اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

وقيل : المراد وضع الميزان في الآخرة لوزن الأعمال. وأصل «ميزان» «يوزان». وقد مضى القول فيه في «الأعراف».

قال ابن الخطيب (١) : قوله : (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) إشارة إلى العدل ، كقوله : (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ) [الحديد : ٢٥] أي : ليعلموا بالكتاب ، ويعملوا بالميزان ، فكذا هنا (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) و (وَضَعَ الْمِيزانَ) ، فالمراد ب «الميزان» : العدل بوضعه شرعة ، كأنه قيل: شرع العدل لئلا تطغوا في الميزان الذي هو آلة العدل ، هذا هو المنقول ، قال : والأولى العكس كالأول وهو الآلة ، والثاني : بمعنى الوزن ، أو بمعنى العدل.

قوله : (أَلَّا تَطْغَوْا) ، في «أن» هذه وجهان (٢) :

أحدهما : أنها الناصبة ، و «لا» بعدها نافية ، و «تطغوا» منصوب ب «أن» ، و «أن» قبلها لام العلة مقدّرة تتعلق بقوله : (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) ، التقدير : «لئلّا تطغوا» ، كقوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [النساء : ١٧٦].

وأجاز الزمخشري (٣) وابن عطية (٤) : أن تكون المفسرة ، وعلى هذا تكون «لا» ناهية ، والفعل مجزوم بها.

قال القرطبي : فلا يكون ل «أن» موضع من الإعراب ، فتكون بمعنى «أي» ، و «تطغوا» مجزوم بها كقوله : (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا) [ص : ٧] ، أي : «امشوا».

إلا أن أبا حيان رد هذا القول بأن شرط التفسيرية تقدم جملة متضمنة لمعنى القول ، وليست موجودة (٥).

قال شهاب الدين (٦) : «وإلى كونها مفسرة (٧) ذهب مكي ، وأبو البقاء (٨) ، إلا أن أبا البقاء كأنه تنبه للاعتراض ، فقال : «وأن ـ بمعنى أي ـ والقول مقدر».

فجعل الشيء المفسر ب «أن» مقدرا لا ملفوظا به ، إلا أنه قد يقال إن قوله «والقول مقدر» ليس بجيّد ؛ لأنها لا تفسر القول الصريح ، فكيف يقدر ما لا يصحّ تفسيره ، فإصلاحه أن يقول : وما هو بمعنى القول مقدر».

فصل في الطغيان في الميزان

والطغيان مجاوزة الحد ، فمن قال : الميزان العدل ، قال : الطغيان الجور ومن قال :

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٢٩ / ٨٠.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٧.

(٣) الكشاف ٤ / ٤٤٤.

(٤) المحرر الوجيز ٥ / ٢٢٥ ، والبحر المحيط ٨ / ١٨٨ ، والدر المصون ٦ / ٢٣٧.

(٥) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٨٨.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٧.

(٧) ينظر : المشكل ٢ / ٧٠٤.

(٨) ينظر التبيان ١١٧٩.

٣٠١

إنه الميزان الذي يوزن به ، قال : طغيانه النّجس (١).

قال ابن عباس : لا تخونوا من وزنتم له (٢).

وعنه أيضا أنه قال : يا معشر الموالي وليتم أمرين بهما هلك الناس : المكيال والميزان.

ومن قال : إنه طغيان (٣) الحكم ، قال : طغيانه التحريف.

وقيل : فيه إضمار ، أي : وضع الميزان وأمركم ألا تطغوا فيه.

فإن قيل (٤) : العلم لا شك في كونه نعمة ، وأما الميزان فأي نعمة عظيمة فيه حتى يعد بسببها في الآلاء؟.

فالجواب : أن النفوس تأبى الغبن ، ولا يرضى أحد بأن يغلبه غيره ، ولو في الشيء اليسير ، ويرى أن ذلك استهانة به ، فلا يترك خصمه يغلبه ، ثم إن عند عدم المعيار الذي به تؤخذ الحقوق ، كل أحد يذهب إلى أن خصمه يغلبه ، فوضع الله ـ تعالى ـ معيارا بين به التّساوي ، ولا يقع به البغضاء بين الناس ، وهو الميزان ، فهو نعمة كاملة ، ولا ينظر إلى عدم ظهور نعمته وكثرته ، وسهولة الوصول إليه كالهواء والماء الذي لا يبين فضلهما إلّا عند فقدهما.

قوله : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ).

أي : افعلوه مستقيما بالعدل.

وقال أبو الدرداء : أقيموا لسان الميزان بالقسط والعدل (٥).

وقال ابن عيينة : الإقامة باليد ، والقسط بالقلب.

وقال مجاهد : القسط : العدل بالرومية (٦).

وقيل : هو كقولك : أقام الصلاة ، أي : أتى بها في وقتها ، وأقام الناس أسواقهم ، أي : أتوا بها لوقتها ، أي : لا تدعوا التعامل بالوزن والعدل.

قوله : (وَلا تُخْسِرُوا).

العامة (٧) على ضم التاء وكسر السين ، من «أخسر» أي : نقص ، كقوله : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) [المطففين : ٣].

وقرأ زيد (٨) بن علي ، وبلال بن أبي بردة : بفتح التاء وكسر السين ، فيكون «فعل ،

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠١.

(٢) ذكره الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٥٧).

(٣) في ب : طغيانه.

(٤) ينظر : الرازي ٢٩ / ٨٠.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠١ ، ١٠٢.

(٦) ذكره الماوردي (٥ / ٤٢٥) عن مجاهد.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٧ ، والبحر المحيط ٨ / ١٨٨.

(٨) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٤٤ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٢٥ ، والبحر المحيط ٨ / ١٨٨ ، والدر المصون ٦ / ٢٣٧.

٣٠٢

وأفعل» بمعنى ، يقال : خسر الميزان ، وأخسره «بمعنى واحد ، نحو : جبر وأجبر».

ونقل أبو الفتح (١) وأبو الفضل عن بلال : فتح التاء والسين ، ونقلها أيضا القرطبي (٢) عن أبان بن عثمان ، قال : وهما لغتان ، يقال : أخسرت الميزان ، وخسرته ، ك «أجبرته» و «جبرته».

قال شهاب الدين (٣) : وفيها وجهان :

أحدهما : أنه على حذف حرف الجر ، تقديره : «ولا تخسروا في الميزان» ، ذكره الزمخشري (٤) وأبو البقاء (٥) ، إلا أن أبا حيان (٦) قال : لا حاجة إلى ذلك ؛ لأن «خسر» جاء متعديا ، قال تعالى : (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) [الأنعام : ١٢] و (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) [الحج : ١١].

قال شهاب الدين (٧) : «وهذا أليق من ذاك ، ألا ترى أن «خسروا أنفسهم» و «خسر الدنيا والآخرة» معناه : أن الخسران واقع بهما ، وأنهما معدومان ، وهذا المعنى ليس مرادا في الآية قطعا ، وإنما المراد : لا تخسروا الموزون في الميزان».

وقرىء (٨) : «تخسروا» بفتح التاء وضم السين.

قال الزمخشري (٩) : «وقرىء : «ولا تخسروا» بفتح التاء وضم السين وكسرها وفتحها ، يقال : خسر الميزان يخسره ويخسره ، وأما الفتح فعلى أن الأصل : «في الميزان» فحذف الجار ، وأوصل الفعل إليه».

وكرر لفظ «الميزان» (١٠) ولم يضمره في الجملتين بعده تقوية لشأنه.

وهذا كقول الآخر : [الخفيف]

٤٦٢٣ ـ لا أرى الموت يسبق الموت شيء

نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا (١١)

فصل في معنى الآية

المعنى : ولا تنقصوا ولا تبخسوا الوزن والكيل ، كقوله : (وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ) [هود : ٨٤].

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٧.

(٢) ينظر : تفسير القرطبي ١٧ / ١٠٢.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٧.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٤٤.

(٥) ينظر : الإملاء ٢ / ١١٩٧.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٨٨.

(٧) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٧.

(٨) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٤٤ ، والبحر المحيط ٨ / ١٨٨ ، والدر المصون ٦ / ٢٣٧.

(٩) الكشاف ٤ / ٤٤٤.

(١٠) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٧.

(١١) تقدم.

٣٠٣

وقيل : لا تخسروا ميزان حسناتكم يوم القيامة ، فيكون ذلك حسرة عليكم ، وكرّر الميزان لحال رءوس الآي.

وقيل : التكرير للأمر بإيفاء الوزن ، ورعاية العدل فيه (١).

وقال ابن الخطيب (٢) : (وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ) أي : لا تنقصوا الموزون.

وذكر «الميزان» ثلاث مرات ، فالأول : بمعنى الآلة ، وهو قوله (وَضَعَ الْمِيزانَ).

والثاني : بمعنى المصدر أي : لا تطغوا في الوزن.

والثالث : للمفعول ، أي : لا تخسروا الموزون.

وبين القرآن و «الميزان» مناسبة ، فإن القرآن فيه العلم الذي لا يوجد في غيره من الكتب ، والميزان به يقام العدل الذي لا يقام بغيره من الآلات.

قوله : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) ، كقوله : (وَالسَّماءَ رَفَعَها).

قرأ أبو السمال (٣) : بالرفع مبتدأ ، و «الأنام» علّة للوضع.

«الأنام». قيل : كل الحيوان.

وقيل : بنو آدم خاصة ، وهو مروي عن ابن عبّاس نقل النووي (٤) في «التهذيب» عن الزبيدي : «الأنام» : الخلق ، قال : ويجوز الأنيم.

وقال الواحدي (٥) : قال الليث : «الأنام» ما على ظهر الأرض من جميع الخلق (٦).

وقيل : هم الإنس والجن. قاله الحسن ، والأول قاله الضّحاك.

ووزنه : «فعال» ك «قذال» فيجمع في القلة على «أنمّة» بزنة : «امرأة أنمّة» ، وفي الكثرة على «أنم» ك «قذال وأقذلة وقذل».

قوله : (فِيها فاكِهَةٌ) يجوز أن تكون هذه الجملة حالا من «الأرض» إلا أنها حال مقدرة ، والأحسن أن يكون الجار والمجرور هو الحال.

و «فاكهة» رفع بالفاعلية ، ونكرت لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما ذكر بعدها ، وهو من باب الترقّي من الأدنى إلى الأعلى.

قال ابن الخطيب (٧) : الأرض موضوعة لكل ما عليها ، وإنما خصّ الإنسان بالذّكر ؛

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠٢.

(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٢٩ / ٨١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٨٨ ، والدر المصون ٦ / ٢٣٧.

(٤) ينظر : تهذيب الأسماء واللغات ١ / ١٤.

(٥) ينظر : تفسير الرازي ٢٩ / ٨٢.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٧) عن ابن عباس مثله ومثله أيضا عن الضحاك ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٢) وعزاه إلى ابن المنذر.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ٢٩ / ٨٢.

٣٠٤

لأن الانتفاع بها أكثر ، فإنه ينتفع بها ، وبما فيها ، وبما عليها ، فقال : «للأنام» لكثرة انتفاع الأنام بها.

وقوله : (فِيها فاكِهَةٌ).

أي : ما يتفكّه به الإنسان من ألوان الثمار (١).

قوله : (وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ) إشارة إلى الأشجار.

و «الأكمام» جمع «كمّ» ـ بالكسر ـ وهو وعاء الثمر.

قال الجوهري (٢) : و «الكمّ ـ بالكسر ـ و «الكمامة» : وعاء الطلع ، وغطاء النّور ، والجمع : «كمام» و «أكمّة» ، و «الأكاميم» أيضا ، و «كم» الغسيل إذا أشفق عليه ، فستر حتى يقوى ، قال العجاج : [الرجز]

٤٦٢٤ ـ بل لو شهدت النّاس إذ تكمّوا

غمّة لو لم تفرّج غمّوا (٣)

و «تكمّوا» : أي أعمى عليهم وغطّوا.

وأكممت وكممت أي : أخرجت كمامها ، والكمام ـ بالكسر ـ والكمامة أيضا : ما يكمّ به فم البعير لئلا يعضّ ، تقول منه بعير مكموم أي محجوم ، وكممت الشيء : غطّيته ، ومنه كمّ القميص ـ بالضم ـ والجمع : «أكمام وكممة» مثل : جبّ وجببة.

و «الكمّة» : القلنسوة [المدورة](٤) ؛ لأنها تغطي الرأس.

قال رحمه‌الله : [الطويل]

٤٦٢٥ ـ فقلت لهم : كيلوا بكمّة بعضكم

دراهمكم ، إنّي كذلك أكيل (٥)

قال الحسن : (ذاتُ الْأَكْمامِ) أي : ذات اللّيف (٦) ، فإن النخلة قد تكمم بالليف وأكمامها : ليفها الذي في أعناقها.

وقال ابن زيد : ذات الطلع قبل أن يتفتّق (٧).

وقال عكرمة : ذات الأحمال (٨).

وقال الضّحاك : (ذاتُ الْأَكْمامِ) : ذات الغلف (٩).

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠٢.

(٢) ينظر : الصحاح ٥ / ٢٠٢٤ ، والقرطبي ١٧ / ١٠٢.

(٣) ينظر ديوانه ٦٣ ومجاز القرآن ١ / ٢٧٩ ، والقرطبي (١٧ / ١٠٢) ، واللسان (كمم) ، والصحاح (كمم).

(٤) زيادة من الصحاح.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠٢.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٨) وذكره البغوي (٤ / ٢٦٧).

(٧) ينظر المصدر السابق.

(٨) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٦٧).

(٩) ينظر المصدر السابق.

٣٠٥

والأكمام : الأوعية التي يكون فيها الثمر ؛ لأن ثمر النخل يكون في غلاف ما لم يتشقق ، والمراد بالفاكهة : الفواكهة.

قال ابن كيسان : ما يتفكّهون به من النعم التي لا تحصى ، ونكّر الفاكهة للتكثير والتعظيم.

قوله : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ).

قرأ (١) ابن عامر : بنصب الثلاثة. وفيه ثلاثة أوجه :

النصب على الاختصاص ، أي «وأخص الحبّ» قاله الزمخشري (٢).

وفيه نظر (٣) ، لأنه لم يدخل في مسمى الفاكهة والنخل حتى يخصّه من بينها ، وإنما أراد إضمار فعل ، وهو «أخص» فليس هو الاختصاص الصّناعي.

الثاني : أنه معطوف على «الأرض».

قال مكي (٤) : «لأن قوله (وَالْأَرْضَ وَضَعَها) أي : خلقها ، فعطف «الحب» على ذلك».

الثالث : أنه منصوب ب «خلق» مضمرا ، أي «وخلق الحب».

وقال مكي : «أو وخلق الحب» ، وقراءته موافقة لرسم مصاحف بلده ، فإن مصاحف «الشام» «ذا» بالألف (٥).

وجوزوا في «الرّيحان» أن يكون على حذف مضاف ، أي «وذا الريحان» فحذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه (٦) ، ك (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) [يوسف : ٨٢].

وقرأ (٧) الأخوان برفع الأولين وجرّ «الرّيحان» عطفا على «العصف» وهي تؤيد قول من حذف المضاف في قراءة ابن عامر.

والباقون : برفع الثلاثة عطفا على «فاكهة» أي : وفيها أيضا هذه الأشياء.

ذكر أولا ما يتلذّذون به من الفواكهة.

وثانيا : الشيء الجامع بين التلذّذ والتغذّي ، وهو ثمر النخل.

وثالثا : ما يتغذى به فقط ، وهو أعظمها ؛ لأنه قوت غالب الناس.

__________________

(١) ينظر : السبعة ٦١٩ ، والحجة ٦ / ٢٤٤ ، وحجة القراءات ٦٩٠ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٣٣ ، وشرح شعلة ٥٩٣ ، وشرح الطيبة ٦ / ٢٩ ، والعنوان ١٨٤ وإتحاف ٢ / ٥٠٩.

(٢) الكشاف ٤ / ٤٤٥.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٧.

(٤) ينظر : المشكل ٢ / ٧٠٤.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٨.

(٦) ينظر : الرازي ٢٩ / ٨٤.

(٧) ينظر : السبعة ٦١٩ ، والحجة ٦ / ٢٤٥ ، وإعراب القراءات ٥ / ٣٣٣ ، وحجة القراءات ٦٩٠ ، وشرح الطيبة ٦ / ٢٩ ، وشرح شعلة ٥٩٣ ، والعنوان ١٨٤ ، وإتحاف ٢ / ٥٠٩.

٣٠٦

ويجوز في «الرّيحان» على هذه القراءة أن يكون معطوفا على ما قبله ، أي : «وفيها الريحان» أيضا ، وأن يكون مجرورا بالإضافة في الأصل ، أي : «وذو الريحان» ففعل به ما تقدم(١).

و (الْعَصْفِ) قال مجاهد رضي الله عنه : ورق الشّجر والزرع (٢).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما : تبن الزرع وورقه الذي تعصفه الرياح (٣).

قال الراغب (٤) : «أصله : من «العصف والعصيفة» ، وهو ما يعصف ، أي : يقطع من الزرع».

وقال سعيد بن جبير : بقل الزرع أي ما ينبت منه (٥) ، وهو قول الفراء.

والعرب تقول : خرجنا نعصف الزرع إذا قطعوا منه قبل أن يدرك ، وكذا في «الصّحاح» (٦) وكذا نقله القرطبي (٧).

وعصفت الزرع ، أي : جزرته قبل أن يدرك.

وعن ابن عباس أيضا : العصف : ورق الزرع الأخضر إذا وقع رءوسه ويبس نظيره (٨) : (كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) [الفيل : ٨].

قال الجوهري (٩) : «وقد أعصف الزّرع ، ومكان معصف ، أي : كثير الزرع».

قال أبو قيس بن الأسلت الأنصاريّ : [السريع]

٤٦٢٦ ـ إذا جمادى منعت قطرها

زان جنابي عطن معصف (١٠)

وقيل : «العصف» : حطام النبات ، والعصف أيضا : الكسب.

قال الراجز : [الرجز]

٤٦٢٧ ـ بغير ما عصف ولا اكتساب (١١)

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٨.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٩) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٢) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٩) وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٦٨).

(٤) ينظر المفردات ٥٠٣.

(٥) ينظر الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٩).

(٦) ينظر : الصحاح ٤ / ١٤٠٤.

(٧) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠٢.

(٨) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٩).

(٩) ينظر الصحاح ٤ / ١٤٠٤.

(١٠) وينسب البيت أيضا لأحيحة بن الجلاح. ويروى (مغضف) بالغين والضاد المعجمتين.

ينظر : ديوان أبي قيس بن الأسلت ص ٨٢ ، والصحاح للجوهري ٤ / ١٤٠٤ (عصف) واللسان (عصف) ، و (غضف). والتاج ٦ / ١٩٩ (عصف) ، والمذكر والمؤنث لابن الأنباري ص ٢٧١ ، وسر صناعة الإعراب لابن جني ٢ / ٦٩٣ ، والقرطبي ١٧ / ١٠٢.

(١١) عجز بيت للعجاج وصدره :

قد يكسب المال الهدان الجافي ـ

٣٠٧

وكذلك «الاعتصاف والعصيفة» : الورق المجتمع الذي يكون فيه السّنبل.

وحكى الثعلبي : وقال ابن السكيت (١) : «تقول العرب لورق الزرع : العصف والعصيفة ، والجلّ بكسر الجيم».

قال علقمة بن عبدة : [البسيط]

٤٦٢٨ ـ تسقي مذانب قد مالت عصيفتها

حدورها من أتيّ الماء مطموم (٢)

في «الصحاح» (٣) : «والجلّ ـ بالكسر ـ قصب الزرع إذا حصد».

والرّيحان في الأصل مصدر ، ثم أطلق على الرزق.

قال ابن عباس ومجاهد والضحاك : هو الرزق بلغة «حمير» (٤) ، كقولهم : «سبحان الله وريحانه» أي : استرزاقه.

وعن ابن عباس والضحاك وقتادة : أنه الريحان الذي يشمّ (٥) وهو قول ابن زيد أيضا.

وعن ابن عباس أيضا : أنه خضرة الزرع (٦).

وقال سعيد بن جبير : هو ما قام على ساق (٧).

وقال الفراء : «العصف» المأكول من الزرع.

و «الريحان» ما لا يؤكل.

وقال الكلبي (٨) العصف : الورق الذي لا يؤكل.

و «الريحان» : هو الحب المأكول.

__________________

ـ ويروى العجز : ولا اصطراف مكان ولا اكتساب.

وينظر شواهد الإنصاف في مسائل الخلاف ٢ / ٥٨ ، والخصائص ٢ / ٢٨٣ ، والمحتسب ١ / ١١٦ ، واللسان (عصف) ، والتاج ٦ / ١٩٩ (عصف) ، القرطبي ١٧ / ١٠٣ معاني القرآن للفراء ١ / ١٧٦ ، ديوان العجاج ١٢٢.

(١) ينظر القرطبي ١٧ / ١٠٣.

(٢) يورى «قد زالت» مكان «قد مالت».

ينظر مجاز القرآن ٢ / ٢٤٢ ، ديوان علقمة ص ٦١ ، والمفضليات ص ٣٩٨ ، ومجمع البيان للطبرسي ٩ / ٢٩٧ ، والقرطبي ١٧ / ١٠٣ ، ومختار الشعر الجاهلي ١ / ٤٢٦ ، واللسان (عصف) ، والتاج (عصف).

(٣) ينظر : الصحاح ٤ / ١٦٥٨.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٨٠) عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وينظر تفسير البغوي (٤ / ٢٦٨) و «الدر المنثور» (٦ / ١٩٢).

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٨٠) عن ابن عباس والضحاك والحسن وابن زيد.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٨١) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٢) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٨١) عن سعيد بن جبير.

(٨) القرطبي ١٧ / ١٠٣.

٣٠٨

وقيل : كل فلّة طيبة الريح سميت ريحانا ؛ لأن الإنسان يراح لها رائحة طيبة أي : يشم. وفي «الريحان» قولان :

أحدهما : أنه على «فعلان» وهو من ذوات «الواو» ، والأصل «روحان» من الرائحة.

قال أبو علي (١) : فأبدلت «الواو» ياء كما أبدلت الياء واوا في «أشاوى» وإنما قلبت الواو ياء للفرق بينه وبين «الرّوحان» وهو كل شيء له روح.

قال القرطبي (٢) : والثاني : أن يكون أصله «ريوحان» على وزن «فيعلان» فأبدلت الواو ياء ، وأدغمت فيها الياء ، ثم خفف بحذف عين الكلمة ، كما قالوا : كينونة وبينونة والأصل تشديد الياء ، فخفف كما خفف «هين ولين».

قال مكي (٣) : ولزم تخفيفه لطوله بلحوق الزيادتين ، وهما الألف والنون.

ثم ردّ قول الفارسي بأنه : لا موجب لقلبها ياء :

ثم قال : «وقال بعض الناس» وذكر ما تقدم عن أبي علي.

قال القرطبي : «والأصل فيما يتركب من الراء والواو والحاء : الاهتزاز والحركة».

وفي الصحاح (٤) : «والريحان نبت معروف ، والرّيحان : الرزق ، تقول : خرجت أبتغي ريحان الله».

وفي الحديث : «الولد من ريحان الله» (٥).

وقولهم : «سبحان الله وريحانه» نصبوهما على المصدر ، يريدون : تنزيها له واسترزاقا.

قوله : (وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ) فالعصف : ساق الزرع ، والرّيحان : ورقه قاله الفراء (٦).

قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ١٣] ، «فبأى» متعلق ب «تكذبان».

والعامة على إضافة «أي» إلى «الآلاء».

وقرىء في (٧) جميع السورة بتنوين «أيّ».

وتخريجها : على أنه قطع «أيّا» عن الإضافة إلى شيء مقدر ، ثم أبدل منه «آلاء ربكما» بدل معرفة من نكرة ، وتقدم الكلام في «الآلاء» ومفردها في «الأعراف».

__________________

(١) ينظر : الحجة للقراء السبعة ٦ / ٢٤٦.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠٣.

(٣) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠٣.

(٤) ينظر : الصحاح ١ / ٣٧١.

(٥) ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (١٦ / ٢٧٣) رقم (٤٤٤٢٢) وعزاه إلى الحكيم الترمذي عن خوله بنت حكيم بلفظ : الولد من ريحان الجنة.

(٦) القرطبي ١٧ / ١٠٣.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٨٩ ، والدر المصون ٦ / ٢٣٨.

٣٠٩

والخطاب في «ربكما» قيل : للثقلين من الإنس والجن ؛ لأن الأنام تضمنهما ، وهو قول الجمهور ، ويدل عليه حديث جابر.

وفيه : «للجنّ أحسن منكم ردّا» (١).

وقيل : لما قال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) ، و (خَلَقَ الْجَانَ) [الرحمن : ١٤ ، ١٥]. دل ذلك على ما تقدم وما تأخر لهما.

وكذا قوله : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ) [الرحمن : ٣١] خطاب للإنس والجن.

وقال أيضا : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) [الرحمن : ٣٣].

وقال الجرجاني (٢) : خاطب الجن مع الإنس ، وإن لم يتقدم للجن ذكر. كقوله تعالى : (حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ) [ص : ٣٢].

فقد سبق ذكر الجن فيما سبق نزوله من القرآن ، والقرآن كالسورة الواحدة ، فإذا ثبت أنهم مكلّفون كالإنس ، خوطب الجنسان بهذه الآيات.

وقيل : الخطاب للذكر والأنثى.

وقيل : هو مثنّى مراد به الواحد ، كقوله تعالى : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) [ق : ٢٤].

وكقول الحجاج بن يوسف : «يا حرسي اضربا عنقه» ، وكقول امرىء القيس : [الطويل]

٤٦٢٩ ـ قفا نبك

 .......... (٣)

و [الطويل]

__________________

(١) أخرجه الترمذي (٥ / ٣٧٣) رقم (٣٢٩١) والبيهقي في «دلائل النبوة» (٢ / ٢٣٢) من طريق الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد عن محمد بن المنكدر عن جابر رضي الله عنه.

وقال الترمذي : هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد.

وسمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول : أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكير. قلت : والوليد بن مسلم شامي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٨٩) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وأبي الشيخ في «العظمة» وابن مردويه.

وللحديث شاهد عن ابن عمر. أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٨٢) والبزار (٢٢٦٩ ـ كشف) والخطيب في «تاريخه» (٤ / ٣٠١) من حديث ابن عمر.

وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ١٢٠) وقال : رواه البزار عن شيخه عمرو بن مالك الراسبي وثقه ابن حبان وضعفه غيره.

وذكره أيضا السيوطي في «الدر المنثور» وصحح سنده وزاد نسبته إلى ابن المنذر والدار قطني في «الأفراد» وابن مردويه.

(٢) ينظر : القرطبي ٦ / ٢٣٩.

(٣) تقدم.

٣١٠

٤٦٣٠ ـ خليليّ مرّا بي .....

 .......... (١)

وقيل : التثنية للتأكيد.

وقيل : التكذيب يكون بالقلب ، أو باللسان ، أو بهما ، فالمراد هما.

فصل في آلاء الله تعالى (٢)

قال ابن زيد : المراد بالآلاء : القدرة (٣) ، والمعنى : فبأي قدرة ربكما تكذبان ، وهو قول الكلبي.

واختار محمد بن علي الترمذي ، وقال : هذه السورة من بين السور علم القرآن ، والعلم : إمام الجند ، والجند تتبعه ، وإنما صارت علما ؛ لأنها سورة صفة الملك والقدرة ، فقال : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) فافتتح السورة باسم الرحمن من بين الأسماء ليعلم العباد أن جميع ما يصفه بعد هذا من أفعاله ومن ملكه وقدرته خرج إليهم من الرحمة ، فقال : علم الرحمن القرآن.

ثم ذكر الإنسان فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) ثم ذكر ما صنع به ، وما من عليه به ، ثم ذكر حسبان الشمس والقمر ، وسجود الأشياء من نجم وشجر ، وذكر رفع السماء ، ووضع الميزان وهو العدل ، ووضع الأرض للأنام ، فخاطب هذين الثقلين : الإنس والجن ، حين رأوا ما خرج من القدرة والملك برحمانيته التي رحمهم بها من غير منفعة ، ولا حاجة إلى ذلك ، فأشركوا به الأوثان ، وكل معبود اتخذوه من دونه ، وجحدوا الرحمة التي خرجت هذه الأشياء بها إليهم.

فقال سائلا لهم : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي : بأي قدرة ربكما تكذبان ، وإنما كان تكذيبهم أنهم جعلوا له في هذه الأشياء التي خرجت من قدرته وملكه شريكا يملك معه ، ويقدر معه ، فذلك تكذيبهم ، ثم ذكر خلق الإنسان من صلصال ، وذكر خلق الجانّ من مارج من نار ، ثم سألهم فقال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) أي : بأي قدرة ربكما تكذبان ، فإن له في كل خلق قدرة بعد قدرة ، فالتكرير في هذه الآيات للتأكيد ، والمبالغة في التقرير ، واتخاذ الحجة عليهم بما وقفهم على خلق بعد خلق.

__________________

(١) البيت بتمامه :

خليلي مرّا بي على أم جندب

نقضّ لبانات الفؤاد المعذب

ينظر ديوانه ص ٤١ ، وشواهد التصريح ١ / ٢٠٢ ، ومعاهد التنصيص للعباسي ١ / ١٧٦ ، والقرطبي ١٧ / ١٠٤.

(٢) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠٤.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٨٢) عن ابن زيد.

٣١١

وقال القتبي : إن الله ـ تعالى ـ عدد في هذه السورة نعماءه ، وذكر خلقه آلاءه ، ثم أتبع كل خلّة وصفها ونعمة وضعها في هذه الآية ، وجعلها فاصلة بين كل نعمتين ليبينهم على النعم ، ويقررهم بها ، كما يقول لمن تتابع فيه إحسانك وهو يكفره وينكره : ألم تكن فقيرا فأغنيتك ، أفتنكر هذا؟ ألم تكن خاملا فعززتك ، أفتنكر هذا؟ ألم تكن راجلا فحملتك ، أفتنكر هذا؟ والتكرير حسن في مثل هذا.

قال الشاعر : [مشطور الرجز]

٤٦٣١ ـ كم نعمة كانت لكم كم كم وكم (١)

وقال الشاعر رحمه‌الله : [البسيط]

٤٦٣٢ ـ لا تقتلي مسلما إن كنت مسلمة

إيّاك من دمه إيّاك إيّاك (٢)

وقال آخر : [المنسرح]

٤٦٣٣ ـ لا تقطعنّ الصّديق ما طرفت

عيناك من قول كاشح أشر

ولا تملّنّ من زيارته

زره وزره وزر وزر وزر (٣)

وقال الحسين بن الفضل : التكرير طرد للغفلة ، وتأكيد للحجّة.

قال شهاب الدين (٤) : والتكرير ـ هاهنا ـ كما تقدم في قوله : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر : ١٧] ، وكقوله فيما سيأتي : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات : ٤٥].

وذهب جماعة منهم ابن قتيبة : إلى أن التكرير لاختلاف النّعم ، فلذلك كرر للتوقيف مع كل واحدة.

قال ابن الخطيب (٥) : وذكره بلفظ الخطاب على سبيل الالتفات ، والمراد به التقريع والزّجر ، وذكر لفظ الرب ؛ لأنه يشعر بالرحمة.

قال : «وكررت هذه اللفظة في هذه السورة نيفا وثلاثين مرة إما للتأكيد ، ولا يعقل بخصوص العدد معنى.

__________________

(١) ينظر معاني القرآن للفراء ١ / ١٧٧ ، وتأويل مشكل القرآن ص ٢٣٦ ، وأمالي المرتضى ١ / ٨٤ ، والصاحبي لابن فارس ص ٣٤٢ ، والسراج المنير ٤ / ١٦١ ، ومجمع البيان للطبرسي ١٠ / ٨٤ والصناعتين ص ١٩٣ ، وزاد المسير ٨ / ١١١ ، والقرطبي ١٧ / ١٠٥.

(٢) ينظر القرطبي ١٧ / ١٠٥ ، السراج المنير ٤ / ١٦١ ، فتح القدير ٥ / ١٣٣.

(٣) ينظر القرطبي ١٧ / ١٠٥ ، والسراج المنير ٤ / ١٦١.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٩.

وعبارة السمين هي : «وقوله : «فبأيّ» إلى آخرها توكيد وكّد به كما تقدم ...

(٥) ينظر : تفسير الرازي ٢٩ / ٨٥.

٣١٢

وقيل : الخطاب مع الإنس والجن ، والنعمة منحصرة في دفع المكروه ، وتحصيل المقصود ، وأعظم المكروهات عذاب جهنم ، و (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ) [الحجر : ٤٤] ، وأعظم المقاصد : نعيم الجنة ، ولها ثمانية أبواب ، فالمجموع خمسة عشر ، وذلك بالنسبة للجن والإنس ثلاثون ، والزائد لبيان التأكيد» (١).

روى جابر بن عبد الله ، قال : قرأ علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم سورة «الرحمن» حتى ختمها ، ثم قال : «ما لي أراكم سكوتا؟ للجنّ كانوا أحسن منكم ردّا ؛ ما قرأت عليهم هذه الآية مرّة : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) إلا قالوا : ولا بشيء من رحمتك ربّنا نكذّب ، فلك الحمد»(٢).

قوله تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(٢٥)

قوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ). لما ذكر الله ـ تعالى ـ خلق العالم الكبير من السماء والأرض ، وما فيها من الدلالات على وحدانيته وقدرته ، ذكر خلق العالم الصّغير (٣) ، فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ).

قال المفسرون : يعني : آدم من صلصال وهو الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة ، وشبهه بالفخّار الذي طبخ.

وقيل : هو طين خلط برمل.

وقيل : هو الطين المنتن ، من صلّ اللحم وأصلّ : إذا أنتن.

وقال هنا : (مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ).

وقال في «الحجر» : (مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر : ٢٦] وقال : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ) [الصافات : ١١].

وقال : (كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران : ٥٩].

وكله متفق المعنى ، وذلك أنه أخذ من تراب الأرض ، فعجنه فصار طينا ، ثم انتقل فصار كالحمأ المسنون ، ثم يبس فصار صلصالا كالفخار.

__________________

(١) ينظر السابق.

(٢) تقدم تخريج هذا الحديث من حديث جابر وخرجنا له شاهدا من حديث ابن عمر.

(٣) ينظر القرطبي ١٧ / ١٠٥.

٣١٣

فقوله : «كالفخّار» نعت ل «صلصال». وتقدم تفسيره.

قوله : (وَخَلَقَ الْجَانَّ).

قيل هو اسم جنس كالإنسان.

وقيل : هو أبو الجن «إبليس».

وقيل : هو أبوهم ، وليس ب «إبليس» (١).

قوله : (مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ) «من» الأولى لابتداء الغاية.

وفي الثانية وجهان (٢) :

أحدهما : أنها للبيان.

والثاني : أنها للتبعيض.

و «المارج» : قيل : ما اختلط من أحمر وأصفر وأخضر ، وهذا مشاهد في النار ترى الألوان الثلاثة مختلطا بعضها ببعض.

وقيل : الخالص.

وقيل : الأحمر وقيل : الحمرة في طرف النّار.

وقيل المختلط بسواد.

وقيل : اللهب المضطرب.

وقال الليث : «المارج» : الشعلة الساطعة (٣) ذات اللهب الشديد ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما : أنه اللهب الذي يعلو النّار ، فيختلط بعضه ببعض أحمر وأخضر وأصفر (٤) ، ونحوه عن مجاهد.

وقيل : «المارج» المرسل غير ممنوع (٥)(٦).

قال المبرد (٧) : «المارج» : النار المرسلة التي لا تمنع.

وقال أبو عبيدة والحسن : «المارج» : المختلط النار ، وأصله من مرج إذا اضطرب ، واختلط (٨).

قال القرطبي (٩) : يروى أن الله ـ تعالى ـ خلق نارين ، فمرج إحداهما بالأخرى ، فأكلت إحداهما الأخرى ، وهي نار السّموم ، فخلق منها «إبليس».

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٢٩ / ٨٧ ، والبحر المحيط ٨ / ١٨٩ ، والدر المصون ٦ / ٢٣٩.

(٢) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٨٩ ، والدر المصون ٦ / ٢٣٩.

(٣) في ب : الساقطة.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٨٤) عن ابن عباس ومجاهد بنحوه وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٣) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠٥.

(٦) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٤٢٨).

(٧) ينظر القرطبي ١٧ / ١٠٥.

(٨) ينظر الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٤٢٨).

(٩) ينظر تفسير القرطبي ١٧ / ١٠٥.

٣١٤

قال القشيري : «والمارج» في اللغة : المرسل أو المختلط ، وهو فاعل بمعنى مفعول كقوله : (ماءٍ دافِقٍ) [الطارق : ٦] و (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] ، والمعنى : «ذو مرج».

(مِنْ نارٍ) نعت ل (مارِجٍ).

وتقدم الكلام على قوله : (فَبِأَيِّ آلاءِ) إلى آخرها.

قوله تعالى : (رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ).

العامة على رفعه.

وفيه ثلاثة أوجه (١) :

أحدهما : أنه مبتدأ ، خبره (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) ، وما بينهما اعتراض.

الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : «هو ربّ» أي : ذلك الذي فعل هذه الأشياء.

الثالث : أنه بدل من الضمير في «خلق».

وابن أبي عبلة (٢) : «ربّ» بالجر ، بدلا أو بيانا ل «ربّكما».

قال مكي (٣) : ويجوز في الكلام الخفض على البدل من «ربكما» ، كأنه لم يطلع على أنها قراءة منقولة.

و «المشرقان» : قيل : مشرقا الشتاء والصيف ومغرباهما.

وقيل : مشرقا الشمس والقمر ومغرباهما (٤) ، وذكر غاية ارتفاعهما ، وغاية انحطاطهما إشارة إلى أن الطرفين يتناول ما بينهما كقولك في وصف ملك عظيم : (له المشرق والمغرب) فيفهم منه أن له ما بينهما (٥).

ويؤيده قوله تعالى : (بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) [المعارج : ٤٠].

قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أي : خلّى وأرسل وأهمل ، يقال : مرج الناس السلطان ، أي : أهملهم ، وأصل المرج الإهمال كما تمرج الدّابة في المرعى ويقال : مرج خلط.

وقال الأخفش : ويقول قوم : أمرج البحرين مثل «مرج» فيكون «فعل وأفعل» بمعنى(٦).

و «البحرين» : قال ابن عباس رضي الله عنهما : بحر السماء ، وبحر الأرض (٧).

__________________

(١) ينظر الدر المصون ٦ / ٢٣٩.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٤٥ ، والبحر المحيط ٨ / ١٨٩ وزاد أبو حيان نسبتها إلى أبي حيوة وينظر الدر المصون ٦ / ٢٣٩.

(٣) الدر المصون ٦ / ٢٣٩.

(٤) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٩.

(٥) ينظر : الرازي ٢٩ / ٨٨.

(٦) ينظر القرطبي ١٧ / ١٠٦.

(٧) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٨٦) عن ابن عباس وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٤) وعزاه للطبري.

٣١٥

قال سعيد بن جبير : يلتقيان في كل عام (١).

وقيل : يلتقي طرفاهما.

وقال الحسن وقتادة : بحر «فارس» و «الروم» (٢).

وقال ابن جريج : البحر المالح ، والأنهار العذبة.

وقيل : بحر المشرق ، وبحر المغرب يلتقي طرفاهما.

وقيل : بحر اللؤلؤ والمرجان.

(بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) حاجز.

قوله : «يلتقيان» حال من «البحرين» وهي قريبة من الحال المقدرة ، ويجوز بتجوّز أن تكون مقارنة.

و (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) يجوز أن تكون جملة مستأنفة ، وأن تكون حالا ، وأن يكون الظّرف وحده هو الحال ، و «البرزخ» فاعل به ، وهو أحسن لقربه من المفرد.

وفي صاحب الحال وجهان :

أحدهما : هو البحرين.

والثاني : هو فاعل «يلتقيان».

و «لا يبغيان» حال أخرى كالتي قبلها ، أي : مرجهما غير باغيين أو يلتقيان غير باغيين ، أو بينهما برزخ في حال عدم بغيهما ، وهذه الحال في قوة التعليل ، إذ المعنى : «لئلّا يبغيان».

وقد تمحّل بعضهم ، وقال : أصل ذلك لئلا يبغيا ثم حذف حرف العلة ، وهو مطّرد مع «أن» و «إن» ، ثم حذفت «أن» أيضا ، وهو حذف مطرد ، كقوله : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ) [الروم : ٢٤] ، فلما حذفت «أن» ارتفع الفعل ، وهذا غير ممنوع ، إلا أنه تكرر فيه الحذف.

وله أن يقول : قد جاء الحذف أكثر من ذلك فيما هو أخفى من هذا ، كما سيأتي في قوله : (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) [الواقعة : ٨٢].

فصل ف مناسبة هذه الآية لما قبلها

لما ذكر الشمس والقمر ، وهما يجريان في الفلك كما يجري الفلك في البحر ،

__________________

(١) جاء عن ابن عباس أيضا وانظر التعليق السابق.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٨٦) عن الحسن وقتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٤) عن الحسن وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

وذكره أيضا عن قتادة وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر.

٣١٦

كقوله : (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [الأنبياء : ٣٣] ، فذكر البحرين عقيب المشرقين والمغربين ، أو لأن المشرقين والمغربين يكونان في البر والبحر ، فذكر البحر بعد ذكر البر ؛ لانحصار البر والبحر بين المشرق والغرب.

قوله : (بَيْنَهُما بَرْزَخٌ) أي : حاجز (١) ، «لا يبغيان» ، فعلى القول الأول بأنهما بحر السماء ، وبحر الأرض ، فالحاجز الذي بينهما هو ما بين السماء والأرض. قاله الضحاك.

وعلى الأقوال الباقية : الحاجز : هو الأرض التي بينهما. قاله الحسن وقتادة.

وقال بعضهم : الحاجز : هو القدرة الإلهية.

وقوله : (لا يَبْغِيانِ). قال قتادة : لا يبغيان على النّاس فيغرقانهم ، جعل بينهم وبين الناس اليبس.

وقال مجاهد وقتادة أيضا : لا يبغي أحدهما على صاحبه فيغلبه.

وقال ابن زيد : (لا يَبْغِيانِ) أي يلتقيان (٢) ، تقديره : مرج البحرين يلتقيان لو لا البرزخ الذي بينهما لا يبغيان أن يلتقيا.

وقيل : البرزخ ما بين الدنيا والآخرة ، أي : بينهما مدة قدرها الله تعالى ، وهي مدة الدنيا فهما لا يبغيان ، فإذا أذن الله بانقضاء الدنيا صار البحران شيئا واحدا ، وهو كقوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) [الانفطار : ٣].

وقال سهل بن عبد الله : البحران : طريق الخير والشر ، والبرزخ الذي بينهما التوفيق والعصمة.

فصل في إحاطة البحار بالأرض

قال ابن الخطيب (٣) : إن الله ـ تعالى ـ خلق في الأرض بحارا تحيط بها الأرض ، وخلق بحرا محيطا بالأرض أحاط به الهواء ، كما قال به أهل الهيئة ، وهذه البحار التي في الأرض لها اتصال بالبحر المحيط ، ثم إنهما لا يبغيان على الأرض ، ولا يغطيانها بفضل الله لتكون الأرض بارزة يتخذها الإنسان مكانا ، وعند النظر إلى أمر الأرض يحار الطبيعي ويتلجلج في الكلام ، فإن عندهم أن طبع الأرض يكون في المركز مغمورا بالماء ، ويكون الماء محيطا بجميع جوانبه ، فإذا سئلوا عن ظهور الأرض من الماء قالوا : جذب في الأرض.

فإذا قيل لهم : لماذا تجذب؟ وما سبب الجذب؟.

__________________

(١) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠٦.

(٢) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٨٨).

(٣) ينظر تفسير الرازي ٢٩ / ٨٩.

٣١٧

فالذي عنده قليل من الحق أسند ذلك إلى إرادة الله تعالى ومشيئته ، والآخر يقول : ذلك بحسب اتصالات الكواكب وأوضاعها.

فإن قيل له : لماذا اختلفت أوضاع الكواكب على الوجه الذي أوجب البرد في بعض الأرض دون بعض؟ بهت كما بهت الذي كفر ، ويرجع إلى الحق إن هداه الله تعالى.

وقال ابن الخطيب (١) : ومعنى الآية أن الله ـ تعالى ـ أرسل بعض البحرين إلى بعض ، ومن شأنهما الاختلاط فحجزهما ببرزخ من قدرته ، فهما لا يبغيان ، أي : لا يجاوز كل واحد منهما ما حد له.

و «البغي» : مجاوزة الحد ، أو من الابتغاء وهو الطّلب ، أي : لا يطلبان غير ما قدر لهما (٢).

قوله : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) قرأ نافع ، وأبو عمرو : «يخرج» مبنيّا للمفعول ، والباقون : مبنيّا للفاعل على المجاز.

قالوا (٣) : ثم مضاف محذوف ، أي «من أحدهما» ؛ لأن ذلك لم يؤخذ من البحر العذب حتى عابوا قول الشاعر : [الطويل]

٤٦٣٤ ـ فجاء بها ما شئت من لطميّة

على وجهها ماء الفرات يموج (٤)

قال مكي (٥) : «كما قال : (عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ) [الزخرف : ٣١] ، أي : من إحدى القريتين ، فحذف المضاف كثير شائع».

وقيل : هو كقوله : (نَسِيا حُوتَهُما) [الكهف : ٦١] وإنما الناسي فتاه ، ويعزى هذا لأبي عبيدة.

قال البغوي (٦) : وهذا جائز في كلام العرب أن يذكر شيئين ، ثم يخص أحدهما بفعل ، كقوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) [الأنعام : ١٣٠] ، ثم كانت الرسل من الإنس.

وقيل : يخرج من أحدهما اللؤلؤ ، ومن الآخر المرجان.

وقيل : بل يخرجان منهما جميعا.

ثم ذكروا أقاويل.

__________________

(١) ينظر : تفسير الرازي ٢٩ / ٨٩.

(٢) ينظر : الحجة للقراء السبعة ٦ / ٢٤٦ ، وإعراب القراءات ٢ / ٣٣٤ ، ٣٣٥ ، وحجة القراءات ٦٩١ ، والعنوان ١٨٤ ، وشرح شعلة ٥٩٣ ، وشررح الطيبة ٦ / ٣٠ ، وإتحاف ٢ / ٥١٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٠.

(٤) البيت لأبي ذؤيب الهذلي. ينظر ديوان الهذليين ١ / ٢٥٧ واللسان (دوم) ، والبحر.

(٥) الدر المصون ٦ / ٢٤٠.

(٦) ينظر معامل التنزيل ٤ / ٢٦٩.

٣١٨

منها : أنهما يخرجان من الملح في المواضع الذي يقع فيه العذب ، وهذا مشاهد عند الغواصين ، وهو قول الجمهور ، فناسب ذلك إسناده إليهما.

ومنها : قول ابن عباس رضي الله عنهما : تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر ، والصدف تفتح أفواهها للمطر ، وقد شاهده الناس ، فيكون تولده من بحر السماء ، وبحر الأرض(١). وهذا قول الطبري (٢).

ومنها : أن العذب في الملح كاللقاح (٣) ، كما يقال : الولد يخرج من الذّكر والأنثى.

ومنها : أنه قيل : منهما من حيث هما نوع واحد ، فخروج هذه الأشياء إنما هي منهما ، كما قال تعالى : (وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً) [نوح : ١٦] وإنما هو في واحدة منهن.

وقال الزمخشري (٤) : «فإن قلت : لم قال : «منهما» ، وإنما يخرجان من الملح؟

قلت : لما التقيا ، وصارا كالشيء الواحد ، جاز أن يقال : يخرجان منهما كما يقال : يخرجان من البحر ، ولا يخرجان من جميع البحر ، وإنما يخرجان من بعضه ، وتقول : خرجت من البلد ، وإنما خرجت من محلّة واحدة من محاله ، بل من دار واحدة من دوره ، وقيل : لا يخرجان إلّا من ملتقى الملح والعذب». انتهى.

وقال بعضهم : كلام الله أولى بالاعتبار من كلام بعض النّاس ، فمن الجائز أن يسوقها من البحر العذب إلى الملح ، واتفقوا أنهم لم يخرجوها إلا من الملح ، وإذا كان في البر أشياء تخفى على التّجّار المترددين القاطعين المفاوز ، فكيف بما هو في قعر البحر؟.

فالجواب عن هذا : أن الله لا يخاطب الناس ، ولا يمنن عليهم إلا بما يألفون ، ويشاهدون(٥).

و «اللؤلؤ» : قيل : كبار الجوهر ، والمرجان : صغاره. قاله علي ، وابن عباس ، والضحاك رضي الله عنهم (٦).

وقيل بالعكس ، وأنشدوا قول الأعشى رحمه‌الله : [البسيط]

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٩٠) عن ابن عباس بمعناه.

(٢) ينظر : جامع البيان ١١ / ٥٩٠.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٠.

(٤) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٤٥ ، ٤٤٦ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٤٠.

(٥) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٤٠ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٠.

(٦) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٨٨) عن ابن عباس وقتادة والضحاك وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٥) وزاد نسبته إلى الفريابي وهناد بن السري وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس.

وذكره أيضا عن قتاد وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد.

٣١٩

٤٦٣٥ ـ من كلّ مرجانة في البحر أحرزها

تيّارها ووقاها طينها الصّدف (١)

أراد اللؤلؤة الكبيرة. قاله علي ، وابن عباس أيضا.

وقيل : «المرجان» : حجر أحمر.

وقيل : حجر شديد البياض ، والمرجان أعجمي.

قال ابن دريد (٢) : لم أسمع فيه كلاما منصرفا.

و «اللؤلؤ» ، بناء غريب لم يرد على هذه الصيغة إلا خمسة ألفاظ : اللؤلؤ ، و «الجؤجؤ» وهو الصّدر ، و «الدّردؤ» و «اليؤيؤ» ـ لطائر ـ و «البؤبؤ» ـ بالموحدتين ـ وهو الأصل ، و «اللّؤلؤ» ـ بضمتين ـ والهمز هو المشهور.

وإبدال الهمزة واوا شائع فصيح وقد تقدم ذلك.

وقرأ طلحة (٣) : «اللّؤلىء» ـ بكسر اللام الثالثة ـ وهي لغة محفوظة ، ونقل عنه أبو الفضل : «اللّولي» بقلب الهمزة الأخيرة ياء ساكنة ، كأنه لما كسر ما قبل الهمزة قلبها ياء استثقالا.

وقرأ أبو عمرو (٤) في رواية : «يخرج» أي : الله تعالى ، وروي عنه (٥) ، وعن ابن مقسم : «نخرج» بنون العظمة.

و «اللؤلؤ والمرجان» على هاتين القراءتين منصوبان (٦).

فصل في مناسبة نعمة اللؤلؤ والمرجان للنعم السابقة

قال ابن الخطيب (٧) : فإن قيل : أي نعمة عظيمة في «اللّولؤ والمرجان» حتى ذكرهما مع نعمة تعليم القرآن وخلق الإنسان؟.

وأجاب بأن النعم منها خلق الضّروريات كالأرض التي له مكانا ، وكذا الرزق الذي به بقاؤه.

ومنها ما يحتاج إليه ، وإن لم يكن ضروريّا كالحيوان ، وإجراء الشمس والقمر.

ومنها المنافع وإن لم يكن محتاجا إليها كالفاكهة ، وخلق البحار ، كقوله تعالى : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) [البقرة : ١٦٤].

__________________

(١) ينظر ديوانه ص ١١٢ ؛ والبحر ٨ / ١٩٠.

(٢) البحر المحيط ٨ / ١٩٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٤١.

(٣) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩١ ، والدر المصون ٦ / ٢٤١.

(٤) ينظر : الحجة ٦ / ٢٤٧ ، والمحرر الوجيز ٥ / ٢٢٨ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٤١.

(٥) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٢٨ ، والبحر المحيط ٨ / ١٩٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٤١.

(٦) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٩٠ ، والدر المصون ٦ / ٢٤١.

(٧) ينظر : تفسير الرازي ٢٩ / ٩٠.

٣٢٠