اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧) ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٦١)

قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ).

يجوز أن يكون «مقام» مصدرا ، وأن يكون مكانا.

فإن كان مصدرا ، فيحتمل أن يكون مضافا لفاعله ، أي : قيام ربه عليه ، وحفظه لأعماله من قوله تعالى : (أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) [الرعد : ٣٣]. ويروى عن مجاهد ، قال مجاهد وإبراهيم النّخعي : هو الرجل يهمّ بالمعصية ، فيذكر الله فيدعها من خوفه (١).

وأن يكون مضافا لمفعوله ، والمعنى : القيام بحقوق الله فلا يضيعها.

وإن كان مكانا ، فالإضافة بأدنى ملابسة لما كان النّاس يقومون بين يدي الله للحساب في عرصات القيامة (٢).

قيل : فيه مقام الله ، والمعنى : خاف مقامه بين يدي ربه للحساب ، فنزلت المعصية ، ف «مقام» : مصدر بمعنى القيام.

فصل فيمن علق طلاق زوجته على دخوله الجنة

قال القرطبي (٣) : هذه الآية دليل على أن من قال لزوجته : إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق ، أنه لا يحنث إن كان هم بالمعصية وتركها خوفا من الله وحياء منه. وقاله سفيان الثوري وأفتى به.

فصل في المراد بالجنتين

الظاهر أن الجنتين لخائف واحد.

قال محمد بن علي الترمذي : جنّة لخوفه من ربه ، وجنّة لتركه شهوته.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٠٢) عن مجاهد وإبراهيم النخعي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٢) عن مجاهد وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن أبي الدنيا في «التوبة» وهناد وعبد بن حميد وابن المنذر.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٦.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١١٥.

٣٤١

قال ابن عباس : من خاف مقام ربه بعد أداء الفرائض.

قال القرطبي (١) : ويجوز أن يكون المقام للعبد ، ثم يضاف إلى الله ، وهو كالأجل في قوله تعالى : (فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ) [الأعراف : ٣٤] وقوله في موضع آخر : (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ) [نوح : ٤].

وقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ) أي : كل خائف له جنتان على حدة.

وقيل : جنتان لجميع الخائفين. والأول أظهر.

وقيل : جنة لخائف الإنس ، وأخرى لخائف الجن ، فيكون من باب التوزيع. وقيل : «مقام» هنا مقحم ، والتقدير : «ولمن خاف ربه» ؛ وأنشد : [الوافر]

٤٦٥١ ـ ... ونفيت عنه

مقام الذّئب كالرّجل اللّعين (٢)

أي : نفيت الذئب وليس بجيد ، لأنّ زيادة الاسم ليست بالسهلة.

وقيل : المراد ب «الجنتين» : جنّة للجزاء ، وأخرى زيادة على الجزاء.

وقيل : إن الجنتين : جنته التي خلقت له ، وجنة ورثها.

وقيل : إحدى الجنتين منزله ، والأخرى منزل أزواجه كما يفعله رؤساء الدنيا.

وقيل : إحدى الجنتين مسكنه ، والأخرى بستانه.

وقيل : إن إحدى الجنتين أسافل القصور ، والأخرى أعاليها.

وقال مقاتل : هما جنة عدن وجنة النعيم.

وقال الفرّاء (٣) : إنها جنة واحدة ، وإنما ثنّى مراعاة لرءوس الآي.

وقيل : جنة واحدة ، وإنما ثنّى تأكيدا كقوله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) [ق : ٢٤].

وأنكر القتبي هذا ، وقال : لا يجوز أن يقال : خزنة النار عشرون ، وإنما (تِسْعَةَ عَشَرَ) [المدثر : ٣٠] مراعاة لرءوس الآي.

وأيضا قال : (ذَواتا أَفْنانٍ).

وقال عطاء وابن شوذب : نزلت هذه الآية في أبي بكر ـ رضي الله عنه ـ حين ذكر ذات يوم الجنّة حين أزلفت ، والنّار حين برزت (٤).

وقال الضحاك : بل شرب ذات يوم لبنا على ظمأ ، فأعجبه فسأل عنه ، فأخبر أنه من غير حلّ فاستقاءه ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ينظر إليه ، فقال : «رحمك الله لقد أنزلت فيك آية» ، وتلا عليه هذه الآية (٥).

__________________

(١) السابق.

(٢) تقدم.

(٣) القرطبي ١٧ / ١١٥.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠١) وعزاه إلى ابن أبي حاتم عن ابن شوذب.

(٥) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٤٣٧) عن الضحاك.

٣٤٢

قوله تعالى : «ذواتا». صفة ل «جنّتان» ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : «هما ذواتا».

وفي تثنية «ذات» لغتان :

الرد إلى الأصل ، فإن أصلها «ذوية» ، فالعين واو ، واللام ياء ؛ لأنها مؤنثة «ذو».

الثانية : التثنية على اللفظ. فيقال : «ذواتا».

و «الأفنان» : فيه وجهان.

أحدهما : أنه جمع «فنن» ك «طلل» ، وهو الغصن.

قال النابغة الذبياني : [الوافر]

٤٦٥٢ ـ بكاء حمامة تدعو هديلا

مفجّعة على فنن تغني (١)

وقال آخر : [الرمل]

٤٦٥٣ ـ ربّ ورقاء هتوف بالضّحى

ذات شجو صدحت في فنن (٢)

وقال آخر : [الطويل]

٤٦٥٤ ـ ..........

على كلّ أفنان العضاه تروق (٣)

و «الفنن» : جمعه أفنان ثم الأفانين.

قال الشاعر يصف رحى : [الرجز]

٤٦٥٥ ـ لها زمام من أفانين الشّجر (٤)

وشجرة فناء : أي ذات أفنان ، وفنواء أيضا على غير قياس.

وفي الحديث : «أنّ أهل الجنّة مرد مكحّلون أولو أفانين» (٥).

وهو جمع أفنان ، وأفنان : جمع «فنن» من الشعر ، شبه بالغصن. ذكره الهروي.

وقيل : (ذَواتا أَفْنانٍ) أي : ذواتا سعة وفضل على ما سواهما. قاله قتادة (٦).

__________________

(١) ينظر ديوانه (١٣٦) ، والقرطبي ١٧ / ١١٦ ، والبحر ٨ / ١٨٥ والدر المصون ٦ / ٢٤٦.

(٢) ينظر الدر المصون ٦ / ٢٤٦.

(٣) تقدم.

(٤) ينظر : اللسان (فتن) ، والتاج (فتن) ، والقرطبي ١٧ / ١١٦.

(٥) يشهد له حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا مكحلين بني ثلاث وثلاثين». أخرجه الترمذي رقم (٢٥٤٥) وفي سنده شهر بن حوشب وفيه ضعف. وله شاهد أيضا من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يدخل أهل الجنة الجنة جردا مردا بيضا جعادا مكحلين».

أخرجه الترمذي (٢٥٤٠). وذكره البغوي في تفسيره ٤ / ٢٧٤.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٠٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٤) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.

٣٤٣

وعن مجاهد أيضا وعكرمة : أن الأفنان ظل الأغصان على الحيطان (١).

وقال مجاهد : الفنن : هو الغصن المستقيم طولا.

الوجه الثاني : أنه جمع «فنّ» ك «دنّ» ، وإليه أشار ابن عبّاس.

والمعنى : ذواتا أنواع وأشكال ؛ وأنشدوا : [الطويل]

٤٦٥٦ ـ ومن كلّ أفنان اللذاذة والصّبا

لهوت به والعيش أخضر ناضر (٢)

قال سعيد بن جبير والضحاك : ألوان من الفاكهة (٣) ، واحدها : «فنّ» ، من قولهم : «افتنّ فلان في حديثه» إذا أخذ في فنون منه وضروب ، إلا أن الكثير في «فنّ» أن يجمع على «فنون» ، وجمع عطاء بين القولين فقال : في كل غصن فنون من الفاكهة.

قوله تعالى : (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) أي : في كل واحدة منهما عين جارية ، كما قال تعالى : (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) [الغاشية : ١٢] تجريان ماء بالزيادة ، والكرامة من الله ـ تعالى ـ على أهل الجنّة.

وعن ابن عباس أيضا والحسن : تجريان بالماء الزلال (٤) ، إحدى العينين : التسنيم ؛ والأخرى السلسبيل.

وقال ابن عطية : إحداهما من ماء غير آسن ، والأخرى من خمر لذّة للشّاربين.

وقيل : تجريان من جبل من مسك.

وقال أبو بكر الوراق : فيهما عينان تجريان ، لمن كانت عيناه في الدنيا تجريان من مخافة الله عزوجل.

قوله تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) ، أي : صنفان ونوعان.

قيل : معناه : أن فيهما من كل ما يتفكه به ضربين رطبا ويابسا.

وقال ابن عبّاس : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى الحنظل إلّا أنه حلو (٥).

__________________

(١) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٤) عن عكرمة وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وأبي بكر بن حبان في «الفنون» وابن الأنباري في «الوقف والابتداء».

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٩ ، وشرح شواهده ص ٤٢٣ ، والبحر ٨ / ١٨٥.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٠٤) عن الضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠٣).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٤) عن الحسن.

(٥) ينظر المصدر السابق. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٤) عن عكرمة مثله وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

٣٤٤

فإن قيل : قوله تعالى : (ذَواتا أَفْنانٍ) ، و (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) ، و (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ). أوصاف للجنتين المذكورتين ، فهو كالكلام الواحد ، تقديره : «جنتان ذواتا أفنان ، وفيهما عينان تجريان ، وفيهما من كل فاكهة زوجان» فما الفائدة في فصل بعضها عن بعض بقوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)؟ مع أنه لم يفصل حين ذكر العذاب بين الصفات ، بل قال : (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) مع أن إرسال النّحاس غير إرسال الشّواظ. وقوله : «يطوفون» كلام آخر؟.

فالجواب : أنه جمع العذاب جملة ، وفصل آيات الثواب ترجيحا لجانب الرحمة على جانب العذاب ، وتطييبا للقلب ، وتهييجا للسّامع ؛ فإن إعادة ذكر المحبوب محبوب ، وتطويل الكلام في اللذات مستحسن.

فإن قيل : ما وجه توسيط آية العينين بين ذكر الأفنان ، وآية الفاكهة والفاكهة إنما تكون على الأغصان ، فالمناسبة ألّا يفصل بين آية الأغصان والفاكهة؟.

فالجواب : أنه على عادة المتنعمين إذا خرجوا يتفرجون في البستان ، فأول قصدهم الفرجة بالخضرة والماء ، ثم يكون الأكل تبعا.

قوله : «متّكئين» يجوز أن يكون حالا من «من» في قوله (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) وإنما جمع حملا على معنى «من» بعد الإفراد حملا على لفظها.

وقيل : حال عاملها محذوف ، أي : يتنعمون متكئين.

وقيل : منصوب على الاختصاص.

والعامة على : «فرش» بضمتين ، وأبو حيوة (١) : بضمة وسكون ، وهي تخفيف منها.

قوله تعالى : (بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة والظاهر أنها صفة ل «فرش». وتقدم الكلام في «الاستبرق» في سورة الكهف (٢).

وقال أبو البقاء : أصل الكلمة فعل على «استفعل» ، فلما سمي به قطعت همزته (٣).

وقيل : هو أعجمي ، وقرىء (٤) بحذف الهمزة ، وكسر النون ، وهو سهو ؛ لأن ذلك لا يكون في الأسماء ، بل في المصادر والأفعال. انتهى. أما قوله : وهو سهو ؛ لأن ذلك لا يكون إلا في الأسماء ... الخ.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٣٣ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٥ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٦.

(٢) آية رقم (٣١) ، وينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٦.

(٣) ينظر : الإملاء ٢ / ١٢٠٠ ، الدر المصون ٦ / ٢٤٦ ، ٢٤٧.

(٤) ينظر : السابق.

٣٤٥

يعني أن حذف الهمزة في الدّرج لا يكون إلا في الأفعال والمصادر.

وأما الأسماء فلا تحذف همزاتها ؛ لأنها همزات قطع.

قال شهاب الدين (١) : «وهذا الكلام أحق بأن يكون سهوا ؛ لأنا أولا لا نسلم أن هذه القراءة من حذف همزة القطع إجراء لها مجرى همزة الوصل ، وإنما ذلك من باب نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها ، وحركة الهمزة كانت كسرة ، فحركة النون حركة نقل لا حركة التقاء الساكنين».

ثم قوله : «إلا في الأفعال والمصادر» ليس هذا الحصر بصحيح اتفاقا لوجود ذلك في أسماء عشرة ليست بمصادر تقدم ذكرها في أول الكتاب.

قال ابن الخطيب (٢) : قوله : (عَلى فُرُشٍ) متعلق بما في «متّكئين» ، كأنه يقول : يتّكئون على فرش ، كما يقال : فلان اتّكأ على عصاه ، أو على فخذيه ، وهذا لأن الفراش لا يتكأ عليه ، وإن كان متعلقا بغيره فما هو؟.

فنقول : تقديره : يتفكّه الكائنون على فرش متكئين ، من غير بيان ما يتكئون عليه.

فصل في تحرير معنى الاستبرق

«الإستبرق» : ما غلظ من الدّيباج.

قال ابن مسعود ، وأبو هريرة : إذا كانت البطانة التي تلي الأرض هكذا فما ظنك بالظهارة(٣)؟.

وقيل لسعيد بن جبير : البطائن من إستبرق فما الظواهر؟.

قال : هذا مما قال الله : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ)(٤) [السجدة : ١٧].

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إنما وصف لكم بطائنها لتهتدي إليه قلوبكم ، فأما الظواهر فلا يعلمها إلا الله (٥).

قال القرطبي : وفي الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «ظواهرها نور يتلألأ» وعن الحسن : البطائن هي الظّواهر (٦) ، وهو قول الفراء.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٧.

(٢) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ١١١.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٠٥) والحاكم (٢ / ٤٧٥) عن ابن مسعود.

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٤) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وعبد الله بن أحمد في «زوائد الزهد» وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في «البعث».

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٠٥).

(٥) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٤).

(٦) ذكره القرطبي في تفسيره ١٧ / ١١٧.

٣٤٦

روي عن قتادة : والعرب تقول للبطن : ظهرا (١) ، فيقولون : هذا بطن السماء ، وظهر الأرض.

وقال الفرّاء : قد تكون البطانة : الظهارة ، والظهارة : البطانة ؛ لأنّ كل واحد منهما يكون وجها ، والعرب تقول : هذا ظهر السماء ، وهذا بطن السماء لظاهرها الذي تراه.

وأنكر ابن قتيبة وغيره هذا ، وقالوا : لا يكون هذا إلّا في الوجهين المتساويين إذا ولي كل واحد منهما قوما كالحائط بينك وبين قوم ، وعلى ذلك أمر السماء.

وقال ابن عباس : وصف البطائن وترك الظواهر ؛ لأنه ليس في الأرض أحد يعرف ما الظّواهر (٢).

فصل في أن الإستبرق معرب

قال ابن الخطيب (٣) : الإستبرق معرب ، وهو الدّيباج الثخين ، وكما أن الديباج معرب بسبب أن العرب لم يكن عندهم ذلك إلا من العجم تصرفوا فيه ، وهو أن أصله بالفارسية «ستبرك» بمعنى : ثخين ، فزادوا في أوله همزة ، وبدلوا الكاف قافا ، أما الهمزة فلأن حركات أوائل الكلم في لسان العجم غير مبنية في كثير من المواضع ، فصارت كالسكون ، فأثبتوا فيه همزة كما يجلبون همزة الوصل عند سكون أول الكلمة ، ثم إنّ البعض جعلوها همزة وصل ، وقالوا : (مِنْ إِسْتَبْرَقٍ). والأكثرون جعلوها همزة قطع ؛ لأن أول الكلمة في الأصل متحرك ، لكن بحركة فاسدة ، فأتوا بهمزة تسقط عنهم الحركة الفاسدة ، وتمكنهم من تسكين الأول ؛ لأن عند تساوي الحركة العود إلى السّكون أقرب ، وأواخر الكلمات عند الوقف تسكن ، ولا تبدل حركة بحركة.

وأما القاف فلأنهم أرادوا إظهار كونها فارسية أو أعجمية ، فأسقطوا منها الكاف التي هي حرف تشبيه ، وعلى لسان العرب في أواخر الكلم للخطاب لو تركت الكاف لاشتبه «ستبرك» ب «مسجدك» ، إذا لحقت كاف الخطاب بهما ، فلو تركت الكاف قافا أولا ، ثم ألحقت الهمزة بأولها ، وهذا ومثله لا يخرج القرآن عن كونه عربيّا ؛ لأن العربي ما نطقت به العرب وضعا واستعمالا من لغة غيرها ، وذلك كله سهل عليهم ، وبه يحصل الإعجاز ، بخلاف ما لم يستعملوه من كلام العجم لصعوبته عليهم ، وذكر الاتكاء ؛ لأنه حال الصّحيح الفارغ القلب المتنعم ، بخلاف المريض والمهموم.

قوله تعالى : (وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ) مبتدأ وخبر ، وأصله : «دان» مثل «غاز» فأعل كإعلاله.

__________________

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٤٣٩).

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٤).

(٣) ينظر تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ١١١.

٣٤٧

وقرأ عيسى (١) بن عمر : «وجني» بكسر النون.

وتوجيهها : أن يكون أمال الفتحة لأجل الألف ، ثم حذف لالتقاء الساكنين ، وأبقى إمالة النون نحو الكسرة وقرىء (٢) : «وجنى» بكسر الجيم ، وهي لغة.

والجني : ما يقطف من الثّمار ، وهو «فعل» بمعنى «مفعول» كالقبض والقنص.

فصل في المراد بالجنى

قال القرطبي : «الجنى» : ما يجتنى من الشجر ، تقول : أتانا الشجر بجناة طيبة لكل ما يجتنى ، وثمرة جنيّ على «فعيل» حين جني.

قوله : «دان» أي : قريب.

قال ابن عبّاس : تدنو الشجرة حين يجتنيها ولي الله إن شاء قائما ، وإن شاء قاعدا ، وإن شاء مضطجعا (٣).

وقال قتادة : لا يرد يده بعد ، ولا شوك (٤).

قال ابن الخطيب (٥) : جنة الآخرة مخالفة لجنّة الدنيا من ثلاثة أوجه :

أحدها : أن الثمرة على رءوس الشجر في الدنيا بعيدة على الإنسان المتّكىء ، وفي الجنة هو متكىء ، والثمرة تتدلى إليه.

ثانيها : أن الإنسان في الدنيا يسعى إلى الثمرة ، ويتحرك إليها ، وفي الآخرة هي تدنو إليهم ، وتدور عليهم.

وثالثها : أنّ الإنسان في الدنيا إذا قرب من ثمر شجرة بعد عن غيرها ، وثمار الجنة كلها تدنو إليهم في وقت واحد ، ومكان واحد.

قوله تعالى : (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ).

اختلف في هذا الضمير.

فقيل : يعود على الجنات.

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٧.

(٢) ينظر السابق ، والكشاف ٤ / ٤٥٢.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦٠٥) عن ابن عباس بمعناه وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٤) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في «البعث».

وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٤).

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٤).

(٥) التفسير الكبير ٢٩ / ١١١ ، ١١٢.

٣٤٨

فإن قيل : كيف تقدّم تثنيته في قوله : (فِيهِما عَيْنانِ) ، و (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) ثم أتى بضمير جمع؟.

فالجواب (١) : أن أقلّ الجمع اثنان على قول ، وله شواهد تقدم أكثرها ، أو يقال : عائد إلى الجنّات المدلول عليها بالجنتين.

أو يقول : كل فرد فرد له جنتان فصح أنها جنان كثيرة ، وإما أن الجنة تشتمل على مجالس وقصور ومنازل ، فأطلق على كل واحد منها جنة.

وقيل : يعود على الفرش.

قال الزمخشري (٢) : «فيهنّ» أي : في هذه الآلاء المعدودة من الجنتين والعينين ، والفاكهة والفرش والجنى.

قال أبو حيان (٣) : «وفيه بعد» وكأنه قد استحسن الوجه الأول وفيه نظر ؛ لأن الاستعمال أن يقال : على الفراش كذا ، ولا يقال : في الفراش كذا إلا بتكلّف.

فلذلك جمع الزمخشري مع الفرش غيرها حتى صح له أن يقول : «فيهن» بحرف الظرفية ؛ ولأن الحقيقة أن يكون الإنسان على الفرش لأنه مستعمل عليها.

وأما كونها فيها فلا يقال إلا مجازا.

وقال الفراء : كل موضع في الجنة ، فلذلك صح أن يقال : «فيهن».

والقاصرات : الحابسات الطّرف : أي يحبسن أعينهن عن غير أزواجهن.

ومعناه : قصرن ألحاظهن على أزواجهن.

قال امرؤ القيس : [الطويل]

٤٦٥٧ ـ من القاصرات الطّرف لو دبّ محول

من الذّرّ فوق الإتب منها لأثّرا (٤)

و (قاصِراتُ الطَّرْفِ) من إضافة اسم الفاعل لمنصوبه تخفيفا ، إذ يقال : قصر طرفه على كذا ، وحذف متعلق القصر للعلم به ، أي : على أزواجهن.

وقيل : معناه : قاصرات طرف غيرهن عليهن إذا رآهن أحد لم يتجاوز طرفه إلى غيرهن(٥).

ووحد الطرف مع الإضافة إلى الجمع ؛ لأنه في معنى المصدر (٦) ، من طرفت عيناه

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٧.

(٢) الكشاف ٤ / ٤٥٣.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٧.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٧ ، ٢٤٨.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩٦.

٣٤٩

تطرف طرفا ، يقال : ما فيها عين تطرف ، ثم سميت العين بذلك ، فأدى عن الواحد والجمع ، كقولهم : «قوم عدل ، وصوم». قاله القرطبي (١).

واعلم أن هذا الترتيب في غاية الحسن (٢) ؛ لأنه بيّن أولا المسكن وهو الجنة ، ثم بين ما يتنزّه به وهو البستان ، والأعين الجارية ، ثم ذكر المأكول ، فقال : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) ، ثم ذكر موضع الرّاحة بعد الأكل وهو الفرش ، ثم ذكر ما يكون في الفراش معه.

قال ابن الخطيب (٣) : وقوله : (قاصِراتُ الطَّرْفِ).

أي : نساء أو أزواج ، فحذف الموصوف لنكتة وهو أنه ـ تعالى ـ لم يذكرهنّ باسم الجنس ، وهو النساء بل بالصفات ، فقال : (وَحُورٌ عِينٌ) [الواقعة : ٢٢] ، (وَكَواعِبَ أَتْراباً) [النبأ : ٣٣] (قاصِراتُ الطَّرْفِ ، حُورٌ مَقْصُوراتٌ) [الرحمن : ٧٢] ولم يقل : نساء عربا ، ولا نساء قاصرات ، لوجهين :

إما على عادة العظماء كبنات الملوك إنما يذكر بأوصافهنّ ، وإما لأنهن لما كملن كأنهن خرجن من جنسهن.

وقوله تعالى : (قاصِراتُ الطَّرْفِ) يدل على عفّتهن ، وعلى حسن المؤمنين في أعينهن ، فيحببن أزواجهن حبّا يشغلهنّ عن النّظر إلى غيرهم ، ويدل أيضا على الحياء ؛ لأن الطرف حركة الجفن ، والحييّة لا تحرك جفنها ، ولا ترفع رأسها.

قوله تعالى : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ).

هذه الجملة يجوز أن تكون نعتا ل «قاصرات» ، لأن إضافتها لفظية ، كقوله تعالى : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) [الأحقاف : ٢٤].

وقوله : [البسيط]

٤٦٥٨ ـ يا ربّ غابطنا لو كان يطلبكم

 ..........(٤)

وأن يكون حالا لتخصيص النكرة بالإضافة.

واختلف في هذا الحرف والذي بعده عن الكسائي ، فنقل عنه أنه يجيء في ضم أيهما شاء.

ونقل عنه الدوري ضم الأول فقط.

ونقل عنه أبو الحارث : ضم الثاني فقط ، وهما لغتان.

يقال : طمثها يطمثها ويطمثها إذا جامعها (٥) ، لما روى أبو إسحاق السبيعي قال :

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١١٧.

(٢) ينظر : الرازي ٢٩ / ١١٢.

(٣) السابق ٢٩ / ١١٣.

(٤) تقدم.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٨.

٣٥٠

كنت أصلي خلف أصحاب عليّ فأسمعهم يقولون : «لم أطمثهنّ» بالرفع ، وكنت أصلي خلف أصحاب عبد الله فأسمعهم يقولون : بكسر الميم ، وكان الكسائي يضم إحداهما ، ويكسر الأخرى لئلّا يخرج عن هذين الأثرين (١).

وأصل «الطّمث» : الجماع المؤدّي إلى خروج دم البكر ، ثم أطلق على كل جماع طمث ، وإن لم يكن معه دم.

وقيل : «الطّمث» : دم الحيض ودم الجماع ، فيكون أصله من الدم.

ومنه قيل للحائض : طامث ، كأنه قيل : لم يدمهن بالجماع إنس قبلهم ولا جانّ.

وقيل الطمث : المسّ الخالص (٢).

وقال الجحدري ، وطلحة بن مصرف (٣) : «يطمثهن» بفتح الميم في الحرفين ، وهو شاذ، إذ ليست عينه ولا لامه حرف حلق.

والضمير في «قبلهم» عائد على الأزواج الدال عليهم قوله : (قاصِراتُ الطَّرْفِ) ، أو الدّال عليه «متكئين» (٤).

فصل في تحرير معنى الطمث

قال القرطبي (٥) : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ) أي : لم يصبهن بالجماع قبل أزواجهن أحد.

قال الفراء : والطّمث : الافتضاض والنكاح بالتدمية ، طمثها يطمثها طمثا إذا افتضها.

ومنه قيل : امرأة طامث أي : حائض.

وغير الفراء يخالفه في هذا ويقول : طمثها بمعنى وطىء على أيّ الوجوه كان ، إلا أن الفراء أعرف وأشهر.

قال الفرزدق : [الوافر]

٤٦٥٩ ـ وقعن إليّ لم يطمثن قبلي

وهنّ أصحّ من بيض النّعام (٦)

وقال أبو عمرو : الطّمث والمس ، وذلك في كل شيء يمسّ ، ويقال للمرتع : ما طمث ذلك المرتع قبله أحد ، وما طمث هذه النّاقة حبل ، أي ما مسها عقال وقال المبرد : لم يذللهن إنس ولا جان ، والطمث : التذليل.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦٢١ ، والحجة ٦ / ٢٥٢ ، ٢٥٣ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٣٩ ، وحجة القراءات ٦٩٤ ، والعنوان ١٨٤ ، وشرح شعلة ٥٩٤ ، وشرح الطيبة ٦ / ٣٤ ، وإتحاف ٢ / ٥١٢.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٨.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٨.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٨.

(٥) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١١٨.

(٦) ينظر اللسان (طمث) ، والتابع ١ / ٦٣٢ (طمث) ، ومجمع البيان ٩ / ٣١٣ ، والقرطبي ١٧ / ١٨٢.

٣٥١

وقرأ الحسن (١) : «جأن» بالهمزة.

فصل في أن الجن يجامعون ويدخلون الجنة كالإنس (٢)

دلّت هذه الآية على أن الجن تغشى كالإنس ، وتدخل الجنة ، ويكون لهم فيها جنّيات.

قال ضمرة : للمؤمنين منهم أزواج من الحور ، فالإنسيّات للإنس ، والجنّيات للجن.

وقيل : معناه : لم يطمث ما وهب الله للمؤمنين من الجنّ في الجنّة من الحور العين من الإنسيّات إنس ، وذلك لأن الجن لا تطأ بنات آدم في الدنيا. ذكره القشيري.

قال القرطبي (٣) : قد مضى القول في سورة «النمل» وفي «سبحان» وأنه جائز أن تطأ بنات بني آدم.

وقد قال مجاهد : إنه إذا جامع الرجل ، ولم يسم انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه ، فذلك قوله : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌ) يعلمك أن نساء الدنيا لم يطمثهن الجان. والحور العين قد برئن من ذلك العيب.

قال مقاتل قوله : (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) ؛ لأنهن خلقن في الجنة ، فعلى قوله يكونون من حور الجنة.

وقال الشعبي : من نساء الدنيا لم يمسسهن منذ أنشئن خلق ، وهو قول الكلبي ، أي لم يجامعهن في الخلق الذي فيه إنس ولا جان (٤).

قوله تعالى : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ).

هذه الجملة يجوز أن تكون نعتا ل «قاصرات» ، وأن تكون حالا منها. ولم يذكر مكي غيره (٥).

و «الياقوت» : جوهر نفيس ، يقال : إن النار لم تؤثر فيه.

ولذلك قال الحريري : [البسيط]

٤٦٦٠ ـ وطالما أصلي الياقوت جمر غضى

ثمّ انطفى الجمر والياقوت ياقوت (٦)

__________________

(١) وقرأ بها عمرو بن عبيد كما في المحرر الوجيز ٥ / ٢٣٤ ، وينظر : الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١١٨.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١١٨.

(٣) ينظر السابق.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٥) وعزاه إلى سعيد بن منصور وابن المنذر.

(٥) ينظر : المشكل ٢ / ٧٠٨ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٨.

(٦) ينظر : البحر ٨ / ١٨٥.

٣٥٢

أي حاله لم يؤثر بها ، وجه التشبيه كما قال الحسن في صفاء الياقوت ، وبياض المرجان ، وهذا على القول بأنه أبيض.

وقيل : الوجه في الصفة بهما لنفاستهما لا للونهما ، ولذلك سموا بمرجانة ودرّة وشبه ذلك.

قوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ).

قرأ ابن أبي (١) إسحاق : «إلا الحسان» أي : الحور الحسان.

قال القرطبي (٢) : هل في الكلام على أربعة أوجه : تكون بمعنى «قد» ، كقوله تعالى : (هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ) [الإنسان : ١] ، (وَهَلْ أَتاكَ) [طه : ٩] ، وبمعنى الاستفهام كقوله : (فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) [الأعراف : ٤٤].

وبمعنى الأمر كقوله تعالى : (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [المائدة : ٩١].

وبمعنى «ما» في الجحد كقوله تعالى : (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [النحل: ٣٥] ، و (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ).

قال ابن الخطيب (٣) : في هذه الآية وجوه كثيرة حتى قيل : إنّ في القرآن ثلاث آيات في كل واحدة منها مائة قول :

أحدها : قوله تعالى : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) [البقرة : ١٥٢].

ثانيها : (وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا) [الإسراء : ٨].

ثالثها : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) والمشهور منها أقوال :

أحدها : قال عكرمة : أي : هل جزاء من قال : لا إله إلّا الله ، وعمل بها جاء به محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم إلا الجنة (٤).

وقيل : هل جزاء من أحسن في الدنيا إلا أن يحسن إليه في الآخرة. قاله ابن زيد.

وروى أنس ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) ثم قال : هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قال : هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة.

وروى ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قرأ هذه الآية ، فقال : «يقول الله تعالى : هل جزاء من أنعمت عليه بمعرفتي وتوحيدي إلّا أن أسكنه جنّتي وحظيرة قدسي برحمتي» (٥).

__________________

(١) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩٦ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٨.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١١٩.

(٣) ينظر : التفسير الكبير ٢٩ / ١١٥.

(٤) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤ / ٢٠٧) عن عكرمة وعزاه إلى عبد بن حميد.

(٥) أخرجه البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٦) من طريق الثعلبي. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٧) وزاد نسبته إلى الحكيم الترمذي في «نوادر الأصول» والديلمي في «مسند الفردوس» وابن النجار في «تاريخه». وله شاهد من حديث ابن عباس ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٧) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.

٣٥٣

وقال الصادق : هل جزاء من أحسنت إليه في الأزل إلا حفظ الإحسان إليه في الأبد.

قال ابن الخطيب : والأقرب أنه عام ، فجزاء كل من أحسن إلى غيره أن يحسن هو أيضا(١).

قوله تعالى : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)(٧٨)

قوله تعالى : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ).

أي : من دون تلك الجنتين المتقدمتين جنّتان في المنزلة وحسن المنظر ، وهذا على الظاهر من أن الأوليين أفضل من الأخريين ، وقيل : بالعكس ، ورجحه الزمخشري (٢).

وقال : قوله : (مُدْهامَّتانِ) مع قوله في الأوليين : (ذَواتا أَفْنانٍ) يدل على أن مرتبة هاتين دونهما ، وكذلك قوله في الأوليين : (فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ) مع قوله في هاتين : (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ) ؛ لأن النضخ دون الجري ، وقوله في الأوليين : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) مع قوله في هاتين : (فِيهِما فاكِهَةٌ) ، وقوله في الأوليين : (فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) حيث ترك ذكر الظهائر لعلوها ورفعتها ، وعدم إدراك العقول إياها ، مع قوله في هاتين : (رَفْرَفٍ خُضْرٍ) دليل عليه.

وقال القرطبي (٣) : لما وصف الجنتين أشار إلى الفرق بينهما ، فقال في الأوليين : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ) وفي الاخريين : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) ولم يقل : من كل فاكهة.

وقال في الأوليين : (مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ) وهو الدّيباج.

وفي الأخريين : (مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ) [الرحمن : ٧٦] و «العبقري» : الوشي ، والديباج أعلى من الوشي.

والرفرف : كسر الخباء ، والفرش المعدة للاتّكاء عليها أفضل من كسر الخباء.

__________________

(١) ينظر السابق.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٥٤ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٦ ، ١٩٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٨.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١١٩ ، ١٢٠.

٣٥٤

وقال في الأوليين في صفة الحور : (كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ).

وفي الأخريين : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ) ، وليس كل حسن كحسن الياقوت والمرجان.

وقال في الأوليين : (ذَواتا أَفْنانٍ).

وفي الأخريين : (مُدْهامَّتانِ) أي : خضراوان كأنهما من شدة خضرتهما سوداوان ، وفي هذا كله بيان لتفاوت ما بينهما.

قال ابن الخطيب (١) : ويمكن أن يجاب الزمخشري بأن الجنتين اللتين من دونهما لذريتهم التي ألحقهم الله ـ تعالى ـ بهم ولأتباعهم لا لهم ، وإنما جعلها لهم إنعاما عليهم ، أي : هاتان الأخريان لكم ، أسكنوا فيهما من تريدون.

وقيل : إن المراد بقوله : (وَمِنْ دُونِهِما) أي : دونهما في المكان ، كأنهم في جنتين ، ويطلعون من فوق على جنتين أخريين ، بدليل قوله تعال : (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) [الزمر : ٢٠].

وقال ابن عباس : ومن دونهما في الدّرج (٢).

وقال ابن زيد : ومن دونهما في الفضل (٣).

وقال ابن عباس : والجنات لمن خاف مقام ربه ، فيكون في الأوليين : النخل والشجر ، وفي الأخريين : الزرع والنبات (٤).

وقيل : المراد من قوله : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) لأتباعه لقصور منزلتهم عن منزلة أحدهما للحور العين ، والأخرى للولدان المخلدون ليتميز بها الذكور من الإناث.

وقال ابن جريج : هي أربع جنات منها للسابقين المقربين فيها من كل فاكهة زوجان ، وعينان تجريان ، وجنات لأصحاب اليمين فيها فاكهة ونخل ورمان.

وقال أبو موسى الأشعري : جنتان منها للسّابقين ، وجنتان من فضّة للتابعين.

وقال عليه الصلاة والسلام : «جنّتان من فضّة ، آنيتهما وما فيهما ، وجنّتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربّهم إلّا رداء الكبرياء على وجهه في جنّة عدن» (٥).

وقال الكسائي : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أي : أمامهما وقبلهما.

__________________

(١) التفسير الكبير ٢٩ / ١١٧.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦١٠).

(٣) ينظر المصدر السابق.

(٤) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٧٦).

(٥) أخرجه البخاري (١٣ / ٤٣٣) كتاب التوحيد ، باب : وجوه يومئذ ناضرة (٧٤٤٤) ومسلم (١ / ١٦٣) كتاب الإيمان ، باب : إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم حديث (٢٦٦ / ١٨٠) من حديث أبي موسى.

٣٥٥

قال البغوي (١) : «يدلّ عليه قول الضحاك : الجنّتان الأوليان من ذهب وفضّة ، والأخريان من ياقوت وزمرّد ، وهما أفضل من الأوليين».

وإلى هذا القول ذهب أبو عبد الله الترمذي الحكيم في «نوادر الأصول» ، وقال : «ومعنى (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) أي : دون هذا إلى العرش ، أي : أقرب وأدنى إلى العرش».

وقال مقاتل : الجنّتان الأوليان : جنة عدن وجنة النعيم ، والأخريان : جنة الفردوس ، وجنة المأوى.

قوله تعالى : (مُدْهامَّتانِ) أي : خضراوان. قاله ابن عبّاس وغيره.

وقال مجاهد : مسودتان.

والإدهام في اللغة : السواد وشدة الخضرة ، جعلتا مدهامتان لشدة ريّهما ، وهذا مشاهد بالنظر ، ولذلك قالوا : سواد «العراق» لكثرة شجره وزرعه (٢).

ويقال : فرس أدهم وبعير أدهم ، وناقة دهماء ، أي اشتدت زرقته حتى ذهب البياض الذي فيه ، فإن زاد على ذلك واشتد السواد فهو جون ، وادهمّ الفرس ادهماما أي صار أدهم.

وادهامّ الشيء ادهيماما : أي : اسودادا ، والأرض إذا اخضرت غاية الخضرة تضرب إلى السواد ، ويقال للأرض المعمورة : سواد يقال : سواد البلد.

وقال عليه الصلاة والسلام : «عليكم بالسّواد الأعظم ، ومن كثّر سواد قوم فهو منهم»(٣).

قال ابن الخطيب : والتحقيق فيه أن ابتداء الألوان هو البياض وانتهاؤها هو السّواد ، فإنّ الأبيض يقبل كل لون ، والأسود لا يقبل شيئا من الألوان.

قوله تعالى : (فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ).

قال ابن عباس : فوّارتان بالماء والنّضخ ـ بالخاء المعجمة ـ أكثر من النّضح ـ بالحاء المهملة ـ لأن النّضح بالمهملة : الرّشّ والرشح ، وبالمعجمة : فوران الماء.

وقال ابن عباس والحسن ومجاهد : المعنى نضّاختان بالخير والبركة (٤).

وعن ابن مسعود وابن عباس أيضا وأنس : تنضخ على أولياء الله بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة كما ينضخ رشّ المطر (٥).

__________________

(١) ينظر : معالم التنزيل ٤ / ٢٧٦.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٢٠.

(٣) لأوله شاهد من حديث ابن عمر بلفظ : عليكم بالسواد الأعظم أخرجه الحاكم (١ / ١١٥ ـ ١١٦) وابن أبي عاصم في «السنة» (١ / ٣٩) ، ولآخره شاهد عن عبد الله بن مسعود عند أبي يعلى كما في المطالب برقم (١٦٠٥).

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦١٣).

(٥) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٩) عن أنس وعزاه إلى ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم.

٣٥٦

وقال سعيد بن جبير : بأنواع الفواكه والماء (١).

قوله تعالى : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ).

قال بعض العلماء : ليس الرمان والنخل من الفاكهة ؛ لأن الشيء لا يعطف على نفسه إنما يعطف على غيره ؛ لأن العطف يقتضي المغايرة ، وهذا ظاهر الكلام ، فلو حلف لا يأكل فاكهة لم يحنث بأكلهما.

وقال الجمهور : هما من الفاكهة ، وإنما أعاد ذكر النّخل والرمان لفضلهما على الفاكهة ، فهو من باب ذكر الخاص بعد العام تفضيلا له كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة : ٩٨].

وقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) [البقرة : ٢٣٨].

قال شهاب الدين (٢) : وهذا يجوز ؛ لأن «فاكهة» عامّا ؛ لأنه نكرة في سياق الإثبات ، وإنما هو مطلق ، ولكن لما كان صادقا على النخل والرمان قيل فيه ذلك.

وقال القرطبي (٣) : إنما كررهما ؛ لأن النخل والرمان كانا عندهم في ذلك الوقت بمنزلة البرّ عندنا ؛ لأن النخل عامة قوتهم ، والرّمان كالتمرات ، فكان يكثر غرسها عندهم لحاجتهم إليه ، وكانت الفواكه عندهم من ألوان الثّمار التي يعجبون بها ، فإنما ذكر الفاكهة ، ثم ذكر النخل والرمان لعمومهما ، وكثرتهما عندهم في «المدينة» إلى «مكّة» إلى ما والاها من أرض «اليمن» ، فأخرجهما في الذكر من الفواكه ، وأفرد الفواكه على حدتها.

وقيل : أفردا بالذكر ؛ لأن النخل ثمرة : فاكهة وطعام.

والرّمان : فاكهة ودواء ، فلم يخلصا للتفكّه.

ومنه قال أبو حنيفة رحمه‌الله : من حلف ألا يأكل فاكهة فأكل رمانا ، أو رطبا لم يحنث (٤).

فصل في مناسبة هذه الآية لما قبلها

قال ابن الخطيب (٥) : قوله : (فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) كقوله تعالى : (فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ ؛) لأن الفاكهة أرضية وشجرية ، والأرضية كالبطّيخ وغيره من الأرضيات المزروعة ، والشجرية كالنّخل والرمان وغيرهما من الشجريات ، فقال : (مُدْهامَّتانِ) بأنواع

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦١٢) عن سعيد بن جبير وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٩) وزاد نسبته إلى ابن المبارك في الزهد وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وأبي نعيم في «الحلية».

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٩.

(٣) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٢١.

(٤) ينظر الهداية ٢ / ٨٠.

(٥) التفسير الكبير ٢٩ / ١١٧.

٣٥٧

الخضر التي منها الفواكه الأرضية والفواكه الشجرية ، وذكر منها نوعين (١) وهما الرمان والرطب ؛ لأنهما متقابلان.

أحدهما : حلو ، والآخر : حامض.

وأحدهما : حار ، والآخر : بارد.

وأحدهما : فاكهة وغذاء ، والآخر : فاكهة ودواء.

وأحدهما : من فواكه البلاد الباردة ، والآخر : من فواكه البلاد الحارة.

وأحدهما : أشجار في غاية الطول والكبر ، والآخر : أشجاره بالضّد.

وأحدهما : ما يؤكل منه بارز ، وما لا يؤكل كامن ، فهما كالضدين ، والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما كقوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) [الرحمن : ١٧].

فصل في الكلام على نخل ورمان الجنة

قال ابن عباس : الرمانة في الجنة ملء جلد البعير المقتّب (٢).

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : نخل الجنة : جذوعها زمرد أخضر ، وكرمها ذهب أحمر ، وسعفها كسوة لأهل الجنة ، فيها (مقطعاتهم) (٣) وحللهم ، وثمرها أمثال القلال والدّلاء ، أشد بياضا من اللبن ، وأحلى من العسل ، وألين من الزّبد ، ليس له عجم (٤).

وفي رواية : كلما نزعت ثمرة عادت مكانها أخرى ، وإن ماءها ليجري في غير أخدود ، والعنقود : اثنا عشر ذراعا.

قوله تعالى : (فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ).

في «خيرات» وجهان :

أحدهما : أنه جمع «خيرة» من الخير ، بزنة «فعلة» ـ بسكون العين ـ يقال : «امرأة خيرة وأخرى شرّة».

__________________

(١) في ب : أمرين.

(٢) روي مثله مرفوعا من حديث أبي سعيد الخدري. ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٢٠) وعزاه إلى ابن أبي حاتم.

(٣) في ب : مقطاعتهم.

(٤) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٧٦) عن ابن عباس وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ٢٠٩) وزاد نسبته إلى ابن المبارك وابن أبي شيبة وهناد بن السري وابن أبي الدنيا في «صفة الجنة» وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في «العظمة» والبيهقي في «البعث والنشور».

٣٥٨

والثاني : أنه جمع «خيرة» المخفف من «خيّرة» ، ويدل على ذلك قراءة ابن مقسم والنهدي ، وبكر بن حبيب (١) : «خيّرات» بتشديد الياء.

قال القرطبي (٢) : «وهي قراءة قتادة ، وابن السميفع ، وأبي رجاء العطاردي».

وقرأ أبو عمرو (٣) : «خَيَرات» بفتح الياء ، جمع «خيرة» ، وهي شاذة ؛ لأن العين معلة ، إلا أن بني «هذيل» تعامله معاملة الصحيح ، فيقولون : «حورات وبيضات» (٤).

وأنشد : [الطويل]

٤٦٦١ ـ أخو بيضات رائح متأوّب

رفيق بمسح المنكبين سبوح (٥)

فصل في تفسير الآية

قال المفسرون : «الخيرات الحسان» يعني النّساء ، الواحدة «خيرة» على معنى «ذوات خير».

وقيل : «خيرات» بمعنى «خيّرات» ، فخفف ك «هيّن وليّن».

روى الحسن عن أمّه عن أم سلمة رضي الله عنها قالت : قلت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرني عن قوله : (خَيْراتٌ حِسانٌ) قال : «خيرات الأخلاق حسان الوجوه» (٦).

وقال أبو صالح : لأنّهنّ عذارى أبكار.

وقال الحكيم الترمذي : ف «الخيرات» ، ما اختارهنّ الله فأبدع خلقهنّ باختياره ، فاختيار الله لا يشبه اختيار الآدميين ، ثم قال : «حسان» فوصفهن بالحسن ؛ فإذا وصف الله خالق الحسن شبابا بالحسن ، فانظر ما هناك.

وقال ابن الخطيب (٧) : «في باطنهن الخير ، وفي ظاهرهنّ الحسن».

قوله تعالى : (حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ).

معنى «مقصورات» : أي : محبوسات ومنه القصر ؛ لأنه يحبس من فيه.

__________________

(١) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٣٥ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٩.

(٢) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٢٢.

(٣) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٣٥ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٩.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٩.

(٥) تقدم.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٦١٤) والطبراني في «الكبير» كما في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٢٢).

وقال الهيثمي : رواه الطبراني وفيه سليمان بن أبي كريمة ضعفه أبو حاتم وابن عدي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٥٠) ، وزاد نسبته إلى ابن مردويه.

(٧) ينظر : تفسير الفجر الرازي ٢٩ / ١١٨.

٣٥٩

ومنه قول النحاة : «المقصور» ، لأنه حبس عن المد ، وحبس عن الإعراب أو حبس الإعراب فيه ، والنساء تمدح بملازمتهن البيوت (١) ، كما قال قيس بن الأسلت : [الطويل]

٤٦٦٢ ـ وتكسل عن جيرانها فيزرنها

وتغفل عن أبياتهنّ فتعذر (٢)

ويقال : امرأة مقصورة وقصيرة ، وقصورة بمعنى واحد.

قال كثير عزة فيه : [الطويل]

٤٦٦٣ ـ وأنت الّتي حبّبت كلّ قصيرة

إليّ ، ولم تعلم بذاك القصائر

عنيت قصارات الحجال ولم أرد

قصار الخطا ، شرّ النّساء البحاتر (٣)

و «الخيام» : جمع «خيمة» ، وهي تكون من ثمام وسائر الحشيش ، فإن كانت من شعر ، فلا يقال لها : خيمة ، بل بيت.

قال جرير : [الوافر]

٤٦٦٤ ـ متى كان الخيام بذي طلوح

سقيت الغيث أيّتها الخيام (٤)

فصل في أن جمال الحور يفوق الآدميات

اختلفوا أيهما أكثر حسنا وأتم جمالا الحور أو الآدميات.

فقيل : الحور لما ذكر من صفتهن في القرآن والسّنة ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في دعائه في صلاة الجنائز: «وأبدل له دارا خيرا من داره ، وأبدل له زوجا خيرا من زوجه» (٥).

وقيل : الآدميات أفضل من الحور العين بسبعين ألف ضعف ، روي ذلك مرفوعا.

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٩.

(٢) في الديوان : ويكر منها جاراتها مكان وتكسل من جيرانها.

ينظر ديوانه ص ٧٢ ، والبحر ٨ / ١٩٧ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٩.

(٣) ينظر ديوانه ص ٣٦٩ ، والأشباه والنظائر ٥ / ١٨٠ ، وإصلاح المنطق ص ١٨٤ ، وجمهرة اللغة ص ٧٤٣ ، والدرر ١ / ٢٨٢ ، وابن يعيش ٦ / ٣٧ ، ومعاني القرآن للفراء ٣ / ١٢٠ ، وأسرار العربية ص ٤١ ، وهمع الهوامع ١ / ٨٦ ؛ والمعاني الكبير ص ٥٠٥ ، واللسان (فقر) ، والقرطبي ١٧ / ١٢٣ ، والبحر ٨ / ١٨٥ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٩.

(٤) ينظر ديوانه ص ٢٧٨ ، والأغاني ٢ / ١٧٩ ، وجمهرة اللغة ص ٥٥٠ ، والجنى الداني ص ١٧٤ ، وخزانة الأدب ٩ / ١٢١ ، وشرح أبيات سيبويه ٢ / ٣٤٩ ، وشرح شواهد المغني ١ / ٣١١ ، ٢ / ٧٨٥ ، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٦١٧ ، وشرح المفصل ٩ / ٧٨ ، والكتاب ٤ / ٢٠٦ ، ومعجم ما استعجم ص ٨٩٣ ، والمقاصد النحوية ٢ / ٤٦٩ ، وجواهر الأدب ١٦٤ ، وسر صناعة الإعراب ١ / ٤٧٩ ، ٤٨٠ ، ٤٨١ وشرح الأشموني ٣ / ٧٦٢ ، ولسان العرب (روى) و (قوا) ، ومغني اللبيب ٢ / ٣٦٨ ، والمنصف ١ / ٢٢٤ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٩ ، والبحر ٨ / ١٨٥.

(٥) تقدم.

٣٦٠