦٧.

(٧) أخرجه أحمد (٦ / ٤٤١) وابن أبي عاصم في «السنة» (١ / ١١٠) رقم (٢٤٦) من حديث أبي الدرداء.

وأخرجه ابن أبي عاصم (١ / ١١٠) رقم (٢٤٧) من حديث أنس.

وذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٦٢٩) عن أنس وعزاه إلى ابن أبي عاصم.

٤٩٣

فصل في أن ما كان وما يكون مكتوب في اللوح المحفوظ

قال ابن الخطيب (١) : هذه الآية تدلّ على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللّوح المحفوظ.

قال المتكلمون : وإنما كتب ذلك لوجوه :

أحدها : ليستدلّ الملائكة بذلك المكتوب على كونه ـ تعالى ـ على علم بجميع الأشياء قبل وقوعها.

وثانيها : ليعرفوا حكمة الله ، فإنه ـ تعالى ـ مع علمه بأنهم يقدمون على المعاصي خلقهم ورزقهم.

وثالثها : ليحذروا من أمثال تلك المعاصي.

ورابعها : ليشكروا الله ـ تعالى ـ على توفيقه إياهم للطّاعات ، وعصمته إياهم عن المعاصي.

فصل في كيفية حدوث الأحداث

قال ابن الخطيب (٢) : إن الحكماء قالوا : إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبّرات أمرا ، والمقسمات أمرا ، إنما هي المبادىء لحدوث الحوادث في العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية ، والاتصالات الكوكبية ، وتغيراتها هي الأسباب لتلك المسببات ، وهذا هو المراد من قوله: (إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)

فصل في مصائب الأنفس (٣)

قوله تعالى : (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) يتناول جميع مصائب الأنفس ، فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم ، فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبة في اللوح المحفوظ مثبتة في علم الله تعالى ، فكان الامتناع من تلك الأعمال محال ؛ لأن علم الله بوجودها مناف لعدمها والجمع بين المتنافيين محال ، وخصص مصائب الأرض والأنفس لتعلّقها بنا ، ولم يقل : جميع الحوادث لشمولها حركات أهل الجنة والنار ؛ لأنها غير متناهية ، فإثباتها في الكتاب محال.

قال ابن الخطيب (٤) : وفي الآية دليل على أن الله ـ تعالى ـ يعلم الأشياء قبل وقوعها خلافا ل «هشام بن الحكم».

__________________

(١) ينظر : التفسير الكبير للفخر الرازي ٢٩ / ٢٠٦.

(٢) السابق نفسه.

(٣) السابق ٢٩ / ٢٠٧.

(٤) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٠٧.

٤٩٤

قوله تعالى : (لِكَيْلا). هذه «اللام» متعلقة بقوله «ما أصاب» ، أي : أخبرناكم بذلك لكيلا يحصل لكم الحزن المقنط والفرح المطغي فأما ما دون ذلك فالإنسان غير مؤاخذ به ، و «كي» هنا ناصبة بنفسها ، فهي مصدرية فقط لدخول لام الجر عليها (١).

وقرأ أبو عمرو (٢) : «بما أتاكم» مقصورا من الإتيان ، أي : بما جاءكم.

قال أبو علي الفارسي (٣) : «لأن «أتاكم» معادل لقوله «فاتكم» ، فكما أنّ الفعل للفائت في قوله : «فاتكم» ، فكذلك الفعل الثاني في قوله : «بما أتاكم».

وقرأ باقي السبعة : «آتاكم» ممدودا من «الإيتاء» ، أي : بما أعطاكم الله إياه.

والعائد إلى الموصول في الكلمتين في الذكر المرفوع بأنه فاعل ، و «الهاء» محذوفة من الصّلة ، أي : بما آتاكموه.

وقرأ عبد الله (٤) : «بما أوتيتم».

فصل في أن حزن المؤمن صبر وفرحه شكر (٥)

قال ابن عبّاس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا وغنيمته شكرا ، والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدّى فيهما إلى ما لا يجوز (٦).

وقال جعفر بن محمد : يا ابن آدم ما لك تأسف على مقدر (٧) لا يردّه عليك الفوت ، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت.

وقيل ل «بزرجمهر» : أيها الحكيم ، ما لك لا تحزن على ما فات ، ولا تفرح بما هو آت؟ قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة ، والآتي لا يستدام بالحبرة.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٠.

(٢) ينظر : السبعة ٦٢٦ ، والحجة ٦ / ٢٧٥ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٥٢ ، والعنوان ١٨٦ ، وحجة القراءات ٧٠١ ، وشرح شعلة ٥٩٩ ، وشرح الطيبة ٦ / ٤١ ، وإتحاف ٢ / ٥٢٣.

(٣) ينظر : الحجة ٦ / ٢٧٥.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٨٠ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٦٨ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٢٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٨٠.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦٧.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٨٧) والحاكم (٢ / ٤٧٩) والبيهقي في «شعب الإيمان» (٧ / ١٤١) رقم (٩٧٧١) من طريق سفيان عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس.

وقال الحاكم : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٧) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٧) في ب : مفقود.

٤٩٥

وقوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) أي : متكبر بما أوتي من الدنيا.

«فخور» به على النّاس ، قيل : الفخور الذي ينظر الناس بعين الاحتقار.

فصل فيمن قالوا بالإرادة والجبر

قال ابن الخطيب (١) : المعتزلة وإن نازعوا في القدرة والإرادة ، فهم مسلمون في العلم والجبر ، فيلزمهم الجبر باعتبارهما.

والفلاسفة مذهبهم الجبر ؛ لأن سبب الحوادث عندهم الاتصالات الفلكية.

والقدرية قالوا : بأن الحوادث اتفاقية ، فجميع فرق العقلاء يلزمهم الجبر ، سواء أقروا به أو أنكروه.

فصل في إرادة العبد الحزن والفرح

قالت المعتزلة (٢) : قوله : (لِكَيْلا تَأْسَوْا) يدل على أنه إنما أخبرهم بكتبها ليحترزوا عن الحزن والفرح ، ولو لا قدرتهم عليه لم يكن لذلك فائدة ، ويدل على أنه لا يريد أن يقع منهم الفرح والحزن ، وهو خلاف قول المجبرة ؛ لأنه قال : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ (٣) فَخُورٍ) والمحبة هي الإرادة.

وأجيبوا بأن المحبة هي إرادة خاصة وهي إرادة الثواب ، ولا يلزم من نفيها نفي الإرادة.

قوله : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ). تقدم نظيره في سورة «النساء».

قال القرطبي (٣) : «الذين» في موضع خفض نعتا للمختال.

وقال ابن الخطيب (٤) : بدل من قوله : (كُلَّ مُخْتالٍ).

وقيل : رفع بالابتداء ، فهو كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله.

والمعنى : الذين يبخلون فالله غني عنهم.

قيل : أراد رؤساء اليهود الذين بخلوا ببيان صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم في كتبهم لئلا يؤمن به النّاس ، فتذهب مأكلتهم.

قاله السّدي والكلبي.

فيكون «الذين» مبتدأ ، وخبره محذوف يدلّ عليه قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

__________________

(١) ينظر : التفسير الكبير للرازي ٢٩ / ٢٠٨.

(٢) ينظر : السابق.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٦٨.

(٤) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٠٩.

٤٩٦

وقال سعيد بن جبير : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) يعني بالعلم (وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) بألّا يعلموا الناس شيئا (١).

وقال زيد بن أسلم : إنه البخل بأداء حق الله تعالى (٢).

وقال عبد الله بن عامر الأشعري : هو البخل بالصدقة والحقوق (٣).

وقال طاوس : وهو البخل بما في يديه.

فصل في قراءات البخل

«بالبخل». قرأ العامة : «بالبخل» بضم الباء وسكون الخاء.

وقرأ أنس (٤) وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وابن محيصن وحمزة والكسائي «بالبخل» بفتحتين ، وهي لغة الأنصار.

وقرأ أبو العالية (٥) وابن السّميفع : «بالبخل» بفتح الباء وإسكان الخاء.

وعن نصر بن عاصم (٦) : «البخل» ـ بضمتين ـ وكلها لغات مشهورة.

وقال قوم : الفرق بين البخل والسخاء من وجهين :

أحدهما : أن البخيل الذي يلتذّ بالإمساك ، والسّخي الذي يلتذّ بالعطاء.

الثاني : أن البخيل الذي لا يعطي عند السؤال ، والسّخي الذي يعطي بغير سؤال.

وتقدم الفرق بين البخل والشّحّ في آخر آل عمران.

قوله : (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي : عن الإيمان (فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).

قرأ نافع (٧) وابن عامر : «فإن الله الغني الحميد» بإسقاط «هو» ، وهو ساقط في مصاحف «المدينة» و «الشام» ، والباقون : بإثباته ، وهو ثابت في مصاحفهم ، فقد وافق كل مصحفه (٨).

قال أبو علي الفارسي (٩) : من أثبت «هو» يحسن أن يكون فصلا ، ولا يحسن أن يكون ابتداء ؛ لأن الابتداء لا يسوغ حذفه.

__________________

(١) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٦٨).

(٢) ينظر : المصدر السابق.

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) وقرأ بها الحسن ويحيى بن يعمر. ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٦٩ ، والقرطبي ١٧ / ١٦٨ ، والعنوان ١٨٦ ، وحجة القراءات ٧٠٢، وإتحاف ٢ / ٥٢٣.

(٥) القرطبي ١٧ / ١٦٨.

(٦) السابق.

(٧) ينظر : السبعة ٦٢٧ ، والحجة ٦ / ٢٧٦ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٥٢ ، وحجة القراءات ٧٠٢ ، والعنوان ١٨٦ ، وشرح شعلة ٥٩٩ ، وشرح الطيبة ٦ / ٤٢ ، وإتحاف ٢ / ٥٢٣.

(٨) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٠.

(٩) الحجة ٦ / ٢٧٦.

٤٩٧

يعني أنه رجح فصليّته بحذفه في القراءة الأخرى ، إذ لو كان مبتدأ لضعف حذفه لا سيما إذا صلح ما بعده أن يكون خبرا لما قبله.

ألا ترى أنك لو قلت : إن زيدا هو القائم يحسن حذف «هو» لصلاحية «القائم» خبرا ، وهذا كما قالوا في الصلة : إنه يحذف العائد المرفوع بالابتداء بشروط :

منها : ألّا يكون ما بعده صالحا للصّلة نحو : «جاء الذي هو في الدّار ، وهو قائم أبوه» لعدم الدلالة.

إلا أن للمنازع أن ينازع أبا عليّ ويقول : لا ألتزم تركيب إحدى القراءتين على الأخرى ، وكم من قراءتين تغاير معناهما ، كقراءتي : (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) [آل عمران : ٣٦] ، إلا أن توافق القراءتين في معنى واحد أولى ، هذا مما لا نزاع فيه (١).

ومن أثبت «هو» فعلى أن يكون فصلا ، ويجوز أن يكون مبتدأ ، و «الغنيّ» خبره والجملة خبر «إن».

قال ابن الخطيب (٢) : وقوله «الحميد» كأنه جواب من يقول : إذا كان الله عالما بأنه يبخل ، فلم أعطاه المال؟.

فأجاب : بأنه محمود حيث فتح أبواب الرحمة (٣) مع تقصير العبد في الطاعة.

قوله تعالى : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ).

يعني المعجزات البينة ، والشرائع الظاهرة.

وقيل (٤) : الإخلاص لله ـ تعالى ـ في العبادة.

(وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) أي الكتب التي أوحينا إليهم فيها خبر من كان قبلهم.

«والميزان» ، قال ابن زيد : هو ما يوزن به ، ويتعامل (٥).

روي أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ نزل بالميزان فدفعه إلى نوح ـ عليه الصلاة والسلام ـ وقال : مر قومك يزنوا به ليقوم النّاس بالقسط (٦) ، أي : بالعدل في معاملاتهم.

وقيل : أراد به العدل.

قال القشيري : وإذا حملناه على الميزان المعروف ، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان وهو من باب : [الرجز]

٤٧٢٥ ـ علفتها تبنا وماء باردا (٧)

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٨٠.

(٢) التفسير الكبير ٢٩ / ٢٠٩.

(٣) في ب : الدين.

(٤) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦٨.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٨٨).

(٦) ذكره الرازي في «تفسيره» (٢٩ / ٢١٠).

(٧) تقدم.

٤٩٨

ويدل على هذا قوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) [الرحمن : ٧].

قوله : «معهم» حال مقدرة ، أي : صائرا معهم ، وإنما احتجنا إلى ذلك ؛ لأن الرسل لم ينزلوا ، ومقتضى الكلام أن يصحبوا الكتاب في النزول.

وأما الزمخشري فإنه فسّر الرسل بالملائكة الذين يجيئون بالوحي إلى الأنبياء ، فالمعية متحققة.

قوله : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ).

روى ابن عمر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : إنّ الله تعالى أنزل أربع بركات من السّماء إلى الأرض : الحديد والماء والنّار والثّلج» (١).

وروى عكرمة عن ابن عباس قال : أنزل ثلاثة أشياء مع آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثّلج ، وعصا موسى ، وكانت من آس الجنة ، طولها عشرة أذرع مع طول موسى ، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء : السّندان ، والكلبتان ، والميقعة ، وهي المطرقة (٢) ذكره الماوردي.

وروى الثعلبي عن ابن عبّاس قال : نزل آدم من الجنّة ، ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين : السّندان ، والكلبتان ، والميقعة ، والمطرقة والإبرة» (٣).

وحكاه القشيري قال : والميقعة : [ما يحدد به ، يقال : وقعت الحديدة أقعها ، أي حددتها.

وفي «الصحاح» (٤)](٥) : «الميقعة» الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه ، وخشبة القصّار التي يدقّ عليها ، والمطرقة ، والمسنّ الطويل.

وروي أن الحديد أنزل يوم الثلاثاء.

(فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) أي : لإهراق الدّماء ، ولذلك نهي عن الفصد والحجامة يوم الثلاثاء ؛ لأنه يوم جرى فيه الدّم.

وروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إنّ في يوم الثلاثاء ساعة لا يراق فيها الدّم» (٦).

__________________

(١) ذكره الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» (٤ / ٤٨٠) وقال : أخرجه الثعلبي من حديث ابن عمر وفيه من لا أعرفه.

وذكره أيضا المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٥ / ٤١٩) رقم (٤١٦٥١) وعزاه إلى الديلمي في «مسند الفردوس» عن ابن عمر.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٤٨٣) والقرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٦٩).

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٦٩) وعزاه إلى الثعلبي عن ابن عباس.

(٤) ينظر : الصحاح ٣ / ١٣٠١.

(٥) سقط من أ.

(٦) ينظر : القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٦٩) وعزاه إلى الثعلبي عن ابن عباس.

٤٩٩

وقيل : (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) أي : أنشأناه وخلقناه ، كقوله تعالى : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) [الزمر : ٦] وهذا قول الحسن. فيكون من الأرض غير منزل من السماء.

وقال أهل المعاني : أي أخرج الحديد من المعادن ، وعلمهم صنعته بوحيه.

وقوله : (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) جملة حالة من «الحديد» ، والمراد بالحديد يعني : السلاج والجنّة.

وقيل : إن فيه من خشية القتل خوفا شديدا.

(وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) قال مجاهد : يعني جنّة (١).

وقيل : انتفاع النّاس بالماعون : الحديد كالسّكين والفأس ونحوه.

قوله : (وَلِيَعْلَمَ اللهُ). عطف على قوله : (لِيَقُومَ النَّاسُ) ، أي : لقد أرسلنا رسلنا ، وفعلنا كيت وكيت ليقوم الناس ، وليعلم الله.

وقال أبو حيان (٢) : علّة لإنزال الكتاب والميزان والحديد.

والأول أظهر ؛ لأن نصرة الله ورسوله مناسبة للإرسال.

قوله : (وَرُسُلَهُ) عطف على مفعول «ينصره» ، أي : وينصر رسله.

قال أبو البقاء (٣) : ولا يجوز أن يكون معطوفا على «من» لئلا يفصل به بين الجار ، وهو «بالغيب» ، وبين ما يتعلق به وهو «ينصر».

قال شهاب الدين (٤) : «وجعله العلة ما ذكره من الفصل بين الجار ، وبين ما يتعلق به يوهم أن معناه صحيح لو لا هذا المانع ، وليس كذلك ؛ إذ يصير التقدير : وليعلم الله من ينصره بالغيب ، وليعلم رسله ، وهذا معنى لا يصح ألبتة ، فلا حاجة إلى ذكر ذلك ، و «بالغيب» حال وقد تقدم مثله أول «البقرة».

فصل في معنى الآية (٥)

المعنى : وليعلم الله من ينصره ، أي : أنزل الحديد ليعلم من ينصره ، أو ليقوم الناس بالقسط ؛ أي : أرسلنا رسلنا.

(وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ) وهذه الأشياء ليتعامل الناس بالحق ، وليرى الله من ينصر دينه وينصر رسله بالغيب ، أي : وهم لا يرونهم.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٨٩) عن ابن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٥٨) وعزاه إلى الفريابي وعبد بن حميد.

(٢) البحر المحيط ٨ / ٢٢٥.

(٣) الإملاء ٢ / ١٢١٠.

(٤) الدر المصون ٦ / ٢٨٠.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٦٩.

٥٠٠