اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي

اللّباب في علوم الكتاب - ج ١٨

المؤلف:

أبي حفص عمر بن علي بن عادل الدمشقي الحنبلي


المحقق: عادل أحمد عبد الموجود و علي محمّد معوّض
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
2-7451-2298-3

الصفحات: ٦٣٢

قالوا : أنتّبع بشرا أمكن أن يقال : نعم اتّبعوه ، وماذا يمنعكم من اتباعه؟ فإذا قدمنا حاله وقالوا : هو من نوعنا بشر من صفتنا (١) رجل ليس غريبا نعتقد فيه أنه يعلم ما لا نعلم أو يقدر على ما لا نقدر وهو واحد وليس له جند ولا حشم ولا خدم ولا خيل وهو وحيد ونحن جماعة فكيف نتبعه؟! فيكونون قد قدموا الموجب لجواز الامتناع عن اتباعه. وفي الآية إشارات إلى ذلك ، منها تنكيره حيث قالوا : أبشرا ، ولم يقولوا : أرجلا ، ومنها : قولهم : منّا وهو يحتمل أمرين :

أحدهما : من صنفنا ليس غريبا.

والثاني : «منّا» أي تبعنا ؛ لأن «من» للتبعيض والبعض يتبع الكل ، لا الكل يتبع البعض.

ومنها قولهم : «واحدا» ، وهو يحتمل أمرين أيضا :

أحدهما : وحيدا إشارة إلى ضعفه.

وثانيهما : واحدا أي هو من آحاد النّاس أي هو ممّن ليس بمشهور بحسب ولا نسب ، إذا حدّث لا يعرف ولا يمكن أن يقال عنه : قال فلان ، بل يقال : قال واحد ، وذلك غاية الخمول ، أو لأن الأرذل لا ينضمّ إليه أحد (٢).

قوله : (إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ) خطأ ، وذهاب عن الصواب «وسعر» (قال ابن عباس (٣) : عذاب. وقال الحسن : شدة العذاب. وقال قتادة : عناء). «وسعر» يجوز أن يكون مفردا أي جنون يقال : ناقة مسعورة أي كالمجنونة في سيرها ، قال الشاعر (ـ رحمة الله عليه ـ) (٤) :

٤٦٠٠ ـ كأنّ بها سعرا إذا السّعر هزّها

ذميل وإرخاء من السّير متعب (٥)

وأن يكون جمع «سعير» وهو النار. قاله سفيان بن عيينة. والاحتمالان منقولان عنه.

__________________

(١) في الرازي : من صنفنا.

(٢) بالمعنى من تفسير العلامة الرازي ١٥ / ٥٠.

(٣) زيادة من تفسير البغوي لتوضيح السياق ومقابلته.

(٤) زيادة من النسخة أالأصل.

(٥) من الطويل. والبيت مختلف في روايته فرواية المؤلف أعلى قريبة من رواية البحر لأبي حيان ٨ / ١٨٠ غير أنه ذكر «العيس» بدلا من «السّعر» الثانية في رواية المؤلف وكذا رواية الكشاف ٤ / ٣٩ وشرح شواهده. ورواية القرطبي في الجامع ١٧ / ١٣٨ :

تخال بها سعرا إذا السّعر هزّها

ذميل وإيقاع من السّير متعب

ولم أعرف قائل البيت ، والذّميل : ضرب من سير الإبل. والبيت ينبىء عن معنى التعب والجنون الذي يحل بتلك الناقة إذا ما سافرت.

وانظر البيت في الكشاف والبحر والقرطبي المراجع السابقة ، وفتح القدير ٥ / ١٢٦ ، وروح المعاني ٢٧ / ٨٨.

٢٦١

والمعنى : إنّا إذن لفي عناء وعذاب مما يلزمنا من طاعته. وقال وهب : معناه : بعد عن الحقّ.

قوله : (أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا) معناه أأنزل عليه الذكر ، وهو الوحي (١) «من بيننا» حال من هاء «عليه» ، أي ألقي عليه منفردا من بيننا أي خصص بالرسالة من بين آل ثمود وفيهم من هو أكثر مالا وأحسن حالا. وهو استفهام بمعنى الإنكار.

قوله : (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) الأشر البطر ، يقال : أشر يأشر أشرا فهو أشر كفرح ، وآشر كضارب وأشران كسكران ، وأشارى كأسارى.

وقرأ أبو قلابة : «بل هو الكذّاب الأشرّ» ، «من الكذّاب الأشرّ»؟ بفتح الشين وتشديد الراء ، جعلهما أفعل تفضيل. وهو شاذ ، لأنه (لم) (٢) يحذف الهمزة من لفظ الخير والشّر في «أفعل» التفضيل ، تقول : زيد خير من عمرو وشرّ من بكر (٣) ، ولا تقول : أخير ولا أشرّ إلّا في ندور كهذه القراءة (٤) وكقول رؤبة :

٤٦٠١ ـ بلال خير النّاس وابن الأخير (٥)

وتثبت فيهما في التعجب نحو : ما أخيره وما أشرّه. ولا يحذف إلى في ندور عكس أفعل التفضيل ، قالوا : ما خير اللّبن للصّحيح ، وما شرّه للمبطون. وهذا من محاسن الصّناعة. وقرأ أبو قيس الأوديّ ومجاهد الحرف الثاني الأشر بثلاث ضمات ، وتخريجها على أن فيه لغة أشر بضم الشين كحذر وحذر ، ثم ضمت الهمزة إتباعا لضمّ الشين. ونقل الكسائي عن مجاهد ضم الشين وفتح الهمزة على أصل تيك اللغة كحذر (٦).

__________________

(١) القرطبي ١٧ / ١٣٨ ، والبغوي والخازن ٦ / ٢٧٦.

(٢) زيادة لاستقامة المعنى والكلام.

(٣) وقولهم في المؤنث : الخورى والشّرّى.

(٤) وقد ذكر هذه القراءة وتعليقها أبو الفتح بن جني في المحتسب ٢ / ٢٩٩ وأبو حيان في البحر ٨ / ١٨٠ والزمخشري في الكشاف ٤ / ٣٩ ، بينما سكت عنها ابن خالويه في المختصر عند هذا الموضع.

(٥) رجز مشطور نسب لرؤبة ولم أجده بديوانه بلفظه هذا. وما في الديوان بتصحيح وليم بن الورد مجموع أشعار العرب رؤبة بن العجاج :

يا قاسم الخيرات وابن الأخير

وانظر الديوان هذا ص ٦٢ والقرطبي ١٧ / ١٣٩ وروح المعاني ٢٧ / ٨٩ والبحر ٨ / ١٨٠ والأشموني ٣ / ٤٣ والتصريح ٢ / ١٠١ والهمع ٢ / ١٦٦ ، والمحتسب ٢ / ٢٩٩. وشاهده : وقوع الأخير من أفعل تفضيل دون حذف الهمزة وذلك نادر وقليل من الشذوذ بمكان نستطيع أن نقول عنه : فصيح استعمالا شاذّ قياسا.

(٦) نقل القراءتين البحر المحيط ٨ / ١٨٠ بينما نقل القراءة الثانية ابن جني في المحتسب ٢ / ٢٩٩.

٢٦٢

فصل

(الأشر) (١) التحيّر والنشاط ، يقال : فرس أشر إذا كان مرحا نشطا. قال امرؤ القيس يصف كلبا :

٤٦٠٢ ـ فيدركنا فغم داجن

سميع بصير طلوب نكر

ألصّ الضّروس حنيّ الضّلوع

تبوع أريب نشيط أشر (٢)

(و) قيل : إنه المتعدي إلى منزلة لا يستحقها. وقال ابن زيد وعبد الرحمن بن حماد : الأشر الذي لا يبالي ما قال.

وفي قراءة أبي قلابة بفتح الشين وتشديد الراء فالمعنى أشرّنا وأخبثنا.

فإن قيل : قولهم : بل هو كذاب يستدعي أمرا مضروبا عنه فما هو؟

فالجواب : قولهم : أألقي للإنكار فكأنهم قالوا : ما ألقي ، ثم إنّ قولهم : أألقي عليه الذكر لا يقتضي إلا أنه ليس بنبيّ ، وقول القائل : ليس بنبي لا يلزم منه أنه كاذب فكأنهم قالوا ليس بنبي ، ثم قالوا : بل هو ليس بصادق (٣).

قوله : «فسيعلمون» قرأ ابن عامر وحمزة بالخطاب. وفيه وجهان :

أحدهما : أنه حكاية قول صالح لقومه.

والثاني : أنه خطاب الله على جهة الالتفات. والباقون بياء الغيبة جريا على الغيب قبله في قوله : (فَقالُوا أَبَشَراً) ، واختارها مكّيّ ، قال : لأن عليها الأكثر (٤).

و «غدا» ليس المراد به الذي يلي يومك بل الزمان المستقبل ، كقول الطّرمّاح (رحمة الله عليه ورضاه) (٥) :

٤٦٠٣ ـ ألا علّلاني قبل نوح النّوائح

وقبل اضطراب النّفس بين الجوانح

وقبل غد يا لهف نفسي على غد

إذا راح أصحابي ولست برائح (٦)

__________________

(١) سقط من أ.

(٢) من المتقارب له. والفغم المولع بالصّيد الحريص عليه. والدّاجن : ألوف للصيد ونكر : منكر عالم وقيل : كريه الصورة ، والألصّ : الذي التصقت أسنانه بعضها إلى بعض ، والأريب الذكيّ. والتّبوع :التابع الأثر. والبيتان بعد واضحان. وشاهده : في أنّ الأشر معناه النشيط. وانظر الديوان ١٦٠ والقرطبي ١٧ / ١٣٨.

(٣) قال بهذا السؤال والإجابة عليه الرازي معنى من التفسير الكبير ١٥ / ٥٢.

(٤) وهذه قراءات سبعيّة متواترة. وانظر السبعة ٦١٨ ، والكشف لمكي ٢ / ٢٩٧ و ٢٩٨ ، وحجة ابن خالويه ٣٣٨ والإتحاف ٤٠٥.

(٥) زيادة من أكالعادة.

(٦) من الطويل هذان البيتان للطّرماح. والشاهد في «غد» مكررة فإن المراد من الأيام التالية وليس اليوم ـ

٢٦٣

والمعنى (سَيَعْلَمُونَ غَداً) حين ينزل عليهم العذاب. قال الكلبي : يعني يوم القيامة. وذكر الغد للتقريب على عادة الناس يقولون : إنّ مع اليوم غدا (١).

فصل

الكذّاب فعال صيغة مبالغة ، لأن المنسوب إلى الشيء لا بدّ له من أن يكثر من مزاولة الشيء ، فإنّ من خاط يوما لا يقال له : خيّاط فالمبالغة ههنا إما في الكثرة بأن يكون كثير الكذب ، وإمّا في الشدة أي شديد الكذب ، يقول ما لا يقبله العقل. ويحتمل أن يكونوا وصفوه بذلك لاعتقادهم الأمرين جميعا. وقولهم «أشر» إشارة إلى أنه كذب لا لضرورة وحاجة وإنما هو استغنى فبطر وطلب الرّئاسة (٢).

قوله : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ) أي مخرجوها من الهضبة التي سألوا.

وأتى باسم الفاعل والإضافة مبالغة في حقيقته كأنه وقع «فتنة» مفعول به ، أو مصدر من معنى الأول أو في موضع الحال.

روي أنهم تعنتوا على صالح فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء ، فقال الله : (إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) محنة واختبارا ؛ فقوله : «فتنة» مفعول له ؛ لأن المعجزة فتنة ؛ لأن بها يتميز المثاب من المعذب ، فالمعجزة تصديق ، وحينئذ يفترق المصدّق من المكذّب.

أو يقال : إخراج الناقة من الصخرة معجزة ، ودورانها بينهم ، وقسمة الماء كان فتنة ، ولهذا قال : (إِنَّا مُرْسِلُوا) ولم يقل : مخرجو.

قوله : (فَارْتَقِبْهُمْ) أي انتظر ما يصنعون (وَاصْطَبِرْ) أي اصبر على أذاهم وأصل الطاء في «اصطبر» «تاء» فتحولت طاء ، لتكون موافقة للصاد في الإطباق.

قوله : (وَنَبِّئْهُمْ) أي أخبرهم (أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) أي بين آل ثمود وبين الناقة لها يوم ولهم يوم ، كقوله تعالى : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) فالضمير في (بينهم) لقوم صالح والناقة فغلّب العاقل (٣).

وقرأ العامة : قسمة بكسر القاف ـ وروي عن أبي عمرو فتحها (٤) ـ وهو قياس

__________________

ـ التالي ليومه مباشرة. وانظر القرطبي ١٧ / ١٣٩ والبحر ٨ / ١٨٠ وأمالي الشجري ١ / ٢٤٧ و ٢٥٦ و ٢٦٨ ، والمغني ٩٤ وشرح شواهده للسيوطي ٢٧٤ وفتح القدير ٥ / ١٢٦ وروح المعاني ٢٧ / ٨٨.

(١) ذكره البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢٧٦.

(٢) بالمعنى من تفسير الإمام ١٥ / ٥٢.

(٣) وانظر الرازي السابق وتفسير البغوي والخازن ٦ / ٢٧٦.

(٤) لم ترد عنه في المتواتر فقد قال أبو حيان في البحر ٨ / ١٨١ : «ومعاذ عن أبي عمرو بفتحها».

٢٦٤

المرة. والمعنى : أن الماء مقسوم بينهم فوصف بالمصدر مبالغة ، كقولك : فلان عين الكرم.

قوله : (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) أي يحضره من هوله ، فالناقة تحضر الماء يوم ورودها وتغيب عنهم يوم ورودهم. قاله مقاتل. وقال مجاهد : إن ثمود يحضرون الماء يوم غبّها عنهم فيشربون ، ويحضرون اللبن يوم ورودها فيحتلبون (١). والشّرب ـ بالكسر ـ الحظ من الماء. وفي المثل : آخرها أقلّها شربا وأصله من سقي الإناء (٢) ، لأن آخرها يرد وقد نزف الحوض (٣).

واعلم أن قسمة الماء إما لأن الناقة عظيمة الخلق ينفر منها حيواناتهم فكان يوم للناقة ويوم لهم ، وإما لقلة الماء فلا يحملهم ، وإما لأن الماء كان مقسوما بينهم لكل فريق منهم فيوم ورود الناقة على هؤلاء يرجعون على الآخرين وكذلك الآخرون فيكون النّقصان على الكل ، ولا تختص الناقة بجميع الماء.

روي أنهم كانوا يكتفون في يوم ورودها بلبنها ، وليس في الآية إلا القسمة دون كيفيتها ، وظاهر قوله تعالى : (كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ) يعضد الوجه الثالث ، وحضر واحتضر بمعنى واحد.

قوله : (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ) قبله محذوف أي فتمادوا على ذلك ثم عزموا على عقرها فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر. و «تعاطى» مطاوع عاطى كأنهم كانوا يتدافعون ذلك حتى تولاه أشقاها. والمعنى فنادوا صاحبهم نداء المستغيث وهو قدار بن سالف وكان أشجعهم. وقيل : كان رئيسهم. فتعاطى أي آلة العقر أو الناقة ، أو هو عبارة عن الإقدام على الفعل العظيم. وتحقيقه أن الفعل العظيم يتبرأ منه كلّ أحد ويعطيه صاحبه أو جعلوا له جعلا فتعاطاه.

قال محمّد بن إسحاق : كمن لها في أصل شجرة على طريقها فرماها فانتظم به عضلة ساقها ثم شد عليها بالسيف فكشف عرقوبها فخرت ورغت رغاة واحدة ، ثم نحرها. قال ابن عباس : كان الذي عقرها أحمر أشقر أكشف أقعى يقال له : قدار بن سالف. والعرب تسمي الجزّار قدارا تشبيها بقدار بن سالف مشؤوم آل ثمود (٤) ، قال مهلهل :

٤٦٠٤ ـ إنّا لنضرب بالسّيوف رؤوسهم

ضرب القدار نقيعة القدّام (٥)

__________________

(١) وانظر القرطبي ١٧ / ١٤١.

(٢) الصحيح : الإبل وليس الإناء.

(٣) وانظر اللسان «شرب» ٢٢٢٢.

(٤) القرطبي ١٧ / ١٤٠ و ١٤١.

(٥) من الكامل لمهلهل ويروى صدره :

إنا لنضرب بالصّوارم هامهم

٢٦٥

قوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً) يريد صيحة جبريل كما تقدم (فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) العامة على كسر الظاء اسم فاعل وهو الذي يتخذ حظيرة من حطب وغيره.

وقرأ أبو السّمال وأبو حيوة وأبو رجاء وعمرو بن عبيد بفتحها. فقيل : هو مصدر (١) أي كهشيم الاحتظار.

وقيل : هو اسم مكان. وقيل : هو اسم مفعول وهو الهشيم نفسه ، ويكون من باب إضافة الموصوف لصفته كمسجد الجامع. والحظر المنع ، وقد تقدم تحريره في «سبحان» (٢).

فصل

«كان» في قوله «فكانوا» قيل : بمعنى صاروا كقوله :

٤٦٠٥ ـ ..........

كانت فراخا بيوضها (٣)

أي صارت. والهشيم : المهشوم المكسور ، ومنه سمي هاشم لهشمه الثّريد في الجفان غير أن الهشيم يستعمل كثيرا في الحطب المتكسر اليابس.

قال المفسرون : كانوا كالخشب المنكسر الذي يخرج من الحظائر بدليل قوله : (هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ) وهو من باب إقامة الصّفة مقام الموصوف.

وتشبيههم بالهشيم إما لكونهم يابسين كالموتى (٤) الذين ماتوا من زمان ، أو لانضمام بعضهم إلى بعض ، كما ينضم الرفقاء عند الخوف يدخل بعضهم في بعض ، فاجتمعوا بعضهم فوق بعض كما يجمع الحاطب الحطب يصف شيئا فوق شيء منتظرا حضور من يشتري منه (٥).

ويحتمل أن يكون ذلك لبيان كونهم في الجحيم أي كانوا كالحطب اليابس الذي للوقيد كقوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٩٨] وقوله : (فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) [الجن : ١٥].

__________________

ـ والقدار : الجزار ، والنقيعة ما ينحر للضّيافة ، والقدام : القادمون من سفر جمع قادم وقيل : القدّام الملك وجاء بالقدار دلالة على أنه هو الجزار. وانظر القرطبي ١٧ / ١٤١.

(١) ميميّ. وانظر هذه القراءة الشاذة في البحر ٨ / ١٨١ والكشاف ٤ / ٤٠. واختار الزمخشري المكان في تلك القراءة.

(٢) يقصد سورة الإسراء عند قوله : وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً من الآية ٢٠. وقد ذكر معنى الحظر وقال : وكثيرا ما يرد في القرآن ذكر المحظور ويراد به الحرام. وانظر اللباب ميكروفيلم.

(٣) سبق هذا البيت وأتى به هنا دلالة على أن «كان» بمعنى «صار». والبيت لامرىء القيس وتكملته :

بتيماء قفر والمطيّ كأنّها

قطا الحزن قد كانت فراخا بيوضها

(٤) في الرازي : كالحشيش بين الموتى.

(٥) وقد قال بهذا الفصل الإمام الرازي.

٢٦٦

فصل

ذكر في الآية مباحث :

منها : قوله تعالى : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ). اعلم أن هذه الآية ذكرت في ثلاثة مواضع ذكرها في حكاية نوح بعد بيان العذاب ، وذكرها هنا قبل بيان العذاب ، وذكرها في حكاية عاد قبل بيانه وبعد بيانه ، فحيث ذكر قبل بيان العذاب فللبيان كقول العارف بحكايته لغير العارف : هل تعلم كيف كان أمر فلان؟ وغرضه أن يقول : أخبرني عنه. وحيث ذكرها بعد بيان العذاب ذكرها للتعظيم كقول القائل : ضرب فلان أيّ ضرب وأيّما ضرب ، وتقول : ضربته وكيف ضربته أي قويّا. وفي حكاية عاد ذكرها مرتين للبيان والاستفهام ومنها في حكاية نوح ذكر الذي للتعظيم ، وفي حكاية ثمود ذكر الذي للبيان ، لأن عذاب قوم نوح كان بأمر عظيم عام وهو الطوفان الذي عم العالم ولا كذلك عذاب قوم (هود) فإنه كان مختصا بهم.

فصل

اعلم أن الله تعالى ذكر في هذه السورة خمس قصص ، وجعل القصة المتوسطة مذكورة على أتمّ وجه ؛ لأن حال صالح كان أكثر مشابهة بحال محمد ـ عليهما الصلاة والسلام ـ لأنه أتى بأمر عجيب أرضيّ ، وكان أعجب مما جاء به للأنبياء ، لأن عيسى عليه الصلاة والسّلام ، أحيا الميت لكن الميت كان محلا للحياة فقامت الحياة بإذن الله في محل كان قابلا لها وموسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ انقلبت عصاه ثعبانا فأثبت الله له في الخشب الحياة بإذن الله ؛ لكن الخشبة نبات كان له قوة في النمو فأشبه الحيوان في النمو ، وصالح ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان الظاهر في يده خروج الناقة من الحجر ، والحجر جماد ، وليس محلا للحياة ، ولا محلا للنمو والنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ أتى بأعجب من الكلّ ، وهو التصرف في الجرم السّماويّ الذي يقول المشرك : لا وصول لأحد إلى السماء ، وأما الأرضيات فقالوا : إنها أجسام مشتركة المواد يقبل كلّ واحد منها صورة الأخرى ، والسماوات لا تقبل ذلك فلما أتى بما اعترفوا بأنه لا يقدر على مثله آدميّ كان أتم وأبلغ من معجزة صالح ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ التي هي أتم من معجزة سائر الأنبياء غير محمد ـ عليه الصّلاة والسلام (١) ـ.

فصل

من قرأ المحتظر ـ بفتح الظاء ـ أراد الحظيرة ، ومن قرأ بالكسر أراد صاحب الحظيرة. ونقل القرطبي عن صاحب الصّحاح ، قال : من كسر جعله الفاعل ، ومن فتح

__________________

(١) وانظر كل ذلك السابق في تفسير العلامة الرازي ١٥ / ٥٦ و ٥٣.

٢٦٧

جعله المفعول ، ويقال للرجل القليل الخير : إنّه لنكد الحظيرة (١). قال أبو عبيدة (٢) : أراه سمى أمواله حظيرة ، لأنه حظرها عنده ومنعها ، وهي فعيلة بمعنى مفعولة. وقال المهدويّ : من فتح الظاء من المحتظر فهو مصدر ، والمعنى كهشيم الاحتظار. ويجوز أن يكون المحتظر هو الشجر المتخذ منه الحظيرة ، قال ابن عباس (ـ رضي الله (٣) عنهما ـ) :

المحتظر هو الرجل يجعل لغنمه حظيرة بالشجر والشوك فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم (٤) قال :

٤٦٠٦ ـ أثرن عجاجة كدخان نار

تشبّ بغرقد بال هشيم (٥)

وعنه : الحشيش تأكله الغنم ، وعنه أيضا : كالعظام النّخرة المحترقة. وهو قول قتادة. وقال سعيد بن جبير : هو التراب المتناثر من الحيطان في يوم ريح. وقال سفيان الثوري : هو ما تناثر من الحظيرة إذا ضربتها بالعصا ، وهو فعيل من مفعول. وقال ابن زيد : العرب تسمي كل شيء كان رطبا فيبس هشيما (٦) والحظر المنع. والمحتظر المفتعل يقال منه : احتظر على إبله ، وحظر أي جمع الشجر بعضه على بعض ليمنع برد الريح والسّباع عن إبله ، قال الشاعر :

٤٦٠٧ ـ ترى جيف المطيّ بجانبيه

كأنّ عظامها خشب الهشيم (٧)

وعن ابن عباس (رضي الله عنهما ـ) (٨) أيضا : أنهم كانوا مثل القمح الذي ديس وهشم ـ. (والهشيم :) (٩) فتات السّنبلة والتّبن (١٠).

روى أبو الزّبير عن جابر قال : لما نزلنا الحجر في مغزى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ تبوك ، قال : أيها الناس لا تسألوني الآيات ، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيهم أن يبعث لهم ناقة ،

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن للأستاذ العلامة القرطبي ١٧ / ١٤٢. وانظر أيضا صحاح الجوهري «حظر».

(٢) كذا في النسختين ، والصحيح أبو عبيد ؛ فقد رجعت إلى المجاز لأبي عبيدة ٢ / ٢٤١ فوجدته قد قال «صاحب الحظيرة» ، والمحتظر هو الحظار والهشيم ما يبس من الشّجر أجمع.

(٣) زيادة من أ.

(٤) وانظر كل هذا في الجامع السابق.

(٥) من الوافر ولم أعرف قائله. والبيت في التشبيه. والعجاجة الكثير من الإبل والغرقد جمع غرقدة : الشجر العظيم. وبال وهشيم صفتان لغرقد. وجاء بالبيت دلالة على أن الهشيم هو الشجر المداس من الغنم ، وانظر القرطبي ١٧ / ١٤٢ وفتح القدير ٥ / ١٢٧.

(٦) القرطبي المرجع السابق.

(٧) هذا البيت شبيه بسابقه بحرا فهو من تمام الوافر ، وجهلا بقائله ، حيث لم أعرف قائله. والضمير في (عظامها) للمطيّ ، فهو يشبه عظامها بعد الموت وبعد أن أصبحت جيفة بالهشيم المحتظر المجتمع بعضه فوق بعض ، وانظر البيت في القرطبي ١٧ / ١٤٢ ، وفتح القدير ٥ / ١٢٧.

(٨) زيادة من أالأصل كالعادة.

(٩) ما بين القوسين زيادة للاستقامة في الكلام.

(١٠) وانظر القرطبي المرجع السابق واللسان (ه ش م).

٢٦٨

فبعث الله عزوجل إليهم الناقة وكانت ترد من ذلك الفجّ فتشرب ماءهم يوم وردها ويحلبون منها مثل الذي كانوا يشربون منها يوم غبّها (١).

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)(٤٠)

قوله تعالى : (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ) أخبر عن قوم لوط لما كذبوا لوطا. ثم قال : (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً) والحاصب فاعل من حصب إذا رمى بالحصا وهي الحجارة. وقال النّضر (٢) : الحاصب الحصباء في الرّيح. وقال أبو عبيدة : الحاصب الحجارة (٣). وفي الصّحاح : الحاصب الريح الشديدة التي تثير الحصباء ، وكذلك الحصبة ، قال لبيد :

٤٦٠٨ ـ جرّت عليها أن خوت من أهلها

أذيالها كلّ عصوف حصبه (٤)

(يقال) : عصفت الرّيح أي اشتدت فهي ريح عاصف وعصوف. وقال الفرزدق :

٤٦٠٩ ـ مستقبلين شمال الشّأم تضربنا

بحاصب كنديف القطن منثور (٥)

قوله : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) فيه وجهان :

__________________

(١) البغوي في معالم التنزيل ٦ / ٢٧٦ ، والقرطبي في الجامع ١٧ / ١٤٠ و ١٤١. ويريد بأبي الزّبير محمد بن مسلم بن تدرس المكّي ، الحافظ المكثر ، الصدوق مولى حكيم بن حزام القرشي الأسدي ، حدث عن ابن عباس ، وابن عمر ، وجابر ، وأبي الطفيل ، وغيرهم ، وعنه أيوب وشعبة وسفيان ، كان كاملا عقلا مات سنة ١٢٨ ه‍ ، وانظر تذكرة الحفاظ ١ / ١٢٦ و ١٢٧ للإمام الذهبيّ.

(٢) هو : النضر بن شميل ، أخذ عن الخليل بن أحمد ، وعن فصحاء العرب كأبي خيرة الأعرابيّ وأبي الدّقيش. مات سنة ثلاث أو أربع ومائتين في خلافة المأمون. وانظر نزهة الألباء من ٥٨ إلى ٦١.

(٣) قاله في المجاز ٢ / ٢٤١ قال : «والحاصب أيضا يكون من الجليد».

(٤) من الرجز وهو له كما في ديوانه ٣٩ دار صادر. وخوت : أقفرت ، والعصوف : الريح العاصفة والحصبة التي تجرف الحصباء معها. وروي «عليه» بدل «عليها». و «كل» فاعل مؤخر و «أذيالها» مفعول مقدم. وقد جاء بالبيت ليبيّن أن الحاصب والحصبة هي الريح الشديدة المثيرة. وانظر اللسان «حصب» ٨٩٣ والقرطبي ١٧ / ١٤٣ والصّحاح «حصب» أيضا.

(٥) من البسيط له. و «نديف القطن» الذي يباع في السوق مندوفا فالنّدف هو الطرق. وشاهده كسابقه من أن الحاصب هو الريح الشديدة. وانظر البيت في المجاز ٢ / ٢٤١ وفتح القدير ٥ / ١٢٧ وروح المعاني ٢٧ / ٩٠ والقرطبي ١٧ / ١٤٣ ، ومجمع البيان ٩ / ٢٩١ والديوان ١ / ٢١٣.

٢٦٩

أحدهما : أنه متصل ويكون المعنى : أنه أرسل الحاصب على الجميع إلا أهله ، فإنه لم يرسل عليهم.

والثاني : أنه منقطع (١). قال شهاب الدين : ولا أدري ما وجهه ؛ فإن الانقطاع وعدمه عبارة عن عدم دخول المستثنى في المستثنى منه ، وهذا داخل ليس إلّا (٢).

وقال أبو البقاء : هو استثناء منقطع. وقيل : متصل ؛ لأن الجميع أرسل عليهم الحاصب فهلكوا إلا آل لوط. وعلى الوجه الأول يكون الحاصب لم يرسل على آل لوط (٣). انتهى. وهو كلام مشكل (٤).

فصل

قال ابن الخطيب : الحاصب رامي الحصباء ، وهي الحجارة ؛ كقوله : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) [الحجر : ٧٤] وقول الملائكة : (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ) [الذاريات : ٣٣] مع أنّ المرسل عليهم ليس بحاصب فيحتمل أن يكون المعنى : لنرسل عليهم ريحا حاصبا بالحجارة (٥). ويجوز تذكير الرّيح ؛ لأن تأنيثها غير حقيقي. ويحتمل أن يكون المراد عذاب حاصب لأن (أرسلنا) يدل على مرسل وهو مرسل الحجارة وحاصبها ، وأفرد للجنس. وقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا) كأنه جواب من قال : كيف كان أمرهم؟ والاستثناء في قوله : (إِلَّا آلَ لُوطٍ) من الضمير في «عليهم» وهو يعود على قوم لوط فيقتضي أنّ آله كذّبوا ، لكن قد يكون أهله قليلا فعمهم ظاهر اللفظ فبين بالاستثناء خروجهم لأن المقصود بيان هلاكهم ومن نجا أو يكون الاستثناء من كلام مدلول عليه أي فما أنجينا من الحاصب إلا آل لوط ، ويكون الإرسال عليهم والإهلاك عامّا ، فكأن الحاصب أهلك من كان الإرسال عليه مقصودا وغيرهم ، كالأطفال والدّوابّ (٦).

والمراد بآل لوط : من تبعه على دينه ولم يكن إلا بنتاه.

قوله : (نَجَّيْناهُمْ) تفسير وجواب لقائل يقول : فما كان من شأن آل لوط؟ كقوله تعالى : (أَبى) [البقرة : ٣٤] بعد قوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ). وقد تقدم في البقرة (٧).

قوله : (بِسَحَرٍ) الباء حالية أو ظرفية ، وانصرف «سحر» لأنه نكرة ، ولو قصد به

__________________

(١) نقل الوجهين العكبري في التبيان ١١٩٤ واختار الثاني.

(٢) الدر المصون مخطوط بمكتبة الإسكندرية لوحة رقم ١٢٢.

(٣) التبيان المرجع السابق.

(٤) حيث إنّ آل لوط مع من عذّبوا حينما عارضوا فكيف لم يرسل الحاصب على آل لوط؟

(٥) التفسير الكبير له ١٥ / ٥٨ و ٥٧.

(٦) بالمعنى من المرجع السابق.

(٧) وراجع اللباب الجزء الأول ص ٧٧ نسخة ب.

٢٧٠

وقت بعينه لمنع (من) الصّرف للتعريف والعدل عن أل هذا هو المشهور.

وزعم صدر الأفاضل (١) أنه مبني على الفتح كأمس مبنيا على الكسر (٢).

و «نعمة» إما مفعول له ، وإما مصدر (٣) بفعل من لفظهما أو من معنى «نجّيناهم» ؛ لأن تنجيتهم إنعام ، فالتأويل إما في العامل وإما في المصدر. و «من عندنا» إما متعلق بنعمة ، وإما بمحذوف صفة لها.

والكاف في «كذلك» نعت مصدر محذوف أي مثل ذلك الجزاء نجزي.

فصل

قال الأخفش : إنّما جرّ سحر ، لأنه نكرة ، ولو أراد يوما بعينه لم يجرّه (٤). وكذا قال الزجاج : سحر إذا كان نكرة يراد به سحر من الأسحار يصرف ، نقول : سحرنا هذا ، وأتيته بسحر ، والسّحر هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر ، وهو في كلام العرب اختلاط سواد الليل ببياض النهار ؛ لأن في هذا الوقت تكون مخاييل الليل ومخاييل (٥) النهار.

(نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا) إنعاما على لوط وابنتيه.

(كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) ، أي كما جازينا لوطا وأهله بالإنجاء ، فكذلك نجزي من شكر أي آمن بالله وأطاعه.

قال المفسرون : هو وعد لأمة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بأنه يصونهم عن الهلاك العام.

قال ابن الخطيب : ويمكن أن يقال : هو وعد لهؤلاء بالثواب يوم القيامة ، كما أنجاكم في الدنيا من العذاب ؛ لقوله تعالى : (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)(٦) [آل عمران : ١٤٥].

قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا) هي العذاب الذي أصابهم ، أو هي عذاب الآخرة ، لقوله : (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى)(٧) [الدخان : ١٦] ، وقوله : (فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ)

__________________

(١) هو أبو الفتح ناصر صدر الأفاضل ، ابن أبي المكارم عبد السيد الخوارزميّ المطرّزيّ كان يدعو للاعتزال قرأ على أبيه وغيره فنبغ في العربية ، وسار ذكره وبعد صيته. من مؤلفاته النّحوية : المصباح. توفّي بخوارزم سنة ٦١٠ ه‍ ، وانظر نشأة النحو ١٧٨ و ١٧٩.

(٢) وقد خالف المطرزي العامة من النحاة في هذا الرأي كما نقل ذلك السيوطي في الهمع ١ / ١٩٦ وانظر المشكل في إعراب القرآن لمكي بن أبي طالب ٢ / ٣٣٩.

(٣) التبيان ١١٩٤ واختار مكي في مرجعه السابق المفعول لأجله فقط.

(٤) لم أجده في معاني القرآن له وإنما نقله عنه القرطبي في الجامع ١٧ / ١٤٣.

(٥) وانظر معاني القرآن وإعرابه له ٥ / ٩.

(٦) وانظر التفسير الكبير للرازي بالمعنى ١٥ / ٦٠.

(٧) وانظر المرجع السابق.

٢٧١

أي فشكّوا فيما أنذرهم به الرسول ولم يصدقوه ، وهو تفاعلوا من المرية. وهذه الآية تدل على أن المراد بالنذر الإنذارات.

قوله تعالى : (وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ) المراودة من الرّود ، يقال : راودته على كذا مراودة ، وروادا أي أردته. وراد الكلأ يروده رودا وريادا ، وارتاده أيضا أي طلبه. وفي الحديث : «إذا بال أحدكم فليرتد لبوله» أي يطلب مكانا لينا أو منحدرا (١). قال ابن الخطيب : ومنه الإرادة وهي المطالبة (٢) غير أن المطالبة تستعمل في العين ، يقال : طالب زيد عمرا بالدّراهم ، والمراودة لا تستعمل إلا في العمل ، فيقال : راوده عن المساعدة ، ولهذا تعدى المراودة إلى مفعول ثان (٣) والمطالبة بالباء وذلك لأن الشغل منوط باختيار الفاعل ، والعين قد توجد من غير اختيار منه فلهذا يفترق الحال بين قولك : أخبرني عن أمر زيد وأخبرني بأمر زيد ، وكذا قوله : «أخبرني زيد عن مجيء فلان» وقوله : «أخبرني بمجيئه» ؛ فإن من قال عن مجيئه ربما يكون الإخبار عن كيفية المجيء لا عن نفسه ، وأخبرني بمجيئه ، لا يكون إلا عن نفس المجيء (٤).

والضيف يقع على الواحد والجماعة ، والمعنى أرادوا منه تمكينهم ممن أتاه من الملائكة.

قوله : (فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ) قرأ العامّة فطمسنا مخففا. وابن مقسم مشدّدا على التكثير ، لأجل المتعلق أو لشدة الفعل في نفسه (٥).

والضمير في : «راودوه» عائد على قوم لوط. وأسند إليهم لأن جميعهم راض بذلك ، والمراد الذين دخلوا عليه. روي أن جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ ضربهم بجناحه فعموا. وقيل : صارت أعينهم كسائر الوجه لا يرى لها شقّ ، كما تطمس الريح الأثر والأعلام بما تسفي عليها من التراب ، وقال الضحاك : بل أعماهم الله تعالى فلم يروا الرسل. وقالوا : لقد رأيناهم حين دخلوا البيت فأين ذهبوا فرجعوا ولم يروهم. وهذا قول ابن عباس (٦).

فإن قيل : قال ههنا : فطمسنا أعينهم ، وقال في يس : (وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ) [يس : ٦٦] فما الفرق؟

فالجواب : هذا يؤيد قول ابن عباس : بأن المراد من الطمس الحجب عن الإدراك ، ولم يجعل على بصرهم شيء. وفي «يس» أراد أنه لو شاء لجعل على بصرهم غشاوة أو ألزق (٧) أحد الجفنين بالآخر فتكون العين جلدة (٨).

__________________

(١) وانظر اللسان رود ١٧٧٢ و ١٧٧١.

(٢) في الرازي : قريبة من المطالبة.

(٣) في الرازي : «بعن».

(٤) وانظر تفسير الرازي ١٥ / ٦١ بالمعنى.

(٥) وانظر البحر ٨ / ١٨٢. وهي قراءة شاذة.

(٦) وانظر القرطبي ١٧ / ١٤٤.

(٧) في الرازي : أي ألزق.

(٨) وفيه : فيكون على العين جلدة.

٢٧٢

وروي أنهم صارت أعينهم مع وجوههم كالصفحة الواحدة.

قوله : (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) الخطاب لهم ، أي قلنا على لسان الملائكة فذوقوا ، وهو خطاب مع كل مكذب ، أي إن كنتم تكذّبون فذوقوا.

قال القرطبي : والمراد من هذا الأمر الخبر أي : فأذقتهم عذابي الذي أنذرهم به لوط (١).

فإن قيل : إذا كان المراد بقوله : «عذابي» هو العذاب العاجل ، وبقوله : «ونذر» هو العذاب الآجل فهما لم يكونا في زمان واحد فكيف قال : ذوقوا؟

فالجواب : أن العذاب الآجل أوله متصل بآخر العذاب العاجل فهما كالواقع في زمان واحد وهو كقوله تعالى : (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً)(٢) [نوح : ٢٥].

قوله تعالى : (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) انصرف «بكرة» ؛ لأنه نكرة ولو قصد به وقت بعينه امتنع الصرف للتأنيث والتعريف. وهذا كما تقدم في «غدوة» (٣).

ومنعها زيد بن عليّ الصرف (٤) ، ذهب بها إلى وقت بعينه (٥).

قال صاحب المختصر (٦) : انتصب بكرة على الظرف أي بكرة من البكر كقوله : (أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى) [الإسراء : ١]. قال الزمخشري : والتنكير يدل على أنه كان في بعض الليل وتمسك بقراءة من قرأ : من اللّيل (٧). قال ابن الخطيب: وهو غير ظاهر ، والأظهر أن يقال : بأن الوقت المبهم يذكر لبيان أن تعيين الوقت ليس بمقصود للمتكلم ، كقوله : خرجنا في بعض الأوقات مع أن الخروج لا بدّ وأن يكون في بعض الأوقات ، وكذلك قوله : (صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً) أي بكرة من البكر ، و (أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) أي ليلا من الليالي (٨).

ومعنى صبحهم قال لهم : عموا صباحا ، كقوله : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران: ٢١]. والمراد بقوله : بكرة أول أزمنة الصبح. أو انتصب «بكرة» على المصدر كقولك: ضربته سوطا ؛ لأن الضرب يكون بالسّوط وغيره ، وكذلك الصبح يكون بكرة وبعدها.

__________________

(١) وانظر القرطبي ١٧ / ١٤٤.

(٢) وانظر الرازي ١٥ / ٦٢.

(٣) وكما تقدم أيضا منذ قليل في (سحر). وانظر المشكل لمكي ٢ / ٣٣٩.

(٤) وانظر البحر المحيط ٨ / ١٨٢.

(٥) المرجع السابق. وهي شاذّة.

(٦) لعله المختصر في النحو لأبي جعفر بن سعدان الضرير البغداديّ ، وقد ترجم لابن سعدان هذا قبل.

(٧) قال الزمخشري «... وذلك أن التنكير فيه قد دل على معنى البعضية ، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة : من الليل» وانظر الكشاف ٢ / ٤٣٦.

(٨) من كلام للرازي في تفسيره ١٥ / ٦٣.

٢٧٣

ومعنى «مستقر» أي ثابت عليهم لا يدفعه أحد عنهم ، أو دائم لأنهم انتقلوا منه إلى عذاب الجحيم ، وهو دائم ، أو بمعنى قدر الله عليهم وقوعه ولم يصبهم بطريق الاتفاق وذلك العذاب قلب قريتهم عليهم ، وجعل أعلاها أسفلها (١).

وقوله : (فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ) أي العذاب الذي نزل بهم من طمس الأعين غير العذاب الذي أهلكوا به ، فلذلك حسن التكرير (٢).

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ)(٤٦)

قوله تعالى : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) المراد بآله خواصّه ، والنّذر موسى وهارون. ولقد يطلق لفظ الجمع على الاثنين. وقيل : المراد بآل فرعون القبط.

فإن قيل : ما الفائدة في قوله : «آل فرعون» بدل «قوم فرعون»؟

فالجواب : أن القوم أعم من الآل فالقوم كل من يقوم الرئيس بأمرهم ، أو يقومون هم بأمره وقوم فرعون : كانوا تحت قهره بحيث لا يخالفونه في قليل ولا كثير ، فأرسل إليه الرسول وحده غير أنه كان عنده جماعة من المقربين مثل قارون. مقدم (٣) عنده لماله العظيم ، وهامان لدهائه ، فاعتبرهم الله في الإرسال ، حيث قال في مواضع : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) [الزخرف : ٤٦] وقال : (إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ) [غافر : ٢٤] وقال في العنكبوت : (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى) [العنكبوت : ٣٩] لأنهم إن آمنوا آمن الكل ، بخلاف الأقوام الذين كانوا قبلهم وبعدهم ، فقال : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) وقال : (أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ).

فإن قيل : كيف قال : «ولقد جاءهم» ولم يقل في غيره (٤) : جاء؟

فالجواب : لأن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما جاءهم كان غائبا عن القوم فقدم عليهم ، كما قال : (فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ) [الحجر : ٦١] ، وقال تعالى : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة : ١٢٨] حقيقة أيضا ، لأنه جاءهم من الله من السموات بعد المعراج ، كما جاء موسى قومه من الطور حقيقة.

والنذر : الرسل وقد جاءهم يوسف وبنوه إلى أن جاءهم موسى. وقيل : النذر الإنذارات.

__________________

(١) للرازي السابق.

(٢) قاله القرطبي في الجامع ١٧ / ١٤٤.

(٣) في ب والرازي : تقدم عنده.

(٤) كذا في النسختين وفي الرازي : غيرهم.

٢٧٤

قوله : (كَذَّبُوا بِآياتِنا) فيه وجهان :

أحدهما : أن الكلام تمّ عند قوله : (وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ) وقوله : (كَذَّبُوا) كلام مستأنف ، والضمير عائد إلى كل من تقدم ذكرهم من قوم نوح إلى آل فرعون.

والثاني : أن الحكاية مسوقة على سياق ما تقدم فكأنه قيل : فكيف كان؟ فقال : كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم (١).

فعلى الوجه الأولى آياتنا كلها ظاهر ، وعلى الثاني المراد بالآيات التي كانت مع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ كالعصا ، واليد ، والسّنين ، والطمس ، والجراد ، والطوفان ، والجراد ، والقمّل ، والضفادع والدّم (٢).

قوله : (فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ) هذا مصدر مضاف لفاعله ، والمعنى أخذناهم بالعذاب أخذ عزيز غالب في انتقامه (مقتدر) قادر على إهلاكهم ، لا يعجزه ما أراد.

ثم خوف أهل مكة فقال : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) أي أشد وأقوى من الذين أحللت بهم نقمتي من قوم نوح وعاد ، وثمود ، وقم لوط. وهذا استفهام بمعنى الإنكار ، أي ليسوا بأقوى منهم ، فمعناه نفي أي ليس كفاركم خيرا من كفار من تقدم من الأمم الذين أهلكوا بكفرهم.

وقوله : «خير» مع أنه لا خير فيهم إما أن يكون كقول حسان :

٤٦١٠ ـ ..........

فشرّكما لخير كما الفداء (٣)

أهو بحسب زعمهم ، واعتقادهم ، أو المراد بالخير شدة القوة ، أو لأن كل ممكن فلا بدّ وأن يكون فيه صفات محمودة ، والمراد تلك الصفات.

(أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ) أي في الكتب المنزلة على الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ بالسلامة من العقوبة. وقال ابن عباس ـ (رضي الله عنهما ـ) (٤) أم لكم في اللوح المحفوظ براءة من العذاب.

قوله : (أَمْ يَقُولُونَ) العامة على الغيبة ، وأبو حيوة وأبو البرهسم وموسى الأسواريّ بالخطاب (٥) ، جريا على ما تقدم من قوله : (كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ) ... إلى آخره. والمعنى نحن جماعة لا نطاق لكثرة عددهم وقوتهم ، ولم يقل : منتصرين اتباعا لرؤوس الآي (٦).

__________________

(١) وانظر في هذا كله تفسير العلامة الرازي ١٥ / ٦٤ و ٦٥.

(٢) المرجع السابق.

(٣) سبق ذكره وجيء به هنا ليدل على أن المراد من خير غير التفضيل كما هي في قول حسان وانظر الرازي ١٥ / ٦٦.

(٤) زيادة من أ.

(٥) قراءة شاذة ذكرها صاحب البحر المحيط ٨ / ١٨٣.

(٦) ذكره القرطبي في الجامع ١٧ / ١٤٥.

٢٧٥

وقال ابن الخطيب : قولهم : «جميع» يحتمل الكثرة ، والاتّفاق (١) ، ويحتمل أن يكون معناه نحن جميع الناس إشارة إلى أن من آمن لا عبرة به عندهم كقول قوم نوح : (أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) [الشعراء : ١١١] فيكون التنوين فيه عوضا من الإضافة (٢). وأفرد منتصر مراعاة للفظ «جميع» أو يكون مرادهم كل واحد منتصر كقولك : كلّهم عالم أي كل واحد فيكون المعنى أن كل واحد منا غالب ؛ فردّ الله تعالى عليهم بأنهم يهزمون جميعهم (٣).

قوله : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ) العامة على سيهزم مبنيا للمفعول و «الجمع» مرفوع به. وقرىء : ستهزم بتاء الخطاب (٤) ، خطابا للرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ «الجمع» مفعول به. وأبو حيوة في رواية يعقوب : سنهزم بنون (٥) العظمة ، و «الجمع» منصوب أيضا. وابن أبي عبلة : سيهزم بياء الغيبة (٦) مبنيا للفاعل (الجمع) منصوب أي سيهزم الله.

و «يولّون» العامة على الغيبة. وأبو حيوة وأبو عمرو ـ في رواية (٧) ـ وتولّون بتاء الخطاب ، وهي واضحة والدّبر هنا اسم جنس ، وحسن هنا لوقوعه فاصلة بخلاف : (لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ) [الحشر : ١٢].

وقال الزمخشري : أي الأدبار ، كما قال :

٤٦١١ ـ كلوا في بعض بطنكم تصحّوا

 .......... (٨)

وقرىء الأدبار (٩).

قال أبو حيان : وليس مثل بعض بطنكم ؛ لأن الإفراد هنا له محسّن ، ولا محسن لإفراد بطنكم (١٠).

__________________

(١) كأنه قال : نحن كثير متفقون فلنا الانتصار ، ولا يقوم غير هذه اللفظة مقامها من الألفاظ المفردة.

(٢) وأسماه الرازي بقطع الإضافة قال «وعلى هذا جميع يكون التنوين فيه لقطع الإضافة كأنهم قالوا نحن جمع الناس». وانظر الرازي ١٥ / ٦٨.

(٣) بالمعنى من الرازي المرجع السابق.

(٤) في النسختين : بنون العظمة والصحيح ما كتبت أعلى ، وهذه قراءة شاذة ذكرها أبو حيان في البحر ٨ / ١٨٣.

(٥) شاذة أيضا ذكرها أبو حيان في مرجعه السابق وابن خالويه في المختصر ١٤٨.

(٦) البحر المحيط السابق أيضا.

(٧) ولم ترو عنه في المتواتر. وانظر البحر المحيط السابق والقرطبي ١٧ / ١٤٥ ونسبها القرطبي لرويس عن يعقوب.

(٨) سبق أنه صدر بيت لجرير وعجزه :

فإنّ زمانكم زمن خميص

واستشهد به على أن المراد من المفرد ـ وهو البطن ـ الجمع أي البطون.

(٩) ولم يحدد الزمخشري من قرأ بها. وانظر الكشاف ٤ / ٤١٢.

(١٠) البحر ٨ / ١٨٣.

٢٧٦

قال ابن الخطيب : وأفرد «الدّبر» هنا وجمع في غيره ؛ لأن الجمع هو الأصل ، لأن الضمير ينوب مناب تكرار العاطف فكأنه قيل : تولى هذا وهذا. وأفرد لمناسبة المقاطع. وفيه إشارة إلى أن جميعهم يكونون في الانهزام كشخص واحد ، وأما قوله : (فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) فجمع لأن كل واحد برأسه منهيّ عن رأسه ، وأما قوله : «ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولّون الأدبار» أي كل واحد قال : أنا أثبت ولا أولّي دبري (١).

فصل

قال مقاتل : ضرب أبو جهل فرسه يوم بدر فتقدم من الصف وقال : نحن نقتصّ اليوم من محمّد وأصحابه فأنزل الله تعالى : (نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ).

وقال سعيد بن المسيب : سمعت عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) (٢) يقول : لما نزل : سيهزم الجمع ويولّون الدّبر كنت لا أدري أي جمع يهزم فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يثب في درعه ويقول : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) أعظم نائبة وأشدّ مرارة من الأسر والقتل يوم بدر (٣) ، وفي رواية (٤) أن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ كان يثب في درعه ويقول : «اللهمّ إنّ قريشا حادّتك وتحادّ رسولك بفخرها بخيلها (٥) فأخنهم (٦) العداوة» ، ثم قال : (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ). وقال عمر (٧) ـ (رضي الله عنه) ـ : فعرفت تأويلها. وهذا من معجزات رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لأنه أخبر عن غيب فكان كما أخبر قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : كان بين نزول هذه الآية وبين بدر سبع سنين ، فالآية على هذا مكية. وفي البخاري عن عائشة أمّ المؤمنين ـ (رضي الله عنهما) ـ قالت : لقد أنزل على محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ بمكة ، وإني لجارية ألعب : (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ). وعن ابن عباس (ـ رضي الله عنهما ـ) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ قال وهو في قبّة له يوم بدر: «أنشدك عهدك ووعدك ، اللهمّ إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدا». فأخذ أبو بكر بيده وقال : حسبك يا رسول الله قد ألححت على ربّك وهو في الدّرع فخرج وهو يقول : سيهزم الجمع ويولّون الدّبر بل السّاعة موعدهم والسّاعة أدهى وأمرّ.

__________________

(١) بالمعنى من تفسير العلامة الرازي في تفسيره الكبير ١٥ / ٦٨ و ٦٩. والآيات المذكورة في تلك الفقرة من الآية ١٥ من الأنفال ومن الآية ١٥ من الأحزاب.

(٢) زيادة من أ.

(٣) وانظر البغوي ٦ / ٢٧٨.

(٤) رواها سعد بن أبي وقاص عن سعيد بن جبير وانظر القرطبي ١٧ / ١٤٦.

(٥) في نسخة ابن هشام في سيرته : بفخرها وخيلائها.

(٦) أي أهلكهم وأت عليهم.

(٧) في القرطبي أنه سعد بن أبي وقّاص.

٢٧٧

(بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ) يريد يوم القيامة (وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) مما لحقهم (١).

فصل

«أدهى» من الداهية وهي الأمر العظيم يقال : أدهاه (٢) أمر كذا أي أصابه دهوا ودهيا. وقال ابن السّكّيت (٣) : دهته داهية دهواء ودهياء (٤) ، وهي توكيد لها.

قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ)(٤٨)

قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) قيل : في ضلال بعد عن الحق. قال الضحاك: وسعر أي نار تسعّر عليهم. وقيل : ضلال ذهب عن طريق الجنة في الآخرة. وسعر جمع سعير : نار مستعرة. وقال الحسين بن الفضل : إن المجرمين في ضلال في الدنيا ونار في الآخرة. قال قتادة : في عناء وعذاب.

ثم بين عذابهم فقال : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) ويقال لهم : (ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ)(٥).

فصل

أكثر المفسرين على أن هذه الاية في القدريّة. وفي الحديث : أنها نزلت في القدريّة. وعن النبي ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ أنه قال : «مجوس هذه الأمّة القدريّة فهم المجرمون الّذين سمّاهم الله تعالى في قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ).

واعلم أن الجبريّ من يقول : القدريّ من يقول الطاعة والمعصية بفعلي فهم ينكرون القدر. والفريقان متّفقان على أن السّنّيّ القائل بأن الأفعال خلق الله وبسبب من العبد ليس بقدر. قال ابن الخطيب : والحقّ أن القدريّ هو الذي ينكر القدر ، وينسب الحوادث لاتصال الكواكب لما روي أنّ قريشا خاصموا في القدر ومذهبهم أن الله مكّن العبد من الطاعة والمعصية ، وهو قادر على خلق ذلك في العبد ، وقادر على أن يطعم الفقير ، ولهذا قالوا : (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) [يس : ٤٧] منكرين لقدرته تعالى على

__________________

(١) وانظر هذا كلّه في تفسير العلامة القرطبي ١٧ / ١٤٦ وانظر بعضه في معالم التنزيل للعلامة البغوي ٦ / ٢٧٨.

(٢) الصحيح كما في كتب اللغة دهاه ثلاثيّا.

(٣) يعقوب أبو يوسف بن السكيت ، كان من أكابر أهل اللغة والسّكّيت لقب أبيه إسحاق. أخذ عن أبي عمرو الشيباني والفراء وابن الأعرابي ، وأخذ عنه أبو سعيد السكري وأبو عكرمة الضبّي ، وكان من أصحاب الكسائي حسن المعرفة بالعربية. مات سنة ٢٤٤. وقيل غير ذلك. وانظر نزهة الألباء ص ١٢٣.

(٤) القرطبي السابق واللسان دها ١٤٤٨.

(٥) البغوي ٦ / ٢٧٨.

٢٧٨

الإطعام. وأما قوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ : «القدريّة مجوس هذه الأمة». فإن أريد بالأمة المرسل إليهم مطلقا كالقوم ، فالقدرية في زمانه هم المشركون المنكرون قدرته على الحوادث ، فلا يدخل فيهم المعتزلة. وإن كان المراد بالأمة من آمن به ـ عليه الصلاة والسلام ـ فمعناه أن نسبة القدرية إليهم كنسبة المجوس إلى الأمة المتقدمة ، فإن المجوس أضعف الكفرة المتقدمين شبهة وأشدّهم مخالفة للعقل ، وكذا القدرية في هذه الأمة وكونهم كذلك لا يقتضي الجزم بكونهم في النار. فالحق أن القدريّ هو الذي ينكر قدرة الله تعالى (١).

فصل

روى مسلم عن أبي هريرة ، قال : جاء مشركو قريش يخاصمون رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ في القدر ، فنزلت هذه الآية : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) إلى قوله : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ). وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقول : كتب الله مقادير الخلائق كلّها من قبل أن يخلق السّموات والأرض بخمسين ألف سنة قال : وعرشه على الماء. وعن طاوس اليماني قال : أدركت ما شاء الله من أصحاب رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ يقولون : كلّ شيء بقدر الله. وسمعت من عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ «كلّ شيء بقدر حتى العجز والكيس أو الكيس والعجز» (٢).

وعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله : لا يؤمن بالله عبد حتى يؤمن بأربع : يشهد أن لا إله إلا الله ، وأنّي رسول الله بعثني بالحقّ ويؤمن بالبعث بعد الموت ويؤمن بالقدر. وزاد عبيد الله : خيره وشرّه (٣). وهذه الأدلة تبطل مذاهب القدرية.

قوله : (ذُوقُوا) فيه إضمار القول. وقرأ أبو عمرو ـ في (٤) رواية محبوب عنه ـ مسّقر.

وخطّأه ابن مجاهد (٥) ، وهو معذور ؛ لأن السّين الأخيرة من «مسّ» مدغم فيها فلا تدغم في غيرها لأنه متى أدغم فيها لزم تحريكها ومتى أدغمت هي لزم سكونها فتنافى الجمع بينهما.

__________________

(١) وانظر تفسير الإمام ١٥ / ٧١.

(٢) وانظر في هذا تفسير القرطبي ١٧ / ١٤٧ والرازي السابق والبغوي ٦ / ٢٧٩ و ٢٨٠.

(٣) البغوي المرجع السابق.

(٤) نسب أبو حيان هذه القراءة لمحبوب.

(٥) رجعت إلى السبعة له فلم أجده تكلم عند هذه النقطة فقد نقل عنه أبو حيان ذلك ، ولعل له كلاما في كتاب آخر لم يصل إلينا.

٢٧٩

قال أبو حيان : والظّنّ بأبي عمرو أنه لم يدغم حتى حذف أحد الحرفين لاجتماع الأمثال ثم أدغم (١).

قال شهاب الدين : كلام ابن مجاهد إنما هو فيما قالوه أنه أدغم أما إذا حذف وأدغم فلا إشكال (٢).

و (سقر) علم لجهنّم أعاذنا الله منها ، مشتقة من سقرته الشّمس والنار أي لوّحته.

ويقال : صقر بالصاد ، وهي مبدلة من السين لأجل القاف. قال ذو الرمة :

٤٦١٢ ـ إذا ذابت الشّمس اتّقى صقراتها

بأفنان مربوع الصّريمة معبل (٣)

و «سقر» متحتّم المنع من الصرف ؛ لأن حركة الوسط تنزلت منزلة الحرف الرابع ، كعقرب وزينب.

قال القرطبي : و «سقر» اسم من أسماء جهنم مؤنث لا ينصرف ، لأنه اسم مؤنث معرفة وكذلك «لظى وجهنم». وقال عطاء : «سقر» الطابق السادس من النار. وقال قطرب : ويوم مسمقرّ ومصمقرّ : شديد الحر (٤).

ومسها ما يوجد من الألم عند الوقوع فيها.

فصل

العامل في (يَوْمَ يُسْحَبُونَ) يحتمل أن يكون منصوبا بعامل مفهوم غير مذكور. وهذا العالم يحتمل أن يكون سابقا وهو قوله : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ). والعامل في الحقيقة على هذا الوجه أيضا مفهوم من (في) كأنه فيه بمعنى كائن غير أن ذلك صار نسيا منسيّا. ويحتمل أن يكون متأخرا وهو قوله : «ذوقوا» تقديره : «ذوقوا مسّ سقر يوم يسحب المجرمون». والخطاب حينئذ مع من خوطب بقوله : (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ). ويحتمل أن يكون منصوبا بالقول المقدر أي يقال لهم يوم يسحبون ذوقوا. وهو المشهور.

__________________

(١) البحر المحيط ٨ / ١٨٣ وفي مختصر ابن خالويه : مستقرّ. وأعتقد أنه لحن من الناسخ والمحقق معا ؛ فلم يفطنا إلى مقصود أبي عمرو. وانظر مختصر ابن خالويه ١٤٨.

(٢) نقله في الدر المصون له لوحة رقم ١٢٣.

(٣) من الطويل له وجاء به ليبين أنه من الإمكان أن نقول في سقر بالسين : (صقر) بالصاد كما يدل على ذلك «صقراتها» والصقر شدة وقع الشمس وحدّة حرّها. ومربوع أصابه مطر الرّبيع. ومعبل إذا طلع ورقه. فالوحش يتقي حر الشمس بأفنان الأرطاة التي طلع ورقها وذلك حين يكنس في حمراء القيظ ، وإنما يسقط ورقها إذ برد الزمان ولا يكنس الوحش حينئذ ولا في حر الشمس. وانظر اللسان «عبل» ٢٧٨٩ و «صقر» ٢٤٧٠ و «ذوب» ١٥٢٤ و «ربع» ١٥٦٩ وأمالي القالي ١ / ١٤٤ والمنصف ٣ / ٩٢.

(٤) الجامع لأحكام القرآن للعلامة القرطبي ١٧ / ١٤٧ وانظر اللسان «سقر وصقر».

٢٨٠