اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

وقيل : إن الحور العين المذكورات في القرآن هن المؤمنات من أزواج النّبيّين والمؤمنين يخلقن في الآخرة على أحسن صورة. قاله الحسن البصري.

والمشهور أن الحور العين لسن من نساء أهل الدنيا ، إنما هن مخلوقات في الجنة ؛ لأن الله تعالى قال : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) وأكثر نساء أهل الدنيا مطموثات.

فصل في جمال الحور العين

«الحور» : جمع حوراء وهي الشديدة بياض العين مع سوادها.

و «المقصورات» : المحبوسات المستورات في الخيام ، وهي الحجال ، لسن بالطّوافات في الطرق ، قاله ابن عباس.

وقال عمر رضي الله عنه : «الخيمة» : درّة مجوفة (١). وقاله ابن عباس.

وقال : وهي فرسخ في فرسخ لها أربعة آلاف مصراع من ذهب (٢).

قال أبو عبد الله الحكيم الترمذي في قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) : بلغنا في الرواية أن سحابة أمطرت من العرش ، فخلقن من قطرات الرحمة ، ثم ضرب على كل واحدة خيمة على شاطىء الأنهار سعتها أربعون ميلا وليس لها باب ، حتى إذا دخل وليّ الله الجنة انصدعت الخيمة عن باب ليعلم ولي الله أن أبصار المخلوقين من الملائكة والخدم لم تأخذها ، فهي مقصورة قد قصر بها عن أبصار المخلوقين.

وقال مجاهد : قصرن أطرافهن وأنفسهن على أزواجهن فلا يبتغين بدلا (٣).

وقال عليه الصلاة والسلام : «لو أنّ امرأة من نساء أهل الجنّة اطّلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما ، ولملأت ما بينهما ريحا» (٤).

وتقدّم الكلام على قوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ).

قوله تعالى : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ).

«الرفرف» : جمع رفرفة فهو اسم جنس.

وقيل : بل هو اسم جمع. نقله مكي (٥) ، وهو ما تدلى من الأسرة من عالي الثياب وقال الجوهري (٦) : «والرفرف» : ثياب خضر تتخذ منها المحابس ، الواحدة : رفرفة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦١٦).

(٢) ينظر المصدر السابق.

(٣) تقدم.

(٤) أخرجه البخاري (٦ / ١٩) كتاب الجهاد والسير ، باب : الحور العين وصفتهن حديث (٢٧٩٦) والترمذي (١٦٠٥) من حديث أنس.

(٥) ينظر الدر المصون ٦ / ٢٤٩.

(٦) ينظر : الصحاح ٤ / ١٣٦٦.

٣٦١

واشتقاقه : من رف الطائر إذا ارتفع في الهواء ، ورفرف بجناحيه إذا نشرهما للطّيران ، ورفرف السحاب هبوبه.

ويدلّ على كونه جمعا وصفه بالجمع.

وقال الراغب (١) : رفيف الشجر : انتشار أغصانه ، ورفيف الطائر نشر جناحيه ، رفّ يرفّ ـ بالكسر ـ ورفّ فرخه يرفّه ـ بالضم ـ يفقده ، ثم استعير للفقد ، ومنه : «ما له حاف ولا رافّ» ، أي : من يحفه ويتفقده ، والرفرف : المنتشر من الأوراق.

وقوله : (عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ) ضرب من الثياب مشبه بالرياض.

وقيل : الرفرف طرف الفسطاط والخباء الواقع على الأرض دون الأطناب والأوتاد.

وذكر الحسن : أنه البسط.

وقال ابن جبير ، وابن عباس أيضا : رياض الجنة من رفّ النبت إذا نعم وحسن (٢).

وقال ابن عيينة : هي الزّرابي.

وقال ابن كيسان : هي المرافق.

وقال أبو عبيدة : هي حاشية الثوب.

وقيل : الفرش المرتفعة.

وقيل : كل ثوب عريض عند العرب ، فهو رفرف.

قال القرطبي (٣) : «وفي الخبر في وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : فرفع الرّفرف فرأينا وجهه كأنّه ورقة تخشخش».

أي : رفع طرف الفسطاط.

وقيل : أصل الرفرف من رف النبت يرف إذا صار غضّا نضيرا.

قال القتبي : يقال للشيء إذا كثر ماؤه من النعمة والغضاضة حتى يكاد يهتز : رفّ يرفّ رفيفا. حكاه الهروي. وقد قيل : إن الرّفرف شيء إذا استوى عليه صاحبه رفرف به ، وأهوى به كالمرجاح يمينا وشمالا ورفعا وخفضا يتلذّذ به مع أنيسه ، قاله الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول».

قال : فالرفرف أعظم خطرا من الفرش ، فذكر في الأوليين (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ).

وقال هنا : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ).

فالرفرف هو مستقر الولي على شيء إذا استوى عليه الوليّ رفرف به ، أي طار به حيثما يريد كالمرجاح.

__________________

(١) ينظر : المفردات ٢٨٩.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (١١ / ٢٧٨).

(٣) ينظر الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٢٤.

٣٦٢

ويروى في حديث المعراج أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما بلغ سدرة المنتهى ، جاء الرفرف فتناوله من جبريل ، وطار به إلى سند العرش ، فذكر أنه طار بي يخفضني ويرفعني حتى وقف بي على ربّي ، ثم لما كان الانصراف تناوله ، فطار به خفضا ورفعا يهوي به حتى آواه إلى جبريل ـ عليه‌السلام (١) ـ.

ف «الرفرف» : خادم من الخدم بين يدي الله ـ تعالى ـ له خواصّ الأمور في محل الدنو والقرب كما أن البراق دابة تركبها الأنبياء مخصوصة بذلك في أرضه ، فهذا الرفرف الذي سخره لأهل الجنتين الدّانيتين هو متّكأهما وفرشهما ، يرفرف بالولي على حافات تلك الأنهار وشطوطها حيث شاء إلى خيام أزواجه (٢).

فصل في الكلام على قوله : خضر

قوله تعالى : «خضر». نعت هنا ب «خضر» ؛ لأن اسم الجنس ينعت بالجمع كقوله: (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) [ق : ١٠] وحسن جمعه هنا جمع «حسان»(٣).

وقرأ العامة : (رَفْرَفٍ) وقرأ عثمان (٤) بن عفان ونصر بن عاصم والجحدري والفرقبي (٥) وغيرهم : «رفارف خضر» بالجمع وسكون الضاد.

وعنهم أيضا «خضر» بضم الضاد ، وهي إتباع للخاء.

وقيل : هي لغة في جمع «أفعل» الصفة.

قال القرطبي (٦) : وروى أبو بكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ : «متّكئين على رفارف خضر وعباقر حسان». ذكره الثعلبي ، وضم الضاد من «خضر» قليل.

وأنشد ل «طرفة» : [الرمل]

٤٦٦٥ ـ أيّها الفتيان في مجلسنا

جرّدوا منها ورادا وشقر (٧)

وقال آخر : [البسيط]

٤٦٦٦ ـ وما انتميت إلى خور ولا كشف

ولا لئام غداة الرّوع أوزاع (٨)

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٢٤.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٠.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٣٦ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٧ ، ١٩٨ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٠.

(٥) في أ : العوفي.

(٦) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٢٥.

(٧) ينظر ديوانه (٤٤) ، شرح المفصل ٥ / ٦٠ ، والمحتسب ١ / ١٦٢ ، والخزانة ٩ / ٣٧٩ ، والخصائص ٢ / ٣٣٥ ، وشرح شواهد الإيضاح ص ٥٨١ ، واللسان (غلف) ، والضرائر لابن عصفور ١٩ ، ومجمع البيان ٣ / ٣١٧ ، والبحر ٨ / ١٩٨ ، وروح المعاني ٢٧ / ١٢٥.

(٨) البيت لضرار بن خطاب. ـ

٣٦٣

وقرءوا (١) : «وعباقريّ» ـ بكسر القاف وتشديد الياء ـ مفتوحة على منع الصرف ، وهي مشكلة.

إذ لا مانع من تنوين ياء النّسب ، وكأن هذا القارىء توهم كونها في «مفاعل» تمنع من الصرف (٢).

وقد روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «عباقريّ» (٣) منونا ابن خالويه.

وروي عن عاصم : «رفارف» بالصّرف (٤).

وقد يقال في من منع «عباقري» : إنه لما جاور «رفارف» الممتنع امتنع مشاكلة.

وفي من صرف «رفارف» : إنه لما جاور «عباقريّا» المنصرف صرفة للتناسب ، كقوله : سلاسلا وأغلالا [الإنسان : ٤]. كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى.

وقرأ أبو محمد (٥) المروزي وكان نحويّا : «خضّار» ك «ضرّاب» بالتشديد ، و «أفعل ، وفعّال» لا يعرب (٦).

قوله : (وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ).

الجمهور على أن «عبقري» منسوب إلى عبقر ، تزعم العرب أنها بلد الجن.

قال ابن الأنباري : الأصل فيه أن «عبقر» قرية تسكنها الجن ينسب إليها كل فائق جليل.

وقال الخليل : كل منافس فاضل فاخر من الرجال والنساء وغيرهم عند العرب عبقري.

ومنه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في عمر ـ رضي الله عنه ـ : «فلم أر عبقريّا من النّاس يفري فريه»(٧).

وقال أبو عمرو بن العلاء ، وقد سئل عن قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فلم أر عبقريّا من النّاس يفري فريه» ؛ فقال : رئيس قوم وجليلهم.

__________________

ينظر الدرر ٦ / ١٣٤ ، والمقاصد النحوية ٤ / ١٥٧ ، والهمع ٢ / ١٣٦ ، والعيني ٤ / ١٥٧ ، وسيرة ابن هشام ص ٦٢٢ ، والبحر ٨ / ١٩٨ ، وروح المعاني ٢٧ / ١٢٥ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٠.

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٥٤ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٨ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٠.

(٣) ينظر : إعراب القراءات السبع لابن خالويه ٢ / ٣٤١ ، وجزء قراءات النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ للدوري ١٥٧.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٣٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٠.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩٨ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٠.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٠.

(٧) أخرجه البخاري (٧ / ٢٦) كتاب فضائل الصحابة ، باب : قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «لو كنت متخذا خليلا» (٣٦٧٦) ومسلم (٤ / ١٨٦٠) كتاب فضائل الصحابة ، باب : فضل عمر حديث (١٧ / ٢٣٩٢) من حديث أبي هريرة.

٣٦٤

وقال زهير : [الطويل]

٤٦٦٧ ـ بخيل عليها جنّة عبقريّة

جديرون يوما أن ينالوا فيستعلوا (١)

وقال الجوهري : «العبقري» موضع تزعم العرب أنه من أرض الجن ؛ قال لبيد : [الطويل]

٤٦٦٨ ـ ..........

كهول وشبّان كجنّة عبقر (٢)

ثم نسبوا إليها كل شيء تعجبوا من حذقه وجودة صنعته وقوته ، فقالوا : «عبقري» وهو واحد وجمع.

وفي الحديث : «أنّه كان يسجد على عبقريّ» (٣) وهو البسط التي فيها الأصباغ ، والنقوش ، والمراد به في الآية : قيل : البسط التي فيها الصّور والتماثيل وقيل : الزّرابي.

وقيل : الطّنافس.

وقيل : الدّيباج الثّخين.

و «عبقري» جمع عبقرية ، فيكون اسم جنس كما تقدم في «رفرف».

وقيل : هو واحد دالّ على الجمع ، ولذلك وصف ب «حسان» (٤).

قال القرطبي (٥) : وقرأ بعضهم : «عباقريّ حسان» وهو خطأ ؛ لأن المنسوب لا يجمع على نسبته.

وقال قطرب : ليس بمنسوب ، وهو مثل : «كرسيّ وكراسيّ ، وبختيّ وبخاتي».

قوله : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ).

قرأ ابن (٦) عامر : «ذو الجلال» بالواو ، جعله تابعا للاسم ، وكذا هي مرسومة في مصاحف الشّاميين.

قال القرطبي (٧) : «وذلك يقوي كون الاسم هو المسمّى».

__________________

(١) ينظر شرح ديوان زهير ١٠٣ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٤٦ ، ومعاني القرآن وإعرابه للزجاج ٥ / ١٠٥ ، والمحتسب ٢ / ٣٠٦ ، ومجمع البيان ٩ / ٣١٧ ، ومعجم ما استعجم ١ / ٥٤٦ ، واللسان (عبقر) ، والقرطبي ١٧ / ١٢٥ والبحر ٨ / ١٨٦.

(٢) عجز بيت صدره :

ومن فاد من إخوانهم وبنيهم

 ..........

ينظر ديوانه ص ٧٠ ، واللسان (عبقر) ، والصحاح ٢ / ٧٣٤ (عبقر) والقرطبي ١٧ / ١٢٥.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٢٥).

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٠.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٢٥.

(٦) ينظر : السبعة ٦٢١ ، والحجة ٦ / ٢٥٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٤١ ، وحجة القراءات ٦٩٤ ، والعنوان ١٨٤ ، وشرح شعلة ٥٩٥ ، وشرح الطيبة ٦ / ٣٤ ، وإتحاف ٢ / ٥١٣.

(٧) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٢٥.

٣٦٥

والباقون : بالياء ، صفة للربّ ، فإنه هو الموصوف بذلك ، وأجمعوا على أن الواو في الأولى إلا من استثنى فيما تقدم.

فصل في تحرير معنى تبارك

«تبارك» تفاعل من «البركة».

قال ابن الخطيب (١) : وأصل التّبارك من التّبرك ، وهو الدوام والثبات ، ومنه برك البعير وبركة الماء ، فإن الماء يكون فيها دائما.

والمعنى : دام اسمه وثبت ، أو دام الخير عنده ؛ لأن البركة وإن كانت من الثبات ، لكنها تستعمل في الخير ، أو يكون معناه : علا وارتفع شأنه.

فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها

قال القرطبي (٢) : كأنه يريد به الاسم الذي افتتح به السّورة ، فقال : «الرحمن» فافتتح بهذا الاسم ، فوصف خلق الإنسان والجن ، وخلق السموات والأرض وصنعه ، وأنه (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) ووصف تدبيره فيهم ، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها وصفة النار ، ثم ختمها بصفة الجنان ، ثم قال في آخر السورة : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي : هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة ، كأنه يعلمهم أن هذا كله فرج لكم من رحمتي ، فمن رحمتي خلقتكم ، وخلقت لكم السماء والأرض ، والخليقة ، والخلق ، والجنة والنّار ، فهذا كله لكم من اسم الرحمن ، فمدح اسمه فقال : (تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ) ، ثم قال : (ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) أي : جليل في ذاته كريم في أفعاله.

روى الثعلبي عن علي ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «لكلّ شيء عروس ، وعروس القرآن سورة الرّحمن ، جل ذكره» (٣).

وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الرّحمن رحم الله ضعفه ، وأدّى شكر ما أنعم الله ـ عزوجل ـ عليه» (٤).

والله ـ سبحانه وتعالى ـ الموفق الهادي إلى الخيرات ، اللهم ارحمنا برحمتك.

__________________

(١) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ١٢٠.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٢٥.

(٣) أخرجه البيهقي في «شعب الإيمان» (٢ / ٤٩٠) رقم (٢٤٩٤) وذكره السيوطي في «الجامع الصغير» رقم (٧٣١٩) وعزاه إلى البيهقي في «شعب الإيمان» ورمز له بالضعف.

قال المناوي في «فيض القدير» (٥ / ٢٨٦) : وفيه أحمد بن دبيس عده الذهبي في الضعفاء والمتروكين وقال الدار قطني: ليس بثقة.

(٤) قال الحافظ ابن حجر في «تخريج الكشاف» (٤ / ٤٥٤) : أخرجه الثعلبي والواحدي وابن مردويه بإسنادهم إلى أبي بن كعب.

٣٦٦

سورة الواقعة

مكية في قول الحسن وعكرمة وجابر وعطاء. قال ابن عباس وقتادة : إلا آية منها نزلت بالمدينة وهي قوله تعالى : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(١) [الواقعة : ٨٢].

وقال الكلبي : مكية إلا أربع آيات ، منها آيتان : (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) [الواقعة : ٨١ ، ٨٢] نزلتا في سفر ، وقوله تعالى : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة : ٣٩ ، ٤٠] نزلتا في سفره إلى «المدينة» (٢).

وهي سبع وتسعون آية ، وثلاث مائة وثمان وسبعون كلمة ، وألف [وتسعمائة](٣) وثلاثة أحرف.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣)

قوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ).

في «إذا» أوجه (٤) :

أحدها : أنها ظرف محض ليس فيها معنى الشّرط ، والعامل فيها «ليس».

الثاني : أن العامل فيها «اذكر» مقدرا.

قال الزمخشري (٥) : فإن قلت : «بم انتصب «إذا»؟.

قلت : ب «ليس» ، كقولك : يوم الجمعة ليس لي شغل.

ثم قال : أو بإضمار «اذكر».

قال أبو حيان (٦) : «ولا يقول هذا نحوي».

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٤٤٥).

(٢) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٢٦) عن الكلبي.

(٣) في ب : سبعمائة.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥١.

(٥) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٥٥.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٠٣.

٣٦٧

قال : لأن «ليس» مثل «ما» النافية فلا حدث فيها ، فكيف تعمل في الظرف من غير حدث ، وتسميتها فعلا مجازا ، فإن حدّ الفعل غير منطبق عليها.

ثم قال : وأمّا المثال الذي نظر به ، فالظرف ليس معمولا ل «ليس» بل للخبر ، وتقدم معمول خبرها عليها ، وهي مسألة خلاف. انتهى.

قال شهاب الدين (١) : الظروف تعمل فيها روائح الأفعال ، ومعنى كلام الزمخشري أن النفي المفهوم من «ليس» هو العامل في «إذا» كأنه قيل : ينتفي كذب وقوعها إذا وقعت ، ويدل على هذا قول أبي البقاء رحمه‌الله.

والثاني : ظرف لما دل عليه (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) ، أي : إذا وقعت لم تكذب ، فإن قيل : فليجر ذلك في «ما» النافية؟.

فالجواب : أن الفعل أقرب إلى الدلالة على الحدث من الحرف.

الثالث : أنها شرطية ، وجوابها مقدر ، أي : «إذا وقعت كان كيت وكيت» ، وهو العامل فيها.

الرابع : أنها شرطية ، والعامل فيها الفعل الذي بعدها ويليها ، وهو اختيار أبي حيان (٢) ، وتبع في ذلك مكيّا.

قال مكي (٣) : «والعامل فيه «وقعت» ؛ لأنها قد يجازى بها ، فعمل فيها الفعل الذي بعدها كما يعمل في «ما» ، و «من» اللتين للشرط في قولك : ما تفعل أفعل ، ومن تكرم أكرم» ، ثم ذكر كلاما كثيرا.

الخامس : أنها مبتدأ ، و «إذا رجّت» خبرها ، وهذا على قولنا : «إنها تتصرف» وقد مضى تحريره إلا أن هذا الوجه إنما جوزه ابن مالك ، وابن جني ، وأبو الفضل الرازي على قراءة من نصب (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) على الحال ، وحكاه بعضهم عن الأخفش.

قال شهاب الدين : «ولا اختصاص ذلك بوجه النّصب» (٤).أدري

السادس : أنه ظرف ل «خافضة» ، أو «رافعة». قاله أبو البقاء. أي إذا وقعت خفضت ورفعت (٥).

السابع : أن تكون ظرفا ل «رجّت» ، و «إذا» الثانية على هذا إما بدل من الأولى ، أو تكرير لها.

الثامن : أن العامل فيه ما دلّ عليه قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي : إذا وقعت بانت أحوال الناس فيها.

__________________

(١) الدر المصون : ٦ / ٢٥١.

(٢) البحر المحيط ٨ / ٢٠٣.

(٣) الدر المصون ٦ / ٢٥١.

(٤) الدر المصون ٦ / ٢٥٢.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٠٢ ، والدر المصون ٦ / ٢٥١.

٣٦٨

التاسع : أن جواب الشرط ، قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) إلى آخره ، و «لوقعتها» خبر مقدم ، و «كاذبة» اسم مؤخر.

و «كاذبة» يجوز أن تكون اسم فاعل ، وهو الظّاهر ، وهو صفة لمحذوف ، فقدر الزمخشري (١) : «نفس كاذبة».

أي : أن ذلك اليوم لا يكذب على الله أحد ، ولا يكذّب بيوم القيامة أحد.

ثم قال : «و «اللام» مثلها في قوله : (قَدَّمْتُ لِحَياتِي) [الفجر : ٢٤] ، أو ليس نفس تكذبها ، وتقول لها : لم تكوني كما لها اليوم نفوس كثيرة يكذبنها اليوم ، يقلن لها : لن تكوني ، أو هي من قولهم : كذبت فلانا نفسه في الخطب العظيم إذا شجعته على مباشرته ، وقالت له : إنك تطيقه وما فوقه ، فتعرض له ولا تبال به ، على معنى أنها وقعة لا تطاق شدة وفظاعة ، وأن لا نفس حينئذ تحت صاحبها بما تحدثه به عند عظائم الأمور وتزين له احتمالها وإطاقتها ؛ لأنهم يومئذ أضعف من ذلك وأذلّ ، ألا ترى إلى قوله : (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) ، والفراش مثل في الضعف» (٢).

وقدره ابن عطية : «حال كاذبة».

قال (٣) : ويحتمل الكلام على هذا معنيين :

أحدهما : كاذبة أي : مكذوبة فيما أخبر به عنها ، فسماها كاذبة لهذا ، كما تقول : هذه قصّة كاذبة ، أي : مكذوب فيها.

والثاني : حال كاذبة أي : لا يمضي وقوعها ، كقولك : فلان إذا حمل لم يكذب.

والثالث : «كاذبة» مصدر بمعنى التّكذيب. نحو (خائِنَةَ الْأَعْيُنِ) [غافر : ١٩].

قال الزمخشري (٤) : وقيل : «كاذبة» مصدر ك «العاقبة» بمعنى التكذيب من قولك : حمل فلان على قرنه فما كذب ، أي فما جبن ولا تثبّط ، وحقيقته فما كذب نفسه فيما حدثته به من إطاقته له وإقدامه عليه وأنشد ل «زهير» : [البسيط]

٤٦٦٩ ـ .......... إذا

ما اللّيث كذّب عن أقرانه صدقا (٥)

أي : إذا وقعت لم يكن لها رجعة ولا ارتداد انتهى.

__________________

(١) الكشاف ٤ / ٤٥٥.

(٢) السابق.

(٣) ينظر المحرر الوجيز ٥ / ٢٣٨.

(٤) الكشاف ٤ / ٤٥٥.

(٥) البيت بتمامه :

ليث بعثّر يصطاد الرجال

 ..........

ينظر شرح ديوان زهير ص ٥٤ ، وشرح المفصل ١ / ٦١ ، والكشاف ٤ / ٥١ ، وشرح شواهده ص ٤٦٩ ، والتاج ٦ / ٤٠٤ (صدق). والدر المصون ٦ / ٢٥٢.

٣٦٩

وهو كلام حسن جدّا.

ثم لك في هذه الجملة وجهان :

أحدهما : أنها لا محلّ لها من الإعراب ، إما لأنها ابتدائية ، ولا سيما على رأي الزمخشري ، حيث جعل الظرف متعلقا بها.

وإما لأنها اعتراضية بين الشرط وجوابه المحذوف.

الثاني : أن محلّها النصب على الحال. قاله ابن عطية.

ولم يبين صاحب الحال ، ماذا؟.

وهو واضح إذ لم يكن هنا إلّا الواقعة ، وقد صرّح أبو الفضل بذلك.

وقرأ العامة : برفع «خافضة ورافعة» على أنها خبر ابتداء مضمر ، أي : هي خافضة قوما إلى النّار ، ورافعة آخرين إلى الجنة ، فالمفعول محذوف لفهم المعنى.

أو يكون المعنى أنها ذات خفض ورفع ، كقوله : (يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨] ، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا) [البقرة : ١٨٧].

وقرأ زيد بن علي وعيسى (١) والحسن ، وأبو حيوة ، وابن مقسم واليزيدي : بنصبهما على الحال.

ويروى عن الكسائي أنه قال (٢) : «لو لا أن اليزيدي سبقني إليه لقرأت به» انتهى.

قال شهاب الدين (٣) : «ولا أظن مثل هذا يصح عن مثل هذا».

واختلف في ذي الحال :

فقال أبو البقاء (٤) : من الضمير في «كاذبة» ، أو في «وقعت».

وإصلاحه أن نقول : أو فاعل «وقعت» ؛ إذ لا ضمير في «وقعت».

وقال ابن عطية (٥) وأبو الفضل : من «الواقعة».

ثم قرّرا مجيء الحال متعددة من ذي حال واحدة ، كما تجيء الأخبار متعددة. وقد تقدم بيانه.

وقال أبو الفضل : «وإذا جعلت هذه كلها أحوالا ، كان العامل في (إِذا وَقَعَتِ) محذوفا يدل عليه الفحوى ، أي : إذا وقعت يحاسبون».

__________________

(١) ينظر : المحر الوجيز ٥ / ٢٣٩ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٠٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٣.

(٣) الدر المصون ٦ / ٢٥٣.

(٤) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٠٢ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٣.

(٥) المحرر الوجيز ٥ / ٢٣٩.

٣٧٠

فصل في معنى الآية

قال المفسرون (١) : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) أي : إذا قامت القيامة ، والمراد : النّفخة الأخيرة ، وسميت الواقعة لأنها تقع عن قرب.

وقيل : لكثرة ما يقع فيها من الشّدائد.

قال الجرجاني (٢) : «إذا» صلة ، أي : وقعت الواقعة ، كقوله : (اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ) [القمر : ١] (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] وهو كما يقال : جاء الصوم ، أي : دنا واقترب.

وقال القرطبي (٣) : فيه إضمار ، أي : اذكر إذا وقعت ، وعلى هذا «إذا» للتّوقيت ، والجواب قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ).

وقال ابن الخطيب (٤) : أو يكون التقدير : إذا وقعت الزلزلة الواقعة يعترف بها كل أحد ، ولا يتمكّن أحد من إنكارها.

و (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ).

«الكاذبة» : مصدر بمعنى الكذب ، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر (٥) كقوله تعالى : (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) [الغاشية : ١١] أي : لغو ، والمعنى : ليس لها كذب.

قاله الكسائي.

ومنه قول العامة : عائذا بالله ، أي : معاذ الله ، وقم قائما ، أي : قم قياما.

وقيل : الكاذبة : صفة ، والموصوف محذوف ، أي : ليس لوقعتها حال كاذبة أو نفس كاذبة ، أي كل من يخبر عن وقعتها صادق.

وقال الزجاج (٦) : (لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ) أي : لا يردها شيء. ونحوه قول الحسن وقتادة.

وقال الثوري : ليس لوقعتها أحد يكذب بها.

وقيل : إن قيامها جدّ لا هزل فيه (٧).

وقوله : (خافِضَةٌ رافِعَةٌ).

قال عكرمة ومقاتل والسدي : خفضت الصوت فأسمعت من دنا ، ورفعت من نأى (٨) ، يعنى أسمعت القريب والبعيد.

وعن السّدي : خفضت المتكبرين ورفعت المستضعفين (٩).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٢٦.

(٢) السابق.

(٣) السابق.

(٤) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ١٢٢.

(٥) ينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٢٧.

(٦) ينظر : معاني القرآن ٥ / ١٠٧.

(٧) ينظر القرطبي ١٧ / ١٢٧.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٢٣) عن عكرمة والضحاك.

(٩) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢١٦) وعزاه إلى أبي الشيخ.

٣٧١

وقال قتادة : خفضت أقواما في عذاب الله ، ورفعت أقواما إلى طاعة الله (١).

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : خفضت أعداء الله في النار ، ورفعت أولياء الله إلى الجنة (٢).

وقال ابن عطاء : خفضت أقواما بالعدل ، ورفعت أقواما بالفضل (٣).

والرفع والخفض يستعملان عند العرب في المكان والمكانة والعزّ والمهانة ، ونسب سبحانه وتعالى الرفع والخفض إلى القيامة توسعا ومجازا على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يمكن منه الفعل ، يقولون : ليل قائم ، ونهار صائم.

وفي التنزيل : (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) [سبأ : ٣٣].

والرافع والخافض في الحقيقة هو الله تعالى.

و «اللام» في قوله «لوقعتها» إما للتعليل ، أي لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدة وقعتها.

وإما للتعدية ، كقولك : «ليس لزيد ضارب» فيكون التقدير : إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها امرؤ يوجد لها كاذب يكذب إذا أخبر عنه.

قال ابن الخطيب (٤) : وعلى هذا لا يكون «ليس» عاملا في «إذا» وهو بمعنى «ليس» لها كاذب.

قوله تعالى : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا(٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦)

قوله : (إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ).

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٢٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢١٦) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٢٣) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢١٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٢٧).

(٤) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ١٢٣.

٣٧٢

يجوز أن يكون بدلا من «إذا» الأولى ، أو تأكيدا لها ، أو خبرا لها على أنها مبتدأ ، كما تقدم تحريره.

وأن يكون شرطا ، والعامل فيه إما مقدر ، وإما فعلها الذي يليها ، كما تقدّم في نظيرتها.

وقال الزمخشري (١) : «ويجوز أن ينتصب ب (خافِضَةٌ رافِعَةٌ) أي تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبس الجبال ؛ لأنه عند ذلك يخفض ما هو مرتفع ، ويرفع ما هو منخفض».

قال أبو حيّان (٢) : «ولا يجوز أن ينتصب بهما معا ، بل بأحدهما ، لأنه لا يجوز أن يجتمع مؤثران على أثر واحد».

قال شهاب الدّين (٣) : معنى كلامه أن كلّا منهما متسلّط عليه من جهة المعنى ، وتكون المسألة من باب التنازع ، وحينئذ تكون العبارة صحيحة ، إذ يصدق أن كلّا منهما عامل فيه ، وإن كان على التّعاقب.

والرّج : التحريك الشديد بمعنى زلزلت.

قال مجاهد وغيره : يقال : رجّه يرجّه رجّا ، أي : حرّكه وزلزله (٤).

وناقة رجاء : أي عظيمة السّنام.

والرّجرجة : الاضطراب.

وارتّج البحر وغيره : اضطرب.

وفي الحديث : «من ركب البحر حين يرتجّ فلا ذمّة له» (٥).

يعني : إذا اضطربت أمواجه.

قال الكلبي : وذلك أن الله ـ تعالى ـ إذا أوحى إليها اضطربت فرقا من الله تعالى (٦).

قال المفسرون : ترتج كما يرتجّ الصبي في المهد حتى ينهدم ما عليها ، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الرّجّة : الحركة الشديدة يسمع لها صوت (٧).

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٥٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٣.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ٢٠٤.

(٣) الدر المصون ٦ / ٢٥٣.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٢٣).

(٥) ذكره بهذا اللفظ المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٥ / ٣٦٠) رقم (٤١٣٧١) وعزاه إلى الباوردي عن زهير بن أبي جبل.

وللحديث شاهد من حديث بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخرجه أحمد (٥ / ٧٩).

وذكره الهيثمي في «المجمع» (٨ / ١٠٢) وقال : رواه أحمد عن شيخه إبراهيم بن القاسم ولم أعرفه.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٩) عن الكلبي.

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٢٧) عن ابن عباس.

٣٧٣

قوله : (وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا).

أي : سيرت ، من قولهم : بسّ الغنم ، أي : ساقها.

وأبسست الإبل أبسّها بسّا ، وأبسست وبسست لغتان إذا زجرتها وقلت : بس بس.

قاله أبو زيد.

أو بمعنى «فتّت» ، كقوله : (يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً) [طه : ١٠٥] ، ويدل عليه : «فكانت هباء منبثّا».

قال ابن عباس ومجاهد : كما يبسّ الدقيق ، أي : يلتّ (١).

والبسيسة : السّويق أو الدقيق يلتّ بالسّمن أو الزيت ، ثم يؤكل ولا يطبخ ، وقد يتخذ زادا.

قال الراجز : [الرجز]

٤٦٧٠ ـ لا تخبزا خبزا وبسّا بسّا

ولا تطيلا بمناخ حبسا (٢)

وقال الحسن : «وبسّت» قلعت من أصلها فذهبت (٣) ، ونظيرها : ينسفها ربّي نسفا وقال عطية : بسطت كالرّمل والتراب (٤).

وقال مجاهد : سالت سيلا (٥).

وقال عكرمة : هدّت (٦).

وقرأ زيد (٧) بن علي : «رجّت» ، و «بسّت» مبنيين للفاعل.

على أن «رجّ» و «بسّ» يكونان لازمين ومتعديين ، أي : ارتجت وذهبت.

قوله : (فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا).

قرأ النّخعي (٨) ومسروق وأبو حيوة : «منبتّا» بنقطتين من فوق ، أي : منقطعا من البتّ.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٢٤) عن مجاهد. وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٩).

(٢) جاء في القرطبي : وذكر أبو عبيدة أن قائل هذين البيتين : لص من غطفان أراد أن يخبز فخاف أن يعجل عن ذلك فأكله عجينا.

ويروى البيت الثاني هكذا :

ملسا بدود لحلس ملسا

ينظر مجاز القرآن ٢ / ٢٤٨ ، ومعاني القرآن للفراء ٣ / ١٢١ ، والطبري ٢٧ / ٩٧ ، واللسان (بسس) ، والقرطبي ١٧ / ١٢٨.

(٣) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٩.

(٤) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٢٨).

(٥) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٤٤٦).

(٦) ينظر المصدر السابق.

(٧) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٥٦ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٣.

(٨) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٣٩ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٣.

٣٧٤

ومعنى الآية لا ينبو عنه.

قال علي رضي الله عنه : الهباء المنبثّ : الرّهج الذي يسطع من حوافر الخيل ثم يذهب ، فجعل الله تعالى أعمالهم كذلك (١).

وقال مجاهد : «الهباء» : الشعاع الذي يكون في الكوة كهيئة الغبار ، وروي نحوه عن ابن عباس (٢).

وعنه أيضا : أنه ما تطاير من النّار إذا اضطربت يطير منها شرر فإذا وقع لم يكن شيئا (٣).

وقال عطية : «المنبث» : المتفرق ، قال تعالى : (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) [البقرة : ١٦٤] أي : فرق ونشر.

قوله : (وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً).

أي : أصنافا ثلاثة ، كل صنف يشاكل كل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة ، ثم بين من هم (٤) ، فقال : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ، وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ، وَالسَّابِقُونَ).

قوله : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ).

«أصحاب» الأول مبتدأ ، و «ما» استفهامية ـ فيه تعظيم ـ مبتدأ ثاني ، و «أصحاب» الثاني خبره ، والجملة خبر الأول ، وتكرار المبتدأ الأول هنا بلفظه مغن عن الضمير ومثله : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١ ، ٢] ، (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) [القارعة : ١ ، ٢] ولا يكون ذلك إلا في مواضع التّعظيم (٥).

فإن قيل : إن «ما» نكرة وما بعدها معرفة ، فكان ينبغي أن يقال : «ما» خبر مقدم ، و «أصحاب» الثاني وشبهه مبتدأ ؛ لأن المعرفة أحق بالابتداء من النكرة؟ وهذا السؤال وارد على سيبويه (٦) في مثل هذا.

وفي قولك : «كم مالك ، ومررت برجل خير منه أبوه» فإنه يعرب «ما» الاستفهامية ، و «كم» و «أفعل» مبتدأ وما بعدها خبرها.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٢٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢١٦) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وعبد بن حميد.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٢٥) عن مجاهد وسعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢١٧) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وذكره أيضا عن ابن عباس وعزاه إلى ابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٢٥) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢١٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.

(٤) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٢٨ ـ ١٢٩.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٣.

(٦) ينظر : «الكتاب» ١ / ٢٩١.

٣٧٥

والجواب : أنه كثر وقوع النكرة خبرا عن هذه الأشياء كثرة متزايدة ، فاطّرد الباب ، ليجري على سنن واحدة ، هكذا أجابوا.

وهذا لا ينهض مانعا من جواز أن يكون «ما» و «كم» و «أفعل» خبرا مقدما ولو قيل به لم يكن خطأ ، بل أقرب إلى الصّواب (١).

و «الميمنة» «مفعلة» من لفظ اليمين ، وكذلك «المشأمة» من اليد الشؤمى وهي الشمال لتشاؤم العرب بها ، أو من الشّؤم (٢).

فصل في تحرير معنى الآية (٣)

قال السدي : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة ، و (أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النّار (٤).

و «المشأمة» : الميسرة ، وكذلك الشّأمة ، يقال : قعد فلان شأمة.

ويقال : شائم بأصحابك أي : خذ بهم شأمة أي : ذات الشمال والعرب تقول لليد الشمال : الشؤمى ، وللجانب الشمال : الأشأم.

وكذلك يقال لما جاء عن اليمين : اليمن ، ولما جاء عن الشمال : الشّؤم.

قال البغوي (٥) : «ومنه سمي «الشّام واليمن» ؛ لأن «اليمن» عن يمين الكعبة ، و «الشام» عن شمالها».

قال ابن عباس والسدي : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذّرية من صلبه ، فقال الله لهم : هؤلاء في الجنة ولا أبالي» (٦).

وقال زيد بن أسلم : هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن يومئذ ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر (٧).

وقال عطاء ومحمد بن كعب : «أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه ، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله» (٨).

وقال ابن جريج : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) هم أصحاب الحسنات ، وأصحاب المشأمة ؛ هم أهل السيئات.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٣ ، ٢٥٤.

(٢) السابق.

(٣) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٢٩.

(٤) ينظر القرطبي ١٧ / ١٢٩.

(٥) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٢٨٠.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٩).

(٧) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٢٩) عن زيد بن أسلم.

(٨) ينظر المصدر السابق.

٣٧٦

وقال الحسن والربيع : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة ، وأصحاب المشأمة : المشائيم على أنفسهم بالأعمال السيئة.

وفي صحيح مسلم من حديث «الإسراء» عن أبي ذرّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «فلمّا علونا السّماء الدّنيا ، فإذا رجل عن يمينه أسودة ، وعن يساره أسودة ، قال فإذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى ، قال : فقال : مرحبا بالنبيّ الصّالح والابن الصّالح ، قال : فقلت : يا جبريل من هذا؟.

قال : هذا آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله بنوه فأهل اليمين أهل الجنّة ، والأسودة الّتي عن شماله أهل النّار» وذكر الحديث (١).

وقال المبرد : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أصحاب التقدم ، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخّر والعرب تقول : اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك أي : اجعلني من المتقدمين ولا تجعلني من المتأخرين (٢).

ثم عجب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وهذا كما يقال : «زيد ما زيد» ، يريد «زيد شديد» فالتكرير في (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) ، و (ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) للتّفخيم والتعجّب ، كقوله : (الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ) ، و (الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ) كما يقال : «زيد ما زيد».

وفي حديث أم زرع رضي الله عنها : «مالك ، وما مالك؟» (٣).

والمقصود : تكثير ما لأصحاب الميمنة من الثواب ، وأصحاب المشأمة من العقاب.

والفاء في قوله : «فأصحاب» تدل على التقسيم ، وبيان ما ورد عليه التقسيم ، كأنه قال: أزواجا ثلاثة : أصحاب الميمنة ، وأصحاب المشأمة ، والسابقون ، وبين حال كل قسم فقال: (ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) وترك التقسيم أولا ، واكتفى بما يدل عليه بأن تذكر الأقسام الثلاثة مع أحوالها.

فإن قيل : ما الحكمة في اختيار لفظ «المشأمة» في مقابلة «الميمنة» مع أنه قال في بيان أحوالهم (وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ)؟.

فالجواب : أنّ اليمين وضع للجانب المعروف ، واستعملوا منها ألفاظا في مواضع فقالوا : «هذا ميمون» تيمنا به ، ووضعوا مقابلة اليمين اليسار من الشيء اليسير إشارة إلى ضعفه ، ولفظ الشمال في مقابلته ، واستعملوا منه ألفاظا تشاؤما به ، فذكر «المشأمة»

__________________

(١) تقدم.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٢٩.

(٣) أخرجه البخاري (٩ / ١٦٣) كتاب النكاح ، باب : حسن المعاشرة مع الأهل رقم (٥١٨٩) ومسلم (٤ / ١٨٩٦) كتاب فضائل الصحابة ، باب ذكر حديث أم زرع حديث (٩٢ / ٢٤٤٨) من حديث عائشة.

٣٧٧

[في](١) مقابلة [«الميمنة»](٢) [وذكر الشمال في مقابلة اليمين](٣) فاستعمل كل لفظ مع ما يقابله.

قوله : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ). فيه أوجه (٤) :

أحدها : أنها مبتدأ وخبر ، وفي ذلك تأويلان :

أحدهما : أنه بمعنى : السابقون هم الذين اشتهرت حالتهم بذلك.

كقولهم : «أنت أنت ، والناس الناس».

وقوله : [الرجز]

٤٦٧١ ـ أنا أبو النّجم وشعري شعري (٥)

وهذا يقال في تعظيم الأمر وتفخيمه ، وهو مذهب سيبويه (٦).

التأويل الثاني : أن متعلق السابقين مختلف ؛ إذ التقدير : والسّابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة ، أو السابقون إلى طاعة الله السّابقون إلى رحمته ، أو السابقون إلى الخير السابقون إلى الجنّة.

الوجه الثاني : أن يكون السّابقون الثاني تأكيدا للأول تأكيدا لفظيّا ، و (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) جملة ابتدائية في موضع خبر الأول ، والرابط : اسم الإشارة ، كقوله تعالى : (وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ) [الأعراف : ٢٦] ، في قراءة من قرأ برفع «لباس» في أحد الأوجه.

الثالث : أن يكون «السابقون» الثاني نعتا للأول ، والخبر الجملة المذكورة.

وهذا ينبغي ألا يعرج عليه ، كيف يوصف الشيء بلفظه ، وأي فائدة في ذلك؟.

قال شهاب الدين (٧) : والأقرب عندي إن وردت هذه العبارة ممن يعتبر أن يكون سمى التّأكيد صفة ، وقد فعل سيبويه قريبا من هذا (٨).

الرابع : أن يكون الوقف [على قوله](٩) «والسّابقون» ، ويكون قوله (السَّابِقُونَ ، أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) ابتداء وخبرا.

وهذا يقتضي أن يعطف «والسّابقون» على ما قبله ، لكن لا يليق عطفه على ما قبله ،

__________________

(١) في ب : إلى.

(٢) في ب : اليمين.

(٣) سقط من ب.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٤.

(٥) تقدم.

(٦) ينظر : الكتاب ١ / ٣٨١ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٤.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٤.

(٨) ينظر : الكتاب ١ / ٢٧٧.

(٩) سقط من ب.

٣٧٨

وإنما يليق عطفه على أصحاب الميمنة ، كأنه قيل : وأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة والسابقون ، أي : وما السابقون؟ تعظيما لهم ، فيكونون شركاء أصحاب الميمنة في التعظيم ، ويكون قوله على هذا : (وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ) اعتراضا بين المتعاطفين ، وفي هذا الوجه تكلف كثير جدا (١).

فصل في المراد بالسابقين (٢)

قال عليه الصلاة والسلام : «السّابقون الّذين إذا أعطوا الحقّ قبلوه ، وإذا سئلوه بذلوه ، وحكموا للنّاس كحكمهم لأنفسهم» (٣).

ذكره المهدوي.

وقال محمد بن كعب القرظي : هم الأنبياء (٤).

وقال الحسن وقتادة : هم السابقون إلى الإيمان من كل أمة (٥).

وقال محمد بن سيرين : هم الذين صلّوا إلى القبلتين (٦) ، قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) [التوبة : ١٠٠].

وقال مجاهد والضحاك : هم السّابقون إلى الجهاد ، وأول الناس رواحا إلى صلاة الفرائض في الجماعة (٧) وقال علي رضي الله عنه : هم السابقون إلى الصّلوات الخمس (٨).

وقال سعيد بن جبير : إلى التوبة ، وأعمال البر ، قال تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران : ١٣٣] ثم أثنى عليهم فقال : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) [المؤمنون : ٦١].

وقيل : إنهم أربعة : منهم سابق أمة موسى ، وهو حزقيل مؤمن آل فرعون ، وسابق أمة عيسى ، وهو حبيب النّجّار صاحب «أنطاكية» ، وسابقان في أمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهما أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ قاله ابن عباس.

حكاه الماوردي.

وقال شميط بن العجلان : النّاس ثلاثة : فرجل ابتكر للخير في حداثة سنه ، ثم داوم عليه حتى خرج من الدنيا ، فهذا هو السّابق المقرب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٥٤.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٢٩.

(٣) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٢٩).

(٤) ينظر المصدر السابق.

(٥) ينظر المصدر السابق.

(٦) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨٠).

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ذكره القرطبي في «تفسيره» (١٧ / ١٢٩).

٣٧٩

ختم له بها ، فهذا من أصحاب اليمين ، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ، ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها ، فهذا من أصحاب الشمال.

وروي عن كعب قال : هم أهل القرآن المتوجون يوم القيامة (١).

وقيل : هم أول الناس رواحا إلى المسجد ، وأولهم خروجا في سبيل الله (أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ).

يجوز أن يكون خبرا ثانيا ، وأن يكون حالا من الضمير في «المقرّبون» ، وأن يكون متعلقا به ، أي : قربوا إلى رحمة الله في جنات النعيم.

ويبعد أن تكون «في» بمعنى «إلى».

وقرأ طلحة (٢) : «في جنّة» بالإفراد.

وإضافة الجنة إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه ، كما يقال : «دار الضّيافة ، ودار الدّعوة ، ودار العدل».

وذكر النعيم هنا معرفا ، وفي آخر السورة منكرا ؛ لأن السّابقين معلومون ، فعرفهم باللام المستغرقة لجنسهم ، وأما هنا فإنهم غير معروفين لقوله : (إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ) فجعل موضعه غير معروف ، أو يقال : إن المذكور هنا جميع السّابقين ، ومنزلتهم أعلى المنازل ، فهي معروفة ، لأنها لا حدّ فوقها.

وأما باقي المقربين فلكل واحد مرتبة ودرجة ، فمنازلهم متفاوتة ، فهم في جنات متباينة في المنزلة ، لا يجمعها صفة ، فلم يعرفها.

قوله : (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ).

«ثلّة» خبر مبتدأ مضمر ، أي «هم».

ويجوز أن يكون مبتدأ خبره مضمر ، أي منهم ثلّة.

أي : من السابقين ، يعني أن التقسيم وقع [بينهم](٣).

وأن يكون مبتدأ خبره «في جنّات النّعيم».

أو قوله : (عَلى سُرُرٍ).

فهذه أربعة أوجه.

و «الثّلة» : الجماعة من الناس ، وقيدها الزمخشري بالكثيرة (٤).

__________________

(١) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٨٠) عن كعب.

(٢) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٤٠ ، والبحر المحيط ٨ / ٢٠٥ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٤.

(٣) في ب : في السابقين.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٥٨ ، والدر المصون ٦ / ٢٥٥.

٣٨٠