اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة ق

مكية (١) ، وهي خمس وأربعون آية ، وثلاثمائة وسبع وخمسون كلمة ، وألف وأربعمائة وأربعة وتسعون حرفا (٢).

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ)(٥)

قوله تعالى : (ق) قال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما (٢)) ـ هو قسم. وقيل : اسم السورة. وقيل اسم من أسماء القرآن. وقال القرطبي (٣) : هو مفتاح اسمه قدير ، وقادر ، وقاهر وقريب وقابض. وقال عكرمة والضحاك : هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء ومنه : خضرة السماء. والسماء مقبية عليه ، وعليه كتفاها ويقال : هو وراء الحجاب الذي تغيب الشمس من ورائه بمسيرة سنة. وقيل : معناه قضي الأمر وقضي ما هو كائن ، كما قالوا في حم (٤) (حم الأمر) ، وفي ص : صدق الله ، وقيل هو اسم فاعل من قفا يقفوه(٥).

فصل

قال ابن الخطيب ، لما حكى القول بأن «ق» اسم جبل محيط بالأرض عليه أطواق السماء قال : وهذا ضعيف لوجوه :

__________________

(١) نقل صاحب البحر المحيط عن ابن عباس : مكية ، إلا قوله : «وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ».

وانظر البغوي ٦ / ٢٢٣ ، والبحر ٨ / ١٢٠.

(٢) زيادة من (أ).

(٢) زيادة من (أ).

(٣) كذا في النسختين والأصح القرظي محمد بن كعب وانظر البغوي السابق.

(٤) البغوي والخازن ٦ / ٢٣٣. وقد رفض أبو حيان ذكر أي رأي من هذه الآراء.

(٥) وعلى ذلك فهي قاف كداع وسام. ولم أعثر على الرأي الأخير هذا بينما ذكر الرأي قبله الزجاج في معاني القرآن ٥ / ٤١ والفراء في معانيه أيضا ٣ / ٧٥.

٣

أحدها : أن أكثر القراء يقف عليها ، ولو كان اسم جبل لما جاز الوقف في الإدراج لأن من قال ذلك قال بأن الله تعالى أقسم به.

وثانيها : لو كان كذلك لذكر بحرف القسم كقوله تعالى : (وَالطُّورِ) [الطور : ١] ، ونحوه ؛ لأن حرف القسم يحذف حيث يكون المقسم به مستحقا لأن يقسم به ، كقولنا : «الله لأفعلئن كذا» فاستحقاقه له يغني عن الدلالة عليه باللفظ ولا يحسن أن يقال : زيد لأفعلئن كذا.

ثالثها : أنه لو كان كما ذكر لكان يكتب قاف مع الألف والفاء كما يكتب : (عَيْنٌ جارِيَةٌ) [الغاشية : ١٢] ، ويكتب : (أَلَيْسَ اللهُ بِكافٍ عَبْدَهُ) [الزمر : ٣٦] وفي جميع المصاحف يكتب حرف «ق».

رابعها : أن الظاهر كون الأمر فيه كالأمر في «ص» و «ن» و «حم» وهي حروف لا كلمات فكذلك في «ق».

فإن قيل : هو منقول عن ابن عباس ـ (رضي الله عنهما (١)) ـ.

نقول : المنقول عنه : أن قاف اسم جبل ، وأما أن المراد هاهنا ذلك فلا.

فصل

قال ابن الخطيب : هذه السورة وسورة ص يشتركان في ا فتتاح أولهما بالحرف المعجم والقسم بالقرآن بعده وقوله بعد القسم : بل والتعجب. ويشتركان أيضا في أن أول السورتين وآخرهما متناسبات لأنه تعالى قال في أول السورة : (ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص : ١] وفي آخرها : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) [ص : ٨٧] وقال في أول ق : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) ، وقال في آخرها : (فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) ، فافتتح بما اختتم (٢) به. وأيضا في أول ص صرف العناية إلى تقرير الأصل الأول وهو التوحيد لقوله تعالى : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) [ص : ٥] وفي هذه السورة صرف العناية إلى تقرير الأصل الآخر وهو الحشر فقال تعالى : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) ، فلما كان ا فتتاح سورة «ص» في تقرير المبدأ قال في آخرها : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) [ص : ٧١]. وختمه بحكاية بدء آدم ، لأنه دليل الوحدانية ، ولما كان ا فتتاح «ق» لبيان الحشر قال في آخرها : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ)(٣).

__________________

(١) زيادة من (أ).

(٢) في (ب) ختم.

(٣) وانظر كل هذا في تفسير الإمام ٢٨ / ١٤٧.

٤

فصل

قال ابن الخطيب : قد ذكرنا أن الحروف تنبيهات قدمت على القرآن ليكون السامع بسببها يقبل على استماع ما يرد على الأسماع ، فلا يفوته شيء من الكلام الرائق والمعنى الفائق ، وذكر أيضا أن العبادة منها قلبية ومنها لسانية ، ومنها خارجية ظاهرة ووجد في الخارجية ما عقل معناه ووجد فيها ما لم يعقل معناه كأعمال الحج من الرمي والسعي وغيرهما ، ووجد في القلبية ما عقل بالدليل وعلم كالتوحيد وإمكان الحشر ، وصفات الله تعالى ، وصدق الرسل ، ووجد فيها ما لم يعقل ولا يمكن التصديق به لو لا السمع كالصراط الممدود الأحد حدا من السيف ، الأرق من الشعر ، والميزان الذي توزن به الأعمال ، فكذلك ينبغي أن يكون الأذكار التي هي العبادة اللسانية فيها (١) ما يعقل معناه ، كجميع القرآن إلا قليلا منه ، وفيها ما لا يعقل ولا يفهم كحروف التهجي ليكون التلفظ به لمحض الانقياد والأمر ، لا لما يكون في الكلام من طيب الحكاية والقصد إلى غرض كقولنا : «ربنا اغفر لنا وارحمنا» بل يكون النطق به تعبدا محضا. ويؤيد هذا وجه آخر ، وهو أن هذه الحروف مقسم بها لأن الله تعالى لما أقسم بالتين والزيتون تشريفا لهما ، فإذا أقسم بالحروف التي هي أصل الكلام الشريف الذي هو دليل المعرفة وآلة التعريف كان أولى.

وإذا عرف هذا نقول : القسم من الله تعالى وقع بأمر واحد كما في قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ) [العصر : ١] وقوله : (وَالنَّجْمِ) [النجم : ١] وبحرف واحد كما في (ص) [ص : ١] و (ق) [ق : ١] ووقع بأمرين كما في قوله تعالى : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ) [الضحى : ١ و ٢] وفي قوله : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) [الطارق : ١] وبحرفين كما في قوله : (طه) [طه : ١] و (طس) [النمل : ١] و (حم) [غافر : ١] ، وقع بثلاثة أمور كما في قوله تعالى : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) [الصافات : ١ ـ ٣]. وقوله : (وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) [البروج : ١ ـ ٣] وبثلاثة أحرف كما في قوله : (الم) [البقرة : ١] ، و (طسم) [الشعراء والقصص : ١] و (الر) [هود : ١١] ووقع بأربعة أمور ، كما في قوله تعالى : (وَالذَّارِياتِ ذَرْواً فَالْحامِلاتِ وِقْراً فَالْجارِياتِ يُسْراً فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) [الذاريات : ١ ـ ٤] وفي قوله : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) [التين : ١ ـ ٣] ، وبأربعة أحرف كما في قوله : (المص) [الأعراف : ١] و (المر) [الرعد : ١] ووقع بخمسة أمور كما في قوله تعالى : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) [الطور : ١ ـ ٦] وفي قوله : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً وَالنَّاشِراتِ نَشْراً فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) [المرسلات : ١ ـ ٥] وفي النازعات (٢) وفي

__________________

(١) في (ب) فيها أيضا وفي الرازي : منها.

(٢) الخامسة الأولى منها : «وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً».

٥

الفجر (١) ، وبخمسة أحرف كما في : (كهيعص) [مريم : ١] و (حم عسق) [الشورى : ١ و ٢] ، ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة وهي الشمس : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) [الشمس : ١ ـ ٦]. ولما أقسم بالأشياء المعهودة ذكر حرف القسم وهو الواو فقال : (وَالطُّورِ) (وَالنَّجْمِ) (وَالشَّمْسِ) وعند القسم بالحروف لم يذكر حرف القسم فلم يقل : وق وحم ؛ لأن القسم لما كان بنفس الحروف كان الحرف مقسما فلم يورده في موضع كونه آلة القسم تسوية بين الحروف ولم يدخل القسم بالحروف في أثناء السورة لأنه يخل بالنظم.

فصل

أقسم الله بالأشياء المركبة العناصر كالتين والطور ، ولم يقسم بأصولها وهي الجواهر المفردة كالماء والترائب ، وأقسم بالحروف من غير تركيب ، لأن الأشياء عند تركيبها تكون على أحسن حالها ، وأما الحروف إن ركبت لمعنى يقع الحلف بمعناه لا باللفظ ، كقولنا والسماء والأرض وإن ركبت لا لمعنى فكأن المفرد أشرف فأقسم بمفردات الحرف.

فصل

هذه السورة تقرأ في صلاة العيد ، لقوله تعالى فيها : (ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ) وقوله:و (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) وقوله : (ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ) ، فإن العيد يوم الزينة فينبغي أن لا ينسى الإنسان خروجه إلى عرصات الحساب. ولا يكون في ذلك اليوم فرحا فخورا ولا يرتكب فسقا ولا فجورا (٢). والعامة على سكون الفاء من قاف (٣). وقد تقدم. وفتحها عيسى(٤) ، وكسرها الحسن ، وابن أبي إسحاق ، وضمها هارون وابن السميقع (٥) وقد مضى توجيه ذلك ، وهو أن الفتح يحتمل البناء على الفتح للتخفيف ، أو يكون منصوبا بفعل مقدر ومنع الصرف أو مجرورا بحرف قسم مقدر وإنما منع الصرف أيضا. والضم على أنه مبتدأ وخبره منع الصرف أيضا.

قال ابن الخطيب : فأما القراءة فيها فإن قلنا : هي مبنية على ما بينا فحقها الوقف ؛ إذ لا عامل فيها ويجوز الكسر حذرا من التقاء الساكنين ، ويجوز الفتح اختيارا للأخف.

__________________

(١) الأربعة الأولى من الفجر : «وَالْفَجْرِ. وَلَيالٍ عَشْرٍ. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ».

(٢) وانظر الرازي الإمام ٢٨ / ١٤٦.

(٣) فتكون اسم فعل بمعنى أقف كما قال : قلنا لها قفي قالت قاف.

(٤) وسيجيء توجيه تلك القراءة هي وأختها التالية وانظر المحتسب ٢ / ٢٨١ ومختصر ابن خالويه ١٤٤.

(٥) وكذا قال أبو حيان في البحر ٨ / ١٢٠ وأضاف ابن خالويه الحسن لهذين بالإضافة إلى كسره قاف.

وانظر المختصر ١٤٤.

٦

فإن قيل : كيف جاز اختيار الفتح هاهنا ولم يجز عند التقاء الساكنين إذا كان أحدهما آخر كلمة والآخر أول كلمة أخرى ، كقوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا) [البينة : ١] (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ) [الأنعام : ٥٢]؟!.

نقول : لأن هناك إنما وجب التحريك لأن الكسرة في الفعل تشبه حركة الإعراب ، لأن الفعل إنما كان محلا للرفع والنصب ولا يوجد فيه الجر اختير الكسرة التي لا يخفى على أحد أنها ليست بجر ؛ لأن الفعل لا يجوز فيه الجر ، ولو فتح لا شتبه بالنصب ، وأما في أواخر الأسماء فالاشتباه لا زم ، لأن الاسم محل يرد عليه الحركات الثلث فلم يمكن الاحتراز فاختاروا الأخف.

وإن قلنا : إنها حرف مقسم به فحقها الجر ، ويجوز النصب على أنه مفعول به ب «أقسم» على وجه الاتصال وتقدير الباء كأن لم يوجد.

وإن قلنا : هي اسم السورة (١) ، فإن قلنا : مقسم بها مع ذلك فحقها الفتح لأنها لا تنصرف حينئذ فتفتح في موضع الجر كما تقول : «وإبراهيم وأحمد» ، إذا أقسمت بهما (٢) وإن قلنا : (إنه (٣)) ليس مقسما بها فإن قلنا : هي اسم السورة فحقها الرفع إذا جعلناها خبرا تقديره : «هذه ق» وإن قلنا : هو من قفا يقفو فحقه التنوين كقولنا : هذا داع وراع.

وإن قلنا : اسم جبل فالجر والتنوين وإن كان قسما (٤).

قوله : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) قسم ، وفي جوابه أوجه :

أحدها : أنه قوله : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ)(٥).

الثاني : (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ)(٦).

الثالث : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ)(٧).

__________________

(١) في (ب) اسم للسورة.

(٢) هذا كله توجيه الرازي في تفسيره ٢٨ / ١٤٧ و ١٤٨. وعبر أبو الفتح بن جني عن الفتح بقوله : يحتمل قاف بالفتح أمرين : أحدهما : أن تكون حركته لا لتقاء الساكنين كما أن من يقرأ قاف بالكسر كذلك غير أن من فتح أتبع الفتحة صوت الألف لأنها منها ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين وانظر المحتسب ٢ / ٢٨١.

(٣) زيادة للسياق.

(٤) وانظر تفسير الرازي المرجع السابق ٢٨ / ١٤٨ ، وانظر التبيان ١١٧٣ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٣١٨.

(٥) ذكر مكي في المشكل أنه رأي الأخفش انظر المشكل ٢ / ٣١٨ والتبيان ١١٧٣ وهو رأي الأخفش فعلا في معاني القرآن ٦٩٦.

(٦) نقله في البحر دون نسبة انظر البحر ٨ / ١٢٠.

(٧) نسبه أبو حيان إلى ابن كيسان والأخفش.

٧

الرابع : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى)(١).

الخامس : (بَلْ عَجِبُوا). وهو قول كوفي ، قالوا : لأنه بمعنى قد عجبوا (٢).

السادس : أنه محذوف ، فقدره الزجاج (٣) والأخفش (٤) والمبرد : لتبعثن ، وغيرهم : لقد جئتهم منذرا.

واعلم أن جوابات القسم سبعة ، إن المشددة كقوله : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) [العصر : ١ و ٢] ، و «ما» النافية كقوله : (وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) [الضحى : ١ ـ ٣] واللام المفتوحة كقوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ) [الحجر : ٩٢] وإن الخفيفة كقوله : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الشعراء : ٩٧] ولا النافية كقوله : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ) [النحل : ٣٨] ، و «قد» كقوله : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالْأَرْضِ وَما طَحاها وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) [الشمس : ١ ـ ٩] ، وبل كقوله : (وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا)(٥). والمجيد : العظيم. وقيل : المجيد : الكثير الكرم.

فإن قلنا : المجيد العظيم ، فلأن القرآن عظيم الفائدة ولأنه ذكر الله العظيم ، وذكر العظيم عظيم ولأنه لم يقدر عليه أحد من الخلق ، وقال تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) [الحجر : ٨٧]. ولا يبدل ولا يغير ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وإن قلنا : المجيد هو الكثير الكرم فالقرآن كريم كل من طلب منه مقصودا وجده ، ويغني كل من لا ذ به وإغناء المحتاج غاية الكرم.

فإن قيل : القرآن مقسم به فما المقسم عليه؟.

فالجواب : أن المقسم عليه إما أن يفهم بقرينة حالية أو قرينة مقالية ، والمقالية إما أن تكون متقدمة على المقسم به أو متأخرة ، فإن فهم من قرينة مقالية متقدمة ، فلا يتقدم هنا لفظا إلا «ق» فيكون التقدير : هذا ق والقرآن ، أو ق أنزلها الله تعالى والقرآن ، كقولك : هذا حاتم والله ؛ أي هو المشهور بالسخاء ، وتقول : الهلال والله أي رأيته والله. وإن فهم من قرينة مقالية متأخرة فذلك أمران :

أحدهما : أن التقدير : والقرآن المجيد إنك المنذر ، أو والقرآن المجيد إن الرجع لكائن ، لأن كلام الأمرين ورد طاهرا ، أما الأول فقوله تعالى : (يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ) إلى أن قال : (لِتُنْذِرَ قَوْماً) [يس : ١ ـ ٦].

__________________

(١) نقله أيضا عن محمد بن علي الترمذي.

(٢) نقله في البحر المرجع السابق.

(٣) قال في معاني القرآن : «إنكم لمبعوثون». معاني القرآن وإعرابه ٥ / ٤١.

(٤) لم أجده في معاني القرآن له.

(٥) وانظر تفسير العلامة البغوي ٦ / ٢٣٣.

٨

وأما الثاني : فقوله تعالى : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) [الطور : ١ ـ ٧].

قال ابن الخطيب : وهذا الوجه يظهر غاية الظهور على قال من قال : «ق» اسم جبل فإن القسم يكون بالجبل والقرآن ، وهناك أقسم بالطور والكتاب المسطور وهو الجبل والقرآن وإن فهم بقرينة حالية فهو كون محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ على الحق فإن الكفار كانوا ينكرون ذلك (١).

قوله : (بَلْ عَجِبُوا) يقتضي أن يكون هناك أمر مضروب (٢) عنه فما ذلك؟ أجاب الواحدي ووافقه الزمخشريّ أنه تقرير كأنه قال : ما الأمر كما تقولون (٣). قال ابن الخطيب : والتقدير والقرآن المجيد إنك لمنذر ، وكأنه قال بعده : إنهم شكوا فيه. ثم أضرب عنه وقال : بل عجبوا أي فلم يكتفوا بالشك ولا بالردّ حتى عجبوا بل جزموا بالخلاف حتى جعلوا ذلك من الأمور العجيبة.

فإن قيل : فما الحكمة في هذا الاختصار العظيم في موضع واحد حذف المقسم عليه والمضرب عنه ، وأتى بأمر لا يفهم إلا بعد الفكر العظيم ولا يفهم مع الفكر إلا بالتوثيق العزيز؟!.

قال ابن الخطيب : أما حذف المقسم عليه فلأن الترك في بعض المواضع يفهم منه ظهور لا يفهم من الذكر ، لأن من ذكر الملك العظيم في مجلس ، وأثنى عليه يكون قد عظّمه ، فإذا قال له غيره : هو لا يذكر في هذا المجلس يكون بالإرشاد إلى ترك الذكر دالّا على عظمة فوق ما استفيد بذكره فالله (تعالى (٤)) ذكر (٥) المقسم عليه لبيان هو أظهر من أن يذكر. وأما حذف المضرب عنه ، فلأن المضرب عنه إذا ذكر وأضرب عنه بأمر آخر ، وكان بين المذكورين تفاوت ما ، فإذا عظم (٦) التفاوت لا يحسن ذكرهما مع الإضراب ، مثاله يحسن أن يقال : الوزير يعظم ، فلا يماثل الملك بعظمه ، ولا يحسن أن يقال : البواب يعظّم فلا يماثل الملك بعظمه لكون البون بينهما بعيدا ، إذ الإضراب للتدريج ، فإذا ترك المتكلم المضرب عنه صريحا وأتى بحرف الإضراب استفيد منه أمران :

أحدهما : الإشارة إلى أمر آخر قبله مضرب عنه.

__________________

(١) وانظر تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨ / ١٤٨ و ١٤٩.

(٢) كذا في النسختين والأصح كما في الرازي مضرب لأنه من الرباعي.

(٣) قال في الكشاف : إنكار لتعجبهم مما ليس بعجب وهو أن ينذرهم بالخوف. وانظر الكشاف ٤ / ٣ و ٤ والرازي ٢٨ / ١٤٩.

(٤) زيادة من (أ).

(٥) في (ب) وهو الأصحّ ترك.

(٦) في (ب) علم.

٩

والثاني : عظم التفاوت بينهما ، وههنا كذلك لأن الشك بعد قيام البرهان بعيد لكن القطع بخلافه في غاية ما يكون من البعد فالعجب منه أبعد (١).

قوله : «أن جاءهم» فيه سؤال ، وهو : أن مع الفعل بتقدير المصدر ... تقول : «أمرت بأن أقوم وأمرت بالقيام» ، وإذا كان كذلك فلم ترك الإتيان بما هو في معنى المصدر ما يجب ذكره عند الإتيان بالمصدر حيث جاز (أن تقول) (٢) : أمرت أن أقوم من غير باء ، ولا يجوز أن تقول : أمرت القيام بل لا بد من الباء ولذلك قال : عجبوا أن جاءهم ، ولا يجوز أن يقال (٣) : عجبوا مجيئه بل لا بد من قولك : عجبوا من مجيئه!.

والجواب : أن قوله : أن جاءهم وإن كان في المعنى قائما مقام المصدر ، لكنه في الصورة تقدير ، وحروف التقدير كلها حروف جارّة ، والجارّ لا يدخل على الفعل فكان الواجب أن لا يدخل فلا أقلّ من أن يجوز الدخول فجاز أن يقال : عجبوا أن جاءهم ، ولا يجوز : عجبوا مجيئهم ؛ لعدم جواز إدخال الحرف عليه (٤).

قوله : «منهم» أي يعرفون نسبه وصدقه وأمانته ، وهذا يصلح أن يكون مذكورا لتقرير تعجّبهم ويصلح أن يكون مذكورا لإبطال تعجبهم ، أما وجه تقرير تعجبهم فلأنهم كانوا يقولون : (أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ) [القمر : ٢٤] و (قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) [يس : ١٥] وذلك إشارة إلى أنه كيف يجوز اختصاصه بهذه المنزلة الرفيعة مع اشتراكنا في الحقيقة واللوازم؟ وأما تقدير الإبطال فلأنه إذا كان واحدا منهم ويرى بين أظهرهم وظهر منه ما عجزوا عنه كلهم ومن بعدهم فكان يجب عليهم أن يقولوا : هذا ليس من عنده ولا من عند أحد من جنسنا فهو من عند الله بخلاف ما لو جاءهم واحد من خلاف جنسهم ، وأتى بما يعجزون عنه فإنهم كانوا يقولون: نحن لا نقدر على ذلك ، لأن لكل نوع خاصية كما أن النّعامة تبلع النّار ، وابن آدم لا يقدر على ذلك (٥).

قوله : (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) قال الزمخشري : هذا تعجّب (٦) آخر من أمر آخر ، وهو الحشر الذي أشار إليه بقوله : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) فتعجبوا من كونه منذرا ومن وقوع الحشر ، ويدل عليه قوله في أول «ص» : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) [ص : ٤] وقال : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) [ص : ٥] فذكر تعجبهم من أمرين. قال ابن الخطيب : والظاهر أن قولهم هذا إشارة إلى مجيء المنذر لا إلى الحشر ، لأن هناك ذكر : إنّ هذا لشيء عجاب بعد الاستفهام الإنكاري فقال : (أَجَعَلَ

__________________

(١) وانظر تفسير الإمام الرازيّ ٢٨ / ١٥٠.

(٢) سقط من (ب).

(٣) في (ب) : أن تقول.

(٤) الرازي : ٢٨ / ١٥٠.

(٥) الرازي المرجع السابق.

(٦) قال : دلالة على أن تعجبهم من البعث أدخل في الاستبعاد وأحق بالإنكار. الكشاف ٣ / ٤.

١٠

الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) وقال ههنا : (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ) ، ولم يكن هناك ما تقع الإشارة إليه إلا مجيء المنذر ، ثم قالوا : (أَإِذا مِتْنا) ، وأيضا أن ههنا وجد بعد الاستبعاد بالاستفهام أمر يؤدي معنى التعجب ، وهو قولهم : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) ؛ فإنه استبعاد وهو كالتعجب فلو كان التعجب أيضا عائدا إليه لكان كالتكرار.

فإن قيل : التكرار الصريح يلزم من قولك : (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) يعود إلى مجيء المنذر فإن تعجبهم منه علم من قوله : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ) فقوله : (هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) ليس تكرارا!.

نقول : ذلك ليس بتكرار ، بل هو تقرير ؛ لأنه لما قال : بل عجبوا بصيغة الفعل وجاز أن يتعجب الإنسان مما لا يكون عجبا كقوله (تعالى (١)) : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) [هود : ٧٣] ويقال في العرف : لا وجه لتعجّبك مما ليس بعجب ، فكأنهم لما عجبوا قيل لهم : لا معنى لتعجّبكم ، فقالوا : هذا شيء عجيب فكيف لا نعجب منه؟! ويدل على ذلك قوله تعالى ههنا : (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) بحرف الفاء وقال في «ص» : (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ) بحرف الواو فكان نعتا غير مرتب على ما تقدم ، وهذا شيء عجيب أمر مرتب على ما تقدم ، أي لما عجبوا أنكروا عليهم ذلك فقالوا : هذا شيء عجيب كيف لا نعجب منه؟ ويدل عليه أيضا قوله تعالى : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) بلفظ الإشارة إلى البعيد. وقوله : (هذا ساحِرٌ) إشارة إلى الحاضر القريب فينبغي أن يكون المشار إليه بذلك غير المشار إليه بهذا ، وهذا لا يصحّ إلا على قولنا (٢).

قوله : (أَإِذا مِتْنا) قرأ العامّة بالاستفهام ؛ وابن عامر ـ في رواية ـ وأبو جعفر والأعمش والأعرج بهمزة واحدة (٣) فيحتمل الاستفهام كالجمهور. وإنما حذف الأداة للدلالة ، ويحتمل الإخبار بذلك (٤) ، والناصب للظرف في قراءة الجمهور مقدر أي أنبعث أو أنرجع إذا متنا(٥). وجواب (إِذا) على قراءة الخبر محذوف أي رجعنا. وقيل قوله : (ذلِكَ رَجْعٌ) على حذف الفاء ، وهذا رأي بعضهم (٦). والجمهور لا يجوز ذلك إلّا في شعر (٧) (وقال الزمخشري) (٨) : ويجوز أن يكون الرّجع بمعنى المرجوع وهو الجواب ،

__________________

(١) زيادة من (أ).

(٢) وانظر تفسير الرازي ٢٨ / ١٥٠ و ١٥١.

(٣) البحر المحيط ٨ / ١٢٠ والإتحاف ٣٩٨.

(٤) بالمعنى من البحر المرجع السابق. أقول : وحذف أداة الاستفهام جائز وهو شائع ، وعلى إرادة الخبر يكون المعنى : إذا متنا بعد أن نرجع والدال عليه : «ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ».

(٥) قاله مكي في المشكل ٢ / ٣١٨ وأبو البقاء العكبري في التبيان ١١٧٣.

(٦) نقل أبو حيان القولين فنسب الثاني لصاحب اللوامح وترك الأول دون نسبة وانظر البحر المحيط ٨ / ١٢٠.

(٧) للضرورة. انظر السابق.

(٨) ما بين القوسين سقوط من (أ) وزيادة من (ب).

١١

ويكون من كلام الله تعالى استبعادا لإنكارهم ما أنذروا به من البعث والوقف على «ما» على هذا التفسير حسن.

فإن قيل : فما ناصب الظرف إذا كان الرّجع بمعنى المرجوع؟.

فالجواب : ما دلّ عليه المنذر من المنذر به وهو البعث (١).

فصل

قال ابن الخطيب : «ذلك» إشارة إلى ما قاله وهو الإنذار ، وقوله : هذا شيء عجيب إشارة إلى المجيء فلما اختلفت الصفتان (٢) نقول : المجيء والجائي كل واحد حاضرا (٣) وأما الإنذار وإن كان حاضرا لكن المنذر به كان جازما على (٤) الحاضر ، فقالوا فيه ذلك (٥). والرجوع مصدر رجع إذا كان متعديا والرجوع مصدر إذا كان لازما وكذلك الرّجعى مصدر عند لزومه. والرجوع أيضا يصحّ مصدرا للّازم فيحتمل أن يكون المراد بقوله : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي رجوع بعيد ، ويحتمل أن يكون المراد : الرّجعى (٦) المتعدّي ، ويدل على الأول قوله تعالى : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) [العبق : ٨] وعلى الثاني قوله تعالى : (أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) [النازعات: ١٠] أي مرجوعون ؛ فإنه من الرجوع المتعدي.

فإن قلنا : هو من المتعدي فقد أنكروا كونه مقدورا في نفسه (٧).

فصل

قال المفسرون : تقديره : أئذا متنا وكنّا ترابا نبعث ، ترك ذكر البعث لدلالة الكلام عليه : (ذلِكَ رَجْعٌ) أي رد إلى الحياة (بَعِيدٌ) غير كائن أي يبعد أن نبعث بعد الموت.

قوله تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) أي تأكل من لحومهم ودمائهم وعظامهم ، لا يعزب عن علمه شيء. وقال السدي : هو الموت يقول : قد علمنا من يموت منهم ، ومن يبقى (٨).

__________________

(١) مع اختلاف طفيف في العبارة له وانظر الكشاف ٤ / ٤٠.

(٢) كذا في (أ) والرازي وفي (ب) الصّيغتان. وهو الأقرب.

(٣) كذا فيهما وفي الرازي : حاضر وهو الأصح لغة.

(٤) في الرازي : لكن لكون المنذر به لما كان غير حاضر قالوا فيه ذلك.

(٥) وانظر تفسيره ٢٨ / ١٥١.

(٦) في الرازي : الرجع. وقد ذكر صاحب اللسان هذه الأشياء في معجمه رجع قال : ومصدره لازما الرجوع ومصدره واقعا الرّجع يقال : رجعته رجعا فرجع يستوي فيه بلفظ اللازم والواقع ، ثم قال : رجع يرجع رجعا ورجوعا ورجعى ورجعانا ومرجعا ومرجعة. انظر اللسان «رجع» ١٥٩١.

(٧) أي كون الرجع مقدورا في نفسه وانظر تفسير الإمام ٢٨ / ١٥٢.

(٨) ٨١ من سورة يس. وانظر تفسير العلامتين البغوي والخازن ٦ / ٢٣٣ و ٢٣٤.

١٢

وهذه الآية تدل على جواز البعث وقدرته تعالى عليه ، لأن الله سبحانه وتعالى عالم بأجزاء كل واحد من الموتى لا يشتبه عليه جزء واحد بجزء الآخر ، وقادر على الجمع والتأليف فليس الرجع منه ببعيد ، وهذا كقوله تعالى : (وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(١). حيث جعل العلم مدخلا في الإعادة وهذا جواب لما كانوا يقولون : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ) [السجدة : ١٠] أي أنه تعالى كما يعلم أجزاءهم يعلم أعمالهم فيرجعهم ويعذبهم بما كانوا يقولون وبما كانوا يعملون.

قوله تعالى : (وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) أي محفوظ من الشياطين ومن أن يدرس أو يتغيّر. وهو اللوح المحفوظ. وقيل : معناه حافظ لعدتهم وأسمائهم وأعمالهم. قال ابن الخطيب : وهذا هو الأصحّ ؛ لأن الحفيظ بمعنى الحافظ وارد في القرآن قال تعالى : (وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [هود ٦٦] وقال : (اللهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ) [الشورى : ٦] ولأن الكتاب للتمثيل ومعناه : العلم عندي كما يكون في الكتاب ، فهو يحفظ الأشياء وهو مستغن عن أن يحفظ (٢).

قوله تعالى : (بَلْ كَذَّبُوا) هذا إضراب ثان ، قال الزمخشري : إضراب أتبع للإضراب الأول للدلالة على أنهم جاؤوا بما هو أفظع من تعجبهم وهو التكذيب بالحق (٣). وقال أبو حيان : وكان هذا الإضراب الثاني بدلا من الأوّل (٤). قال شهاب الدين : وإطلاق مثل هذا في كتاب الله لا يجوز ألبتة. وقيل : قبل هذه الآية جملة مضرب عنها تقديرها : ما أجازوا النظر بل كذّبوا (٥). وما قاله الزمخشري أحسن.

فصل

في المضروب عنه وجهان :

أحدهما : أنه الشكّ تقديره : والقرآن المجيد إنّك لمنذر ، وإنهم شكوا فيك بل عجبوا بل كذبوا.

والثاني : تقديره : لم يكذب المنذر بل كذبوا هم (٦).

وفي المراد بالحق وجوه :

الأول : البرهان القائم على صدق الرسول ـ (عليه الصلاة والسلام ـ) (٧).

__________________

(١) قاله الرازي في مرجعه السابق.

(٢) الرازي المرجع السابق وانظر البغوي ٦ / ٢٣٣ ولباب التأويل للخازن نفس الجزء والصفحة.

(٣) الذي هو النبوة الثابتة بالمعجزات في أول وهلة من غير تفكر ولا تدبر. وانظر كشافه ٤ / ٤.

(٤) قال : وكلاهما بعد ذلك الجواب الذي قدرناه جوابا للقسم البحر ٨ / ١٢١.

(٥) ذكره أبو حيان في مرجعه السابق.

(٦) ذكر الرازي الوجه في تفسيره ٢٨ / ١٥٢ و ١٥٣.

(٧) زيادة من الأصل ما بين القوسين.

١٣

الثاني : الفرقان المنزل وهو قريب من الأول ؛ لأنه برهان.

الثالث : السورة الثابتة بالمعجوة القاهرة فإنّها حقّ.

الرابع : الحشر الذي لا بد من وقوعه فهو حق.

فإن قيل : ما معنى الباء في قوله تعالى : (بالحقّ)؟ وأية حاجة إليها؟ يعني أن التكذيب متعدّ بنفسه فهل هي التعدية إلى مفعول ثان أو هي زائدة كما هي قوله تعالى : (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) [القلم : ٥ و ٦].

فالجواب : أنها في هذا الموضع لإظهار التعدية ؛ لأن التكذيب (هو النسبة إلى (١) الكذب) لكن النسبة توجد تارة في القائل وأخرى في القول ، تقول : كذّبني فلان وكنت صادقا ويقول : كذّب فلان قولي (٢) ، ويقال : كذّبه أي جعله كاذبا وتقول : قلت لفلان : زيد يجيء غدا ، فتأخر عمدا حتى كذّبني أو (٣) كذب قولي. والتكذيب في القائل يستعمل بالباء وبدونها قال تعالى : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء : ١٤١] وقال (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) [القمر: ٢٣] وفي القول كذلك غير أن الاستعمال في القائل بدون الباء أكثر قال تعالى : (فَكَذَّبُوهُ) [الأعراف : ٦٤] وقال : (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) [فاطر : ٤]. وفي القول الاستعمال بالباء أكثر قال تعالى : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) [القمر : ٤٢] وقال : (كَذَّبُوا بِالْحَقِ) [ق : ٥]. وقال : (وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ) [الزمر : ٣٢].

والتحقيق فيه أن الفعل المطلق هو المصدر ، لأنه هو الذي يصدر من الفاعل ، فإن من ضرب لم يصدر منه غير الضّرب ، غير أن له محلا يقع فيه يسمى مضروبا. ثم إن كان ظاهرا لكونه محلا للفعل يستغني بظهوره عن الحرف فيعدى من غير حرف يقال : ضربت عمرا وشربت ماء للعلم بأن الضرب لا بدّ له من محل يقوم به وكذلك الشرب لا يستغني عن مشروب يتحقق (٤) فيه ؛ فإذا قلت : مررت يحتاج إلى الحرف ليظهر معنى التعدية ، لعدم ظهوره في نفسه ؛ لأن قولك : مرّ السّحاب يفهم (٥) منه مرور ، (و (٦)) لا يفهم من مرّ به.

ثم إن الفعل قد يكون في الظهور دون الضّرب والشّرب وفي الخفاء فوق المرور ، فيجوز الإتيان فيه بدون الحرف للظهور الذي فوق ظهور المرور ، ومع الحرف لكون الظهور دون ظهور الضرب ، ولهذا لا يجوز أن تقول : ضربت بعمرو إلا إذا جعلته آلة الضرب ، أما إذا ضربته بسوط (٧) أو غيره فلا يجوز فيه زيادة الباء ، ولا يجوز : مررته (٨)

__________________

(١) ما بين القوسين سقط من نسخة (ب).

(٢) في الرازي : قول فلان.

(٣) وفيه : «وكذب» بالواو لا أو.

(٤) في (ب) متحقق بالاسمية.

(٥) في (ب) معهم. تحريف.

(٦) الواو ساقطة من (ب).

(٧) في (ب) الصوت تحريف.

(٨) كذا في النسختين وفي الرازي : مروا به بواو الجماعة.

١٤

إلا مع الاشتراك وتقول : مسحته ومسحت به ، وشكرته وشكرت له لأن المسح إمرار اليد بالشيء فصار كالمرور والشكر فعل جميل غير أنه يقع لمحسن (١) فالأصل في الشكر الفعل الجميل وكونه واقعا لغيره كالتّبع (٢) بخلاف الضرب فإنه إمساس جسم بجسم بعنف ، فالمضروب داخل في مفهوم الضّرب أولا ، والمشكور داخل في مفهوم الشكر ثانيا ، وإذا عرف هذا فالتكذيب في القائل طاهر ، لأنه هو الذي يصدق أو يكذب وفي القول غير ظاهر ، فكان الاستعمال فيه بالباء أكثر والباء فيه لظهور معنى التعدية ، وقوله : (لَمَّا جاءَهُمْ) هو المكذب تقديره : وكذّبوا بالحق لما جاءهم الحقّ أي لم يؤخروه إلى التفكر والتدبر (٣).

قوله : (لَمَّا جاءَهُمْ) العامة على تشديد (لَمَّا) ، وهي إما حرف وجوب لوجوب (٤) أو ظرف بمعنى حين (٥) كما تقدم. وقرأ الجحدريّ لما ـ بكسر اللام وتخفيف الميم ـ على أنها لام الجر دخلت على ما المصدرية وهي نظير قولهم : كتبته لخمس خلون أي عندها (٦).

قوله : فهم في أمر مريج ، أي مريج ، أي مختلط ، قال أبو واقد :

٤٥٠٦ ـ ومرج الدّين فأعددت له

مشرف الأقطار محبوك الكتد (٧)

وقال آخر :

٤٥٠٧ ـ فجالت والتمست به حشاها

فخرّ كأنّه خوط مريج (٨)

وأصله من الحركة والاضطراب ، ومنه : مرج الخاتم في إصبعه وقال سعيد بن جبير ومجاهد : ملتبس.

__________________

(١) في الرازي : بمحسن.

(٢) وفيه : بغيره كالبيع وهو تحريف فالمقصود ما كتبه الناسخ.

(٣) وانظر في هذا كله تفسير أستاذنا الإمام الفخر الرازي ٢٨ / ١٥٣ و ١٥٤.

(٤) هذا قول البعض وقال ابن هشام في المغني : حرف وجود لوجود.

(٥) وهو رأى ابن السراج والفارسي وابن جني وجماعة ، وقال ابن مالك : بمعنى إذ وهو حسن لأنّها مختصة بالماضي وبالإضافة إلى الجملة وانظر المغني ٢٨٠ والتسهيل ٩٢ ، و ٩٣ والهمع ١ / ٢١٥.

(٦) وقال أبو الفتح : بمعنى : «لَمَّا جاءَهُمْ» أي مجيئه إياهم كقولك : أعطيته ما سأل لطلبه أي : عند طلبه ومع طلبه. وانظر المحتسب ٢ / ٢١٢.

(٧) البيت من الرمل وهو لأبي دؤاد يصف فرسا والبيت رواية البحر وفي اللسان : الدّهر ، ويروى : الحارك بدل الأقطار وهو أعلى الكاهل والمحبوك المحكم الخلق ، والكتد : مجتمع الكتفين والمراد أن فيه استواء مع ارتفاع. وانظر البيت في اللسان «حبك» ٧٥٨ والبحر ٨ / ١٢١ والقرطبي ١٧ / ٥.

(٨) من الوافر لعمرو بن الداخل الهذلي وشاهده هو وما قبله في المرج بمعنى الخلط ، ورواية البيت كالتهذيب للأزهري وفي اللسان : غصن مريع أي غصن له شعب قصار قد التبست. وانظر التهذيب واللسان «مرج» والطبري ٢٦ / ٧٧٦ والدر المنثور ٧ / ٥٩٠ ومجمع البيان ٩ / ٢١١ والبحر ٨ / ١٢١ والقرطبي ١٧ / ٥ وديوان الهذليين ٣ / ٩٨.

١٥

فصل

قال قتادة : معناه من ترك الحق مرج إليه أمره وألبس عليه دينه. وقال الحسن : ما ترك قوم الحقّ إلا مرج أمرهم. وقال الزجاج : معنى اختلاط أمرهم أنهم يقولون للنبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مرة شاعر ، ومرة ساحر ، ومرة معلّم ، ومرة كاهن ، ومرة معترّ (١) ومرة ينسبونه إلى الجنون فكان أمرهم مختلطا ملتبسا عليهم.

قوله تعالى : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١)

ثم ذكر الدليل الذي يدفع قولهم : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) فقال : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها) بغير عمد وزيناها» بالكواكب ، وهو نظير قوله تعالى : (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ) [يس : ٨١] وقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) [الأحقاف : ٣٣].

قوله : (أَفَلَمْ) الهمزة للاستفهام. واعلم أن همزة الاستفهام تارة تدخل على الكلام بغير واو وتارة تدخل ومعها واو والفرق بينهما أن قولك : أزيد في الدار؟ بعد : وقد طلعت الشّمس (يذكره للإنكار (٢).

فإن قلت : أو زيد في الدار بعد : وقد طلعت الشّمس) يشير بالواو إلى أن قبح فعله صار بمنزلة فعلين قبيحين ، لأن (٣) الواو تنبىء عن سبق أمر مغاير لما بعدها وإن لم يكن هناك سابق لكنك تأتي بالواو زيادة في الإنكار.

فإن قيل : كيف أتى هنا بالفاء فقال : (أَفَلَمْ) وفي موضع آخر بالواو؟!.

فالجواب : هنا سبق منهم إنكار الرجع فقال بحرف التعقيب لمخالفة ما قيل.

فإن قيل : ففي «يس» سبق ذلك بقوله : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ)؟.

فالجواب : بأن هناك الاستدلال بالسموات لم يعقب الإنكار بل استدل بدليل آخر وهو قوله : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) ثم ذكر الدليل الآخر وههنا الدليل كان عقيب إنكارهم ، فذكر بالفاء.

__________________

(١) في (ب) مفتر.

(٢) ما بين القوسين سقط من (ب) بسبب انتقال النظر.

(٣) في ب : فإن.

١٦

فإن قيل : كيف قال ههنا بلفظ النظر وفي الأحقاف بلفظ الرؤية؟!.

فالجواب : أنهم ههنا لما استبعدوا أمر الرجع بقولهم : (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) استبعد استبعادهم وقال : أفلم ينظروا ؛ لأن النظر دون الرؤية فقال النظر كاف (١) في حصول العلم بإمكان الرجع ، ولا حاجة إلى الرؤية ، ليقع الاستبعاد في مقابلة الاستبعاد (٢) وهناك لم يوجد منهم إنكار فأرشدهم إليه بالرؤية التي هي أتمّ من النظر (٣).

قوله : (إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) فقوله : (فَوْقَهُمْ) حال من السماء وهي مؤكدة وكيف منصوبة بما بعدها وهي معلّقة للنظر قبلها.

فإن قيل : كيف قال : إلى السماء ولم يقل : في السّماء؟!.

فالجواب : لأنّ النظر في الشيء ينبىء عن التأمّل والمبالغة والنظر إلى الشيء لا ينبىء عنه ؛ لأن (إِلَى) غاية منتهى النظر عنده وفي الدخول في معنى الظرف فإذا انتهى النظر إليه ينبغي أن ينفذ فيه حتى يصح معنى النظر فيه (٤).

قوله : (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) أي شقوق وفتوق وصدوع ، واحدها فرج.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) بسطناها على وجه الماء (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جبالا ثوابت (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) حسن كريم يبهج به أي يستر (٥).

قوله : (تَبْصِرَةً) العامة على نصيبها على المفعول من أجله (٦) أي تبصير أمثالهم وتذكير أمثالهم. وقيل : منصوبان بفعل من لفظهما مقدر أي بصّرهم تبصرة وذكّرهم تذكرة (٧). وقيل : حالان أي مبصّرين مذكّرين ، وقيل : حال من المفعول أي ذات تبصير وتذكير لمن يراها (٨). وزيد بن علي بالرفع. وقرأ : وذكر أي هي : تبصرة وذكر (٩) و «لكلّ» إما صفة وإما متعلق بنفس المصدر. وقال البغوي : تبصّرا (١٠) وتذكيرا.

__________________

(١) في الرازي : فكأن النظر كان في حصول العلم.

(٢) كذا في النسختين وفي الرازي : الاستبعاد.

(٣) وانظر الرازي ٢٨ / ١٥٥.

(٤) كذا في النسختين وفي الرازي معنى الظرفية.

(٥) قال بهذه المعاني القرطبي في الجامع ١٧ / ٦.

(٦) نقله القرطبي في المرجع السابق عن أبي حاتم.

(٧) وهو قول أبي حيان في البحر ٨ / ١٢١.

(٨) وقد نقل هذه الأقوال في كتابه أبو البقاء ١١٧٣.

(٩) أي ذلك الخلق على ذلك الوصف تبصرة فيكون لفظ تبصرة خبرا. وانظر البحر السابق وهي شاذة.

وانظر أيضا الكشاف ٤ / ٤.

(١٠) في معالم التنزيل له : تبصيرا مصدر بصر لا تبصّرا مصدر تبصّر. وانظر معالم التنزيل ٦ / ٢٣٤.

١٧

فصل

قال ابن الخطيب : يحتمل أن يكون الأمران عائدين إلى السماء والأرض أي خلق السماء تبصرة وخلق الأرض ذكرى. ويدل على ذلك أن السماء زينتها مستمرة غير مستجدّة في كل عام ، فهي كالشيء المرئي على مرور الزمان. وأما الأرض فهي كل سنة تأخذ زخرفها فتذكّر ، فالسماء تبصرة والأرض تذكرة ، ويحتمل أن يكون كل واحد من الأمرين موجودا في كلّ واحد من الأمرين فالسماء تبصرة وتذكرة والأرض كذلك والفرق بين التبصرة والتذكرة هو أن فيها آيات مستمرة منصوبة في مقابلة البصائر وآيات متجددة متذكرة (١) عند التّناسي.

قوله : (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي لتبصّر وتذكّر كل عبد منيب : أي راجع التفكر والتذكّر والنظر في الدلائل.

قوله : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) كثير الخير ، وفيه حياة كل شيء وهو المطر (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ) ، يعني البرّ والشّعير وسائر الحبوب التي تحصد (٢) ، فقوله : (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) يجوز أن يكون من باب حذف الموصوف للعلم به ، تقديره وحب الزرع (٣) الحصيد ، نحو : مسجد الجامع وبابه وهذا مذهب البصريين (٤) ؛ لئلا يلزم إضافة الشيء إلى نفسه. ويجوز أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته ؛ لأن الأصل والحبّ الحصيد أي المحصود.

فصل

هذا دليل آخر وهو ما بين السماء والأرض فيكون الاستدلال بالسماء والأرض وما بينهما وهو إنزال الماء من فوق وإخراج النبات من تحت.

فإن قيل : هذا الاستدلال قد تقدم في قوله تعالى : (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) فما الفائدة من إعادة قوله : (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ)؟.

فالجواب : أن قوله : وأنبتنا إشارة إلى جعلها محلّا للنبات ، اللحم والشعر

__________________

(١) في (ب) والرازي : مذكرة.

(٢) قاله البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢٣٤.

(٣) قدره القرطبي : وحب النبت الحصيد وهو كل ما يحصد وكذا الأمر في البغوي وانظر القرطبي ١٧ / ٦ والبغوي ٦ / ٢٣٤.

(٤) وإنما أضيف الحب إلى الحصيد وهما واحد لاختلاف اللفظين كما يقال : مسجد الجامع وربيع الأول. وانظر البغوي السابق والقرطبي ١٧ / ٦ وهذا الرأي الأخير ينسب للكوفيين قال الفراء : أضيف إلى نفسه لاختلاف لفظ اسميه. انظر معاني الفراء ٣ / ١٧٦.

١٨

وغيرهما ، وقوله : (وَأَنْبَتْنا) استدلال بنفس النبات أي الأشجار تنمو وتزيد فكذلك بدن الإنسان بعد الموت ينمو ويزيد أي يرجع الله إليه قوة النماء كما يعيدها إلى الأشجار بواسطة ماء السماء (١).

قوله تعالى : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) والنخل منصوب عطفا على مفعول أنبتنا أي وأنبتنا النخل و (باسِقاتٍ) حال (٢) ، وهي حال مقدّرة ؛ لأنها وقت الإنبات لم تكن طوالا (٣). والبسوق الطّول يقال : بسق فلان على أصحابه أي طال عليهم في الفضل ، ومنه قول ابن نوفل في ابن هبيرة :

٤٥٠٨ ـ يا ابن الّذين بمجدهم

بسقت (على (٤)) قيس فزاره (٥)

وهو استعارة ، والأصل استعماله في بسقت النخلة تبسق بسوقا أي طالت ، قال الشاعر :

٤٥٠٩ ـ لنا خمر وليست خمر كرم

ولكن من نتاج الباسقات

كرام في السّماء ذهبن طولا

وفات ثمارها أيدي الجناة (٦)

وبسقت الشاة ولدت ، وأبسقت الناقة وقع في ضرعها اللبأ قبل النتاج ، ونوق مباسق (٧) من ذلك. قال مجاهد وقتادة وعكرمة يعني باسقات طوالا. وقال سعيد بن جبير : مستويات (٨) والعامة على السين في باسقات ، وقرأ قطبة بن مالك ـ ويرويها عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ باصقات (٩). وهي لغة لبني العنبر يبدلون السّين صادا قبل القاف والغين والعين والخاء والطاء إذا وليتها أو فصلت منها بحرف أو حرفين (١٠).

__________________

(١) بالمعنى قليلا من تفسير الإمام الفخر الرازي ٢٨ / ١٥٧.

(٢) قاله العكبري في التبيان ١١٧٤.

(٣) قاله صاحب البحر المحيط ٨ / ١٢٢.

(٤) لفظ «على» سقط من النسختين.

(٥) والبيت من مجزوء الكامل وشاهده في بسقت فهو استعمال مجازي قصد منه الفضل والمدح فهو من استعمال الحسي في المعنوي ، والبيت من مراجع البحر المحيط ٨ / ١١٩ ومجاز القرآن ٢ / ٢٢٣ والسراج المنير ٤ / ٨١ واللسان «بسق» ٢٨٤.

(٦) من الوافر ولم أعرف قائلهما والشاهد في باسقات أي طويلات فهو استعمال حسيّ. وانظر البيت في القرطبي ١٧ / ٧ والسراج المنير ٤ / ٨١ والبحر ٨ / ١١٨ وفتح القدير ٥ / ٧٣.

(٧) في اللسان مباسيق وانظر اللسان «بسق» ٢٨٤.

(٨) وانظر القرطبي ١٧ / ٦ و ٧.

(٩) رواها أبو الفتح في المحتسب ٢ / ٢٨٢ و ٢٨٣ عن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ انظر المحتسب ٢٨٢ و ٢٨٣ وانظر البحر ٨ / ١٢٢ واللسان بسق المرجع السابق.

(١٠) قاله أبو حيان في مرجعه السابق.

١٩

قوله : (لَها طَلْعٌ) يجوز أن تكون الجملة حالا من النخل أو من الضمير في (باسِقاتٍ)(١) ويجوز أن يكون الحال وحده «لها» وطلع فاعل به. ونضيد بمعنى منضود بعضها فوق بعض في كمامها كما في سنبلة الزرع ، وهو عجيب ، فإن الأشجار الطوال ثمارها بعضها على بعض ، لكل واحد منها أصل يخرج منه كالجوز واللّوز وغيرهما ، والطّلع كالسّنبلة الواحدة يكون على أصل واحد (٢).

قوله : (رِزْقاً) يجوز أن يكون حالا أي مرزوقا للعباد أي ذا رزق ، وإن يكون مصدرا من معنى أنبتنا ؛ لأن إنبات هذه رزق فكأنه قال : أنبتناها إنباتا للعباد (٣) ويجوز أن تكون مفعولا له (٤) للعباد ، إمّا صفة ، وإما متعلق بالمصدر ، وإما مفعولا للمصدر ، واللام زائدة ، أي رزقا العباد.

فصل

قال ابن الخطيب : ما الحكمة في قوله عند خلق السماء والأرض : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) وفي الثمار قال : (رِزْقاً) والثمار أيضا فيها تبصرة وفي السماء والأرض أيضا منفعة غير التبصرة والتذكرة؟

نقول : فيه وجوه :

أحدها : أن الاستدلال وقع لوجود أمرين : أحدهما الاعادة ، والثاني : البقاء بعد الإعادة ، فإن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٥) ـ كان يخبرهم بحشر وجمع يكون بعده الثواب الدائم ، والعقاب الدائم ، وأنكروا ذلك ، فقال أما الأوّل فالله القادر على خلق السموات والأرض قادر على خلق الخلق بعد الفناء ، وأما الثاني فلأن البقاء في الدنيا بالرزق والقادر على إخراج الأرزاق من النّخل (٦) والشجر قادر على أن يرزق بعد الحشر فكان الأوّل تبصرة وتذكرة بالخلق ، والثاني تذكرة بالبقاء بالرزق ، ويدل على هذا الفصل بينهما بقوله تعالى : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) حيث ذكر ذلك بعد الآيتين ، ثم بدأ بذكر الماء وإنزاله وإنبات النبات.

ثانيها : منفعة الثمار الظاهرة وهي الرزق فذكرها ، ومنفعة السماء الظاهرة ليست أمرا عائدا إلى انتفاع العباد لبعدها عن ذهنهم حتى أنهم لو توهموا عدم الزرع والثمر لظنوا أن يهلكوا ولو توهموا عدم السماء فوقهم لقالوا : لا يضرنا ذلك مع أن الأمر بالعكس أولى لأنّ السماء سبب الأرزاق بقدرة الله تعالى ، وفيها منافع غير ذلك والثمار وإن لم تكن كان (٧) العيش كما أنزل الله على قوم المنّ والسلوى ، وعلى قوم المائدة من السماء فذكر الأظهر للناس في هذا المواضع.

__________________

(١) التبيان ١١٧٤.

(٢) الرازي ٢٨ / ١٥٧.

(٣) قال بهذين الوجهين العكبري في مرجعه السابق.

(٤) الكشاف ٤ / ٥.

(٥) في ب : عليه الصلاة والسلام.

(٦) في الرازي : النجم.

(٧) كذا في النسختين والأصح : ما كان العيش.

٢٠