اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

والذوق استعارة للمبالغة لقوة الإدراك في الذّوق ؛ فإن الإنسان يشارك غيره في اللّمس ، ويختصّ بإدراك المطعوم فيحصل الألم العظيم ، والمعنى ذوقوا أيها المكذّبون بمحمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مسّ سقر يوم يسحب المجرمون المتقدمون في النار (١).

قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)(٥٥)

قوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ) العامة على نصب «كل» على الاشتغال. وأبو السّمّال بالرفع (٢) وقد رجح الناس ـ بل بعضهم أوجب ـ النّصب ، قال : لأن الرفع يوهم ما لا يجوز على قواعد أهل السنة ، وذلك أنه إذا رفع : «كل شيء» كان مبتدأ ، و «خلقناه» صفة ل «كلّ» أو «شيء» و «بقدر» خبره (٣).

وحينئذ يكون له مفهوم لا يخفى على متأمّله ، فيلزم أن يكون الشيء الذي ليس مخلوقا لله تعالى لا بقدر كذا قدره بعضهم. وقال أبو البقاء : وإنما كان النصب أولى لدلالته على عموم الخلق ، والرفع لا يدل على عمومية بل يفيد أن كل شيء مخلوق فهو بقدر (٤).

وقال مكي بن أبي طالب : كان الاختيار على أصول البصريين رفع «كلّ» كما أن الاختيار عندهم في قولك (٥) : «زيد ضربته» الرفع والاختيار عند الكوفيين النصب فيه بخلاف(٦) قولنا : زيد أكرمته ، لأنه قد تقدم في الآية شيء عمل (٧) فيما بعده وهو «إنّ». والاختيار (٨) عندهم النصب فيه. وقد أجمع القراء على النصب في (كلّ) على الاختيار فيه عند الكوفيين ليدل (٩) ذلك على عموم الأشياء المخلوقات أنها لله تعالى (١٠) بخلاف ما قاله أهل الزّيغ من أن ثمّ مخلوقات لغير الله تعالى. وإنما دل النصب في «كل» على

__________________

(١) قال بهذه التأويلات والاحتمالات فخر الدين الرّازيّ فقد نقل عنه المؤلف معنى من هذا التفسير وانظر التفسير الكبير ١٥ / ٧٢.

(٢) وهذه قراءة شاذة ذكرها ابن جني في المحتسب ٢ / ٣٠٠ والبحر المحيط ٨ / ١٨٣ وابن عطية فيما نقل عنه صاحب البحر المرجع السابق وابن خالويه في المختصر ١٤٨ ، والزمخشري في الكشاف ٤ / ٤١ ، والقرطبي في الجامع ١٧ / ١٤٧. وغير ذلك.

(٣) قاله صاحب التبيان ١١٩٦.

(٤) التبيان المرجع السابق.

(٥) في مشكل الإعراب : قولهم.

(٦) وفيه : قوله.

(٧) وفيه : قد عمل فيما بعده.

(٨) في المشكل أيضا : فالاختيار بالفاء.

(٩) وفيه : وليدل.

(١٠) وفيه : لله عزوجل.

٢٨١

العموم ، لأن التقدير : إنّا خلقنا كلّ شيء خلقناه بقدر «فخلقناه» تأكيد وتفسير «لخلقنا» المضمر الناصب ل «كلّ شيء» (١) فهذا لفظ عام يعمّ جميع المخلوقات.

ولا يجوز أن يكون «خلقناه» صفة ل «شيء» ؛ لأن الصفة والصلة لا يعملان قبل فيما قبل الموصوف ولا الموصول ، ولا يكونان تفسيرا لما يعمل فيما قبلهما ، فإذا لم يبق «خلقناه» صفة لم يبق إلا أنّه تأكيد وتفسير للمضمر الناصب وذلك يدل على العموم.

وأيضا فإن النصب هو الاختيار (٢) ؛ (لأن (٣) «إنّا» عندهم تطلب الفعل ، فهو (٤) أولى به فالنصب عندهم في «كل» هو الاختيار) فإذا انضاف إليه معنى العموم والخروج (٥) عن الشبه كان النصب أولى (٦) من الرفع (٧).

وقال ابن عطيه وقوم من أهل السنة : بالرفع (٨). قال أبو الفتح : هو الوجه في العربية (٩) وقراءتنا بالنصب مع الجماعة (١٠).

وقال الزمخشري : كل شيء منصوب بفعل مضمر يفسره الظاهر.

وقرىء : كلّ شيء بالرفع. والقدر والقدر : التقدير (١١). وقرىء بهما أي خلقنا كل شيء مقدّرا محكما مرتبا على حسب ما اقتضته الحكمة أو مقدرا مكتوبا في اللوح المحفوظ معلوما قبل كونه قد علمنا حاله وزمانه انتهى.

وهو هنا يتعصب للمعتزلة لضعف وجه الرفع.

وقال قوم : إذا كان الفعل يتوهم فيه الوصف ، وأن ما بعده يصلح للخبر وكان المعنى على أن يكون الفعل هو الخبر اختار النصب في الاسم الأول حتى يتضح أن الفعل ليس بوصف. ومنه هذا الموضع ، لأن قراءة الرفع تخيل أن النصب (١٢) وصف وأن الخبر : «بقدر» (١٣).

__________________

(١) في المشكل : «فإذا حذفته وأظهرت الأول صار التقدير : إنّا خلقنا كلّ شيء (خلقناه) بقدر».

(٢) في المشكل : الاختيار عند الكوفيين.

(٣) ما بين القوسين سقط من نسخة ب بسبب انتقال النظر.

(٤) في المشكل : فهي أولى. أي إنّا. وما بين القوسين كله سقط من ب.

(٥) وفيه : «من» بدلا من «عن».

(٦) وفيه : أقوى بدل من أولى.

(٧) وانظر في هذا الكلام كله نص مكي في مشكل الإعراب ٢ / ٣٤٠ و ٣٤١. وانظر أيضا البيان ٢ / ٤٠٦ والعكبري ١١٩٦ ، والقرطبي ١٧ / ١٤٧ والمحتسب ٢ / ٣٠٠.

(٨) نقله صاحب البحر المحيط ٨ / ١٨٣ والرازي.

(٩) قد تقدم كلامه قبل قليل.

(١٠) المرجع السابق له.

(١١) نقله في كشافه ٤ / ٤١ وفي الكشاف : والتقدير بواو زائدة.

(١٢) الصحيح كما في ب والبحر والمنطق : الفعل.

(١٣) ولم يحدد أبو حيان من قال بهذا القول في البحر ٨ / ١٨٣.

٢٨٢

وقد تنازع أهل السنة والقدرية في الاستدلال بهذه الآية ، فأهل السنة يقولون : كلّ شيء مخلوق لله تعالى ، ودليلهم قراءة النصب ؛ لأنه لا يفسر في هذا التركيب إلا ما يصحّ أن يكون خبرا لو رفع الأول على الابتداء.

وقال القدريّة : القراءة برفع «كل» و «خلقناه» في موضع الصفة ل «كلّ» أي أمرنا أو شأننا كلّ شيء خلقناه فهو بقدر أو بمقدار. وعلى حد ما في (١) هيئته وزمنه (وغير ذلك) (٢).

وقال بعض العلماء في القدر هنا وجوه :

أحدها : أنه المقدار في ذاته وفي صفاته.

الثاني : (أنه) التقدير لقوله : (فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) [المرسلات : ٢٣] وقال الشاعر :

٤٦١٤(٣) ـ ..........

وقد قدر الرّحمن ما هو قادر (٤)

أي ما هو مقدّر.

الثالث : القدر الذي يقال مع القضاء ، كقولك : كان بقضاء الله وقدره ، فقوله : (بقدر) على قراءة الناصب متعلق بالفعل الناصب (٥) ، وفي قراءة الرفع في محلّ رفع ، لأنه خبر ل «كلّ» و «كلّ» وخبرها في محل رفع خبر «لإنّ». وسيأتي قريبا أنه عكس هذه ؛ أعني في اختيار الرفع وهي (٦) قوله تعالى : (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ)(٧) [القمر : ٥٢] ، فإنه يختلف في رفعه ، قالوا : لأن نصبه يؤدي إلى فساد المعنى لأن الواقع خلافه ، وذلك أنك لو نصبته لكان التقدير : فعلوا كلّ شيء في الزّبر. وهو خلاف الواقع ، إذ في الزبر أشياء كثيرة جدا لم يفعلوها. وأما قراءة الرفع فتؤدي إلى أن كل شيء فعلوه هو ثابت في الزّبر. وهو المقصود فلذلك اتفق على رفعه.

وهذان الموضعان من نكت المسائل الغريبة التي اتّفق مجيئها في سورة واحدة ومكانين متقاربين ، ومما يدل على جلالة علم الإعراب وإفهامه المعاني الغامضة.

__________________

(١) في ب ماهيته وفي البحر : على حد ما في هيئته وزمنه وانظر البحر ٨ / ١٨٣.

(٢) زيادة لتجميل السياق وتوضيحه.

(٣) سقط سهوا عند الترقيم الرقم ٤٦١٣.

(٤) عجز بيت من الطويل نسبه صاحب اللسان إلى إياس بن مالك بن عبد الله المعنيّ صدره :

... كلا ثقلينا طامع بغنيمة

وجاء بالبيت ليبين أن القدر بمعنى التقدير. وانظر الرازي ١٥ / ٧٤ ، والبحر المحيط ٨ / ١٨٣ واللسان «قدر» ٣٥٤٨.

(٥) وهو «خلقناه».

(٦) في ب هو.

(٧) وانظر معنى القدر في الرازي ١٥ / ٧٤ والبحر ٨ / ١٨٣.

٢٨٣

فصل

قال أهل السنة : إن الله تعالى قدر الأشياء أي أي علم مقاديرها وأحوالها وأزمانها قبل إيجادها ثم أوجد منها ما سبق في علمه فلا محدث في العالم العلويّ والسفليّ إلا وهو صادر عن علمه تعالى وقدرته وإرادته دون خلقه ، وأن الخلق ليس لهم فيها إلا نوع اكتساب ومحاولة ونسبة وإضافة ، وأن ذلك كله إنما جعل لهم بتيسير الله وبقدرة الله وإلهامه سبحانه وتعالى لا إله إلا هو ولا خالق غيره كما نص عليه القرآن والسنة. لا كما قال القدريّة وغيرهم من أن الأعمال إلينا ، والآجال بيد غيرنا.

قال أبو ذرّ : قدم وفد نجران على رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فقالوا : الأعمال إلينا والآجال بيد غيرنا ، فنزلت هذه الآيات إلى قوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) فقالوا يا محمد : يكتب علينا الذنب ويعذبنا؟ فقال : أنتم خصماء الله يوم القيامة.

فصل

روى أبو الزّبير عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : إنّ مجوس هذه الأمّة المكذّبون لقدر الله (١) ، إن مرضوا فلا تعودوهم وإن ماتوا فلا تشهدوهم وإن لقيتموهم فلا تسلّموا عليهم. أخرجه ابن ماجه في سننه. وخرج أيضا عن ابن عباس وجابر قالا : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «صنفان من أمّتي ليس لهم في الإسلام نصيب أهل الإرجاء والقدر».

قوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) أي إلا كلمة واحدة وهو قوله «كن». (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) أي قضائي في خلقي أسرع من لمح البصر. واللمح : النظر بالعجلة يقال : لمح البرق ببصره ؛ وفي الصحاح : لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر خفيف ، والاسم اللّمحة ، ولمح البرق والنّجم لمحا ، أي لمع (٢).

قال البغوي : قوله «واحدة» يرجع إلى المعنى دون اللفظ أي وما أمرنا إلا واحدة.

وقيل : معناه وأما أمرنا للشيء إذا أردنا تكوينه إلا كلمة واحدة (٣) كما تقدم ، وهي رواية عطاء عن ابن عبّاس ، وروى الكلبي عنه : وما أمرنا بمجيء الساعة في السرعة إلّا كطرف البصر(٤).

فصل

قال ابن الخطيب : إنّ الله تعالى إذا أراد شيئا قال له : كن فهناك شيئان الإرادة والقول ، فالإرادة قدر ، والقول قضاء ، وقوله : «واحدة» يحتمل أمرين :

__________________

(١) في القرطبي : بأقدار الله.

(٢) وانظر في هذا كله القرطبي ١٧ / ١٤٨ واللغة فيه وفي الصحاح لمح.

(٣) وهي : «كُنْ فَيَكُونُ» *.

(٤) وانظر البغوي ٦ / ٢٨٠.

٢٨٤

أحدهما : بيان أنه لا حاجة إلى تكرير القول إشارة إلى نفاذ القول (١).

ثانيهما : بيان عدم اختلاف الحال فأمره عند خلق العرش العظيم كأمره عند خلق النّملة الصغيرة فأمره عند الكل واحد. وقوله : (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) تشبيه للكون لا تشبيه الأمر ، فكأنه قال : أمرنا واحدة ، فإذا المأمور كائن كلمح بالبصر ، لأنه لو كان راجعا إلى الأمر لا يكون ذلك صفة مدح يليق به ، فإن كلمة «كن» شيء أيضا يوجد كلمح بالبصر (٢). ومعنى «كلمح بالبصر» أي كنظر العين. والباء للاستعانة مثل : كتبت بالقلم ، دخلت على الآلة ومثل بها ؛ لأنها أسرع حركة في الإنسان ؛ لأن العين وجد فيها قرب المحرّك منها ، ولا يفضل عليه بخلاف العظام ، واستدارة شكلها ، فإن دحرجة الكرة أسرع من دحرجة المثلّث والمربّع ، ولأنها في رطوبة مخلوقة في العضو الذي هو موضعها ، وهو الحكمة في كثرة المرئيّات بخلاف المأكولات والمسموعات والمفاصل التي تفصل بالأرجل والمذوقات فلولا سرعة حركة الآلة التي بها إدراك المبصرات لما وصل إلى الكل إلا بعد طول بيان.

وقيل : معنى : (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) البرق يمر به سريعا ، فالباء تكون للإلصاق ، نحو : مررت به ، وفي قوله : (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) ولم يقل : كلمح البرق فائدة ، وهي أن لمح البرق له مبدأ ونهاية فالذي يمر بالبصر منه يكون أدل من جملته مبالغة في القلة ، ونهاية السرعة (٣).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ) أي أشباهكم ونظراءكم في الكفر من الأمم السابقة.

وقيل : أتباعكم وأعوانكم.

(فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) ، أي يتذكر ويعلم أن ذلك حق فيخاف ويعتبر.

(قوله) (وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ) أي جميع ما فعلته الأمم قبلهم من خير وشر فإنه مكتوب عليهم أي في كتب الحفظة. وقيل : في اللوح المحفوظ (٤).

وقيل : في أم الكتاب. قال القرطبي : وهذا بيان لقوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) أي (فِي الزُّبُرِ) أي في اللوح المحفوظ (١).

قوله : (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) أي كل صغير وكبير مكتوب على عامله قبل أن يفعلوه.

وقرأ العامة مستطر بتخفيف الراء من السّطر وهو الكتب أي مكتتب يقال : سطرت واستطرت وكتبت واكتتبت وقرأ الأعمش وعمران بن حدير ـ وتروى عن عاصم ـ بتشديدها (٥) ، وفيه وجهان :

__________________

(١) في الرازي : نافذ الأمر.

(٢) الرازي ١٥ / ٧٥.

(٣) بالمعنى من المرجع السابق أيضا ١٥ / ٧٨.

(٤) الجامع لأحكام القرآن ١٧ / ١٤٩.

(١) في الرازي : نافذ الأمر.

(٥) قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر المحيط ٨ / ١٨٥ وصاحب المختصر ١٤٨.

٢٨٥

أحدهما : أنه مشتق من طرّ الشارب والنبات أي ظهر وثبت بمعنى أن كل شيء قلّ أو كثر ظاهر في اللّوح غير خفي ، فوزنه مستفعل كمستخرج.

والثاني : أنه من الاستطار كقراءة العامة ، وإنما شددت الراء من أجل الوقوف كقولهم : هذا جعفرّ ونفعلّ ، ثم أجري الوصل مجرى (١) الوقف فوزنه مفتعل كقراءة الجمهور.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ) العامة بالإفراد ، وهو اسم جنس بدليل مقارنته للجمع والهاء مفتوحة كما هو الفصيح.

وسكّنها مجاهد والأعرج وأبو السّمّال «والفيّاض» (٢). وهي لغة تقدم الكلام عليها أول البقرة.

قال ابن جريج : معنى (نهر) أنهار الماء والخمر والعسل. ووحّد ؛ لأنه رأس آية. ثم الواحد قد ينبىء عن الجمع (٣). وقال الضحاك ليس المراد هنا نهر الماء ، وإنما المراد سعة الأرزاق (٤) ؛ لأن المادة تدل على ذلك كقول قيس بن الخطيم :

٤٦١٥ ـ ملكت بها كفّي فأنهرت فتقها

يرى قائم من دونها ما وراءها (٥)

أي وسعته. ومنه : أنهرت الجرح. ومنه : النّهار ، لضيائه.

وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز والأعمش وزهير الفرقبيّ ـ ونقله القرطبي أيضا عن طلحة بن مصرّف والأعرج وقتادة ـ : «ونهر» بضم النون والهاء (٦) وهي تحتمل وجهين :

أحدهما : أن يكون نهر بالتحريك وهو الأولى نحو : أسد في أسد.

__________________

(١) نقل هذين الوجهين صاحب البحر المحيط عن صاحب اللوامح ٨ / ١٨٥ ، وعمران بن حدير : السدوسي البصري ، ثقة ، روى الحروف عن لاحق بن حميد ، وعكرمة روى عنه الحروف عباس بن الفضل. مات في سنة ١٤٩ ه‍. وانظر الغاية ١ / ٦٠٤.

(٢) هو الفيّاض بن غزوان كما ذكره صاحب البحر. وهذه قراءة شاذة. انظر البحر المحيط ٨ / ١٨٤ وابن خالويه في المختصر ١٤٨. وفياض بن غزوان الضّبي الكوفي مقرىء موثق ، أخذ القراءة عرضا عن طلحة بن مصرف. وسمع من زبيد اليامي ، روى الحروف عنه طلحة بن سليمان ، وانظر الغاية ٢ / ١٣.

(٣) القرطبي ١٧ / ١٤٩.

(٤) نقله صاحب البحر المرجع السابق.

(٥) من الطويل له وهو في الديوان ص ٣ بلفظ : ترى قائما من خلفها. ونسبه صاحب الدر المنثور للبيد.

والشاهد في : انهرت أي وسّعت. ومعنى : ملكت : شددت وقويت. وهو يصف طعنة. وانظر البحر ٨ / ١٨٤. والقرطبي ١٧ / ١٤٩ وروح المعاني ٢٧ / ٩٥ والدر المنثور ٧ / ٦٨٧ ، وتأويل المشكل ١٧٤ واللسان «نهر» ٤٥٥٦.

(٦) الجامع لأحكام القرآن له ١٧ / ١٤٩ و ١٥٠. وهي شاذة وانظر المختصر ١٤٨.

٢٨٦

والثاني : أن يكون جمع الساكن نحو : سقف في سقف ، ورهن في رهن. والجمع مناسب للجمع قبله في جنّات (١). وقراءة العامة بإفراده أبلغ ، وقد تقدم كلام ابن عباس في قوله تعالى آخر البقرة وملائكته وكتابه [البقرة : ٢٨٥] بالإفراد أنه أكثر من الكتب ، وتقدم أيضا تقرير الزمخشري لذلك (٢). قال القرطبي (رحمة الله عليه) (٣) كأنه جمع نهار لا ليل لهم كسحاب وسحب (٤). قال الفراء : أنشدني بعض العرب :

٤٦١٦ ـ إن تك ليليّا فإنّي نهر

متى أرى الصّبح فلا أنتظر (٥)

أي صاحب النهار. وقال آخر :

٤٦١٧ ـ لولا الثّريد إن هلكنا بالضّمر

ثريد ليل وثريد بالنّهر (٦)

فصل

لما وصف الكفار وصف المؤمنين أيضا ، فقال : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ) الجنات : اسم للأشجار أي هم خلالها وكذلك الأنهر ، والمعنى : جنات وعند عيون كقوله :

٤٦١٨ ـ علفتها تبنا وماء باردا

 .......... (٧)

وجمعت الجنات إشارة إلى سعتها وتنوعها ، وأفرد النّهر ؛ لأن المعنى في خلاله ، فاستغني عن جمعه ، وجمع في قوله : (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لئلا يتوهم أنه ليس في الجنة إلّا نهر فيه. والتنكير فيه للتعظيم.

__________________

(١) نقله أبو حيان في البحر ٨ / ١٨٤.

(٢) قال الزمخشري في الكشاف ١ / ٤٠٧ : «وقرأ ابن عباس وكتابه يريد القرآن أو الجنس وعنه الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت: كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت : لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وحدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء فأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع».

(٣) زيادة من أ.

(٤) الجامع ١٧ / ١٥٠.

(٥) من الرجز وفي الطبري : «متى أتى» بدل «متى أرى». والبيت مجهول قائله. والشاهد في : نهر أي صاحب النهار فهو في مقابلة «ليليّا». وانظر البيت في القرطبي ١٧ / ١٥٠ واللسان «نهر» ٤٥٥٧ والطبري ٢٧ / ٦٧ دار المعرفة ومعاني الفراء ٣ / ١١١.

(٦) كسابقه في البحر والجهل بقائله. وشاهده في كلمة : بالنّهر فإنه بمعنى النّهار ، أو جمع نهار كسحاب وسحب ، وانظر اللسان «نهر» ٤٥٥٧ والقرطبي ١٧ / ١٥٠. وروى البيت صاحب التهذيب والصحاح كما يلي :

لولا الثّريد إن لمتنا بالضّمر

انظر التهذيب والصحاح «نهر».

(٧) صدر بيت من الرجز عجزه :

حتّى شتت همّالة عيناها

والشاهد : إضمار الفعل للتناسب أي علفتها تبنا وسقيتها ماءا. وقد تقدم.

٢٨٧

قوله : (فِي مَقْعَدِ) يجوز أن يكون خبرا ثانيا وهو الظاهر ، وأن يكون حالا من الضمير في الجار لوقوعه خبرا ، وجوّز أبو البقاء (١) : أن يكون بدلا من قوله : (فِي جَنَّاتٍ). وحينئذ يجوز أن يكون بدل بعض ، لأن المقعد بعضها ، وأن يكون اشتمالا ، لأنها مشتملة ، والأول أظهر. والعامة على إفراد مقعد مرادا به الجنس كما تقدم في : «نهر». وقرأ عثمان (٢) البتّيّ : مقاعد (٣). وهو مناسب للجمع قبله.

و (مَقْعَدِ صِدْقٍ) من باب رجل صدق في أنه يجوز أن يكون من إضافة الموصوف لصفته والصدق يجوز أن يراد به ضد الكذب أي صدقوا في الإخبار عنه. وأن يراد به الجودة والخيريّة. ومليك مثال مبالغة ، وهو مناسب هنا ولا يتوهم أن أصله «ملك» ؛ لأنه هو الوارد في غير موضع وأن الكسرة أشبعت فتولد منها ياء ؛ لأن الإشباع لم يرد إلا ضرورة أو قليلا وإن كان قد وقع في قراءة هشام : أفئدة [إبراهيم : ٤٣] في آخر إبراهيم. فليلتفت إليه.

فصل

قال : في مقعد صدق ولم يقل : في مجلس صدق ؛ لأن القعود جلوس فيه مكث ومنه : «قواعد البيت» [و] (وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ) [النور : ٦٠] ، ولا يقال جوالس فأشار إلى دوامه وثباته ، ولأن حروف «ق ع د» كيف دارت تدل على ذلك والاستعمال في القعود يدل على ذلك ومنه : (لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ٩٥] ، وقوله (مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) [آل عمران : ١٢١] إشارة إلى الثبات وكذا قوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) [ق : ١٧] ، فذكر المقعد لدوامه أو لطوله وقال في المجلس : (تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ) [المجادلة : ١١] إشارة إلى الحركة ، وقال (انْشُزُوا) [المجادلة : ١١] إشارة إلى ترك الجلوس أي هو مجلس فلا يجب ملازمته بخلاف المقعد (٤).

فصل

قال المفسّرون : في مقعد صدق أي حق لا لغو فيه ولا تأثيم (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) أي مالك قادر لا يعجزه شيء و «عند» ههنا عندية القربة والزّلفة والمكانة والرتبة والكرامة والمنزلة. قال (جعفر) الصادق : مدح الله المكان بالصّدق فلا يقع فيه إلا أهل الصدق (٥).

__________________

(١) التبيان ١١٩٦.

(٢) لم أقف عليه.

(٣) وهي شاذة وانظر البحر ٨ / ١٨٤ ، والقرطبي ١٧ / ١٥٠.

(٤) بالمعنى من الرازي ١٥ / ٨٢.

(٥) وانظر القرطبي ١٧ / ١٥٠ والبغوي والخازن ٦ / ٢٨١.

٢٨٨

وروى الثعلبي في تفسيره عن أبيّ بن كعب (رضي الله عنه) قال : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «من قرأ سورة اقتربت السّاعة في كلّ غبّ بعث يوم القيامة ووجهه على صورة القمر ليلة البدر (١). ومن قرأها كلّ ليلة كان أفضل وجاء يوم القيامة ووجهه مسفر على وجوه الخلائق».

(اللهم ارحمنا ، وارزقنا واسترنا) (٢). (والله أعلم) (٣).

__________________

(١) رواه الزمخشري في الكشاف ٤ / ٤٢ ومن هنا إلى الآخر لم يرد في الكشاف.

(٢) ما بين القوسين الكبيرين زيادة من أ.

(٣) زيادة من ب فقط.

٢٨٩

سورة «الرحمن»

مكية كلها في قول الحسن ، وعروة بن الزبير ، وعكرمة ، وعطاء ، وجابر.

وقال ابن عباس : إلا آية منها (١) ، وهي قوله تعالى : (يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الرحمن : ٢٩] الآية.

وقال ابن مسعود ومقاتل : هي مدنية كلها (٢).

والأول أصح ، لما روى عروة بن الزبير ، قال : أول من جهر بالقرآن ب «مكة» بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابن مسعود (٣) ، وذلك أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ قالت : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قطّ ، فمن رجل يسمعموه ، فقال ابن مسعود : أنا ، فقالوا : نخشى عليك ، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه ، فأبى ثم قام عند المقام ، فقال : بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. (الرَّحْمنُ ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ) ثم تمادى بها رافعا صوته ، وقريش في أنديتها ، فتأملوا ، وقالوا : ما يقول ابن أم عبد؟ قالوا : هو يقول : الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه ، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه.

وصح أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام يصلي الصبح ب «نخلة» ، فقرأ سورة «الرحمن» ، ومر النفير من الجن فآمنوا به (٤).

__________________

(١) وقد ورد أيضا أنها مكية عن عائشة وعبد الله بن الزبير ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٨٩) وعزاه إلى ابن مردويه في «تفسيره» وينظر تفسير «النكت والعيون» للماوردي (٥ / ٤٢٢).

(٢) وروي أيضا عن ابن عباس ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٨٩) وعزاه إلى ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في «دلائل النبوة» وينظر تفسير الماوردي (٥ / ٤٢٢).

(٣) ذكره ابن إسحاق في السيرة كما في «الإصابة» (٤ / ١٢٩) عن عروة بن الزبير وله طريق آخر أخرجه الطبراني كما في «المجمع» (٥ / ٢٧٤) عن القاسم بن عبد الرحمن بلفظ : أول من أفشى القرآن بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عبد الله بن مسعود وقال الهيثمي : رواه الطبراني وإسناده منقطع.

(٤) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٥٦) وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٦) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن منيع وابن مردويه وأبي نعيم والبيهقي كليهما في «الدلائل» من حديث عبد الله بن مسعود.

٢٩٠

وهي ثمان وسبعون آية ، وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة ، وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)(١٣)

قال تعالى : (الرَّحْمنُ) فيه ثلاثة أوجه (١) :

أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر ، أي : «الله الرحمن».

الثاني : أنه مبتدأ وخبره مضمر ، أي : «الرحمن ربنا» وهذان الوجهان عند من يرى أن «الرحمن» آية مع هذا المضمر معه ، فإنهم عدّوا الرحمن «آية».

ولا يتصور ذلك إلا بانضمام خبر أو مخبر عنه إليه ؛ إذ الآية لا بد أن تكون مفيدة ، وسيأتي ذلك في قوله : (مُدْهامَّتانِ) [الآية : ٦٤].

الثالث : أنه ليس بآية ، وأنه مع ما بعده كلام واحد ، وهو مبتدأ ، خبره (عَلَّمَ الْقُرْآنَ).

فصل في بيان مناسبة السورة

افتتح السورة التي قبلها بذكر معجزة تدل على القهر [والغلبة](٢) والجبروت ، وهو انشقاق القمر ، فمن قدر عليه قدر على قطع الجبال وإهلاك الأمم ، وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدلّ على الرحمة ، وهي القرآن ، وأيضا فأولها مناسب لآخر ما قبلها ؛ لأن آخر تلك أنه (مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥] وأول هذه أنه رحمن.

قال بعضهم (٣) : إن «الرحمن» اسم علم ، واحتج بقوله تعالى : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الإسراء : ١١٠].

وأجاز أن يقال : «يالرحمن» باللام ، كما يقال : «يا الله» وهذا ضعيف ، وهو مختص بالله تعالى ، فلا يقال لغيره (٤).

__________________

(١) ينظر : الدر المصون ٢٣٥٦ ، والرازي ٢٩ / ٧٥.

(٢) سقط في ب.

(٣) ينظر : الفخر الرازي ٢٩ / ٧٣.

(٤) أما قوله الله مع الألف واللام اسم علم ففيه بعض الضعف وذلك لأنه لو كان كذلك لكانت الهمزة فيه أصلية ، فلا يجوز أن تجعل وصلية ، وكان يجب أن يقال خلق الله كما يقال علم أحمد وفهم إسماعيل ، بل الحق فيه أحد القولين إما أن نقول إله أو لاه اسم لموجد الممكنات اسم علم ، ثم ـ

٢٩١

قال سعيد بن جبير ، وعامر الشعبي : «الرحمن» فاتحة ثلاثة سور إذا جمعن كن اسما من أسماء الله تعالى : «الر» و «حم» و «نون» ، فيكون مجموع هذه «الرحمن» (١).

ولله ـ تعالى ـ رحمتان :

رحمة سابقة بها خلق الخلق ، ورحمة لاحقة بها أعطاهم الرزق والمنافع ، فهو رحمن باعتبار السّابقة ، رحيم باعتبار اللاحقة ، ولما اختص بالإيجاد لم يقل لغيره : رحمن ، ولما تخلق بعض خلقه الصالحين ببعض أخلاقه بحسب الطّاقة البشرية ، فأطعم ونفع ، جاز أن يقال له : رحيم.

قوله : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ). فيه وجهان (٢) :

أظهرهما : أنه «علم» المتعدية إلى اثنين أي عرف من التعليم ، فعلى هذا المفعول الأول محذوف.

قيل : تقديره : علم جبريل القرآن.

وقيل : علم محمدا.

وقيل : علم الانسان ، وهذا أولى لعمومه ، ولأن قوله : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) دال عليه.

والثاني : أنها من العلامة ، والمعنى : جعله علامة ، وآية يعتبر بها (٣) ، أي : هو

__________________

ـ استعمل مع الألف واللام كما في الفضل والعباس والحسن والخليل ، وعلى هذا فمن سمى غيره إلها فهو كمن يستعمل في مولود له فيقول لابنه محمد وأحمد وإن كانا علمين لغيره قبله في أنه جائز من سمى ابنه لم يكن له من الأمر المطاع ما يمنع الغير عن التسمية به ولم يكن له الاحتجار وأخذ الاسم لنفسه أو لولده. بخلاف الملك المطاع إذا استأثر لنفسه اسما لا يستجرىء أحد ممن تحت ولايته ما دام له الملك أن يسمي ولده أو نفسه بذلك الاسم خصوصا من يكون مملوكا لا يمكنه أن يسمي نفسه باسم الملك ولا أن يسمي ولده به ، والله تعالى ملك مطاع وكل من عداه تحت أمره فإذا استأثر لنفسه اسما لا يجوز للعبيد أن يتسموا بذلك الاسم ، فمن يسمي فقد تعدى فالمشركون في التسمية متعدون ، وفي المعنى ضالون وإما أن نقول إله أو لاه اسم لمن يعبد والألف والام للتعريف ، ولما امتنع المعنى عن غير الله امتنع الاسم ، فإن قيل فلو سمى أحد ابنه به كان ينبغي أن يجوز؟ قلنا لا يجوز لأنه يوهم أنه اسم موضوع لذلك الابن لمعنى لا لكونه علما ، فإن قيل تسمية الواحد بالكريم والودود جائزة قلنا كل ما يكون حمله على العلم وعلى اسم لمعنى ملحوظ في اللفظ الذكري لا يفضي إلى خلل يجوز ذلك فيه فيجوز تسمية الواحد بالكريم والودود ولا يجوز تسميته بالخالق والقديم ، لأن على تقدير حمله على أنه علم غير ملحوظ فيه المعنى يجوز ، وعلى تقدير حمله على أنه اسم لمعنى هو قائم به كالقدرة التي بها بقاء الخلق أو العدم فلا يجوز ، لكن اسم المعبود من هذا القبيل فلا يجوز التسمية به ، فأحد هذين القولين حق وقولهم مع الألف واللام علم ليس بحق. إذا عرفت البحث في الله فما يترتب عليه ، وهو أن الرحمن اسم على أضعف منه ، وتجويز يا الرحمن أضعف من الكل. ينظر الرازي ٢٩ / ٧٣ ـ ٧٤.

(١) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٤٢٣).

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٥.

(٣) ضعّف هذا الرأي العلامة أبو حيان في البحر المحيط ٨ / ١٨٧ فقال : وأبعد من ذهب إلى أن معنى «عَلَّمَ الْقُرْآنَ» جعله علامة وآية يعتبر بها.

٢٩٢

علامة النبوة ومعجزة ، وهذا مناسب لقوله تعالى : (وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) [القمر : ١]. على ما تقدم أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيبة ، وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة ، وهو أنه يسر من العلوم ما لا يسره غيره ، وهو ما في القرآن ، أو يكون بمعنى أنه جعله بحيث يعلم كقوله تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر : ١٧] ، فالتعليم على هذا الوجه مجاز كما يقال لمن أنفق على متعلم وأعطى أجرة معلمه : علمته.

فإن قيل : لم ترك المفعول الثاني؟.

فالجواب : أن ذلك إشارة إلى أن النعمة في التعليم لا تعليم شخص دون شخص ؛ فإن قيل : كيف يجمع بين هذه الآية ، وبين قوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) [آل عمران : ٧]؟ فالجواب : إن قلنا بعطف الرّاسخين على «الله» فظاهر.

وإن قلنا بالوقف على الجلالة ، ويبتدأ بقوله : (وَالرَّاسِخُونَ) فلأن من علم كتابا عظيما فيه مواضع مشكلة قليلة ، وتأملها بقدر الإمكان ، فإنه يقال : فلان يعلم الكتاب الفلاني ، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين في تلك المواضع القليلة ، وكذا القول في تعليم القرآن ، أو يقال : المراد لا يعلمه من تلقاء نفسه ، بخلاف الكتب التي تستخرج بقوّة الذكاء.

فصل في نزول هذه الآية

قال المفسرون : نزلت هذه الآية حين قالوا : وما الرحمن؟.

وقيل : نزلت جوابا لأهل «مكة» حين قالوا : (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) [النحل : ١٠٣] ، وهو رحمن «اليمامة» ، يعنون : مسيلمة الكتاب فأنزل الله ـ تعالى ـ «الرحمن ، علّم القرآن» أي : سهله لأن يذكر ويقرأ.

كما قال : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) [القمر : ٢٢].

قوله تعالى (١) : (خَلَقَ الْإِنْسانَ).

قال ابن عباس وقتادة ، والحسن : يعني آدم ـ عليه الصلاة والسلام ـ.

قوله : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) علمه أسماء كل شيء.

وقيل : علمه اللغات كلها ، وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية. وعن ابن عباس أيضا ، وابن كيسان : المراد بالإنسان هنا محمد ـ عليه الصلاة والسلام (٢) ـ والمراد من البيان بيان الحلال من الحرام ، والهدى من الضلالة.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٢) عن قتادة وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٠) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وذكره أيضا عن ابن جريج وعزاه إلى ابن المنذر.

(٢) ذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٦٧).

٢٩٣

وقيل : ما كان وما يكون ؛ لأنه ينبىء عن الأولين ، والآخرين ، ويوم الدين.

وقال الضحاك : «البيان» : الخير والشر وقال الربيع بن أنس : هو ما ينفعه مما يضره.

وقيل : المراد ب «الإنسان» جميع الناس ، فهو اسم للجنس ، والبيان على هذا الكلام : الفهم وهو مما فضل به الإنسان على سائر الحيوان.

قال السدي : علم كل قوم لسانهم الذي يتكلمون به (١).

وقال يمان : الكتابة والخط بالقلم نظيره (عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) [العلق : ٤ ، ٥].

فصل في كيفية النظم

إنه علم الملائكة أولا ، ثم خلق الإنسان ، وعلمه البيان ، فيكون ابتدأ بالعلوي ، وقابله بالسفلي ، وقدم العلويات على السفليات ، فقال : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ) إشارة إلى تعليم العلويين.

ثم قال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ) إشارة إلى تعليم السفليين ، وقال : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) [في العلويات](٢)(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [في السفليات](٣).

ثم قال : (وَالسَّماءَ رَفَعَها) [الرحمن : ٧] ، وفي مقابلتها (وَالْأَرْضَ وَضَعَها) [الرحمن : ١٠].

فصل في وصل هذه الجمل

هذه الجمل من قوله : (عَلَّمَ الْقُرْآنَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ ، عَلَّمَهُ الْبَيانَ) جيء بها من غير عاطف ؛ لأنها سيقت لتعديد نعمه ، كقولك : «فلان أحسن إلى فلان ، أشاد بذكره ، رفع من قدره» فلشدة الوصل ترك العاطف ، والظاهر أنها أخبار (٤).

وقال أبو البقاء (٥) : و (خَلَقَ الْإِنْسانَ) مستأنف ، وكذلك «علّمه» ، ويجوز أن يكون حالا من الإنسان مقدرة ، وقدّر معها مرادة انتهى.

وهذا ليس بظاهر ، بل الظاهر ما تقدم ، ولم يذكر الزمخشري غيره (٦).

فإن قيل : لم قدم تعليم القرآن للإنسان على خلقه ، وهو متأخر عنه في الوجود؟.

__________________

(١) ينظر تفسير البغوي (٤ / ٢٦٧).

(٢) سقط من ب.

(٣) سقط في ب.

(٤) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٨٧ ، الدر المصون ٦ / ٢٣٥.

(٥) ينظر الإملاء ٢ / ١١٩٧ ، الدر المصون ٦ / ٢٣٥.

(٦) ينظر الكشاف ٤ / ٤٤٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٣٥ ، والبحر المحيط ٨ / ١٨٧.

٢٩٤

فالجواب : لأن التعليم هو السبب في إيجاده وخلقه.

فإن قيل : كيف صرح بذكر المفعولين في (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) ، ولم يصرح بهما في «علّم القرآن»؟.

فالجواب : أن المراد من قوله (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) تعديد النّعم على الإنسان ، واستدعاء للشكر منه ، ولم يذكر الملائكة ؛ لأن المقصود ذكر ما يرجع إلى الإنسان.

فإن قيل : بأنه علم الإنسان القرآن.

فيقال : بأن ذكر نعمة التعليم وعظمها على سبيل الإجمال ، ثم بين كيفية تعليمه القرآن ، فقال : (خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ).

واستدلّ بعضهم بهذه الآية على أن الألفاظ توقيفية (١).

قوله : (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) فيه ثلاثة أوجه (٢) :

أحدها : أن الشمس مبتدأ ، و «بحسبان» خبره على حذف مضاف ، تقديره : جري الشمس والقمر بحسبان ، أي كائن ، أو مستقر ، أو استقر بحسبان.

الثاني : أن الخبر محذوف يتعلق به هذا الجار ، تقديره : يجريان بحسبان.

وعلى هذين القولين ، فيجوز في الحسبان وجهان :

أحدهما : أنه مصدر مفرد بمعنى «الحسبان» ، فيكون ك «الشّكران» و «الكفران».

والثاني : أنه جمع حساب ، ك «شهاب» و «شهبان».

والثالث : أن «بحسبان» خبره ، و «الباء» ظرفية بمعنى «في» أي : كائنان في حسبان.

وحسبان على هذا اسم مفرد ، اسم للفلك المستدير ، مشبهة بحسبان الرّحى الذي باستدارته تدور الرّحى.

__________________

(١) قال الرازي ٢٩ / ٧٦ ويحتمل أن يتمسك بهذه الآية على أن اللغات توقيفية حصل العلم بها بتعليم الله.

ينظر : البرهان لإمام الحرمين ١ / ١٦٩ ، البحر المحيط للزركشي ٢ / ٥ ، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ١ / ٧٠ ، سلاسل الذهب للزركشي ص ١٦٣ ، التمهيد للإسنوي ص ١٣٥ ، نهاية السول له ٢ / ١١ ، زوائد الأصول له ص ٢١١ ، منهاج العقول للبدخشي ١ / ٢٢٠ ، غاية الوصول للشيخ زكريا الأنصاري ص ٤١ ، التحصيل من المحصول للأرموي ١ / ١٩٣ ، والمحول للغزالي ص ٧٠ ، المستصفى له ١ / ٣١٨ ، حاشية البناني ١ / ٢٦٩ ، الإبهاج لابن السبكي ١ / ١٩٤ ، الآيات البينات لابن قاسم العبادي ٢ / ٦٠ ، حاشية العطار على جمع الجوامع ١ / ٣٥٢ ، الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم ١ / ٤٢ ، التحرير لابن الهمام ص ١٦ ، تيسير التحرير لأمير بادشاه ١ / ٤٩ ، حاشية التفتازاني والشريف على مختصر المنتهى ١ / ١١٥ ، تقريب الوصول لابن جزي ص ٧١ ، نشر البنود للشنقيطي ١ / ١٠٤ ، فواتح الرحموت لابن نظام الدين الأنصاري ١ / ١٧٧ ، شرح الكواكب الصغير للفتوحي ص ٢٨.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٦ ، البحر المحيط ٨ / ١٨٧.

٢٩٥

فصل

لما ذكر خلق الإنسان وإنعامه عليه لتعليمه البيان ، ذكر نعمتين عظيمتين ، وهما : الشمس والقمر ، وأنهما على قانون واحد وحساب (١) لا يتغيران ، وبذلك تتم منفعتهما للزراعات وغيرها ، ولو لا الشمس لما زالت الظلمة ، ولو لا القمر لفات كثير من المنافع الظاهرة ، بخلاف غيرهما من الكواكب ، فإن نعمها لا تظهر لكل أحد مثل ظهور نعمتهما ، وأنهما بحساب لا يتغير أبدا ، ولو كان مسيرهما غير معلوم للخلق لما انتفعوا بالزّراعات في أوقاتها ، ومعرفة فصول السّنة.

ثم لما ذكر النعم السماوية وذكر في مقابلتها أيضا نعمتين ظاهرتين من الأرض ، وهما : النبات الذي لا ساق له ، وما له ساق ؛ لأن النبات أصل الرزق من الحبوب والثمار ، والحشيش للحيوان.

وقيل : إنما ذكر هاتين النعمتين بعد تعليم القرآن إشارة إلى أن من الناس من لا تكون نفسه زكيّة ، فيكتفي بأدلة القرآن ، فذكر له آيات الآفاق ، وخص الشمس والقمر ؛ لأن حركتهما بحسبان تدلّ على الفاعل المختار.

ولو اجتمع العالم ليبيّنوا سبب حركتهما على هذا التقدير المعين لعجزوا ، وقالوا : إن الله حركهما بالإرادة كما أراد.

وقيل : لما ذكر معجزة القرآن بإنزاله أنكروا نزول الجرم من السماء وصعوده إليها ، فأشار تعالى بحركتهما إلى أنها ليست بالطبيعة.

وهم يقولون بأن الحركة الدّورية من أنواع الحركات لا يكون إلا اختياريا ، فقال تعالى : من حرّكهما على الاستدارة أنزل الملائكة على الاستقامة ، والثقيل على مذهبكم لا يصعد ، وصعود النّجم والشجر إنما هو بقدرة الله تعالى ، فحركة الملك كحركة الفلك جائزة.

فصل في جريان الشمس والقمر

قال المفسرون : [المعنى](٢) يجريان بحسبان معلوم فأضمر الخبر.

قال ابن عباس وقتادة وأبو مالك : يجريان بحساب في منازل لا تعدوها ولا يحيدان (٣) عنها.

__________________

(١) في أ : بحسبان.

(٢) سقط من ب.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٣) عن ابن عباس وقتادة وأبي مالك وأخرجه الحاكم (٢ / ٤٧٤) عن ابن عباس وقال : صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩٠) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى الفريابي ، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.

وذكره أيضا عن أبي مالك وعزاه إلى ابن المنذر وعبد بن حميد.

٢٩٦

وقال ابن زيد وابن كيسان : بهما تحسب الأوقات والأعمار ، ولو لا الليل والنهار والشمس والقمر لم يدرك أحد كيف يجد شيئا إذا كان الدهر كله ليلا أو نهارا (١).

وقال السدي : «بحسبان» تقدير آجالهما (٢) ، أي : يجريان بآجال كآجال الناس ، فإذا جاء أجلهما هلكا ، نظيره : (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) [الرعد : ٢].

وقال الضحاك : بقدر (٣).

وقال مجاهد : «بحسبان» (٤) كحسبان الرّحى يعني : قطعها ، يدوران في مثل القطب.

والحسبان : قد يكون مصدر «حسبته أحسبه بالضم حسبا وحسابا وحسبانا» مثل الغفران والكفران والرّجحان.

وحسبته أيضا : أي عددته.

وقال الأخفش : ويكون جماعة الحساب ، مثل «شهاب ، وشهبان» (٥).

والحسبان ـ بالضم ـ أيضا : العذاب والسّهام القصار ، الواحدة : حسبانة (٦).

والحسبانة أيضا : الوسادة الصغيرة تقول منه : «حسّبته» إذا وسدته (٧). قال : [مجزوء الكامل]

٤٦١٩ ـ ..........

لثويت غير محسّب (٨)

أي غير موسّد ، يعني : غير مكرم ولا مكفن.

قوله تعالى : (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) [الرحمن : ٦].

قال ابن عباس وغيره (٩) : النّجم : ما لا ساق له ، والشّجر : ما له ساق.

__________________

(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٤) عن ابن زيد وذكره البغوي في «تفسيره» (٤ / ٢٦٧) وكذا الماوردي (٥ / ٤٢٣ ـ ٤٢٤.

(٢) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٤٢٣.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.

(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩١) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر.

(٥) ينظر لسان العرب ٢ / ٨٦٦.

(٦) ينظر لسان العرب ٢ / ٨٦٦.

(٧) ينظر : لسان العرب ٢ / ٨٦٧.

(٨) البيت لنهيك الفزاري يخاطب عامر بن الطفيل وتمام البيت :

لتقيت بالوجعاء طعنة مرهف

مرّان أو لثويت غير محسّب

ينظر القرطبي ١٧ / ١٠٠ ، واللسان (حسب) ، وتاج العروس (حسب).

(٩) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩١) وعزاه إلى ابن الأنباري في «الوقف والابتداء» وله طريق ـ

٢٩٧

وأنشد ابن عباس قول صفوان التيمي : [الطويل]

٤٦٢٠ ـ لقد أنجم القاع الكبير عضاهه

وتمّ به حيّا تميم ووائل (١)

وقال زهير بن أبي سلمى : [البسيط]

٤٦٢١ ـ مكلّل بأصول النّجم تنسجه

ريح الجنوب لضاحي مائه حبك (٢)

واشتقاق النجم من «نجم الشيء ينجم» ـ بالضم ـ نجوما : ظهر وطلع.

ومنه : نجم ناب البعير ، أي : طلع. وسجودهما : سجود ظلالهما ؛ قاله الضحاك. وقال الفرّاء : سجودهما أنهما يستقبلان إذا طلعت ، ثم يميلان معهما حتى ينكسر الفيء (٣).

وقال الزجاج (٤) : سجودهما : دوران الظّل معهما ، كما قال : (يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ) [النحل : ٤٨].

وقال الحسن ومجاهد : النجم نجم السماء ، وسجوده في قول مجاهد : دوران ظله» (٥) وهو (٦) اختيار الطبري (٧) ، حكاه المهدوي.

وقيل : سجود النجم : أفوله ، وسجود الشجر : إمكان الاجتناء لثمارها ، حكاه الماوردي(٨).

والأول أظهر.

وقيل : إن جميع ذلك مسخر لله تعالى ، فلا تعبدوا النجم كما عبد قوم من الصّابنين النجوم ، وعبد كثير من العجم الشجر.

__________________

ـ آخر عن ابن عباس دون ذكر الشعر.

أخرجه الحاكم (٢ / ٤٧٤) والطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٥.

وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩١) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وأبي الشيخ في «العظمة».

(١) ينظر القرطبي (١٧ / ١٠١) واللسان (عضه) وتاج العروس (عضه.

(٢) يروى «ريح خريق» مكان ريح الجنوب.

ينظر : شرح ديوان زهير بن أبي سلمى ص ١٧٦ ، لأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب والكشاف ٤ / ١٤ ، وشرح شواهده ص ٤٧١ ، والقرطبي ١٧ / ١٠١ ، واللسان (نجم) ، والتاج (نجم.

(٣) ينظر معاني القرآن للفراء ٣ / ١١٢.

(٤) ينظر معاني القرآن للزجاج ٥ / ٩٦.

(٥) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٥) عن مجاهد وقتادة والحسن وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩١) وزاد نسبته إلى ابن المنذر.

(٦) في ب : وهذا.

(٧) ينظر : تفسير الطبري ١١ / ٥٧٥ ، ٥٧٦.

(٨) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠١.

٢٩٨

والسجود : الخضوع ، والمعني به آثار الحدوث ، حكاه القشيري.

وقال النحاس : أصل السجود في اللغة : الاستسلام والانقياد لله ـ عزوجل ـ فهو من السموات كلها استسلامها لأمر الله ـ عزوجل ـ وانقيادها له.

ومن الحيوان كذا ، ويكون من سجود الصلاة.

وأنشد محمد بن يزيد في النجم بمعنى النجوم ؛ قال : [الطويل]

٤٦٢٢ ـ فباتت تعدّ النّجم في مستجيره

سريع بأيدي الآكلين جمودها (١)

قوله تعالى : (وَالسَّماءَ رَفَعَها).

العامة (٢) : على النصب على الاشتغال مراعاة لعجز الجملة التي يسميها النحاة ذات وجهين ، وفيها دليل لسيبويه الذي يجوز النصب ، وإن لم يكن في جملة الاشتغال ضمير عائد على المبتدأ الذي تضمنته الجملة ذات الوجهين.

والأخفش (٣) يقول : لا بد من ضمير ، مثاله : «هند قامت وعمرا أكرمته لأجلها».

قال : «لأنك راعيت الخبر وعطفت عليه ، والمعطوف على الخبر خبر ، فيشترط فيه ما يشترط فيه».

ولم يشترط الجمهور ذلك ، وهذا دليلهم.

فإن القراء كلهم نصبوا مع عدم الرابط إلا من شذ منهم وقد تقدم تحرير هذا في سورة «يس» عند قوله : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) [يس : ٣٩].

وقرأ أبو (٤) السمال : برفع السماء على الابتداء ، والعطف على الجملة الابتدائية التي هي قوله (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ).

قال القرطبي (٥) : «فجعل المعطوف مركبا من ابتداء وخبر كالمعطوف عليه».

قوله : (وَوَضَعَ الْمِيزانَ).

العامة (٦) على «وضع» فعلا ماضيا ، و «الميزان» نصب على المفعول به.

وقرأ إبراهيم (٧) : «ووضع الميزان» ـ بسكون الضاد ـ وخفض «الميزان» وتخريجها :

__________________

(١) البيت للراعي النميري. ينظر شعر الراعي النميري ص ١٩٤ ، وشرح ديوان الحماسة للتبريزي ٢ / ٢٢٤ ، ومجاز القرآن ٢ / ٢٣٥ ، والكشاف ٤ / ٢٧ ، وشرح شواهده ص ٣٨٨ ، والمعاني الكبير ٣٧٥ ، والقرطبي ١٧ / ١٠١ ، واللسان (نجم) ، والتاج (نجم.

(٢) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٦.

(٣) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٦.

(٤) ينظر : المحرر الوجيز ٥ / ٢٢٤ ، والبحر المحيط ٨ / ١٨٨ ، والقرطبي ١٧ / ١٠١.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠١.

(٦) ينظر : الدر المصون ٦ / ٢٣٦.

(٧) ينظر : البحر المحيط ٨ / ١٨٨ ، والدر المصون ٦ / ٢٣٦.

٢٩٩

على أنه معطوف على مفعول «رفعها» أي : «ورفع ووضع الميزان» أي جعل له مكانة ورفعة لأخذ الحقوق به ، وهو من بديع اللفظ حيث يصير التقدير : «ورفع ووضع الميزان».

قال الزمخشري (١) : «فإن قيل : كيف أخلّ بالعاطف في الجمل الأول وجيء به بعده؟.

قلت : بكّت بالجمل : الأول ، وأورده على سنن التعديد للذين أنكروا الرحمن وآلاءه كما تبكت منكر أيادي المنعم من الناس بتعدّدها عليه في المثال الذي قدمته ، ثم رد الكلام إلى منهاجه بعد التّبكيت في وصل ما يجب وصله للتناسب والتقارب بالعاطف.

فإن قلت : أي تناسب بين هاتين الجملتين حتى وسط بينهما العاطف؟.

قلت : إن الشمس والقمر سماويّان ، والنجم والشجر أرضيّان فبينهما تناسب من حيث التقابل ، وإن السماء والأرض لا يزالان يذكران قرينتين ، وإن جري الشمس والقمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر الله ، فهو مناسب لسجود النجم والشجر» (٢).

فصل في المراد بوضع الميزان

قال مجاهد وقتادة : وضع الميزان عبارة عن العدل (٣).

قال السدي : (وَوَضَعَ الْمِيزانَ) وضع في الأرض العدل الذي أمر به (٤) ، يقال : وضع الله الشريعة ، ووضع فلان كذا أي ألقاه.

وقيل : على هذا الميزان القرآن ، لأن فيه بيان ما يحتاج إليه.

وهو من قول الحسين بن الفضل.

وقال الحسن وقتادة (٥) ـ أيضا ـ والضحاك : هو الميزان الذي يوزن به لينتصف به الناس بعضهم من بعض (٦) ، وهو خبر بمعنى الأمر بالعدل يدل عليه قوله تعالى : (وَ (٧) أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ) [الرحمن : ٩].

والقسط هو العدل ، وقيل : هو الحكم.

__________________

(١) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٤٣ ، والدر المصون ٦ / ٢٣٦.

(٢) ينظر : الكشاف ٤ / ٤٤٤.

(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١١ / ٥٧٦) عن مجاهد وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٦ / ١٩١) وزاد نسبته إلى ابن المنذر وينظر تفسير الماوردي (٥ / ٤٢٤.

(٤) ذكره الماوردي في «تفسيره» (٥ / ٤٢٤.

(٥) ينظر : القرطبي ١٧ / ١٠١.

(٦) ينظر المصدر السابق وتفسير البغوي (٤ / ٢٦٧.

٣٠٠